«إذا كانت الإمبراطورية الفينيسية قد اختفَت، فإن الإمبراطورية البريطانية لا يمكن
أن
تكون خالدة.» هذه النظرة البعيدة، سوف تظلُّ ملازمةً له طيلةَ حياته: هشاشة الآمال
والتطلعات الإنسانية، بما فيها آماله وتوقعاته، في وجه القُوى الأعظم للتاريخ
والزمن.
كان «توينبي» ينتمي لجيل من المثقَّفين المتحرِّرين من الوهم، والذين كانوا يسيطرون
على المشهد الإنجليزي بين الحربَين العظميَين. ينظرون إلى الإمبراطورية البريطانية
باعتبارها ممثِّلة للقيم الكاذبة للعصر الفيكتوري «المتعجرف»، «الزائف»، وينتظرون وفاته
على أحرِّ من الجمر. ولكنهم كانوا يشاركون في تلك الرؤية الفيكتورية بأكثر مما كانوا
يعترفون. كان التفاؤل الليبرالي للفيكتوريِّين الأوائل قد بدأ يتبخَّر قبل أن يُولَد
«توينبي» بوقت طويل، وكان ذلك يرجع في جزء كبير منه إلى الخوف من التدهور، الذي ألقى
بشكٍّ خطير على مستقبل المجتمع المدني في العصر الصناعي. وإذا كان الخوف من التدهور قد
دفع الليبرالية الإنجليزية للتقهقر، فإن صدمة الحرب العالمية الأولى هي التي أكملت
الطريق. وكان عنوان قصيدة «ت إس إليوت» T. S. Eliot
الشهيرة: «الأرض الخراب»، في نظر المفكرين الإنجليز فيما بين الحربين، خيرَ معبِّر عن
دولتهم وعن الغرب الحديث. اتجه بعضهم إلى الماركسية لصنع نظام اجتماعي جدید، واتجهت
قلةٌ أخرى؛ مثل الفنان «ويندهام لويس» Wyndham Lewis، والروائي «د. ﻫ. لورانس» D. H. Lawrence إلى حيوية لا عقلانية على تخوم الفاشية، ولكنَّ «توینبي» وكثيرين من أبناء جيله اتجهوا
نحو بديل آخر، كان قد انبثق من الليبرالية الجديدة وافتراضاتها ما بعد الليبرالية عند
الفيكتوريِّين المتأخرين. وبدلًا من هدم الغرب، فإنهم سيقومون بعملية تجديد له كمجتمعِ
قيمٍ مشتركة، أو ما كان يُطلَق عليه بلغة التنوير: القيم «المهذَّبة». التسامح، والتعاطف،
والاهتمام
الإنساني، والحلول الوسط المعقولة، ستكون كلها من معالم تلك الحضارة الغربية الجديدة،
وسيكون لمميزاتها الرئيسية أساسٌ روحي أكثر منه مادي. الإمبراطورية البريطانية وأوروبا
والغرب كامتدادٍ لها، ستتقبَّل أُفُولها السياسي؛ حيث هبَّت الدول غير الأوروبية
بملايينها من البشر من الأفق، إلا أنَّ هذا الغرب الأكثر طيبة ولطفًا، سوف يشيِّد بالفعل
إمبراطوريةً كونية جديدة للسلام والوئام، بقِيَمه الإنسانية المتحضِّرة كأساسٍ لحكومة
عالمية، ووحدة بين الشعوب في كل مكان.
هذه الرؤية الجديدة الهادئة للغرب الحديث، اتضح أنها كانت مؤثِّرة … وليس في
إنجلترا وحدها، كما أنها هي التي تغلب على نظرة الليبراليِّين الجيوبوليتيكية إلى اليوم.
وقد زوَّدها «أرنولد توينبي» بصيغة جديدة للتاريخ الكوني تُسمَّى «تاريخ العالم»، يمكن
أن تستخدمها لتبرير مزاعمها في التسامح الروحي وقبولها الضمني لاضمحلال الغرب.
ظهر صدعٌ فكري خطر، وفي وسطه كان الاقتناع الذي اشترك فيه الجميع، وهو أنَّ الحضارة
الغربية في القرن العشرين كانت في أزمة. وبينما كان المتشائمون الثقافيون مثل «شبنجلر»
يتطلَّعون نحو الحيوية والنزعة العسكرية لتجديد الغرب، كان «توینبي» وغيره من
الليبراليِّين في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين يتطلَّعون إلى عكس ذلك تمامًا. أصبح
رفض القوة والعنف أمرًا أخلاقيًّا جوهريًّا بالنسبة لورثة النزعة الإنسانية الليبرالية
تمامًا، كما كان الاحتفاء بالقوة والعنف قد أصبح أمرًا أساسيًّا عند خصومهم. وما كان
يبدو لرجال ونساء (مثل «توینبي»، و«ليونيل كيرتس» Lionel
Curtis، و«فرجينيا وولف» Virginia
Woolf، والداعية السلامية «فيرا بريتين» Vera
Brittain، و«كنجسلي مارتن» Kingsly
Martin من صحيفة «نيو ستيتسمان» وكثيرين غيرهم) تعبيرًا عن تحفُّظ
أخلاقي، كان يبدو لأعدائهم دليلًا أبعد على تفسُّخِ الغرب وجبنِه.
ومن التهدئة … وعصبة الأمم، إلى لجنة نزع الأسلحة النووية والاحتجاجات على الصواريخ
الأوروبية في الثمانينيات، أثبتت ليبرالية القرن العشرين أنها أكثر خبرة ومهارة في
تشجيع أعدائها، عنها في حماية أولئك الذين كانت تدَّعي تمثيلَهم. دراسة «توينبي» عن
«التاريخ» والتي بناها على مدى أربعة عقود، تقف مَعْلمًا بارزًا في هذه الليبرالية
الحديثة، فهي تعبِّر عن مميزاتها، عن فشلها، وعن التشاؤم التاريخي الكامن خلفها.
التقدم والاضمحلال، والإمبراطورية في بريطانيا الفيكتورية
ظهرت الحافة السوداء القاطعة لتلك النظرة التشاؤمية أوَّل ما ظهرت، في بريطانيا
في عام ١٨٦٩م، عندما نشر «ماثيو أرنولد» Mathew
Arnold کتابَه «الثقافة والفوضى». كان «أرنولد» نتاج ثقافة
فيكتورية في أنشط وأقوى صورها، والده «توماس أرنولد» Thomas
Arnold كان مديرًا لمدرسة «الرجبي» حيث تعلَّم أجيال من
الشباب قيم الصفوة المسيحية الإنجليزية، التي كانت محلَّ احتفاء في رواية «أيام
دراسة توم براون» ١٨٥٧م.
كان «توماس أرنولد» قد رأى تلك القيم التقليدية تضمُّ إليها وتستوعب الطبقة الوسطى
الجديدة في بريطانيا الصناعية، ولكن ابنه «ماثيو» لم يكن يرى الأمر كذلك. كان
يُنبِّه محذِّرًا إلى أنَّ «المسار الذي تتخذه الطبقات الوسطى في هذه الدولة من المحتمل
أن يُحدِث انعطافةً حاسمة في تاريخها»، كما كان من رأْي «ماثيو أرنولد» أنَّ تجار
التبغ والبقالة وأعضاء المجالس التشريعية في «ليفربول» و«مانشستر» و«برمنجهام» لم
يكن لديهم أيُّ بوصلة ثقافية، كانوا يعتقدون أنَّ «عظمتنا وازدهارنا يتحققان بفضل
ثرائنا»، لا أكثر، «أرنولد» هاجم ذلك، وكان يصفهم بعبارته الدامغة: «المتعلِّقون
بالقديم».
٢ نبَّه «أرنولد» إلى أنَّ طبقة وسطى صاعدة، ستُلوِّث منابع الثقافة. كان
معظم تعريفه للثقافة مستمدًّا من مفاهيم التنوير عن التهذيب والتعلُّم، أكثر مما هو
مستمدٌّ من الثقافة بالمفهوم الألماني. كان يمثِّل «مملكة من العذوبة والضوء» و«نموًّا
لا يتوقَّف للحكمة والجمال»، و«فكرة الكمال كحالةٍ داخلية للعقل والروح»، إلا أنَّ
أعداء الثقافة كانوا كما هم: «الحضارة الميكانيكية والمادية» بإيمانهم الأعمى
بالتكنولوجيا.
ومثل «هنري آدمز»، كان «أرنولد» يخشى أن يفقد المجتمعُ الصناعيُّ الغنيُّ روحَ «الطاعة
والاحترام» بالنسبة للفرد الأرقى في الثقافة، كانت «القوى الجديدة والقوى
الديمقراطية» تُغرِق القارب الذي لم تَعُد ليبرالية «دعه يعمل» عند «آدم سميث»
Adam Smith، و«جون ستيوارت مل»
John Stewart Mill قادرةً على توجيهه. وحذَّر …
«إذا لم تحاول الطبقة الوسطى الارتفاعَ بمستواها، إذا استمرت في تضخيم الروح الفردية
… فإن ذلك لن يمنعَهم من الحصول على حكم بلادهم لفصل واحد … ولكن المؤكد أنهم
سيقومون بأمركتها»، «سيحكمون بريطانيا بما لديهم من طاقة، ولكنهم سوف يجعلونها
تنهار بسبب أفكارهم المنحطة وفقرهم الثقافي».
٣
تشاؤم «ماثيو أرنولد»، وهذا الجوُّ من الاحتقار الأرستقراطي يذكِّرانا ﺑ «هنري
آدمز»، وهو على أيِّ حال يُشبهه في نواحٍ كثيرة، (كانا صديقَين) وبالرغم من الانتشار
الباكر لتشاؤمية مشابهة بين الرومانسيِّين الإنجليز، لمست أشخاصًا منعزلين مثل «توماس
كارليل» Thomas Carlyle، إلا أنَّ تشاؤم «ماثيو أرنولد» كان شيئًا جديدًا بالنسبة للعقل الإنجليزي الليبرالي.
والحقيقة أنه بحلول
عام ۱۸۷۰م، فإن الدوائر القوية والنشطة من المثقفين الليبراليِّين في «لندن»
و«أكسفورد» و«کمبردج»، والتي كان «هنري آدمز» قد وجدها ملائمةً لروحه وأفكاره، كانت
آنذاك تتصدَّع وتتفكَّك، وبدأت الثقة بالنفس تتحوَّل إلى شكٍّ وخوف. المتحدثون
الرسميون الرئيسون باسم الليبرالية الإنجليزية الكلاسيكية، كانوا قد بدءوا أيضًا
يموتون واحدًا بعد الآخر، دون أن يبرز أحدٌ ليحلَّ محلَّ أيٍّ منهم.
«جون ستيوارت میل»، المعلِّم العجوز ﻟ «هنري آدمز»، كان قد مات في عام ۱۸۷۳م،
بينما مات المؤرِّخ «توماس ماکولي»
Thomas
Macaulay في عام ۱۸٥۹م، المصلح البرلماني «فرانسیس برومان»
Francis Broughman مات في عام ١٨٦٨م، بينما
مات «تشارلز كنجسلي»
Charles Kingsley المناضل
العنيد من أجل التفاؤل الليبرالي و«المسيحية القوية» في عام ۱۸۷٥م. وفي مكان أهم
وأبرز الشخصيات على المسرح السياسي، كان هناك الآن نُقَّاد التقدم والليبرالية،
مثل «جون هنري نیومان»
John Henry Newman، و«بنیامین دزرائیلي»
٤ -
Benjamin Disraeli. الليبرالية
نفسها، كانت تدخل مرحلةً علمية أكثر استقلالية، ممثلة برجال مثل «والتر باجيوت»
Walter Bagehot، و«توماس هنري باکل»
Thomas Henry Buckle.
كان «فرانسيس جالتون»
Francis Galton، و«تشارلز
دارون»
Charles Darwin في عمله المهم الأخير
«تحدُّر الإنسان»، قد حدَّدَا بالفعل الاتجاه المستقبلي لليبرالية العلمية: القلق
على تطوُّر الإنسان القادم، والخوف من الانحلال بسبب آثار الحضارة.
٥⋆ ظهور الاشتراكية ساعد أيضًا على تشظِّي الليبرالية القديمة، مما أدَّى إلى ابتعاد كثير
من مُصلحي الطبقة العاملة، الذين كانوا قد التفُّوا حول شعارات التقدم والتجارة الحرة
قبل ذلك. جماعات كثيرة متتابعة، كانت تُحرِّك العمل البريطاني خطوةً خطوة بعيدًا عن الليبرالية،
وباتِّجاه المبادئ الجماعية. من هذه الجماعات: حركة الوثيقية
Chartism،
٦⋆ جمعية لندن للرجال العاملين (تأسست في ١٨٦٦م)، مجلس اتحادات العمال ١٨٦٩م، حزب العمال
المستقل ۱٨٩۳م، وأخيرًا … حزب العمال البريطاني ١٩٠٦م. بعض الليبراليين أنفسهم تحوَّلوا
إلى الاشتراكية، وكوَّنوا ما يُعرَف ﺑ «الجمعية
الفابية»
Fabian Society، وهي مؤسسة التفكير غير
الرسمية لحزب العمال، والصوت الرئيسي في الدوائر الفكرية التي نشأ فيها «أرنولد
توينبي» وترعرع، كما أنَّ الاضمحلال في العقيدة الدينية، الذي انتشر في الجامعات
البريطانية البارزة أضعف مصادر الثقة في المستقبل. وفي نفس العام الذي ظهر فيه
كتاب «الثقافة والفوضى»، ظهر مصطلح «اللاأدري»
٧⋆agnostic ، لأول مرة. في عام ۱۸۷۱م ألغت كلٌّ من «أكسفورد» و«کمبردج» مادةَ الدين من امتحانات
القبول، كما أصبح مسموحًا
لأصحاب الفكر الحر والملحدين بشغل المناصب الأكاديمية، إلا أنه في الوقت الذي كان
فيه الإيمان بإله شخصي خیِّر، يختفي بين المثقفين البريطانيِّين، ظل هناك شعور
بخطيئة الإنسان، ولأنه كان محرومًا من المنافذ التقليدية، كان الضمير
الكالفيني
٨⋆ يستكشف ميادين جديدة، ينفس فيها عن قلقه الأخلاقي.
٩
كان أحد تلك الهموم المقلقة «اكتشاف» الفقر المديني (نسبةً للمدينة)، الصناعي الذي
أساء بشكل كبير لسمعة العقيدة الرئيسة لليبرالية الإنجليزية، وهي أنَّ التقدم
الإنساني يتضمَّن إطلاقَ قوى النمو والإنتاج الاقتصادي في المجتمع.
١٠ الفقر بالطبع، كان موجودًا قبل القرن التاسع عشر، ولكنه ظلَّ بعيدًا عن
النظر في المناطق الريفية. الآن كانت المدن الصناعية؛ مثل «ليفربول»، و«لندن»، و
«مانشستر»، تُفرز الأحياء الحقيرة والأماكن القذرة حيث تجمُّعات العمال، والمقززة
لمراقبي الطبقة الوسطى (بمن فيهم الشاب فردريك إنجلز).
١١
وفي نظر النقَّاد الغاضبين، كان لا بد أن يكون ذلك الفقر نتيجةً للتحوُّل المفاجئ
والمربِك في الحياة الاقتصادية البريطانية من الزراعة إلى الصناعة. والواقع أنَّ
مصطلح «الثورة الصناعية» كان قد سكَّه واحد من أولئك النقاد؛ لكي يصوِّر آثارها
المفاجئة والمدمِّرة على نحوٍ دراميٍّ، ولم يكن ذلك الناقد غير «أرنولد توينبي الأكبر»،
عم «أرنولد توينبي» مؤلِّف «دراسة التاريخ». كمعلِّم في كلية «باليول»، كان «أرنولد
توينبي» قد اخترع بالفعل ميدان التاريخ الاقتصادي البريطاني، ومثل «اشتراكيِّي
المقعد» في ألمانيا، كان يعتقد أنَّ الإيمان الحديث بالاقتصاد الحر، يسير عكس كل
الجوانب الأخرى في التطوُّر التاريخي للإنسان. وعلى أية حال، كان ذلك التوجُّه قد
استطاع أن يُحدِث دمارًا واسعًا في وقت قصير. أما الثورة الصناعية فقد كانت — كما
كان يقول «توينبي» لقُرَّائه — «مرحلةً رهيبة، حافلة بالكوارث مثل أيِّ مرحلة مماثلة
مرَّت بها أيُّ دولة»، وقد ظلَّت فكرتُه عن الثورة الصناعية كاستغلال منظَّم للرجال
والنساء والأطفال على أيدي الطبقة البرجوازية المالكة للمصانع، جزءًا كلاسيكيًّا من
الليبرالية التشاؤمية. ومثل نظرائهم الأمريكيِّين، فإن الليبراليِّين الإنجليز في
سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر، كان يُقلقهم أنَّ
١٢ المجتمع الصناعي يمكن أن يخلق أُمَّتَين من الفقراء والأغنياء. كان الخوف
من أن يكون النمو الصناعي هو الذي أفقر طبقته العاملة، وراء الخوف من التدهور
والانحلال، الرأسمالية الصناعية جعلَت الناس «مرضى وفقراء وعلى شفا حفرة من الهلاك»،
كما كتب «جون راسكين»
John Ruskin مؤلِّف الكراسة
المهمة: «حتى هذه النهاية»،
١٣ والمضادة لفلسفة «دعه يعمل».
حالة الاكتئاب والقنوط بخصوص المستقبل لم تستهلك الاشتراكيِّين من أمثال «راسكين»،
و«وليم موريس» فقط، ولا المحافظين؛ مثل «بنيامين دزرائیلي» صاحب مصطلح «أمتان»، لقد
نفذت إلى أعمدة المؤسسة الفيكتورية الأساسية بمن فيها شاعرها الرسمي «ألفرد لورد
تنیسون» Alfred Lord Tennyson. في عام ١٨٤٢م، وفي
قصيدته «قاعة لوكسلي» كتب: «إلى الأمام … إلى الأمام … دعنا نتقدَّم، دع العالم
العظيم يدور إلى الأبد على حواف التغيير». بعد أربعين عامًا، عاد إلى الفكرة نفسها،
ولكن حالته المزاجية كانت مختلفةً تمامًا:
حسن هذا التقدم! أنت يا مَن تبشِّر به،
هل من الصواب أن نتمنَّى لك الفرح؟
هل من الصواب ونحن نتقدَّم في العلم،
ونتألَّق في الزمن
أن يغرق أطفال المدن روحًا وجسدًا
في وحل المدينة؟!
هناك … وسط الأزقَّة الكئيبة،
يقف التقدم على أقدام مشلولة.
الجريمة والجوع يصرعانِ نساءَنا في الشوارع بالألوف،
إلى الأمام … إلى الأمام … نعم …
وإلى الخلف … وإلى الأسفل أيضًا … إلى الهاوية!
وفي ذلك العام نفسه، كتب «أرنولد توينبي الأكبر» في «الثورة
الصناعية» يقول: «الأحوال مضطربة، وكل المعتقدات السياسية القديمة اهتزت.»
١٤ ومع بداية ثمانينيات القرن التاسع عشر، أقرَّ البرلمان سلسلةً من
الإجراءات الاقتصادية التي بدأت تصدُّ المبدأ الكلاسيكي القديم «دعه يعمل».
مستلهمين الفيلسوف الألماني «هيجل»، ضغط مَن كانوا يُسمَّون بالمثاليِّين
البريطانيِّين («توينبي»، و«توماس هل جرين» Thomas Hill
Green، و«آر بي هالدان» R. B.
Haldan، و«برنارد بوسان كيت» Bernard Bosan
quet) بشدة في اتجاه استخدام الدولة الحديثة لإقامة اقتصاد
يمكن أن يكون اجتماعيًّا وسياسيًّا في الوقت نفسه. ومثل التقدميِّين الأمريكيِّين
واشتراكي «المقعد» الألمان، كانوا يعتقدون أنَّ زمن الاقتصاد الحر قد ولَّى، وكانت
محاجتهم هي أنَّ الليبرالية لا بد أن تبنيَ مستقبلًا جديدًا لبريطانيا، المستقبل الذي
يعكس طموحاتٍ أخلاقيةً أسمى من الفردية «الأنانية» وقداسة الملكية الخاصة.
ولأنهم كانوا مشبَّعين بالتعليم الكلاسيكي للمدارس العامة الإنجليزية، و«أكسفورد»،
و«كمبردج». كان المثاليون البريطانيون ينظرون خلفهم بحنين شديد إلى عصر
أثينا البيريكليسية
١٥⋆ -
Periclean Athens؛ حيث كان
الأثينيون قد جمعوا بين الحكم الذاتي والإنجازات العظيمة في الفن والأدب والدراما،
واستطاعوا أن يكونوا ذوي عقليات تجارية دون أن يُصبحوا ماديِّين. والأهم من ذلك كله،
هو أنَّ «أثينا» القديمة قد شجَّعت وتعهَّدت فضائل ومزايا الحضارة، في الوقت الذي
احتفظت فيه بشعور قوي بالوحدة وبالتراث، والأمر الذي كان واضحًا أنَّ الديمقراطيات
الحديثة قد فشلت في تحقيقه، كان «جرين» وأتباعه يعتقدون أنَّ بريطانيا يمكنها أن
تحقِّق هذا الشعور نفسه بالمجتمع المستنير، بالتقريب بين الأغنياء والفقراء من خلال
خدمات الدولة البيروقراطية بمفهوم «هيجل» أمر بما سوف يُطلق عليه فيما بعد «دولة
الرفاهة».
١٦⋆
رفض المثاليون النموذج الاقتصادي الكلاسيكي للفرد المستقل بذاته، والذي تكون
حقوقه الشخصية في حاجة لحمايتها من التدخُّل الخارجي، والذي تكون مصلحته الشخصية هي
الآلية المحركة لصعود الحضارة.
کتب «جرین»: «الحرية الفردية ذات قيمة فقط كوسيلة لتحقيق غاية.» وبدل ذلك كله،
كان ينادي بنموذج أخلاقي يختار الشخص فيه أهدافه «التي نتمتع بها بالمشاركة مع
الآخرين»، والتي تُفيد الآخرين كما تُفيده، (كان من المفترض أنَّ رجال الأعمال ورجل
الصناعة
١٧ لا يفعلان ذلك).
١٨ المواطن الصالح كان ملتزمًا بشدة بمدِّ يد العون في المجتمع السياسي
«لأعضاء المجتمع الذين هم أقل منه مستوًى، ويحصلون على مزايا أقل منه». (كانت
المواطنة مصطلحًا مهمًّا بالنسبة ﻟ «جرين» والليبراليِّين الجدد المتأخرين، الذين كانوا
يستدعون إلى الذهن صورة جمهورية أفلاطون، أو أثينا البيريكليسية).
وكما عبَّر عن ذلك أحد التابعين «قوة الدولة الصالحة تُقوِّي المواطن، وقوة
المواطن الصالح تُقوِّي الدولة.»
١٩ في أثينا — بالطبع — كان المواطنون يمدُّون يد العون تلك. في العصر
الحديث كان على الدولة أن تتحمَّل العبء المعنوي للمواطنة، من أجل رفاهة الآخرين،
وتُوزِّعه على المجتمع ككل. وكما فسَّر ذلك «سير هنري جیمس»: «إنَّ جوهر المجتمع
معنوي، ونحن نستطيع أن نقرِّر طبيعةَ وحدود أهدافه على أساس معنوي فقط.»
٢٠ كما كتب أحد المثاليِّين البارزين: «تخيَّل لو أنَّ جميع البشر كانوا
كلهم يشعرون دائمًا ببعضهم الآخر كما يفعلون أحيانًا بالنسبة لمن يحبون»، فلا شك أنَّ
النتيجة ستكون «مجتمعًا ليس فيه أفراد بالمرة، سيكون هناك كائنٌ عام في الآخرين ومن
أجلهم … شعور مشترك».
وباختصار فإن إمبراطورية حديثة وعامة، أو ما يسمِّيه «جراهام والاس»
Graham Wallas — من مدرسة لندن للاقتصاد — ﺑ «المجتمع العظيم» القائم على الحب الدائم والرفقة، وليس
على الاستحواذ
والمنافسة.
٢١ كان «أرنولد توينبي الأكبر» هو أكثر تلاميذ «جرین» حماسًا
وتوقُّدًا.
٢٢ بحثُ «توينبي» التاريخي ساعد عليه بشكل كبير، حماس أخلاقي شديد، وجرعة
قوية مما يمكن أن نُطلق عليه «الذنب أو الجريرة الليبرالية».
في عام ۱۸۸۳م، اعترف — باكيًا — أمام جمهور من الطبقة العاملة في «لندن»: «نحن
الطبقة الوسطى، لا أقصد الأغنياء فقط، قد أهملناكم، ولكنني أعتقد أننا تغيَّرنا،
إذا صدَّقتم ذلك ووثقتم بنا، أعتقد أنَّ كثيرين منَّا سيقضون حياتهم في خدمتكم. عليكم
أن تسامحونا؛ لأننا أسأنا إليكم، وأخطأنا في حقكم كثيرًا.» وفي طريق العودة لمنزله،
أُصيب بانهيار عصبي شديد، ومات بعد أقل من أسبوعين.
٢٣
موت «توينبي» المشهدي جعل المثاليِّين البريطانيِّين يشتهرون. «هربرت سبنسر»
Herbert Spencer أصدر نداءً أخيرًا «من أجل
المثال الفردي القديم» في كتابه «الإنسان ضد الدولة»، الصادر في عام ١٨٨٤م، «وإلا
فإن الافتراضات الدولانية لليبرالية الجديدة ستجرف كلَّ شيء في طريقها».
كانت الليبرالية الجديدة أكثرَ من مجرد عقيدة سياسية، كانت «دينًا جديدًا» كما
وصفَتها «أكسفورد ماجازين»، واعتبرت البروفيسور «جرین» مؤسِّسَه، و«أرنولد توينبي»
شهیدَه، وكان أبرز المتحدثين الرسميِّين باسم هذا الدين الجديد: «إل تي هوبهاوس»
L. T. Hobhouse أول أستاذ لعلم الاجتماع في
جامعة «لندن»، والقوة الرئيسية في مجلس تحرير «مانشستر جارديان»، الصحيفة الداخلية
بالفعل لليبرالية الجديدة، والتي كانت مكرَّسة — بعبارة مالكولم ماجردج — «لكل
الأهداف السامية ورفع الروح المعنوية للمسحوقين في كل مكان». جناح آخر من أجنحة
الليبرالية الجديدة، وهم الاشتراكيون الفابيون، كانوا يتنبَّئون بأن خدمات دولة
الرفاهة البيروقراطية سوف تحلُّ محلَّ النظام الرأسمالي في النهاية. الاشتراكية كما
شرحها «سیدني ویب» Sidney Webb أحد مؤسِّسي
«الجمعية الفابية»، كانت أكبرَ من مجرد فلسفة اقتصادية وسياسية.
«إنها تعبِّر عن الاعتراف الحقيقي بالإخاء»، وتقف في تناقضٍ تامٍّ مع ما كان يدعوه
المؤرخ «آر إتش تاوني» R. H. Tawney.
«مجتمع الكسب والاستحواذ» القاسي والبارد، مجتمع رجال الأعمال الذين يُضحُّون
بالصالح العام من أجل المكاسب الفردية.
٢٤ «الفابية»، و«الليبرالية الجديدة» ألهمتَا أعدادًا متزايدة من الموظفين
المدنيِّين والعمال الاجتماعيِّين أن يُغامروا دون تردُّد في مناجم ومصانع بريطانيا
وشوارع المدن. رجال مثال «هنري جونز»
Henry Jones
ونساء مثل «بیاتریس بوتر» («بیاتريس ویب» فيما بعد) كتبوا دراساتٍ تُدافع عن تأميم
مصانع الغاز ومرافق الكهرباء، وأعطوا محاضرات للعاملين والعاملات في «قاعة توينبي»
في «مانشستر» — التي سُمِّيت باسم شهيد الحركة — واستمروا في واجباتهم على ضوء
ندائه الأخير للطبقة العاملة، مردِّدين في أسماعهم «نحن نعمل من أجلكم، على أمل
وثقة من أنكم إذا حصلتم على حضارة مادية أفضل، على ظروف معيشية أفضل، فمن المؤكَّد
أنكم ستعيشون حياة أفضل.» وكما كتب
«هوبهاوس»
Hobhouse في كتابه «ما هي
الليبرالية؟» ۱۹۱۰م: «اليوم كلُّنا اشتراكيون.» ومع منعطف القرن، كانت الأحزاب
العمالية والليبرالية تتبادل الاتهامات بسرقة البرامج بعضها من بعض.
وفيما بعد سوف يتنافسون في مديحهم المُسرِف للاتحاد السوفيتي،
٢٥ ولكن قضية واحدة هي التي شقتهم بشدة: الإمبراطورية البريطانية. العام
الذي ظهر فيه كتاب «الثقافة والفوضى» (١٨٦٩م)، شهد كذلك افتتاح قناة السويس، واتساع
السيادة البريطانية الإمبراطورية في مرحلة جديدة غير مسبوقة. وبحلول عام ۱۸۹۰م،
كانت الإمبراطورية تُغطي ربع مساحة الكرة الأرضية، المساحة الصالحة للسكنى
تقريبًا.
كان الموقف الليبرالي القديم من الاستعمار متكافئ الضدَّين في أحسن الأحوال؛
فالإمبراطورية البريطانية بما تحمله من زخرف الأبَّهة الإمبراطوري، وبما فيها من
احتفالات تقديم الولاء للعاهل البريطاني واليوبيل و«الخرائط المصبوغة بالأحمر» …
إلخ، كانت في جزء كبير منها من صنع المحافظين أتباع «بنیامین دزرائیلي». أما بين
ذوي الأفكار الليبرالية الجديدة فكانت المشاعر أكثر عمقًا وحِدَّة.
٢٦ كان أتباع «ويب» ومَن يُدعَون بالإمبرياليِّين الليبراليِّين، يؤكِّدون أنَّ
الإمبراطورية البريطانية تعني توفيرَ العمل في الداخل، ومكانًا في الخارج من أجل
الجماهير العاطلة. لم يُزعجهم على الإطلاق تورُّط البريطانيِّين في أن يكونوا «جنسًا
إمبراطوريًّا».
٢٧⋆
وبالنسبة لمؤيِّدي الإمبراطورية من الليبراليِّين، فقد كان من الممكن أن يضعوا رؤيةً
أكثر تفاؤلًا في مقابل رؤية «تينسون» المضطربة:
أرض الأمل والمجد، أُم الأحرار،
كيف نمجِّدك، نحن الذين خرجنا من رَحِمك؟
بعيدًا … بعيدًا … سوف تمتدُّ حدودك
والرب الذي خلقك قوية … سيجعلك أكثر قوة.
الحماس الليبرالي للسلطة الإمبراطورية، كان امتدادًا للطرح الأنجلو-ساکسوني
القديم. الشعوب الناطقة بالإنجليزية كانت هي الجنس الأوروبي الذي يقوم بعملية
التمدين والسيطرة على بقاع متنوعة؛ مثل: الهند، ومصر، وجنوب أفريقيا، وهونج كونج،
وأستراليا. كانت تحدِّد للبريطانيِّين واجبًا لترقية الأجناس والشعوب «المتخلفة»،
وأيضًا فرصة للاستفادة. السير «جیمس برايس» James
Bryce، تلميذ «ماکس موللر» Max
Müller السابق، والسفير لدى الولايات المتحدة، كان يرى أنَّ
نظام بريطانيا الإمبراطوري يعمل حسب النموذج الروماني، الذي تندمج فيه الأديان
والأجناس المتنوعة، الغنية والفقيرة، المتحضِّرة والبدائية، تحت سيادة واحدة في
النهاية. وشرح ذلك بقوله: «البشرية كلُّها تتحرَّك بسرعة لكي تكون شعبًا واحدًا.»
وسيكون للإمبراطورية البريطانية السَّبقُ في هذه الخطوة التالية الحاسمة بالنسبة
للحضارة.
في الوقت نفسه، كان «برايس» يُدرك أنَّ إمبراطوريةً كتلك، ستكون غيرَ مستقرة
بطبيعتها؛ حيث إنَّ الأفكار الغربية عن القومية قد امتدَّت إلى الشعوب «البنية
والصفراء والسوداء» التي تعيش تحت نفوذها.
٢٨
مجيء «حرب البوير» في عام ۱۸۹۹م اضطر الليبراليِّين للاختيار بين الرسالة
الإمبراطورية لبريطانيا ورسالتها التحضيرية. وبينما انضم البعض إلى شخصيات محافظة
مثل «روديارد كبلنج»
Rudyard Kipling في دعم الجهود لإخضاع الفلاحين البيض في جنوب أفريقيا، فإن آخرين، من بينهم «برايس»
انحازوا للمتأفرقين (ومن الغريب أنَّ أولئك المتأفرقين البيض أنفسهم، سيظهرون بمظهر الأشرار
الحقيقيِّين في حملة متصاعدة تالية ضدَّ سياسة الاضطهاد). أحد الخصوم الألدَّاء للحرب،
وهو صحفي في «مانشستر جارديان» (ج. أ. هوبسون)، نشر مقالًا مثيرًا في عام ۱۹۰۲م بعنوان
«الاستعمار»، حشدَه بإحصائيات خادعة ورسوم بيانية، قال فيه إنَّ
«الجوهر الاقتصادي» للإمبراطورية البريطانية هو الجشع الصريح. كان البريطانيون
وغيرهم من الرأسماليِّين يبحثون عن منفذ لرأس المال الفائض، كما كتب «هوبسون»، رأس
المال الناتج عن الفقر المدقع ونقص الاستهلاك في الداخل. والنتيجة أنَّ مؤامرة بين
رجال المال والصناعيِّين قد ألهبَت المشاعر الوطنية لإقامة إمبراطورية وراء البحار،
تكون ثرواتهم فيها آمنة ومضمونة، وكان يُسمِّي ذلك «كارثة انهيار الحضارة الغربية»،
کتاب «هوبسون»
Hobson«الاستعمار» غيَّر الصورة عن الإمبراطورية بشكل حاسم بين المثقفين التقدميِّين في أنحاء
العالم، وهو الذي ألهم «لينين» كتابه «الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية»، كما أثَّر على
أفكار «دبليو إي بي دو بوا»، والتقدميِّين الأمريكيِّين المعارضين للاستعمار، مثل «وودرو
ويلسون»
Woodrow Wilson.
٢٩ وأصبح «الاستعمار» والنزعة «الاستعمارية» مصطلحَين كريهَين في قاموس
التقدم.
بيد أنَّ نظرية «هوبسون» التي بدَت مقنعةً ومستمرة طويلًا، كانت قد استمدَّت الكثير
من أفكار نظرية الانحلال. كان يرى أنَّ الغلو في الوطنية والدعم العام للمغامرين
الإمبراطوريِّين، هما شكلٌ جديد من أشكال «الرغبة الشديدة في العودة إلى سمات
الأسلاف»، ويُعبِّران عن «ذهنية الغوغاء» التي حلَّلها «لوبون» في كتابه «العامة».
وحذَّر قائلًا: «ختمُ الطفيلية موجودٌ على كل مستوطنة بيضاء» بين «الأجناس الدنيا في
أفريقيا وآسيا».
٣٠⋆ أهم
حاملي هذه الطفيلية هم اليهود الذين كانوا في رأي «هوبسون» يوجِّهون المال العالمي،
وكذلك الإمبراطورية البريطانية. «جوهانسبرج» مركز رأسمالية جنوب أفريقيا، كانت
بالضرورة مدينة يهودية، هناك … «كانت تنمو وتتنفَّس كلُّ صور الخطايا والرذائل الخاصة»،
كما كتب «في صالات القمار، والصالونات والمباغي.» كان اليهود وحلفاؤهم
الاستعماريون عبارة عن «كيان غريب، يُقيم بشكل مؤقت، جاء بغرض استخراج الثروة من
البلاد، ويعود ليستهلكها في بلده الأصلي»، إلا أنَّ تدافُعَهم المتهوِّر على الربح
الرخيص كان محكومًا عليه بالفناء، كما قال. حيث إنَّ قوانين الطبيعة «تحكم على كل ما
هو طفيلي بالضمور والتفسُّخ ثم الفناء»،
٣١ وبالتالي، كانت هناك صورتان ليبراليتان متعارضتان للإمبراطورية
البريطانية في أوائل القرن العشرين: الأولى سلبية جدًّا، وهي الصورة التي رسمها
«هوبسون»: الاستعمار شرٌّ، ونظام متفسِّخ يقوم على الاستغلال الرأسمالي للسكان
الأصليِّين في الخارج، ونشر الفقر وصناعة السلاح في الداخل. ومثل «المجتمع المولع
بالكسب والاستحواذ» الذي قوَّى منه ودعَّمه، فهو محكوم عليه بتدمير نفسه.
والصورة الأخرى لخَّصها «جون بوشان» John
Buchan في مذكراته:
حلمت بأخُّوة عريضة باتِّساع العالم، خلفيتها جنس
وعقيدة مشتركة مكرَّسة لخدمة السلام، بريطانيا تُثري
الآخرين بثقافتها وتقاليدها، وبروح الأقطار التابعة
٣٢⋆ مثل
ريح قوية تُجدِّد، وتنقِّي الهواء الفاسد في الأراضي القديمة …
عقيدتنا لم تكن مؤسَّسة على العداء لأي شعب آخر، كانت
إنسانية وعامة، وكنَّا نؤمن بأننا نضع أساسَ فيدرالية
عالمية.
٣٣
الرجال الجوف، جیل «أرنولد توينبي» الضائع
بالمولد والتربية، كان «أرنولد توينبي الأصفر»، نتاجًا أصيلًا لليبرالية الجديدة.
كانت كُليَّته «بالليول» Bolliol التي التحق بها في
عام ۱۹۰۷م في جامعة «أكسفورد» هي مركزها، «بنیامین جوویت»
Benjamin Jowett، أستاذ «بالليول» الشهير،
استقدم «توماس هيل جرين» Thomas Hill Green في عام ١٨٧٤م ليساعد في تنشئة نخبة «ذات موهبة أرستقراطية» يمكن أن تنفِّذ جدول أعمال
ما بعد الليبرالية. والحقيقة أن «بالليول جوویت»، كانت هي النموذج المناظر ﻟ
«هارفارد تشارلز دبليو إليوت، وهنري آدمز». كان عم «توینبي»، «أرنولد الأكبر»،
معلِّمًا وأمينًا للصندوق في «بالليول». كان من بين خريجيها: وزير المال، ووزير
الخارجية، ونائب الملكة السابق في الهند، ولورد «ملنر» Milner المهندس الرئيسي للسياسة البريطانية في
جنوب أفريقيا، إلى جانب مفكرين ليبراليِّين بارزين؛ مثل «برنارد بوسانكويت»
Bernard Bosanquet، و«ل ت هوبهاوس»
L. T. Hobhouse.
عندما تخرَّج الشاب النابه «أرنولد توينبي» في عام ۱۹۱۱م بمرتبة الشرف، حصل
فورًا على وظيفة في «بالليول» مدرِّسًا للتاريخ اليوناني، وتزوَّج ابنة «جلبرت موراي»
Gilbert Murray أبرز الأساتذة الكلاسيكيِّين في
عصره، وبدَا مستقبلُه مثلَ مستقبل بريطانيا نفسها، مضمونًا. كتب بعد ذلك بنصف قرن:
«كان مفهومًا بالطبع أنَّ إطار العمل بالنسبة للنظام العالمي القادم سيكون هو
الحضارة الغربية … الحضارات الأخرى قامت وسقطت، جاءَت وذهبت، ولكن الغربيِّين لم
يشكُّوا أبدًا أنَّ حضاراتهم كانت منيعة.»
٣٤ هذه الثقة الهشَّة عند «توینبي» وجيلِه، مزَّقها مقدم الحرب في عام
١٩١٤م (بالأرقام … مات ٧٠٢٤١٠)، بريطانيا العظمى لم تُعانِ من أهوال الحرب
العالمية الأولى أكثر مما عانَت إيطاليا، ولكن خسائر بريطانيا كانت في النخبة من
المجتمع، وبشكل غير متكافئ، ثلث طلبة «أكسفورد» في ۱۹۱۳م ماتوا في الحرب، كما أنَّ
موتَ كثيرين من شباب «بالليول» الواعدين، ألقى بظلال كئيبة على المؤسسة البريطانية،
من هذه الصدمة الشديدة والشعور بالفقد، ستخرج أسطورة «الجيل الضائع» التي سكنت
الثقافة الفكرية البريطانية، وصنعت السياسة على مدى العقدَين التاليَين،
٣٥ كانت الحرب العالمية الأولى بالنسبة لبريطانيا، مثل ما ستكونه حرب
«فيتنام» بالنسبة للأمريكيِّين بعد ذلك، كسرت معنويات النخبة السياسية، وعلى حدِّ تعبير
إحدى شخصيات رواية ﻟ «ألدوس هكسلي»
Aldous Huxley «لقد تحطَّم قاعُ كلِّ شيء»، كان «أرنولد توينبي» أحدَ الذين تحطَّموا. كتب بعد ذلك:
«الوهم الذي كان لديَّ بأنني المواطن المتميِّز في عالم مستقر قد تبدَّد.» ولن ينظر إلى
مجتمعه ولا إلى الغرب كما كان ينظر إليهما من قبل،
٣٦ بيد أنَّ «توینبي» استطاع أن ينجوَ من المحنة، ويخرج منها دون أذًى، ورغم
أنه كان في البداية مع «الحرب من أجل الحضارة»، إلا أنَّ تشجيعَ أمِّه ومساعدات أصدقاء
الأسرة من المتنفذين، مكَّنَته من أن يتفادى الخدمة العسكرية بإعفاء طبي ملفَّق،
وبينما كان رفاق الجامعة يقاتلون ويموتون في «فلاندرز» و«سالونيكا»، كان «تويبني»
آمنًا في «بالليول»، يتكلَّم عن التاريخ «الهلينستي» مع طلابه، حول أكواب الشاي
وكئوس اﻟ «شرى» — خمر إسبانية — ويكتب كراسة ينادي فيها بسلام يتمُّ التفاوض من
أجله،
٣٧ لدرجة أنه — وكان ذلك رد فعل — أصبح سلاميًّا ملتزمًا، يكره كلَّ ما له
صلة بالشجاعة القتالية أو البطولة أو الوطنية، أو أيًّا من تلك المفاهيم «القديمة»
ذات الصلة بالماضي الفيكتوري قبل الحرب.
٣٨⋆ بعد
فترة طويلة، كتب: «في عام ١٩١٤م، أصبحتُ مقتنعًا بأن الحرب ليست مؤسسةً محترمة، ولا
هي خطيئة، إنها جريمة.» أما بقاء زوجته وفيَّة لذكرى واحد من أبطال الحرب، وهو
عشيقها السابق «روبرت بروك»
Rupert Brooke الذي دقَّ إسفينًا دائمًا بينهما، فلا يبدو أنه قد خفَّف من نفوره من الحرب.
في شهر يناير من عام ۱۹۱۸م، كانت «فيرجينيا» و«ليورنارد وولف»
Virginia and Leonard Woolf يتناولان العشاء مع «توینبي»، وبعد ذلك كانت «فيرجينيا» تُشير إلى أنه «كان يعرف الأبطال
الأرستقراطيِّين الذين قُتِلوا، وكانوا من المشاهير ولكنه كان يمقتهم».
٣٩ لم يكن «توینبي» وحده في ذلك. كان «آل وولف» وأصدقاؤهما المعروفون ﺑ
«جماعة بلومزبري»
Bloomsbury Group قد أرسوا
أسلوبًا جديدًا للطبقة البريطانية المثقَّفة: بوهيميًّا من الناحية الاجتماعية،
إباحيًّا من الناحية الجنسية، راديكاليًّا من الناحية السياسية، وسلاميًّا لدرجة
كبيرة. (كان عدد كبير من أعضاء جماعة «بلومزبري» قد احتجُّوا ضدَّ الحرب، وكان من
بينهم «برتراند راسل» الذي سُجِن بسبب ذلك). كانوا شديدي الازدراء لقيم الماضي
القديمة «المحترمة». نظرة «بلومزبري» يلخِّصها ما كتبه «ليتون ستراشي»
Lytton Strachey في «الفيكتوريون البارزون» لكي يفضح بريطانيا البرجوازية بطريقة ساخرة، وكذلك عبارة
«إي إم فورستر»
E. M. Forster الشهيرة: «لو خُيِّرت بين أن أخونَ بلدي أو صديقي، لتمنَّيت أن يكون لديَّ الشجاعة لأخون
بلدي.» «وبالرغم من أنَّ
«تويبني» لم يكن في أيِّ وقت من الأوقات عضوًا عاملًا في «جماعة بلومزبري»، إلا أنه
شارك في كثير من الأفكار التي تحمَّسوا لها بما في ذلك — لفترة ما — حماسهم
للاشتراكية».
٤٠ كما تحمَّس أيضًا لفكرة الدُّوَلية
Internationalism الجديدة التي انتشرت بين
مثقفي أوروبا الليبراليِّين بعد الحرب. حضر «توينبي» مؤتمر الصلح في فرنسا في عام
۱۹۱۹م، وأصبح مؤيدًا شديدًا لعصبة الأمم، كان مؤسِّساها البريطانيان «وولتر
فيليمور»
Walter Phillimore، و«روبرت سيسل»
Robert Cecil من السلاميِّين أيضًا.
٤١ وكانت المؤسسة الأخرى التي اتجه إليها «توينبي» من أجل المساندة
الأيديولوجية هي «المعهد الملكي للشئون الدولية»، كان مؤسِّسه «ليونيل كيرتس»
Lionel Curtis تلميذًا مخلصًا لكلٍّ من «ت. ﻫ. جرين»
T. H. Green، و«توينبي الأكبر». وباختفاء
الرسالة الأنجلو ساكسونية العرقية بعد عام ۱۹۱۸م، وبعد أن ذوَت فكرةُ الإيمان
بالسيادة الإمبراطورية، لم يتبقَّ سوى الرؤية الإمبراطورية الليبرالية عن مجتمع
دولي واحد، حتى قبل الحرب كان «كيرتس» يدفع فكرة تحويل الإمبراطورية البريطانية إلى
«كومنولث» اختياري بين الدول المستقلة. بريطانيا يمكن أن تُقدِّم «مؤسسات حرة
ومنظَّمة» لمناطق نفوذها السابقة، كما تُقدِّم السلام والوئام بدلًا من الاستغلال
والصراع. وباختصار، فإن بريطانيا يمكن أن تُبقِيَ على الملامح الحسنة للإمبراطورية
الليبرالية. وفي الوقت نفسه تتجنَّب الكوارث والأهوال التي وصفها «ج. أ. هوبسون»
J. A. Hobson أو «جوزيف كونراد»
Joseph Conrad في روايته «قلب الظلام». وبعد
أن أخفقت الآمال في عصبة أمم قوية مؤثِّرة، اتجه المؤمنون بأفكار «الدولية» من
أصحاب العقول الليبرالية إلى تصوُّر «كيرتس» بخصوص الكومنولث، لعدم وجود غيره في
الساحة.
٤٢ «کیرتس» ومجموعته «المائدة المستديرة» (التي كانت تضم عددًا من الرجال
المؤثِّرين مثل محرِّر «التيمز» اللندنية) تجنَّبوا — عن وعيٍ — نموذجَ «بريس»
الروماني، عن السيادة البريطانية، وذلك لحساب نموذج آخر اقترحه أحد أعضاء المجموعة،
كان مستمدًّا من اليونان القديمة أيضًا. كان «ألفريد زيمرن»
Alfred
Zimmern أستاذًا للتاريخ القديم في «أكسفورد» ومؤلِّف كتاب
«الكومنولث اليونانية»، الذي يشرح كيف استخدمت أثينا البيريكليسية نفوذها في العالم
اليوناني، لنشر قيم الحرية والتمدين. فكرة «زيمرن» عن «كومنولث» يقوم بعملية
«التمدين» ألهمَت «كيرتس» أن ينتحل المصطلح لنفسه. «كان «زيمرن» صديقًا حميمًا أيضًا
ﻟ «توينبي» الشاب.» في عام ١٩١٥م، كتب «زيمرن» مقالًا بعنوان: «الثقافة الألمانية
والكومنولث البريطاني». ومثل شخصيات أخرى من «أكسفورد»، كان يعتقد أنَّ الحرب
العُظمى لم تكن مجرَّدَ صراع على الإمبراطورية كما كان يزعم «دو بوا»، و«شبنجلر»،
و«لينين» وغيرهم من النقَّاد، كانت أيضًا حربًا للدفاع عن الحضارة الليبرالية ضدَّ
البربرية التيوتونية الفظَّة وطغيانها. كان «زيمرن» يقابل بين إيمان ألمانيا بثقافة
على النمط البروسي، وإيمان بريطانيا بحكم القانون والمؤسسات الحرة، وكان «زيمرن»
يقول إنَّ ««تلك المفاهيم ليست احتكارًا لبريطانيا العظمى»، «بل هي ملك للبشرية
المتحضِّرة كلها»، وأنَّ «كومنولث» بريطانيا يمكن أن يجعل نشر هذه الرسالة أهم هدف
له.»
٤٣ كان «كيرتس» موافقًا على ذلك، بيد أنه كان ينظر إلى تلك المهمة بشكل
أكثر نخبوية، كتب: «لقد وضع القَدَر على كاهل هذا «الكومنولث» قدْرًا كبيرًا من
الواجب المفروض على أوروبا، وهو التحكُّم في علاقتها بالأجناس الأكثر تخلفًا من
جنسها.» الشعوب الناطقة بالإنجليزية تحتفظ برسالتها التحضيرية الخاصة في العالم،
ولكن كدبلوماسيِّين وبيروقراط أكثر منهم مستكشفين وجنودًا ورجال صناعة، وقد أنشأ
«كيرتس» مؤسسة أنجلو أمريكية مشتركة في «نيويورك» تُسمَّى مجلس العلاقات الخارجية،
لتقديم النصح والمشورة المستنيرة في الشئون العالمية. وكان فرعها في «لندن»:
«المعهد الملكي للشئون الدولية»، ومقرُّه «تشاتام هاوس»
Chatham
House. وفي عام ۱۹۲۱م، جاء «كيرتس» ﺑ «أرنولد توينبي» زميل
«زيمرن» أيام الشباب في «أكسفورد»، وابن شقيق بطله العظيم، إلى «تشاتام هاوس» ليكون
مديرًا له. وعلى مدى العشرين سنة التالية، سيُكرِّس «توینبي» جهده لتحرير ونشر مسح
سنوي ضخم للشئون العالمية إلى جانب كتاباته التاريخية الخاصة. كان «توينبي»
و«كيرتس» وبقية هيئة «تشاتام هاوس» شديدي المعارضة لتلك الآراء العرقية التي تحمل
حنينًا للماضي، والتي كانت تدفع أناسًا مثل «هتلر»، و«شبنجلر»، و«ثورة اليمين»
الألمانية. في عام ۱۹۲۱م، قام «توينبي» بزيارة «کریت» في مهمة لحساب عصبة الأمم،
ورأى مباشرةَ النتائج المروِّعة للقتال اليوناني التركي على الجزيرة، وقد ساعد ذلك
على تقوية نزعته السلامية،
pacifism، كما زرع فيه
رعبًا من القومية لم يتركه أبدًا، إلا أنَّ «توینبي» ورفاقه كانوا متفقين مع نظرائهم
الفاشست في نقطة واحدة: الحرب العالمية الأولى كانت نهاية العالم الأوروبي القديم
وبداية فجر نظام جديد، ولكن رؤية «تشاتام هاوس» لذلك النظام الجديد هي التي كانت
نهايةً هادئة إن لم تكن سلبية، مقارنة بغيرها. الإطار العام لهذه الرؤية، قدَّمه
«بنيامين كيد»
Benjamin Kidd في كتابه «مبادئ
الحضارة الغربية» ۱۹۰۲م والذي أكَّد فيه على أنَّ الحضارة الغربية هي التي
٤٤ وصلت بالعالم وبالازدهار الاقتصادي وبالحرية السياسية والثقافية إلى
أعلى الذُّرا؛ ففي مراحلها التكوينية أظهرت الحضارة الغربية الصفات القومية والمؤكدة
للتفوُّق التي تتمتع بها أيُّ حضارة عظمى، كما عبَّرت عن فضائل «جنسها الطليعي
القوي» أو السلالة النوردية الأوروبية. والآن، كان «كيد» ينبِّه إلى أنَّ تلك الصفات
المؤكدة للتفوُّق والتنافسية كان لا بد أن تختفيَ، إذا كان على الحضارة الحديثة أن
تحافظ على نفسها، لا بد أن تُخليَ الفردانية
individualism مكانَها لأخلاق المسئولية
الاجتماعية والواجب.
٤٥⋆،٤٦
والآن، بعد تجربة الحرب العظمى، كان الإجماع الليبرالي الجديد يؤكِّد على ضرورة
اختفاء الدولة-الأمَّة أيضًا، مع قواها التي تصنع الحروب، وفيما بعد كتب «توينبي»
يقول: «وفي الوقت نفسه، يمكن للدولة-الأمَّة في أوروبا أن تتسع «كدولة رفاهة» و«دولة
صانعة للحروب».» وفي القرن العشرين لم يَعُد بوسعها أن تفعل الشيئين معًا، وكان
لا بد أن تختار.
من ناحية ثانية، فإن الدولة-الأمَّة، عن طريق تقديم مزاعم سخيفة عن السيادة
القومية، والاشتراك مع دول أخرى للحث على السلام، استطاعت أن تركِّز على واجبها
الأَوْلى: الغذاء والكساء وترقية حياة مواطنيها.
٤٧
كان «توينبي» يعتقد أنَّ بريطانيا المتقلِّصة، المتخلِّصة من مستعمراتها ومؤسَّساتها
العسكرية، هي فقط التي تستطيع أن تلعب دورًا بنَّاءً في نظام عالمي سلمي. وسيكون
ذلك نظامًا عالميًّا يُبنَى حول إمبراطوريتها السابقة والكومنولث وعصبة الأمم.
وبالقطع، لن تظلَّ بريطانيا وأوروبا محتلَّتَين لوسط المسرح. أوروبا نفسها، كما قال
«توينبي» أمام جمهور كبير في الجمعية الفابية في عام ١٩٢٦م «تمرُّ بعملية تقزيم
بواسطة عالم ما وراء البحار، الذي كانت هي نفسها سببًا في وجوده «من خلال
الإمبراطورية».» هيمنة الحضارة الغربية التي لا تُبارَى، كانت تطوُّرًا «حديثًا
وسيطرة غير مسبوقة»، وضعت الحرب العالمية نهايةً حاسمة لها، كما يقول.
٤٨
التاريخ القديم، وهو ميدان دراسة «توینبي»، أقنعه أيضًا بأن السيطرة الغربية لا بد
أن تنتهيَ. تذكَّر تنبُّؤَ «إدوارد جيبون»
Edward
Gibbon الشهير في «اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية»:
بينما سقطت الإمبراطوريات القديمة مثل «اليونان»، و«روما»، و«آشور» في الظلام، فإن
الحضارات الحديثة مثل بريطانيا كانت تحظى بمستوى من التقدم المادي «نظام فنون
وقوانين وأخلاق»، يجعل الانحدار إلى البربرية أمرًا مستحيلًا، ويقول «توینبي»: «لقد
جعلني أغسطس (١٩١٤م) أضع الحكم الذي أصدره «جيبون» موضع المساءلة.» ويعبِّر عن ذلك
على نحوٍ أكثرَ حدَّة في رسالة خاصة: «سنصبح حثالةً أيضًا عندما تتمركز الحضارة في
الصين.»
٤٩
اهتمامه بالأسلوب المقارن في دراسة الحضارات القديمة، والذي أوحى له به کتاب
«تاريخ العصور القديمة» (١٨٨٤–١٩٠٢م) ﻟ «إدوارد مایر»، هو الذي دفعه لطرح سؤال
بسيط: «ماذا لو طبَّقنا أسلوب المقارنة هذا على تاريخ الغرب؟» كیف يكون تاريخ الغرب
الآن لو قارناه بحضارات مثل الصين وحضارات الشرق الأوسط التي وصفها التراث
الاستشراقي ذات يوم بأنها «متفسخة» و«متدهورة»؟
ثم جاء «شبنجلر» في ربيع (۱۹۲۰م)، وبالرغم من أنَّ «توينبي» لم يكن متعاطفًا مع
حتميته، إلا أنَّ كتابه «أُفُول الغرب» حفَّزه على العمل وكلُّه إصرار على أن يتفوَّق
على «شبنجلر» في لعبته لاكتشاف «قوانين التاريخ» وأسرار اضمحلال أوروبا، وبينما هو
يبحث ويكتب مسحه السنوي المسهب لحساب «تشاتام هاوس» في النهار، كان يقضي الليل
مشغولًا ببرنامج قراءة مكثَّف، يلتهم كتب التاريخ الصيني القديم والحديث واليابان
وأمريكا «ما قبل كولومبس» وروسيا وأوروبا الشرقية، إلى جانب أحدث الكتابات في
الإثنولوجيا والأنثروبولوجيا، كان كلُّه إصرارًا على أن يتعمَّق في تلك المجالات من
التاريخ غير الغربي، والتي كان «شبنجلر» قد مرَّ عليها سريعًا، كما كان يحاول أن
يحقِّق تميُّزًا علميًّا واضحًا في المواضع التي تناولها «شبنجلر» بتعميم
جامد.
وبعد عقد من البحث، حدَّد «توینبي» «۲۱» مجتمعًا أو حضارة واضحة المعالم تمثِّل
تاريخ البشرية،
٥٠⋆ (وجعلهم
بعد ذلك ٢٦) استطاعت خمس منها فقط البقاء إلى يومنا هذا، وهي: الهندية أو الإنديك،
الإسلامية في صورتَيها الإيرانية والعربية، الصينية التي تضمُّ الصين واليابان
والتوابع الثقافية لهما، المسيحية الأرثوذوكسية في روسيا وأوروبا الشرقية، والغربية
بالطبع. استبعد «توينبي» أفريقيا من دراسته تمامًا، الأمر الذي أصبح موضوع خلاف،
وقد ندم على ذلك فيما بعد.
٥١
إلا أنه لم يكن هناك أيُّ انحياز جنسي أو عرقي في ذهن «توینبي»، كان في الواقع
يريد أن يُعطيَ المجتمعات غير الغربية حقَّها كاملًا، مما أدَّى به إلي وضع كتاب يزيد
في حجمه عن ستة أمثال حجم کتاب «أُفُول الغرب» ﻟ «شبنجلر». وكان مثل «شبنجلر»
أيضًا، يحاول صُنعَ علمٍ مقارن للحضارات يضع الغرب في دور منكمش إن لم يكن فعلًا دور
أفول.
ويكتب «توينبي»: «يجب أن ننظر للتاريخ بعيون جديدة.» وهذا معناه نبذ منظور
المركزية الأوروبية، الذي كان يضع الحضارة الأوروبية في مركز عملية التقدم
الإنساني.
٥٢ وفي الوقت نفسه كان «توینبي» — بالطبع — يرفض أفكار «شبنجلر» عن
الحيوية-العرقية، وقال إنَّ المفاهيم التي تعتبر الحضارة الغربية تيوتونية الأصل،
وفكرة خلق «أجناس نقية» من الغزاة الذين لم يزَل دمُهم يقوِّي ذريتَهم ويمنحها النبالة
… هذه المفاهيم والأفكار قد انقلبت بفضل حقائق الأركيولوجيا واللغة، واعتبر
«توینبي»، نظريات «جوبينو» — بالتحديد — ضربًا من «الهراء»، ورفضها
تمامًا،
٥٣ كما رفض انحياز «شبنجلر» النوردي (والمعادي للمسيحية) ضد بوتقة انصهار
الأعراق في البحر الأبيض المتوسط القديم. وكما يليق بدارس كلاسيكي في «أكسفورد»،
وصهرٍ ﻟ «جيلبرت موراي»، أعاد «توينبي» تأكيدَ العلاقة الثقافية الواضحة بين
أوروبا الحديثة والإغريق والرومان القدامى، والتي كان «شبنجلر» يُنكرها.
ولكن مجتمعات مثل أفريقيا السوداء، سقطَت على الجانب الخطأ من الخط الذي رسمه
«توینبي» بين الثقافات الإنسانية (بالمعنى الأنثروبولوجي)، التي يوجد مئات منها في
أيِّ وقت معين، و«الحضارات» التي كانت تمتاز عن الحضارات الأخرى بخاصية واحدة، كانت
تلك هي قدرتها على النمو، ليس بالمعنى الاقتصادي أو المادي، وإنما بالمعنى الروحي،
نموُّ الحضارة كان يحرِّكها نحو ذلك «الكمال كحالةٍ داخلية للعقل والروح»، والذي كان
«ماثيو أرنولد» قد وجد أنه أهم صفة للثقافة الغربية، والآن كان «توينبي» يجعل
النموَّ الموضوعَ الرئيسي للتاريخ الإنساني كلِّه.
دراسة التاريخ – المادة والروح والحضارة
أعلن «توينبي» أنَّ جميع الحضارات الكبرى في التاريخ تحرَّكَت بلا وعيٍ نحو هدف واحد
أعلى، كان يسمِّيه «تقرير المصير». مفهومه ﻟ «تقرير المصير» جاء من أسلافه
المثاليِّين البريطانيِّين، وكان مفهومًا ثقافيًّا واجتماعيًّا أكثر منه مفهومًا
سياسيًّا.
٥٤ كان يعني أنَّ حضارة ما، تحقِّق هوية فريدة واعية بذاتها، تتمفصل بين
أعضائها الذين يحقِّقون بدورهم شعورهم الكامل بالهوية والهدف، كمشاركين واعين
بالكيان الكلي.
على أنَّ تقرير المصير هذا كان نتاجَ «وثوب» روحي يحرِّك كلَّ حضارة «من التحدِّي،
وعبر الاستجابة، إلى تحدٍّ أبعد»، ويشكِّل اتجاهَ الحضارة ككل. «توینبي» استعار
مفهومَ «الوثوب الحيوي»
élan vital من الفيلسوف
الفرنسي «هنري برجسون»
Henry Bergson،
٥٥⋆ و«ثوب»
برجسون لم يكن انعكاسًا خارجيًّا لإرادة القوة، وإنما هو استبطانٌ تأمليٌّ داخلي للنفس
يرفع العقل إلى مستوًى روحانيٍّ أعلى؛ فهو يحرِّر «القوى الروحانية الجيَّاشة» لدى
الفرد، ويجعل عالم الآلية كما يفهمه العلم والواقع الإمبيريقي، يذوي.
«توينبي» نقل هذا الاستبطان الذاتي الصاعد من الفرد، إلى التجربة الجمعية
للمجتمعات، وبذلك يكون قد فُتِّت فكرةُ «شبنجلر» التي ترى التحضُّر بمثابة عملية
تهديد لحيوية الثقافة. وبدلًا من ذلك، قدَّم «توینبي» رُقيَّ الحضارة وسموَّها كتعبير
متقدِّم عن تلك الوثبة الحيوية المتجهة نحو الداخل. كانت النتيجة مروِّعة، الإنسان
المتحضِّر كما قدَّمه «جوبينو» في التاريخ الحيوي، مُختزَلٌ في هجين عِرقي، وعند
«شبنجلر» هو «متفسِّخ» على فراش المرض. وعلى النقيض من ذلك، هو عند «توينبي» في
«دراسة التاريخ»: أنقى تعبير عن الحيوية والصحة الروحية. والواقع أنَّ النموذج
الإنساني، يُصبح شخصًا مثل «توينبي» نفسه: حي، حسَّاس، متدين بالمعنى التأملي
الأخروي، رجل ينأَى بنفسه عن عالم العنف والبربرية، يُنشد «الأثيرية السماوية» لنفسه
وللمجتمع.
تاريخ الحضارة إذن له وجهٌ مزدوج، على أحد المستويات يَصِف «توينبي» التتابع الدوري
للأشكال السياسية الخارجية. السياسة تنبثق من ظلام ما قبل التاريخ على هيئة «دول
متحاربة»، تدخل في صراعات مستمرة بين القادة العسكريِّين البدائيِّين والأمراء الصغار،
إلى أن يظهر قائد — قیصر أو أوغسطس مثلًا — ليصوغ «دولة عالمية» واحدة. ومن المحتَّم
أن يتبع ذلك غزوٌ وانقسام داخلي، يُعيد الحضارة إلى فوضى الدول المتحاربة، وبهذا
المعنى يكون كتاب «توينبي»: «دراسة التاريخ» صيغةً أخرى لمسار الإمبراطورية: الدورة
المتكرِّرة للفتح، والاستيلاء على أراضٍ، والسيطرة عليها، والاضمحلال. وبريطانيا
العظمى هي أحدث مثال على ذلك. التاريخ عند هذا المستوى — أي باعتباره قصة
المؤسسات السياسية والحكَّام ورجال الدولة والحروب — لم يلقَ من «توینبي» سوى
اهتمام قليل، باستثناء انتفاضة سخط أو ضيق عارضة؛ فقد أشار إلى صعود النزعة
العسكرية والجيوش والقوات البحرية الكبرى، كدلائل لا تُخطئ على اضمحلال الحضارة،
أكثر مما هي على نجاحها. الروح العسكرية روح «انتحارية»، هي «زيغ وانحراف» في
المجتمعات المتقدِّمة، وقد «أصبحت» أهمَّ أسباب سقوط الحضارات «إلى حدٍّ بعيد»، توصل
«توینبي» إلى ذلك وذكرى الحرب العظمى ما تزال حيةً في ذهنه.
«في هذه العملية الانتحارية، يصبح النسيجُ الاجتماعيُّ كلُّه وقودًا يغذِّي اللهب
المفترس في صدر المولوك
٥٦⋆ النحاسي»، كما أصبحت الديمقراطية كذلك، وبخاصة في صورتها الحديثة،
عرضةً لانتقادات حادَّة.
٥٧ على أنَّ التاريخ الحقيقي للحضارة يوجد على مستويات أعلى، وهو تاريخ
الإنسان ككائن روحاني وفقًا للتسلسل الزمني. مرحلته الأولى تتضمن المواجهة العنيفة
بين الإنسان وبيئته المباشرة. مؤسِّسو الحضارة؛ مثل: المصريين القدماء والسومريِّين
والمايانيِّين، استطاعوا بشقِّ الأنفس أن يصنعوا مجتمعًا إنسانيًّا من الطبيعية
المقفرة، سلاحهم الوحيد هو قوة الإرادة. واتخاذ قرار لعمل ذلك ليس أمرًا سهلًا.
«توينبي» يُشَبِّه العناء والشقاء الناجمَين عن ذلك، بالطرد من «جنة عدن»،
٥٨ على أنَّ القدرة على قهر تلك العوائق الفيزيقية، هي ما يميِّز حضارة
أوَّلية عن مجتمع بدائي لا يستطيع أن ينموَ خارج واقع الطبيعة الوحشي، ويظل حبيسَ فخِّ
بيئته، مثل حضارة الإسكيمو أو الأقزام. حياة مؤسسي الحضارات العظمية تغلب عليها
مشروعات الري الكبرى وبناء المعابد الهائلة. تلك التحديات كما يقول «توينبي» تُحدِث
تدفُّقًا أوليًّا للوثبة الحيوية التي تحوِّل الثقافة بالنسبة لأكثر الحضارات
نشاطًا وحيوية، «كلما زادت الصعوبة، زادت درجة الاستجابة». في المراحل الباكرة
للحضارة — كما يسلم «توینبي» — تُسهِم الحروب والفتوحات في عملية النمو الحيوية، كما
يُدعِّم الناسُ مكاسبَهم ويقوُّونها ضد البيئة العدائية. وبمرور الزمن، على أية حال،
فإن
عمليةَ توكيد الذات تُحوِّل بؤرتها من التحديات «الموجَّهة من الآخر» — الطبيعة
والشعوب والدول الأخرى — إلى تحديات «موجَّهة داخلية»، أو بمعنًى آخر «التنظيم
المنطقي للمجتمع نفسه». «عندما تتجمَّع وتنمو مجموعة من الاستجابات … ينتقل ميدان
العمل من البيئة الخارجية إلى داخل الكيان الاجتماعي للمجتمع». والحقيقة أنَّ ميدان
العمل، يصبح هو روح الفرد ذاتها في النهاية.
٥٩
«توينبي» كان يعكس أو يقلب ذلك التمييز المهم جدًّا بين الثقافة والحضارة. قُوَى
الثقافة الحيوية، وإرادة القوة والمجاهدة الواثقة كلها عند «توينبي» أمورٌ مؤقتة
وسطحية، والدوام الحقيقي والاستمرار يأتيان عندما تحلُّ محلَّ ذلك كلِّه قيمٌ أكثر
استنارة، ومن هنا فإن المجتمع لا يقرِّر مصيره إلا في المرحلة «المتحضِّرة». الطاقات
الإنسانية تنطلق بعد تبسيط العمليات التي كانت تستغرق وقتًا وجهدًا كبيرَين في
الماضي؛ مثل: جمع وزراعة الطعام، وتنظيم المذاهب الدينية، وإقامة نُظُم الحكم.
التبسيط يُطلق «تحوُّلًا في الطاقة يتبع ذلك … من مجال عمل بسيط إلى مجال عمل
أعلى».
٦٠ «توينبي» يُسمِّي هذا التحوُّل «تقرير المصير»، و«آدم سميث» يسمِّيه
«تقسيم العمل». والواقع أنَّ مثال «توينبي» الأوَّلي على تقرير المصير من خلال
التبسيط، هو التحوُّل الكلاسيكي للمجتمع المدني من الإنتاج الريفي إلى الإنتاج
المديني، ومن الحِرَف اليدوية إلى السلع المصنَّعة، ولكن «توينبي» كان يريد أن يرى
عملية التبسيط هذه وهي تعمل في مجالات أخرى، في الخادم عند الملك عندما يصبح موظفًا
مدنيًّا، التاجر المتجوِّل الذي يصبح رجل أعمال حديثًا، والقس الذي يصبح دارسًا
جامعيًّا، ولا شيء من ذلك كلِّه يحدث بالمصادفة طبعًا، ومثل أسلافه، كان «توینبي»
يعتقد أنَّ تقدُّمَ أيِّ مجتمع يعتمد على ما فيه من نخبة وأرستقراطية، ولكن أرستقراطية
«توينبي» المثالية لم تكن طائفةً عسكرية ولا حتى طبقة سياسية بمفهوم «جون آدمز»؛ حيث
إنَّ الحضارات المزدهرة في أثينا وفلورنسا عصر النهضة وإنجلترا العهد الإليزابيثي،
قامت كلُّها على كاهل نخبة روحية كما كان يقول، أو كما كان يسمِّيها ﺑ «الأقلية
الخلَّاقة» في المجتمع:
«النمو، هو من صُنْع الشخصيات الخلَّاقة والأقليَّات المبدعة، وهم أنفسهم لا يمكنهم
أن
يتقدَّموا للأمام إلا إذا كانوا قادرين على إيجاد وسيلة … لحمل الجماهير العادية من
البشر، والتي هي دائمًا الأغلبية العظمى، معهم في تقدُّمِهم».
وهم يفعلون ذلك في الواقع بتقديم النموذج الجيد الذي يقبله ويتبعه مَن هم أقل
منهم روحانية، ومثل رجال «بالليول» الجيدين، فإن أفراد تلك الأقلية الخلَّاقة
يعيشون مجموعةً من المبادئ — الشرف، الشجاعة، التعاطف، الصدق — وهي التي تلهم بقية
المجتمع.
يقول «توینبي»: «واجب القائد هو أن يجعل زميلَه تابعًا له.» عن طريق النموذج
والإقناع أكثر مما هو عن طريق السلطة التصحيحية. الأقلية الخلَّاقة تدفع المجتمع
الصاعد إلى الأمام من خلال قيادتها السياسية والفكرية والدينية. «في المجتمع النامي
والصحي، يتمُّ تدريب الأغلبية على اتِّباع قيادة الأقلية بشكل ميكانيكي»،
٦١ على أنَّ عملية التقليد الميكانيكية تمثِّل خطرًا. خوف «توينبي» من
«الميكانيكي» أو الآلي امتدَّ إلى أبعد من كلِّ ما له صلة بالتكنولوجيا الصناعية: كان
يشمل كلَّ صور التكرار المستمر التي يحلُّ فيها الروتين محلَّ القوة المبدعة. وعند
«توينبي» كما عند معاصريه من جماعة «بلومزبري»: كانت كل العادات والتقاليد الراسخة
(خاصة في شكلها البريطاني المتعارَف عليه) تمثِّل عمقًا روحيًّا.
عملية التحضير عند «توینبي» هي بالفعل «وثبة إلى الأمام» … في المجهول، بينما
التقليد يعني الحذر … وبالتالي الركود، وبالمثل فإن التَّكرار الميكانيكي (من
الدقات المتكررة لمكبس آلة ما، إلى روتينية السلطة السياسية عند «ماكس فيبر»
Max Weber، إلى الأداء النمطي للأدوار
الاجتماعية والعادات والطقوس) يقيِّد نموَّ المجتمع في نهاية الأمر.
اعتماد الجماهير على الأقلية المتميزة يعطي الآن عكس النتائج المرجوَّة. كتب
«توينبي»: «عندما يتوقَّف القادة عن القيادة يصبح احتفاظهم بالسلطة مفسدة.»
يتحوَّلون من «أقلية خلَّاقة» إلى «أقلية مسيطرة». المزايا الممنوحة لهم، مثل تلك
التي كانت للطبقات الحاكمة في روما الإمبراطورية والصين، تُصبح عبئًا أكثر مما هي
منحة ثقة، أرستقراطية الموهبة التي تحقِّقها «بالليول» تُصبح بلا حياة، مثل
«المتعلِّق بالقديم» عند «ماثيو أرنولد» الذي يصبح هاجسه هو التكنيك البيروقراطي
والمهنية. عملية النمو الحضاري عند «توينبي» تُشبه اللولب الصاعد، التحدِّي يؤدِّي
إلى استجابة ونجاح، والاستجابة والنجاح بدورهما يصنعان تحدِّيًا جديدًا. الاضمحلال
يُشبه لولبًا آخر ولكنه نازل، حيث تفقد المؤسسات القدرةَ على الاستجابة للأزمات
فتنهار، ويؤدِّي ذلك إلى أزمات جديدة. كان «توينبي» يرى أنَّ الاضمحلال قادم على
ثلاث مراحل: المرحلة الأولى هي الاضمحلال الأوَّلي، عندما تحلُّ روحُ الميكانيكية محلَّ
قوة تقرير المصير. وللأسف، كان «توینبي» مضطرًّا لأن يستنتج أنَّ تلك كانت هي النقطة
التي وجد الغربُ الحديث نفسَه عندها في القرن التاسع عشر، وهي أنَّ تقدُّمَه الروحي قد
حلَّ محلَّه الجانبان التوءم للميكانيزم الحديث: التصنيع والديمقراطية الجماهيرية،
ونتيجة لذلك، تشوَّهت شخصيةُ الثقافة الغربية على نحوٍ يتعذَّر إصلاحه. المجتمع
الصناعي مكَّن الإنسان من «قهر الطبيعة بشكل حاسم بفضل ما لديه من تكنولوجيا … ولكن
الإنسان لم يفعل سوى أنه «استبدل سيدًا بآخر».» التصنيع شوَّه حقَّ الملكية ليصبح لا
مساواة بشعة، مما خلق «أمَّتَين»، كما يقول «توينبي»: واحدة عظيمة الثراء، والأخرى
عظيمة الفقر. كما صنع تكنولوجيا الموت الجماعي الجديدة، والتي تستطيع الدولة
الحديثة أن تستخدمها لتحقيق أهداف قصيرة النظر. كان «توينبي» يقول بأسًى «أصبحَت
الحرب الآن حربًا كاملة.» وقد أصبحت كذلك؛ لأن الدول ضيِّقة الأفق أصبحت ديمقراطيات
قومية. فكرة «توينبي» عن الديمقراطية الحديثة، مثل فكرة «هنري آدمز»، يمكن أن
يلخِّصَها مصطلحُ «سياسة الآلة». الديمقراطية الحديثة وعدَت — بغباء شديد — «أن
تحقِّق معجزةَ الخبز والسمك» للجماهير اليائسة؛ وذلك بإعادة توزيع المزايا التي
سلبَتهم الرأسماليةُ إياها، إلا أنَّ الفشل سرعان ما ينحلُّ إلى قومية خبيثة وضيقة
الأفق، «تتصارع فيها بشدة» كلُّ جماعة لغوية وثقافية «من أجل الاكتفاء الاقتصادي
الذاتي»،
٦٢ كما تخلق كذلك ثقافة منحطَّة تتجلَّى في الراديو والصحافة
والسينما.
الحضارة الآن وصلَت إلى المرحلة الثانية من الاضمحلال: مرحلة التفسُّخ. الأُمَّتان
تُصبحان مستقطبتَين بين نخبة معتبرة راضية عن نفسها، و«بروليتاريا داخلية» مستبعدة
بشكل دائم من المزايا المادية والروحية للحضارة.
٦٣
الأقلية النخبوية تتجنَّب القيم الروحية التي أنعشَت المجتمع ذات يوم، بينما
البروليتاريا الداخلية، الطبقة الدنيا من المجتمع، سرعان ما تُدرك أنها ليست وحيدة.
هناك أيضًا «بروليتاريا خارجية» تنمو على امتدادِ حوافِّ حدود المجتمع. وهذا نتاج
العَرَض الآخر من أعراض الحضارة أو نمو الإمبراطورية.
هاجم «توينبي» الدافع التوسُّعي للغرب بأكثر مما فعل «شبنجلر» و«دو بوا». کتاب
«دراسة التاريخ» أدان عمليات بناء الإمبراطورية كمحاولة لصرف الاهتمام بعيدًا عن
التآكل الداخلي للمجتمع.
٦٤ «توينبي» رسم صورةً للحضارة عندما تعمل «كإشعاع لقوة تدميرية» في
المناطق الخلفية البربرية. بعض البرابرة المقهورين تمامًا سيصبحون — شاءوا أم أبَوا
— جزءًا من الإمبراطورية التي تحوَّلت إلى الحضارة … مثل «السلت» في بريطانيا
الرومانية، و«الغال». آخرون مثل القبائل الجيرمانية خلف حدود «الراين» يقاومون.
وإن هم قاوموا طويلًا وبنجاحٍ كافٍ فسوف يُصبحون بروليتاريا المجتمع الخارجية
المستبعدين من مزايا الحضارة مثل الطبقة الدنيا، ولكنهم يتوازنون مع الضربة عندما
تنهار الحضارة. وبالنسبة للمجتمعات البدائية في مخطَّط «توینبي» فإن أعمال السلب
والنهب مثل روما الإمبراطورية أو بريطانيا الفيكتورية كانت تمثِّل اختيارًا واضحًا
بين «أن تكون الجثَّة أو النسر»،
٦٥ ولكن «توينبي» يقول إنَّ الحضارة نفسها، والتي تكون مرحلة الانحلال
والتفسُّخ تُواجه كذلك قرارًا حاسمًا. فهي إما أن تتخلَّى عن طموحاتها الإمبراطورية
وتُغامر بالانهيار الداخلي الكامل والثورة من الطبقة الدنيا، أو أن تحوِّل نفسها إلى
دولة عالمية.
الدولة العالمية مثل روما الإمبراطورية تمثِّل المرحلةَ الأهم في عملية الاضمحلال
عند «توينبي»، عندما «تشتري الحضارة المتفسِّخة إنقاذها المؤقت عن طريق الخضوع
للوحدة السياسية المفروضة عليها»، ولكن حتى مع الإمبراطورية الكولونيالية الواسعة
ومزاعمها الجارفة في السيادة الدولية، تظلُّ الحضارة المتفسِّخة منشقَّة متصدِّعة في
محور داخلي وخارجي؛ فهي لا تبقى قادرةً على حلِّ تحدياتها الداخلية وتحقيق توازن
جديد، الأمر الذي يؤدِّي إلى قلاقل واضطرابات وثورات. الأقلية المسيطرة تصبح بربريةً
عن طريق علاقتها بالأطراف الخارجية للحياة البدائية، الذين يُصبحون مزارعين مستعمرين
في «جامايكا»، أو سكان سهول في أمريكا الشمالية، يصبحون أشخاصًا من «إرث اجتماعي
مسيحي بروتستانتي غربي»، على استعداد لارتكاب أعمال عدوانية رهيبة في صراعهم ضد
البروليتاريا الخارجية.
٦٦⋆ الثروة السهلة تُفسد الآخرين.
وقد زوَّد «توينبي» هذا المسار المعادي للإمبراطورية والمتجه إلى أسفل، بزخارفَ
حديثةٍ معيَّنة. النخبة الحاكمة تصبح في النهاية طبقةً من نموذج «أوسكار وايلد»
Oscar Wilde الطبقة التي تجمع بين التفسُّخ
الأخلاقي والإباحية والانحراف الجنسي، والفن المنحط (مثل ذلك عند «ماکس نوردو»)
يُطلُّ برأسه القبيح، واللغة تتدهور وتُصبح نابيةً وتتحوَّل إلى عاميات قبيحة، والدين
يصبح مذاهبَ ونِحَلًا تلفيقيةً وسحرًا سريًّا. وفي عام ۱۹۳۹م كان «توينبي» يتساءل ونحن
على مشارف الحرب العالمية الثانية: «هل هناك أدنى شك في أنَّ تلك هي الخواص الرئيسية
للغرب الحديث؟» كما ربط بين «الحرب القومية الضروس وما يصاحبها من دفع للطاقات».
ذلك الدفع الناتج عن القُوَی التي حرَّرتها الديمقراطية وأطلقها التصنيع، وكيف كان
ذلك كلُّه سببًا في إطلاق العنان لقوى الفوضى.
«هذه الاعتبارات والمقارنات، تُوحي بأننا قد مضينا بعيدًا على طريق الصعاب»،
وأخيرًا ستصل الحضارة الغربية إلى المرحلة الأخيرة من الاضمحلال: مرحلة
الفناء.
وكتب «توينبي»: ليس لدينا قانونٌ معروف للحتمية التاريخية قام بتسليم الغرب «إلى
النيران البطيئة والمستمرة لدولة عالمية نصبح فيها رمادًا وترابًا في الوقت
المناسب» كما فعلت به الحضارات القديمة. بيد أنَّ «مثل تلك السوابق من تاريخ
الحضارات الأخرى، ومن مسيرة الطبيعة، من المؤكَّد أن تظهر بشكل مخيف في الضوء الفاسد
لموقفنا الحالي».
٦٧ وفي الوقت نفسه، فإن «سوابق من تاريخ حضارات أخرى» أشارت بالفعل إلى
جنس مخلِّص، بالرغم من أنَّ الاستعمار لا يعطي الحضارة سوى مهلة مؤقتة، إلا أنه يخلِّف
وراءه «سلطة إكليركية عالمية»، حركة روحانية تتولَّى المُثُلَ العليا الإمبراطورية —
السلام والوئام العالميَّين، غياب التمييز بين الشعوب تحت سيطرتها، والطموح إلى
البقاء والخلود — وتقوم بتمريرها بشكل لاهوتي.
في حالة الصين، كانت «الكونفوشية» هي الشكل اللاهوتي، وفي الهند كانت «البوذية»،
وفي روما كانت «المسيحية». تلك السلطة الإكليركية العالمية تجتذب وتجمع
البروليتاريا الداخلية التي تتشرَّب — دون وعي — القيم الروحية، فتجعل منها كتلةً
روحية واحدة، وهي القيم نفسها التي تخلَّت عنها الطبقة العليا.
وفي النهاية، يصبح الوعي بالذات الناجم عن ذلك دعوةً للتحرُّر. «وفي النهاية» فإن
الشعوب المهمَّشة في الحضارة «تتحرَّر مما كان ذات يوم وطنها الروحي وتحول إلى سجن»،
وتنهض لتحطيم المؤسسات الإمبراطورية، ولكن السلطة الإكليركية العالمية تبقى.
والحقيقة أنها هي الهبة الجوهرية من الحضارات العليا السابقة إلى ورثتها البدائيِّين:
هكذا أضاعت المسيحية العصور المظلمة، وقام الإسلام بتحضير القبائل البدوية في
الصحراء العربية، وبالمثل، فإن إرث الغرب الحديث للشعوب غير الغربية لن يكون
التكنولوجيا المادية — التي كان «توينبي» يراها طريقةً مؤكَّدة للدمار الذاتي،
متمثِّلة في فشل الشيوعية في روسيا السوفيتية
٦٨ — وإنما سيكون الإرث هو تلك النزعة الإنسانية ذات الطابع
الروحاني.
أخلاقيات موعظة الجبل، التواضع، الرحمة، وإدارة الخد الآخر … يمكن أن تكون جسرًا
بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب. وبالنسبة ﻟ «توينبي» كانت تلك دراسة لرسالة
التاريخ العظيمة، رسالة الأمل. من ناحية، كان «توينبي» قد أعاد اعتبارَ تقدُّم
السلوك المهذَّب جزءًا من الحضارة، ولكنه كان يقول إنَّ التقدم لا بد أن يختفيَ … على
الأقل بشكل علماني، وبدلًا من ذلك، ستبقى عقيدة روحانية عامة من الحب والإنسانية
والجماعية، وتمتدُّ وتتخطَّى جميع الحدود الثقافية والسياسية، حتى عندما كانت «حضارتنا
الغربية العلمانية التي بعد المسيحية» تتحرَّك حتمًا نحو اضمحلالها المادي، فلا بد
أنها كانت تتحرَّك أيضًا نحو الانتصار الروحاني … هكذا كان يتصوَّر.
عجلات المركبة: «توينبي» ونهاية الحضارة الغربية
فصل رقم ٦٢: شيء سيِّئ. هكذا كان من الواضح أنَّ أمريكا «دولة قمة»، وأنَّ
التاريخ قد وصل إلى «وقفة».
٦٩⋆
«دبلیو سي سيللار»، و«آر جي ييتمان»، ١٠٦٦م، وكل ذلك،
۱۹۳۰م
لم تحطِّم الحرب العالمية الأولى الليبرالية التقليدية في إنجلترا فقط، ولكنها
وضعَت مهنةَ التاريخ في حالة من الارتباك. كتب «ﻫ أ ل فيشر» H.
A. L. Fisher في مقدمة كتابه «تاريخ أوروبا» (١٩٣٤م): «هناك
رجال أكثر حكمةً مني أدركوا أنَّ في التاريخ حبكةً وإيقاعًا وأنموذجًا مقررة سلفًا،
ولكن تلك التوافقات خافية عليَّ. ما أراه فقط، هو حالة طارئة تتبعها حالة طارئة
أخرى مثل موجة تتبع أخرى.»
في ذلك العام نفسه، ظهر الجزء الأول من «دراسة التاريخ» ليقدِّم ما كان «فیشر»
وغيره قد افتقدوه: الشعور بخطة وهدف التاريخ. وفي الحال — تقريبًا — حفَّزَت أحكام
«توينبي» التاريخية باكتساحها ووضوحها، وبما تضمَّنته من معانٍ، على مقارنة كتابه
بكتاب «جيبون» «اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية».
٧٠ على أية حال، كان کتاب «جيبون» في الحقيقة، رمزًا لانتصار الرؤية
التنويرية العلمانية للتاريخ الإنساني على ما سبقها، أي التاريخ الموجَّه من قِبَل إله
مسيحي. والآن، كان «توينبي» يعكس العملية مرة أخرى، بعد أن وصف الموقف الكئيب الذي
يواجه العالم في الجزء السادس من كتابه، والذي صدر في عام ۱۹۳۹م، اختتمه بهذه
الكلمات المروعة: «يجب حتمًا أن نصلِّيَ؛ لأن المهلة التي أنعم الله بها على مجتمعنا
مرة، لن يضنَّ علينا بها إذا نحن طلبناها مرة أخرى، بروح خاشعة وقلب نادم.»
٧١
كان «توينبي» قد توصَّل إلى هذه النتيجة في أعقاب فشل عصبة الأمم في كبح جماح
«موسولیني» و«هتلر» مع حلول سياسة التهدئة. «توینبي» نفسه كان شديد الحماس للتهدئة
مثل كثير من زملائه في «تشاتام هاوس».
٧٢ دُعيَ للقاء «هتلر» في مناسبة خاصة في عام ١٩٣٦م، وعاد بانطباع جيد.
قال لمستمعيه بعد عودته إلى إنجلترا إنه اقتنع «بإخلاص «هتلر» في رغبته للسلام في
أوروبا والصداقة الوثيقة بإنجلترا». ومثل كثير من الليبراليِّين الإنجليز الآخرين،
كان على «توينبي» أن ينتظر حتى اتفاق «ميونخ»؛ لكي يُدرك أنَّ عدوان «هتلر» لم يكن
نتيجةَ ضغط كبير من الغرب ضدَّه، بل لأن الضغط لم يكن كافيًا.
٧٣
عشيةَ غزو «بولندا»، أقنع «توینبي» نفسه بأن فشل الغرب في التعامل بشكل مؤثِّر مع
«هتلر»، لم يكن له علاقة بنزعة السلامية أو التهدئة، وإنما بطبيعة الغرب الحديث
نفسه.
في الجزء السادس من كتابه «دراسة التاريخ»، وهو الجزء الأخير الذي ظهر قبل الحرب،
قال إنَّ أوروبا قد سلكَت طريقًا جديدة غير مسبوقة بين الحضارات؛ فقد تخلَّت عن
الإيمان بإلهٍ خالدٍ وبقوانينه وأحكامه، «واتبعت الاقتناعات المادية على حساب
الروحانية». «روح الإنسان تشمئز من الفراغ الروحاني». وكانت النتيجة الحتمية هي
العبادة «القبلية»، و«المحدودة الأفق» للدولة، وظهور رجال مثل «هتلر» و«موسولیني»
لتوجيهها،
٧٤ وأوضح أنَّ «الشيء الوحيد البنَّاء الذي يجب العمل من أجله هو الوصول
إلى ما هو أبعد من السيادة الوطنية. وسوف أُتابع هذا الخط إلى أقصى مدًى».
مع بوادر حرب عالمية جديدة تلوح في الأفق، كان الأمل الوحيد الباقي يبدو هو إعادة
توجُّه روحاني رئيسي لكل الثقافة الغربية، بعيدًا عن المبالغة في تعظيم الذات،
والوفرة المادية، وقصور حركة التنوير الروحاني، ونحو الله، ومثلما كان الأمر في
حالة «هنري آدمز»، كانت هناك مأساة شخصية وراء شعور «توینبي» باليأس الكوني الواسع.
في شهر فبراير (۱۹۳۹م) ماتت أمه، وبعد شهر انتحر ابنه «توني». قرار زوجته بأن تتركه
في عام ١٩٤٢م أكمل طريق خيبات الأمل العامة والخاصة. كان يرقب مقدم الحرب العالمية
الثانية
٧٥⋆ مكتئبًا
منسحبًا داخل ذاته.
أعاد «توينبي» اكتشافَ سلوى الإيمان بإلهٍ متعالٍ — فوق الوجود المادي — وفكَّر في
وقت ما أن يتحوَّل إلى الكاثوليكية. وفي عام ١٩٤٠م ألقى محاضرة عامة في «أكسفورد»
نشرها فيما بعد بعنوان «المسيحية والحضارة»، كشف النقاب فيها عن إيمانه الجديد،
وأنَّ التقدم «الديني» هو الذي يعطي للتاريخ معنًى أكثر من التقدم الإنساني. وقد
استخدم في محاضرته استعارةً حيَّة مذهلة، جديرة بالقديس «أوغسطين»:
إذا كان الدين مركبة، يبدو أنَّ الشيء الذي يحملها نحو السماء هو سقطات
الحضارة الدورية على الأرض، وتبدو حركة الحضارات دورية ومتكررة، بينما حركة
الدين ماضية في خط واحد … صاعد … ومستمر.
والواقع أنَّ «توينبي» كان يصل الآن إلى النتيجة التالية:
«إذا اختفت حضارتُنا الغربية العلمانية، فمن المتوقع للمسيحية أن تبقى، ليس هذا
فقط، بل إنها سوف تزداد بحكمة ومنزلة نتيجة لتجربة جديدة مع كارثة
علمانية.»
٧٦ كانت تلك كلمات غريبة تُقال في خضمِّ معركة بريطانيا. والحقيقة أنَّ
«توینبي» اشتطَّ، ليقترح بشكل غير معلن أنَّ الاستسلام ﻟ «هتلر» قد يكون أفضل من
التمادي في الحقد والكراهية وأعمال العنف. قال لبعض الأصدقاء: «يمكن أن تكون فكرة
قابلة للنقاش … أنَّ العالم في حاجة ماسة لوحدة سياسية، وأنَّ ذلك يستحق أن ندفع ثمن
السقوط تحت أشد استبداد ممكن.»
٧٧
وعندما أصبحت الأحداث أكثر مواتاة ودخلت روسيا وأمريكا الحرب، عاد إلى «توینبي»
شعورُه بالثقة في المستقبل، إلا أنَّ رؤيته الدينية لنهاية الغرب، بقيَت بعد الحرب
متزامنةً مع تفجُّر شهرته على نطاق واسع بعد عام ١٩٤٥م، وهي مفارقة ساخرة أن تكون
تلك الشهرة قائمةً على سوء فهم. وبنهاية الحرب كان ملايين القرَّاء قد التهموا
الطبعة المختصرة من «دراسة التاريخ» التي كانت قد صدرَت قبل الحرب، والتي أعدَّها
«دي سي سومرفيل» D. C. Somervell، بما جاء فيها
من تركيز على «التحدي والاستجابة» والقيام الحتمي لدولة عالمية علمانية.
وبصرف النظر عن استيعاب تشاؤم «توینبي» بخصوص الغرب، كان كثيرون قد توصَّلوا إلى
أنه يتنبَّأ بقيام حضارة عالمية (كونية) جديدة، وعلى رأسها الولايات
المتحدة.
سوء الفهم هذا، قاده إلى جولة محاضرات في الولايات المتحدة في عام ١٩٤٨م، كما
أغرى ذلك «هنري ب لوس»
Henry B. Luce أن يضعَ وجهَ
«توينبي» مُفزَّعًا على غلاف مجلة «تایم». ومثل كثير من المثقَّفين الأوروبيِّين، كان
«توينبي» منقسمَ الرأي بشدة حول الدور الجديد الذي يمكن أن تلعبه أمريكا في عالم ما
بعد الحرب. كان أشخاص من كلا اليمين واليسار يعتبرون الولايات المتحدة النصب
الرأسمالي الهائل، النقطة القصوى لقوى الغرب الحديث المادية والقادرة على التغيير،
كما أدركوا أيضًا أنَّ نوعًا من «ترجمة الإمبراطورية» من أوروبا إلى أمريكا كان في
الطريق منذ القرن التاسع عشر، الأمر الذي أكَّده قيامُ حربَين عالميَّتَين، إلا أنه
عندما ظهرت الولايات المتحدة كقوة مسيطرة في العالم، بل وكأنها تُقرِّر توازنَ القوى
في أوروبا نفسها، كانت الصدمة كبيرة والشعور بالضيق شديدًا بالنسبة لأشخاص من مختلف
التوجُّهات؛ مثل «جان بول سارتر»
Jean-Paul
Sartre، و«إيفيلين وو»
Evelyn
Waugh، و«مالكوم ما جریدج»
Malcolm
Muggeridge، و«أرنولد توينبي»
Arnold
Toynbee. وسوف ينظرون إلى الحرب الباردة، ليس باعتبارها صراعًا بين الشيوعية والحرية، وإنما
باعتبارها ملزمةً جيوبوليتيكية تضغط أوروبا بين نوعين
من الاستبداد. كان أحدهما يعبِّر عن بربرية آسيوية ووحشية شديدة، والثاني عن الجانب
المظلم للغرب الحديث نفسه: وهو الرأسمالية المادية. كان «توييني» يرفض أيَّ اعتقاد
بأن الحرب الباردة كانت تمثِّل صراعًا أيديولوجيًّا، كانت الفروق بين الاتحاد
السوفيتي والولايات المتحدة في رأيه عند حدها الأدنى. والواقع، يبدو أنَّ «توينبي»
كان أولَ مفكِّر ليبرالي بعد الحرب يصف الشيوعية بأنها «صفحة منزوعة من العهد
الجديد» و«هرطقة غربية»، تعبِّر عن معظم التفكير الزائف للغرب الحديث وبخاصة رفضه
لله. بدا مستقبل الاتحاد السوفيتي محدودًا وضئيلَ الأهمية بالنسبة له؛ حيث كان قد
ربط نفسه بمصير الحضارة المادية، وبشكل نهائي. وكان يرى أنَّ الولايات المتحدة هي
الخطر الأكبر على السلام العالمي. كان المصطلح الذي يستخدمه «توينبي» قبل الحرب
ليصفَ الأمريكيِّين هو «البرابرة». وفي عام ١٩٤٥م كان
٧٨ قد تنبَّأ بالفعل لوالد زوجته «جلبرت موراي»
Gilbert
Murray، أنه إذا نشبَت حربٌ جديدة فإن الأمريكيِّين سيكونون هم
المعتدون.
٧٩ بِيعَت كتب «توينبي» في الولايات المتحدة أكثر من أيِّ مكان آخر، كما
كانت محاضراته ناجحة أكثر منها في أيِّ مكان آخر، إلا أنَّ أمريكا كانت تمثِّل
بالنسبة له كلَّ ما كان يحتقره في الغرب الحديث: المعرفة التكنولوجية، الثقة بالنفس
الزائدة عن الحد (كان ذلك عصر «إيزنهاور»، و«كينيدي»، والحدود الجديدة، وقاعدتها
الرأسمالية). كان ينظر وراءه بحزن إلى أيام أن كانت أمريكا دولة مدينة
لأوروبا.
٨٠ والآن، كانت أمريكا في نظره هي أكبر قوة محافظة، والمدافع عن نظام
ثقافي أوروبي مفلس.
كانت أمريكا أيضًا تعبِّر عن توجُّهٍ قاتل، وهو النزعة الإمبراطورية نحو الكسب
والاستحواذ، موسِّعًا رؤيتَه الأوغسطينية الجديدة. كان يرى أنَّ الولايات المتحدة هي
روما الجديدة ولكن بمعنًى سلبيٍّ تمامًا، ومثلما كانت روما الإمبراطورية «تدعم
الأغنياء باستمرار ضدَّ الفقراء في جميع المجتمعات الأجنبية تحت سيطرتها»، وصنعت
«اللامساواة والظلم وأقل قدر من السعادة» لأكبر عدد من البشر، كانت أمريكا أيضًا
متجهةً لعمل الشيء نفسه في عالم الحرب الباردة. والواقع أنه بحلول عام ١٩٦٢م، كان
«توینبي» قد أصبح شديدَ الإصرار على أنَّ «قرار أمريكا بتبنِّي دور روما كان أمرًا
واضحًا» وأنه كان سيؤدِّي إلى المصير نفسه.
٨١
كان «توينبي» يعتبر الولايات المتحدة إحدى قوَّتَين استعماريَّتَين خبيثتَين في عالم
ما
بعد الحرب، أما الثانية فهي دولة إسرائيل. في عام ١٩٦٩م كتب يقول: «لا بد من أن
تكون الولايات المتحدة وإسرائيل اليوم هما أخطر دولتَين بين المائة وخمس وعشرين دولة
التي تقتسم سطح هذا الكوكب الآن.» كما أشار إلى أنَّ إسرائيل على مدى أربع وعشرين
سنة فقط قد حاربت وكسبت أربع حروب ضدَّ جيرانها. كان الانتصار العسكري بالنسبة ﻟ
«توینبي» دائمًا دليلًا أكيدًا على التفسُّخ الأخلاقي. وكان يقول إنَّ الولايات
المتحدة وإسرائيل لو كانتا خسرتا بعض الحروب بدلًا من الانتصار فيها باستمرار،
فلربما كان ذلك من الأفضل بالنسبة لروحَيهما، كما كان يعتقد أنَّ احتلال إسرائيل
للأراضي العربية يمثِّل عملًا شريرًا وغير إنساني، مثل احتلال ألمانيا
لتشيكوسلوفاكيا وبولندا. والحقيقة أنَّ «توينبي» قد ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إذ
كان يرى أنَّ الإسرائيليِّين المحدثين أسوأ من النازيِّين؛ لأن «الإسرائيليِّين يعرفون»
بسبب تجربتهم الشخصية، «ما كانوا يقومون به» وهم يضطهدون العرب سيِّئي الحظ، بينما
يحتمل ألَّا يكون الألمان كانوا يعرفون.
٨٢ والواقع أنَّ موقف «توینبي» من اليهود واليهودية كان هو الأكثر إثارةً
للجدل بين كل آرائه عن مصير ومعنى الغرب الحديث. كان يكرِّر الاتهام الذي وجَّهَه
«شوبنهاور» منذ ما يزيد عن قرن من الزمان، وهو أنَّ أسوأ ملامح الحضارة الغربية
تنطلق من جذور يهودية. كان «توينبي» يسمِّي اليهود «الآثار الحفرية لحضارة ميتة»
والتي أخذت المسيحية والغرب في انعطافة خاطئة تُنذر بكوارث، معبِّرة عن ماديته
التامة «وبراعته الفائقة في التجارة والمال»، وإصرارها على أخلاقية القانون
والمحرَّمات الصارمة أكثر من نشاط الروح الحرة. وفوق ذلك كلِّه، فإن مزاعم اليهودية
بأن اليهود هم شعب الله المختار، قد شجَّعت توجُّهًا غربيًّا متغطرسًا إزاء الثقافات
الأخرى، وهو ما كان «توينبي» يراه الأصل الحقيقي للهولوكوست.
٨٣⋆
أمريكا أيضًا، كما يقول «توینبي»، لوثَّتها تلك المسحة اليهودية الشريرة نفسها،
كما ظهر في إبادتها للهنود أثناء التوسُّع غربًا، ناهيك عن سجلِّها في حرب «فيتنام».
ومثل عضو آخر كبير السن في جماعة «بلومزبري»، وهو «برتراند راسل»، كان «توينبي»
شديد الاقتناع بأن أهداف أمريكا في «فيتنام» استعمارية في الأساس، وأنها تؤدِّي إلى
إبادة جماعية. كتب «توينبي»: «من الممكن أن نتصور أنه عندما يظهر هذا الكتاب (في
١٩٦٩م)، ستكون قد تمَّت إبادة الشعب الفيتنامي، وأن تكون فيتنام قد أصبحت أرضًا غير
صالحة للسكنى.»
٨٤ أمريكا وإسرائيل خطرتان، ليس لأنهما قوتان «عسكريتان» فقط، بل لأنهما
يمثِّلان — أيضًا — غربًا منحلًّا متحضِّرًا. أعمالهما في «لاوس» و«فيتنام» وفلسطين
ليست مجردَ جرائم، ولكنها «جرائم ومفارقة تاريخية أخلاقية في الوقت نفسه». لا بد من
إعادة تنظيم العالم المعاصر على أساس جديد تمامًا، أساس لا غربي، هذا إذا كنَّا نريد
للسلام والوئام أن يسودَا. وفي عام ١٩٥٥م كان «توينبي» يتساءل: «ماذا نفعل لكي
ننجوَ؟» «في السياسة: نُقيم نظامًا دستوريًّا لحكم العالم، وفي الاقتصاد: نُوجِدُ
صيغةً توفيقية وسطًا بين المشروع الحر والاشتراكية. وفي حياة الروح: نُعيد إرساء
البنية العلمانية الفوقية على أُسُس دينية.»
٨٥
عندما ظهرت الأجزاء من الثامن إلى الحادي عشر من كتاب «دراسة التاريخ» بين عامَي
١٩٥٤م، و١٩٥٨م، كان «توینبي» قد أصبح في موقف الهجوم. جعل من نفسه نبيًّا لزوال
الحضارة الغربية (وأمريكا بخاصة) في شكلها الحديث، ولانتعاشة روحانية جديدة في
العالم غير الغربي، تَعِدُ بمستقبل للسلام العالمي والعدالة الاجتماعية. مضى في
جولات يُلقي المحاضرات، وألَّف كُتُبًا؛ مثل «تحدِّي زماننا»، و«البشرية وأمنا الأرض»،
و
«قلق الموت عند الإنسان» وغيرها كثير. كانت النتائج مختلفة. الإنتاج الذي كان في
رأْيِ أحدِ معاصريه غير المتعاطفين مع كتاباته، بمثابة «استجابة ليبرالية تُشبه نبضةَ
الركبة» للأحداث العالمية، أصبح واسعًا ومتكررًا لدرجة أنَّ ناشر أعماله «أكسفورد
يونيفرستي برس» اضطرَّ لأن يطلب منه التوقُّفَ؛ لأن كتاباته الغزيرة كانت تُضعف
المبيعات بشكل عام.
٨٦
«توينبي» اقترح قبل كلِّ شيء تعلیقَ مستقبل البشرية على «الأمم المتحدة» خليفة
«عصبة الأمم». وإذا كان «توينبي» المؤرِّخ القديم يرى أنَّ أمريكا هي روما الجديدة —
وحشية وطموحة وتوسعية — فإن «الأمم المتحدة» بالتالي تُصبح المعادلَ الحديث
لفيدراليات المدن-الدول في اليونان القديمة، المرتبطة معًا من أجل الدفاع
المتبادل في عالم ما قبل الهلنستية، بهدف تنمية السلام العالمي، مع تجنُّب هيمنة
قوة واحدة، وبالطبع كان «توينبي» يعرف أنَّ تلك الاتحادات لم تكن ناجحة، فقد تحطَّمت
في صراعات تافهة، وظلَّت مكشوفةً معرَّضة للدول الخارجية الناهبة (مثل مقدونيا وروما
نفسها)، ولكن «توينبي» كان على استعداد للتغاضي عن تلك التفاصيل، ما دام الهدف
النهائي في العصر النووي لا بد أن يكون الوفاق أكثر من المواجهة: «لا بد أن تُصبح
البشريةُ أسرةً واحدة، وإلا فإنها ستدمِّر نفسَها». ثم يُضيف سرًّا «لا بد أن يعترف
الواحد منَّا بأن التاريخ ليس في صالحنا … لا أستطيع أن أفكِّرَ بحالة واحدة تكون
الطريقة التعاونية قد خدعَتنا فيها»، ولكن من منظور «توينبي» الذي كانت جذوره في
«بلومزبري» العشرينيات، كان أهم شيء أن تكون خيِّرًا … أكثر من أن تفعل الخير. كانت
نوايا الفرد، وليست النتائج، هي الأهم. ومع تزايد اضمحلال الغرب، كان «توينبي»
يؤكِّد على أنَّ الحكومة العالمية «نتيجة حتمية». البديل الوحيد كارثة نووية: «على
البشرية أن تختار بين الوحدة السياسية أو الانتحار الجماعي».
٨٧
في الوقت نفسه، كان طريق التقدم الروحاني الذي وصفه «توينبي» للعلاج يبتعد عن
المسيحية الغربية. جميع «الأديان العليا» — الهندوسية، البوذية، الإسلام — كلها
مجرد منظورات مختلفة على حقيقة واحدة، حقيقة القوة الروحانية للحب. في عالم متوحد
سياسيًّا، من المحتَّم أن تمتزجَ صورُ تلك العقائد المختلفة في دين عالمي واحد هو «دين
الحب»، الذي سيُعلِّم الناسَ المودة والتسامح واحترام الاختلاف، وهي الأجندة نفسها
التي تبنَّتها الجماعات الدينية الليبرالية مثل مجلس الكنائس العالمي.
٨٨ ولكن جزءًا من نظرة «توينبي» كان نتيجةَ شعور مشتعل بالذنب. كانت
الحضارة الإنسانية الآن «تحت التجربة» كما كتب. وفي كتابه «العالم والغرب»، الذي
نُشر في عام ۱۹٥۳م في حمى الحرب الكورية، أمعن «توينبي» النظرَ بعمق وإسهاب في
عداء الغرب التاريخي تجاه الآسيويِّين والأفارقة وغيرهما من الشعوب. تبنَّى «توينبي»
أسلوبًا في المقارنة كان متَّبعًا في تلك الأيام، فأشار إلى الغرب كثقافة «ذات نشاط
إشعاعي» «معيدًا إلى الأذهان إشعاعَ الحضارة المدمر في كتابه دراسة التاريخ»، وأنَّ
اتصالها بالمجتمعات غير الغربية عن طريق التكنولوجيا والدين والسياسة، «يهدِّد
بتسميم حياة المجتمع الذي تمَّ اختراقُ جسمه المادي»،
٨٩ وأقوى تلك السموم في رأيه هو «القومية»، في عام ۱۹۲۱م ذهب «توينبي»
إلى «كريت» موفدًا من عصبة الأمم إبان الحرب اليونانية التركية، ورأى الجثث وآثار
الحرب والدمار رأْيَ العين، واقتنع بأن المجازر كانت نتيجةَ أسباب حديثة أكثر منها
قديمة – وتحديدًا، كانت هي الأحقاد والخصومات القومية. كما قرَّر أنَّ مسئولية هذه
الحروب القومية في العالم الثالث لا بد من أن تُلقَى على باب الغرب. إنَّ إلغاء القومية
«ضيقة الأفق»، وإقامة حكومة عالمية بالتالي، ليس هو التوجُّه الطبيعي للتاريخ
العالمي فقط، ولكنه الطموح الطبيعي لكل الشعوب غير الغربية كذلك، وحيث إنها تفوق
الشعوب الأوروبية والأمريكية في العدد، فإن قدرتَها على تحديد شكل الحكومة العالمية
يُصبح أمرًا حتميًّا، مثل الحكومة العالمية نفسها. والآن، كان على الغرب أن يتكيَّف
مع وضعه الجديد المتقلِّص في العالم، على مستوًى عمليٍّ. لا بد أن تصبح أوروبا وأمريكا
بالفعل «أقلية خلاقة» تقدِّم النموذج الجيد للعالم من خلال سعة الأفق والتسامح،
حتى يُشرق على العالم عصرٌ روحاني جديد. العمل الهادف، والتوكيد الذاتي، دورة
التحدِّي والاستجابة الصاعدة المتجهة أمامًا، كل ذلك انعكس بالنسبة لشعوب العالم
الثالث، «الآن أُعيدَت تربية المجتمعات غير الغربية بنجاح» على ضوء الواقع الكوني
الجديد، كما كتب في عام ١٩٤٨م، لكي تخرج من «قوقعة الأسلاف» إلى مستقبل جديد.
الأوروبيون والأمريكيون على النقيض من ذلك «هم الشعوب الوحيدة في العالم الذين تظلُّ
نظرتهم للتاريخ أساسُها توجُّه أوروبي»، و«وهم متعجرف كریه» بالسيادة والأهمية. وقال
«توينبي» لجمهوره: «لا بد من أن نُدرك أنَّ «المتحرِّرين من سلالتنا» في المحيط الكوني
الحديث، لن يكونوا غربيِّين بالمعنى التقليدي المألوف.» الحضارة كما عرفها «توینبي»
وجيله «سوف ترحل تدريجيًّا إلى المكان المتواضع» الذي حدَّده لها التاريخ في
الأساس.
٩٠
إرث «توينبي»
من النظرة الأولى تبدو تلك الملاحظاتُ مثيرةً ورصينة كما كان يريد لها «توينبي» أن
تكون. «توينبي» الذي مات في عام ۱۹۷٥م بعد أن رأى عمليةَ انحسار الاستعمار
والإمبراطورية البريطانية حتى نهايتها تقريبًا. في إحدى سنواته الأخيرة، صرَّح لأحد
الصحفيِّين: «أودُّ أن أُصدِّق أنني قد قمتُ بعملٍ مفيد لإقناع الشعوب الغربية بالتفكير
في أمر العالمِ كلِّه.» وكان يقصد بذلك أن يكون قد أقنعهم بعدم أهميتهم النسبية، إلا
أنَّ المنظور الهادئ ﻟ «توينبي» يستدعي سؤالًا مهمًّا: لماذا ظل الغرب المتغطرس،
الشاعر بأهميته، المتمركز حول عرقه، قويًّا، بينما سقطت حضاراتٌ قديمة كانت أيضًا
متغطرسةً ومتمركزة حول العرق؛ مثل الصين الإمبراطورية، أو بيرو «الإنكا» أمام
منافسيها؟ المؤرِّخ الأمريكي «وليم. ل. ماكنيل»
William L.
McNeill أحد تلاميذ «توينبي» الثقات، يقدِّم لنا الإجابة. كان
«ماكنيل» — كخريج جامعي — شديدَ التأثُّر بالرواية الواسعة العميقة لكتاب «دراسة
التاريخ»، لدرجة أنه ذهب إلى «أكسفورد» بعد الحرب ليدرسَ تحت قدمَي مؤلِّفه. وفي عام
١٩٦٣م أنتج صيغةً معدَّلة وموسَّعة لتحليل «توينبي» للعالم الحديث، وهو كتاب «نهوض
الغرب». ومثل سلفه الفكري كان «نهوض الغرب» من أكثر الكتب مبيعًا، إلا أنَّ روحه
كانت مختلفة. «ماكنيل» أوضح أنَّ الحضارة الغربية بعيدًا عن كونها متغطرسة ومنعزلة
كما صوَّرها «توینبي»، إلا أنها كانت متميِّزة بين الحضارات، بانفتاحِها وتقبُّلِها
للثقافات والشعوب الأخرى. وقد مكَّنها ذلك من أن تستعير الأدوات التي كانت تحتاجها
«المؤسسات الدينية من الشرق الأوسط، التعليم العلماني اليوناني، العلم من العرب،
الأساليب الفنية من الصين»، ثم تُكيِّفها وتستخدمها بنجاح لخدمة أغراضها. وبطريقته
أعاد كتابَ «ماكنيل»: «نهوض الغرب»، التاريخ المقارن إلى أصوله في نظرية المجتمع
المدني. وعند «ماكنيل»، كما هو عند أسلافه في عصر التنوير، فإن تاريخ الحضارة لا
يعني دراسةَ نمو أو ضياع الحيوية الثقافية-الروحانية، وإنما دراسة المخالطة
الاجتماعية المتزايدة واتساع الآفاق: وهي عملية مستمرة من الأخذ والابتكار
والاتصال والانتقال بين أماكن وشعوب مختلفة. على أنَّ فرضية «ماكنيل» عن التكيُّف،
أشارت أيضًا إلى مستقبل مختلف للغرب عن ذلك عند «توینبي». فرضية «ماكنيل» تقول إنَّ
سقوط الغرب لأسباب داخلية في تكوينه، والذي كثر الكلام عنه، قد لا يكون وشيكًا؛
فالغرب الحديث بفضل مرونته وقدرته على التكيُّف مع الظروف المتغيرة يمكنه أن يجد
وسيلةً لتحويل نهوض العالم الثالث لصالحه، وبالتالي يكون له نفوذٌ أكثر حسمًا على
بقية العالم، وأكثر مما كان له في ذروة الحقبة الاستعمارية. «توینبي» نفسه كان لا
مباليًا وباردًا أمام مثل هذه الاستنتاجات،
٩١ وظلَّ مقتنعًا بأن الحضارات تُشكِّل كياناتٍ منفردةً بشخصيتها وروحها إلى
جانب مسارها ومصيرها. وهذا أدَّى به مثل «دو بوا»، والمتأخرين من متعدِّدي الثقافات،
إلى الاستخفاف بالدرجة التي يريد الناس خارج الغرب أن يتعايشوا بها في وفاق مع
«مادية الغرب المجرَّدة من الروح، والمغالاة في تقدير الدرجة التي كان التغريب ينصاع
بها للنموذج الاستعماري». كان أيُّ حل وسط أو محاولة للتوفيق مع الغرب الرأسمالي،
يعتبر في نظر «توینبي» استسلامًا شائنًا من قيم ثقافية وروحية حقيقية لقيم «ماديسون
أفينيو».
في الخمسينيات وأوائل الستينيات، كان نموذج «توينبي» ملهمًا لسلسلة كاملة من
الأعمال عن مصير الحضارة تركز على تقلُّص دور الغرب في العالم. كتب مؤلِّف من
هؤلاء وهو الاقتصادي «جیمس. ب. واربورج» James P.
Warburg:
«إذا كان الإنسان الغربي يريد أن يظلَّ على قيد الحياة، فلا بد له أن يتعلَّم —
ويتعلَّم بسرعة — كيف يعيش «في» و«مع» عالم قد تخلَّص من قبضته إلى الأبد.»
کتاب «واربورج»: «الغرب في أزمة» (۱۹٥۹م)، وكتاب «ﺟ. ﺟ. دوبوز»
J. G. de Beus «مستقبل الغرب» (۱٩٥۳م)، وكتاب «إرنست هوكنج» Ernest Hocking «حضارة العالم
القادمة» (١٩٥٦م)، وكتاب المؤرِّخ «جون نیف» John
Nef «البحث عن الحضارة» (١٩٦٢م)، وكتاب «برتراند راسل»
Bertrand Russell «هل للإنسان مستقبل؟» (١٩٦٤م)،
كانت كلها مؤلفات تغذِّي الأسواق بالنوع نفسه من الكتابة التأملية: كتابة «المستقبل
كتاريخ للعالم» التي ابتكرها «توینبي»، وكانت استنتاجاتها جميعًا تتمركز حول موضوع
رئيسي، وهو: الحاجة إلى تحوُّل جوهري في القيم الغربية، لكي تتعامل مع الوجه الجديد
للعالم. ومثال على ذلك، كتاب «فلسفة الحضارة» من تأليف «ألبرت شفيتزر»
Albert Schweitzer الذي صدر بعد کتاب «توینبي»:
«الحضارة تحت الاختبار» مباشرةً في عام ۱۹٥۰م.
العبارة الأولى في الكتاب بها أكثر من صدًى ﻟ «توینبي»:
«نحن نعيش اليوم في ظلِّ علامات سقوط الحضارة»، والسبب كما كان يزعم هو أنَّ
«الأفكار الأخلاقية التي كانت الحضارة تقوم عليها، أصبحت هائمةً في العالم، يضربها
الفقر، ولا حول لها ولا قوة» منذ القرن التاسع عشر. التقدم الاقتصادي والتكنولوجي
الحديث في الغرب قد سلب الناس حريتهم، بينما تقف «الحياة الروحانية للمجتمع» معرَّضة
لخطر شديد. كان «شفيتزر» يقول في أسف: «لقد فقدنا أنفسنا في التقدم الخارجي.»
ويقصد بذلك التقدم الخارجي: النمو الاقتصادي والثراء. لقد تركنا «كل تقدُّم في
الحياة الأخلاقية يتوقَّف تمامًا». كان برنامج «شفيتزر» للإصلاح يُشبه برنامج
«توينبي» إلى حدٍّ كبير، يقظة روحية وأخلاقية جديدة، مطلوبة لكي تعادل الوجهة الخطرة
التي اتخذتها الحضارة. التقدم الأخلاقي يصبح هو الأساسي الحقيقي لحياة متحضرة
عند «شفیتزر» كما هو عند «توينبي» … «تقدُّم الإنسان نحو مرحلة تنظيمية أعلى،
ومستوى أخلاقي أرقى». التقدم الروحي يعني تدفُّقَ الطاقة نحو تأكيد الجانب
الروحاني من النفس (أثيرية النفس عند توينبي) وبعيدًا عن المؤسسات السياسية
والاجتماعية. والحقيقة أنه كان يعتقد أنَّ الاثنتَين كامنتان، وكلتاهما تعمل
ضدَّ الأخرى. «التقدم الأخلاقي يتكوَّن من عزمنا على أن نفكِّر بتشاؤم في أخلاقيات
المجتمع»، والذي يعني المجتمعَ الغربي تحديدًا.
٩٢
الاستسلام، «تحسين الذات السلبي»، و«الأثيرية» أو السماوية، كانت تلك هي مكوِّنات
صورة الذات الغربية الجديدة عن نفسها. وفي الوقت الذي كان الليبراليون الغربيون
يتبنَّون فيه أهدافَ وافتراضاتِ الليبرالية الجديدة في دولة الرفاهة، فإنهم كانوا
يتخلَّون عن تنافسيتهم الحادة. كان والد زوجة «توينبي» قد سكَّ مصطلحًا لذلك وهو
«قصور العصب»:
«هو بروز اللامبالاة بالشئون العملية، التأمُّل الباطني،
وبمعنى ما … التشاؤم، فقدان الثقة بالنفس …
والإيمان بالجهد العادي: يأس من السؤال، صرخة من
أجل إلهام ناجع، مناخ ليس هدف الفرد الصالح أن يحيا
فيه بالعدل، أو أن يساعد المجتمع الذي ينتمي إليه، أو أن
يحظى باحترام زملائه … وإنما الهدف هو أن يحصل على
العفو والمغفرة بسبب تفاهته التي لا تُوصَف، وخطاياه التي
لا تُعَد ولا تُحصَی».
«موراي»
Murray، المفكِّر الليبرالي الحر في
«أكسفورد»، كان يتكلَّم عن أثر المسيحية على الحضارة اليونانية القديمة، ولكن «قصور
العصب» الذي حدث، كان ينطبق بوضوح على زوج ابنته، وعلى موجة السلبية وجلد الذات
التي كانت الآن تغمر الخيال الليبرالي في القرن
٩٣ العشرين. في الوقت نفسه، كانت التشاؤمية الثقافية، خصم هذا التوجُّه،
تكتشف جسارةً جديدة في العقود التالية للحرب العالمية الثانية.