الفصل التاسع
الشخصية النقدية
مدرسة فرانكفورت، و«هيربرت ماركيوز»
الرعب والحضارة متلازمان.
«م. هورکهایمر»
و «ت. أدورنو»
«جدل التنوير» (١٩٤٤م).
كان «كارل ليبكنشت»
Kar Liebknecht، و«روزا لوكسمبورج»
Rosa Luxemburg شخصَين مراوغَين من الصعب
الإمساك بهما. في السادس من يناير عام ۱۹۱۹م قادَا جماعاتٍ من العمال المسلَّحين والنشطاء
البلشفيك الذين كانوا يُطلقون على أنفسهم: «الرابطة السبارتاکوسية»
١⋆ Sapartacist League للاستيلاء على الحكومة
الألمانية في «برلين». ولمدة تسعة أيام كان الثوَّار قد وضعوا المدينة تحت تهديد السلاح،
معلنين تحدِّيَهم لجمهورية «فيمر»، وقيادتها الديمقراطية الاشتراكية. بعد ذلك تحرَّكت
قُوَّاتٌ من الجنود والمتطوِّعين فريکوربس
Freikorps، وبدأت عملية إخلاء الشوارع. وفي اليوم الخامس عشر، كان آخِر حاجز قد أُزِيل، واختفى
قادة الثورة الشيوعية الألمانية الفاشلة.
المفارقة الساخرة، هي أنَّ «ليبكنشت» و«لوكسمبورج» كانَا قد عارضَا الانتفاضة عندما
قامت، ولكنهما انضمَّا إليها بعد ذلك حتى لا يتخلَّفا عن المدِّ الثوري، وحينذاك كانا
رهينتَين لتلك الهزيمة، وقد نجحا في تضليل مطارديهما حتى ليلة الخامس عشر، عندما
اكتشفَتهما دوريةٌ من فرقة حرس الخيَّالة في إحدى الشقق في منطقة «فيلمر سدورف»،
واقتادهما الجنود إلى رئاسة الفرقة، حيث خضعا لتحقيقٍ وحشيٍّ بعد ضربٍ مبرِّح، وعلى ضوء
سيارة كانت تقف منتظرةً تقدَّم منهما أحدُ أفراد وحدة «الفريكورب»، واسمه «رانج»
Runge (كان نموذجًا لمن كان «شبنجلر» معجبًا بهم
من الجنس السيِّد)، ليضرب «ليبكنشت» بمؤخرة بندقيته. وعندما سقط على الأرض، ترکه وانتقل
ليُحطِّم رأس «روزا لوكسمبورج». وفي الهرج الذي حدث بعد ذلك تمَّ سحبُ الجسدَين إلى العربة
المنتظرة، حيث أُطلقت عليهما النار، ثم أُلقيَ بالجثَّتَين في قناة «لاندوهر»، وهكذا
انتهى
الأسبوع السبارتاکوسي.
٢
موت «ليبكنشت» و«لوكسمبورج» وانتهاء الثورة العمَّالية الفاشلة، أحدث أزمةً في الفكر
الماركسي الألماني، سوف تجعلها الأحداث التالية أكثرَ سوءًا. كانت «روزا لوكسمبورج»
تُجادل بشدَّة وتقول إنَّ أعضاء الطبقة العاملة الألمانية ثوَّار بالطبيعة، وأنهم — فقط
—
كانوا ينتظرون اللحظةَ المناسبة للإطاحة بظالميهم وتحقيق «يوم الخلاص»، والآن لم يَعُد
المنظِّرون الماركسيون واثقين من ذلك. الفكرة القديمة عن أنَّ النصر الاشتراكي على
الرأسمالية حتمية تاريخية، أو بالأحرى هو جزء من التاريخ باعتباره تقدُّمًا، هذه الفكرة
تمَّ سحقُها تحت كعب حذاء أكثر عداوة وهو «ثورة اليمين»، حتى نجاح الثورة في روسيا عام
۱۹۱۷م، لم ينجح في تبديد تلك الشكوك، حيث تراجعت الشيوعية الألمانية وانسحبت نحو طاعة
وتبعية ذليلة لموسكو ولأشخاص مثل «لينين» (الذي كانت «روزا» لا تثقُ به)، و«ستالين».
في
سنوات «فيمر»، كان مثقَّفو الجناح اليساري قد أصبحوا متشكِّكين في جميع المؤسسات، بما
في ذلك الحزب الشيوعي والجمهورية الديمقراطية الاشتراكية، وأصبحت لهجتُهم أكثرَ انتقادًا
ومرارة، وقد انعكس ذلك في كتابات «کورت تاکولسکي»
Kurt
Tucholsky، و«هينرش»
٣Heinrich شقيق «توماس مان».
كما تحوَّل كثيرون من السياسة إلى الفنون والعمل الأكاديمي، منهم «جورج جروسز»
Georg Grosz، و«بول کلي» Paul
Klee، و«فالتر جروبیوس» Walter
Gropius، و«کورت فيل» Kurt
Weill، و«بروتولد برخت» Bertold
Brecht، حتى الجامعات الألمانية التي كانت ذات يوم حصنًا للتقاليد
القديمة والنزعات المحافظة، انفتحَت في عهد «فيمر» على مختلف المؤثرات بما فيها
الماركسية، وكانت الجامعات التقدمية مثل «فرانكفورت» ترحِّب بالشيوعيِّين الذين يُجاهرون
بشيوعيتهم. أما مؤسِّسو ما يُسمَّى ﺑ «مدرسة فرانكفورت» و«معهد البحوث الاجتماعية»، فقد
وجدوا هناك مرفأً يُطلقون منه منبرًا ماركسيًّا جديدًا للنقد الثقافي، يعتمد على التقاليد
القديمة، ولكنه يشتمل أيضًا على أسلحة أيديولوجية جديدة وربما أكثر كفاءة.
وبحلول عام ۱۹۲۰م كانت الافتراضات الجوهرية للتشاؤمية الثقافية والتاريخية معًا، قد
تأصَّلت في مناقشات الثقافة الجديدة والمجتمع الجديد، لدرجة أنَّ نكرانها كان يُثير الشك
والريبة.
هذه الافتراضات الجوهرية، هي أنَّ الديمقراطية الجماهيرية تُفسد الحرية السياسية
الحقيقية، وأنَّ التكنولوجيا والعلم الوضعي يُفسدان الروح الإنسانية، وأنَّ الرأسمالية
الصناعية تمزِّق النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع
Gemeinschaft، وأنَّ كلَّ هذه التوجُّهات تُحدِث
تآكلًا في الحيوية، وتفسُّخًا وانحطاطًا في الفنون والأخلاق، الأمر الذي يوحي بالنهاية
الوشيكة للغرب.
منظِّرو «مدرسة فرانكفورت» وُلِدوا ونشئوا على هذا التشاؤم. بعد تجربة الحرب
العالمية الأولى وصدور كتاب «شبنجلر» الشهير «أُفُول الغرب»، أصبح الكلام عن نهاية
الحضارة الغربية طبيعيًّا مثل التنفُّس، الموضوع الوحيد الذي تبقَّى للجدل لم يكن هو
ما
إذا كان الغرب سوف ينتهي أم لا. أصبح السؤال: لماذا؟ أما الإجابة التي تبنَّاها نقَّاد
«مدرسة فرانكفورت» ماکس هورکهایمر Max Horkheimer، و«تيودور أدورنو» Theodor Adorno، و«فرانز نیومان»
Franz Neumann، و«إريك فروم»
Eric Fromm، و«هيربرت مارکیوز»
Herbert Marcuse، فكانت تعني التخلي عن العقيدة الماركسية القديمة في التقدم والعقلانية العلمية، والتوجُّه
نحو رؤية أكثر ياسًا
بخصوص المستقبل. الماركسية قدَّمت أساسًا تاريخيًّا صلبًا لنقد كاسح للثقافة البرجوازية
و«العقلانية التكنولوجية الحضارة الحديثة» وحتى لتفسير أسباب فشل الثورة الشيوعية في
أن
تمنع الغرب من أن يدمِّر نفسه في النهاية. ورغم أنَّ «مارکس» نفسه قدَّم بعض الذخيرة
لهذه «الماركسية» النقدية «التشاؤمية»، وخاصة في أعماله الباكرة غير المنشورة التي كان
الدارسون قد اكتشفوها مؤخرًا، إلا أنَّ «مدرسة فرانكفورت» اتجهت بالفعل نحو مفكرين غير
ماركسيِّين من أجل دعاواهم الرئيسية والمؤثرة. كان الأول هو «سيجموند فروید»
Sigmund Freud الذي مكَّنت نظرياتُه «مدرسة
فرانكفورت» من أن تفهم — كما كتب أحد أعضائها: «الآثار المشوَّهة التي تتكبَّدها
الإنسانية في مقابل انتصاراتها التكنوقراطية». وقد توصَّل نُقَّاد «فرانكفورت» إلى أنَّ
الرأسمالية الغربية تُنتج باستمرار نوعًا إنسانيًّا مصابًا بالعصاب، مختلَّ الوظائف،
يبرز
إلى السطح، ليس في المجتمع البرجوازي الليبرالي فقط، وإنما بين خصومه في اليمين
الفاشستي أيضًا.
«إريك فروم» و«هيربرت ماركيوز» سیُصرَّان فيما بعد على أنَّ أيَّ أملٍ باقٍ في الحرية
الإنسانية، يتطلَّب الإطاحة بالميكانيزمات البرجوازية للكبت النفسي، إلى جانب ميكانيزمات
الظلم الطبقي.
وكان «نيتشة» هو المفكر الثاني الذي رفضه الماركسيون القدامى قبل ذلك، وشجبوا أفكاره
الحيوية والنخبوية، واعتبروه «فيلسوف الرأسمالية»، إلا أنَّ بعضَ اليساريِّين الشبَّان
انضموا إلى حركة إحياء أفكار «نيتشة». في تسعينيات القرن التاسع عشر، معلنين أنَّ الحرية
التامة للفرد الخلاق، لا بد أن تكون جزءًا من مجتمع مستقبلي يؤمن بالمساواة بين
البشر.
أما الذي جذب نقَّاد «فرانكفورت» إلى «نيتشة»، فلم يكن رسالته عن العدمية الحيوية
والافتدائية (التي ستلهم الفرنسيِّين المعجبين به في القرن العشرين)، وإنما نقده الشديد
للقيم البرجوازية. كان «تيودور أدورنو»، يقول إنَّ أعمال «نيتشة»: «تصوير فريد للطبيعة
القمعية للثقافة الغربية»، ويقول إنها «تعبير عن الإنساني في عالم أصبحت فيه الإنسانية
أكذوبة.» هجوم «نيتشة»، على المنطق والعقل الغربيَّين، يلخِّص أفكار «أدورنو» نفسها عن
«الديالكتيك السلبي»، وقد كتب «أدورنو» كثيرًا من أعماله بنفس الأسلوب الحاد، أسلوب
الأقوال المأثورة في عملي «نيتشة»: «أمور إنسانية … إنسانية إلى أقصى حد»، و«بمعزل عن
الخير والشر».
«أدورنو» و«هورکهایمر»، معًا، حوَّلا نيتشة إلى شخصية مركزية في «البانثيون»
٤⋆ Pantheo الماركسي الجديد، مزيحين «مارکس»
نفسه، والواقع أنَّ «هورکهایمر» اعترف في أواخر حياته بأن «نيتشة» ربما كان أعظم من
«مارکس» كمفكر.
٥
على أيَّة حال، فإن نُقَّاد «فرانكفورت» باختيارهم «نيتشة» و«فروید» كنموذجَين لهم،
قد
وضعوا أيضًا — دون قصد — صورَ ولغةَ نظريةِ الانحلال في قلب برنامجهم الماركسي النقدي
مباشرة. جميع أسقام وأمراض المجتمع الحديث التي كانت تُنسَب للانحلال الفيزيقي:
(التفسُّخ الاجتماعي – الجريمة – الجنون – الانتحار – الأمراض العصبية – إدمان المسكرات
– انحطاط الفنون – السياسة الديمقراطية الجماهيرية التي تُحاكي نمط الأسلاف – حتی معاداة
السامية)، أصبحت الآن هي أخطاء الرأسمالية، وبمعنى أوسع … أخطاء الغرب الحديث.
«مدرسة فرانكفورت» أعلنت أنَّ الحضارة الغربية كانت مبنيةً حول استراتيجية متفسِّخة:
استراتيجية سحق غرائز الإنسان الحيوية من خلال السيطرة العقلانية على الطبيعة، وعلى
الذات وعلى الآخرين. السمة الرئيسية للغرب الحديث هی تجرُّده من الحياة، وكما عبَّر عن
ذلك «مارکیوز» فيما بعد بأن «تأكيد نيتشة الكلي على غريزة الحياة»، يمثِّل مبدأً واقعيًّا
«معاديًا في الأساس لمبدأ الحضارة الغربية».
٦ التحرُّر، بالمعنى الذي تفهمه «مدرسة فرانكفورت» إذن، كان يعني التخلِّي
عن نظرة للحياة تؤكِّد قدرة الإنسان على استخدام المنطق والعقل للوصول إلى الحقيقة،
وحاجته إلى أن يكيِّف نفسه مع نظام اجتماعي طبیعي ومعقول؛ لكي يكون سعيدًا
وحرًّا.
بدلًا من ذلك، كان على البشر أن ينتبهوا إلى وعي أعمق، وأكثر «سلبية» — باختصار —
إلى وعي «نیتشوي». «مدرسة فرانكفورت» خلقت بطلًا ثقافيًّا جديدًا: الكاتب أو المعلِّم
أو
المثقَّف النقدي. وهو كسليل مباشر للفنان الرومانسي، سوف يستخدم آلته الكاتبة أو قاعة
الدرس للهجوم على تناقضات وشرور الحضارة الغربية الحديثة وفضحها.
في عام ١٩٣٦م، كتب «هورکهایمر»: «في ظلِّ الرأسمالية المتأخرة، أصبحت الحقيقة تبحث
عن
ملجأ بين جماعات صغيرة من الرجال المدهشين»، وكان يقصد نفسه وأصدقاءه. فيما بعد، سيكوِّن
أولئك الرجال «المدهشون» أنفسهم حملة تشاؤمية ثقافية جديدة، ولكنها ستكون نابعة هذه
المرة من اليسار السياسي وليس من اليمين.
الرأسمالية والمثقَّفون: مصادر «مدرسة فرانكفورت»
إنها لَمفارقة ساخرة! أن يكون معهد البحوث الاجتماعية مدينًا بوجوده للثروة
الرأسمالية، وكانت في الحقيقة ثروة طائلة، تلك الثروة التي أعالت «مدرسة فرانكفورت»
في أربع دول على مدى أربعين عامًا تقريبًا.
٧⋆
كان المعهد من بنات أفكار «فيلكس فيل»
Felix
Weil، ابن ووريث لمليونير يهودي يشتغل بالمضاربات التجارية،
وبتعبيره كان «فیلكس»: «بولشفيكي صالونات»، قرَّر في عام ۱۹۲۳م أن يستخدم الثروة
التي آلت إليه في إقامة معهد في «جامعة فرانكفورت»، وأن يكون منتدى لنقل الأفكار
الماركسية الجامدة للجماهير، هذا الهدف كان منعكسًا في شخص مديره الأوَّل «کارل
جرونبرج»
Carl Grünberg، وهو ماركسي من المدرسة
القديمة، وكان تلاميذه من بين الاشتراكيِّين مؤسِّسي الجمهورية النمسوية في عام
۱۹۱۸م.
٨
«جرونبرج» تقاعدَ في عام ۱۹۲۹م، ولم يكن خليفته «ماكس هورکهایمر»
Max Horkheimer جزءًا من الفريق الشيوعي الأصلي
في المعهد.
كان الذين أرشدوا «هورکهایمر» على طريق الفكر مؤلِّفين حداثيِّين بارزين: «إبسن»
Ibsen، «زولا» Zola، «تولستوي»
Tolstoy، وفلاسفة: «إدموند هسرل» Edmund Husserl، «نيتشة» Nietzsche، أكثر مما كان قد تعلَّم من «مارکس» Marx، أو «إنجلز» Angels.
الصورة التي كانت معلَّقةً على الجدار في مكتب «هوركهایمر» وهو مدير المعهد، كانت
صورةَ «شوبنهاور» وليست صورةَ «مارکس». كان «هورکهایمر» وخلفاؤه في المعهد، ومنهم
«تيودور فزنجروند – أدورنو»
Theodor
Wiesengrund-Adorno متأثِّرين أيضًا بالماركسي الهنغاري «جورج
لوكاتش»
Georg Lukács، الذي كان يرى أنَّ الانتصار
النهائي للبروليتاريا لن يحلَّ تناقضات الرأسمالية فقط، بل وتناقضات الحداثة نفسها،
وكانوا متأثِّرين على نحوٍ خاصٍّ بنبوءة «لوكاتش» بأن رأسمالية البرجوازية كانت تعمل
كوحدة متكاملة، تضمُّ مؤسسات وتوجُّهات وعادات عقلية إلى جانب وسائل الإنتاج.
والحقيقة أنَّ «لوكاتش» كان يزعم أنَّ «مفهوم الكليانية،
٩⋆ أو
السيادة الكاملة للكل على الأجزاء»، هو جوهر الماركسية كنظرية اجتماعية وتاريخية.
ومهمة المُنظِّر الماركسي هي أن يحارب الآثار السيئة والمتنامية لفكر البرجوازية،
والزاحفة على فكر البروليتاريا. وعن طريق توعية العمال ببؤس حاضرهم وقدرتهم على
تغييره، ويجعلهم يشعرون «بوعيهم الطبقي»، فإن المثقف يقدِّم خدمةً لا بديل عنها
لشركائه في الطبقة العاملة.
١٠
وعلى خلاف «لوكاتش»، لم يكن لدى «هورکهایمر» أيُّ اهتمام بإحداث ثورة في الشارع،
بل وكان الأسبوع «السبارتاکوسي» قد أثبت عدم جدوى هذا التوجُّه (ناهيك عن الأخطار
الفيزيقية).
وبالنسبة ﻟ «هورکهایمر» لم يَعُد «العامل» هو الشخص الرئيسي في تشكيل «الكل»، بل
«المثقَّف»، وأنَّ النظام الاشتراكي «سوف يتحقَّق» — كما كتب — «إما بواسطة بشر
مدرَّبين نظريًّا، ومصمِّمين على تحقيق ظروف أفضل، وإلا فإنه لن يتحقق
بالمرة»،
١١ وأصبح الاعتقاد بأهمية وأولوية «نظرية نقدية» من أجل الإطاحة
بالكليانية البرجوازية، هو الموضوع الموحَّد لماركسية «مدرسة فرانكفورت». وبدلًا من
حثِّ الجماهير واستثارتها للكفاح المسلَّح، فإن المثقَّفين من ذوي العيون الثاقبة
البصر، سيُكرِّسون جهدهم لفضح أو «كشف النقاب» عن العلاقات الزائفة في المجتمع
الرأسمالي، وبخاصة ازدراؤه لعقل الإنسان ووحدته الروحية.
الصيغة التي تقدِّمها «مدرسة فرانكفورت» للثقافة «الحقيقية»، تعكس أكثرَ من أثر
للتنفُّج الألماني الأكاديمي التقليدي، إلى جانب «جمهورية العباقرة» عند «نيتشة»،
حيث ينادي «عملاق عملاقًا آخر عبر صحاري الزمن». «أدورنو»، على نحو خاص، أفرط في
إطرائه على متابعة الأشكال الجمالية الخلَّاقة وبخاصة في الفن والموسيقى
الطليعيَّين،
١٢ ولكن نقَّاد «فرانكفورت» فهموا أيضًا أنَّ الثقافة البرجوازية
التقليدية كانت هي نفسها نتاج عملية تاريخية كلية، نفي الرأسمالية للإنسان الحديث
وتغريبه، كما وصفتها «المخطوطات الاقتصادية والفلسفية» التي كانت قد اكتُشفت
حديثًا للشاب «کارل مارکس»، كان قد كتبها في عام ١٨٤٤م، وهو في الخامسة والعشرين من
العمر فقط، ولكنها لم تُنشَر إلا بعد نصف قرن تقريبًا ومن وفاته، أي في
عام ١٩٣٢م.
کشفُ هذه الأوراق للجمهور اضطرَّ الماركسيِّين بمن فيهم من أعضاء «مدرسة
فرانكفورت» أن يُعيدوا النظر في أفكار «مارکس» بشكل جذري.
كان «هيربرت مارکیوز» أوَّل من اشتغل عليها. في عام ١٨٤٤م، كان «مارکس»
ما يزال تحت سيطرة «إنجلز»، وفي تلك الكتابات الباكرة كان يرى أنَّ شرور الرأسمالية
لا
تكمن في الاستغلال الاقتصادي فقط: بأجوره المنخفضة والفقر والبطالة الحادة. مخاطر
الرأسمالية الحقيقية هي مخاطر «روحية»، أو «نفسية» كما نقول اليوم. تقسيم العمل في
المؤسسة الرأسمالية حوَّل ناتج جهد العامل إلى سلعة كمالية مجرَّدة من الحياة. فما
يصنعه يؤخذ ويباع دون فائدة تعود عليه (سوى أجره الذي لا يعبِّر عن كامل قيمته
أبدًا). أثواب القماش، الأواني الحديدية، أو القوارير النحاسية التي صنعها لم يَعُد
لها صلة به، أي أنه «غريب» عن جهده، والنتيجة، كما كان «مارکس» يقول، هي أنَّ
«العامل يشعر بنفسه عندما لا يعمل، أما عندما يعمل فهو لا يشعر بنفسه».
١٣
في ظلِّ الرأسمالية، يُسْلِم العاملُ قيادَه وإنسانيته للعملية الصناعية. الرأسمالية
«تختزله إلى مجرد آلة»، وفي النهاية تستخدم آلة أخرى محلَّه. «مارکس» توصَّل إلى أنَّ
تقسيم العمل في الرأسمالية يؤدِّي إلى تقسيم أرواح البشر، ونتيجة لذلك فإن اتساع
الإنتاج الرأسمالي لا يمكن أن يُفيد العامل أبدًا، بل على العكس، «حتى عندما يؤدِّي
تقسيم العمل إلى زيادة القوة الإنتاجية والثروة ورفاهة المجتمع، فإنه يؤدِّي إلى
إفقار العامل ماديًّا وروحيًّا كما يؤكِّد «مارکس».» وينتج عن ذلك: «البلاهة
والقماءة». ديناميكيات الانحلال والتفسُّخ في الرأسمالية يمكن اختصارها في معادلة
بسيطة جازمة: كلما نمت الرأسمالية واتسعت، فلا بد أن يزيد استغلالها الفعلي
وإفقارها لعمَّالها على الرغم من أي دليل مادي على العكس. والواقع أنَّ إنتاج
الرأسمالية لبشر «غرباء مغتربين» كأولئك، لا يقف عند الطبقة العاملة، وكما يقول
«مارکس»، فهو بالضرورة يشمل البرجوازية كذلك؛ حيث لا أحد بمنجاة من تحوُّل البشر
والأشياء إلى سلع نتيجة تقسيم العمل. في ظلِّ الرأسمالية «كل واحد غريب عن الآخرين،
والكل غرباء عن جوهر الإنسان».
١٤
العلاقة — إن كان ثمة علاقة — بين أفكار «مارکس» الشاب، المتأثِّر ﺑ «هيجل»، و
«مارکس» الذي كان بعد ذلك، «مارکس» ذي العقل الأكثر مادية في «رأس المال»، أصبحت
مادةً لجدلٍ كبيرٍ وحادٍّ بين الماركسيِّين، ومع ذلك، فإن «المخطوطات الاقتصادية
والفلسفية» نجحت في تحويل «کارل مارکس» إلى مفكِّر يقوم بتشخيص أعراض الاضمحلال
الثقافي الحديث. بدا مفهومه للاغتراب مؤذِنًا بعلم اجتماع «دوركايم»
Dorkheim، و«فيبر»
Weber، و«سومبارت»
Sombart، و«سیمل»
Simmel، ناهيك عن مُنَظِّري الانحلال والتفسُّخ؛ مثل «بينيدكت موريل» Benedict Morel، و«شارل
فیریه» Charles Féré. وفوق ذلك فإن «مارکس» قدَّم
متَّهمًا بجريمة، وهو الرأسمالية، وراح يشرح عليه أعراض التفسُّخ الحديث. انتصار
الرأسمالية كان يعني الحطَّ من قيمة الروح الإنسانية الحية. «مدرسة فرانكفورت» ترجمت
بسرعة نظرية «مارکس» عن الاغتراب إلى المصطلحات الأكثر شيوعًا في النقد الألماني
وعند «نيتشة».
كان «تيودور أدورنو» بَرِمًا بإهمال الماركسية التقليدي للنقد الثقافي. كتب ذات
مرة: «هناك صدق في «جينيالوجيا الأخلاق» عن «نيتشة»، أكثر مما هو موجود في كتاب
ABC ﻟ «بوخارین».»
١٥
«الرأسمالية دمَّرت الفن بتحويله إلى سلعة مثل الصابون والسيارات»، كما كان يقول
بغضب، الروح الحقيقية للفن الخلَّاق «لا يمكن أن تبقى، عندما يعتبر الفن سلعة ثقافية
تُقدَّم لإشباع حاجات المستهلك»، ومثل الثقافة التكنولوجية عند «فيرنر سومبارت»،
فإن «صناعة الثقافة» الرأسمالية عند «أدورنو» لا تنتج سوی «تسلية تُشبه حلوى غزل
البنات، تسلية تُفسد البشرية»، وهي تنتجها بوفرة،
١٦ كما قدَّم نظرية مفصلة عن الموسيقى ليُبرهن على أنَّ «الجاز» يمثِّل
انتصار المنتج الكبير والميكانيكي على الإبداع الفني «الحقيقي» (الموسيقى متعدِّدة
النغمات عند «شوينبرج» مثلًا)، حتى «الصفير»، خضع لفحص «أدورنو» القاسي: كان في
رأيه يمثِّل تشويهًا للقوالب الموسيقية وبغرض الاستهلاك المحلي، وبالتالي أفسد
السلامة الجمالية للتأليف الموسيقي.
١٧ مارکسيو «فرانکفورت» عكسوا حكم «نوردو» عن الفن المعاصر.
الفن «المنحط» الحقيقي ليس موسیقی «أرنولد شوينبرج» التكفيرية، ولا رسوم «بيكاسو»
التكعيبية، وإنما بدائلها «البرجوازية»، «جون فيليب سوزا»
John Philip Souza، أو «نورمان روكويل»
Norman
Rockwell، أو «ميكي ماوس»، وكما حدث في رفض «نيتشة» ﻟ «فاجنر»
وانصرافه عنه، فإن إقبال جمهور «فاسد» على هذا النوع من الفن، يُثبت أنه فنٌّ «فاسد»
ومنحط.
١٨⋆
وعندما تسقط الرأسمالية كما شرح «هورکهایمر»، «فإن البشرية تصبح موضوعًا واعيًا
لأول مرة، وتقرر أسلوبها في الحياة بشكل نشط». الثقافة والفن والموسيقى والأدب
سوف تستعيد استقلالها الذاتي الحقيقي، وقواها الدافعة للحياة. كانت المشكلة في عام
۱۹۳۲م، هي أنَّ الرأسمالية لم يكن يبدو عليها أيُّ انهيار، أو على الأقل دلائل تُشير
إلى أيِّ اتجاه يساعد على نشأة نظام مارکسي جدید.
وبدلًا من ذلك، كانت الرأسمالية تقوم بإنتاج ثورة من نوع مختلف، ثورة اليمين
العسكري الحيوي.
الحضارة والنازية: جدل التنوير
كان صعود «هتلر» إلى السلطة أمرًا مفاجئًا لكل صفوف اليسار، وكانت مبادئ الحزب
الشيوعي في سنوات ما بين الحربين، قد علَّمتهم أنَّ حركات مثل «القمصان السوداء» عند
«موسولیني» أو عند النازية، تمثِّل المرحلة الأخيرة من «الرأسمالية المتأخرة». كان
التأكيد على أنَّ البرجوازية أُجبرت على اللجوء إلى وحشية الفاشستية لكي تظلَّ في
السلطة، بعد أن أصبحت مواجهةً بالخراب الاقتصادي، وبصعود الاتحاد السوفيتي. «فرانز
نيومان»
Franz Neuman، من مدرسة فرانكفورت، قال تحديدًا إنَّ النازية كانت «تأكيدًا على القوة الحيوية للمجتمع
الرأسمالي»،
١٩ إلا أنَّ الجميع كانوا يفترضون أنَّ الفاشية سوف تنهار أيضًا، وأنَّ شمْلَ
الطبقة العاملة سوف يلتئم تحت رايات الشيوعية الحمراء، وبدلًا من ذلك، صَعِد النازيون
منتصرين، إلى السلطة بفضل الطبقة العاملة والدعم الشعبي.
كانت رسالتهم عن الحيوية العرقية والانبعاث القومي تبدو أكثرَ نجاحًا من رسالة
الثورة البروليتارية والحرية، وبالنسبة للأعضاء الذين خاب أملهم في «مدرسة
فرانكفورت»، بدَت الاشتراكية القومية هي الانتصار الأخير للإنسان الأخير المنحط عند
«نيتشة». ووصفها «أدورنو» فيما بعد بأنها «وثبة ألمانيا إلى الهاوية»، وبالضبط كما
كان «فرويد» يراها «تحقيقًا لرغبة الموت عند الإنسان المتحضِّر».
كتب «أدورنو»: «لم يكن هناك مَن لم يُدرك لحظة الحزن القاتلة، لحظة المعرفة
الجزئية، والاستسلام الجزئي للهلاك الروحي «مع» مواكب الأضواء والمشاعل والطبول
المدوية».
٢٠
بعد ستة أشهر من أداء «هتلر» لليمين كمستشار، استولى «الجستابو» على مكتبة معهد
البحوث الاجتماعية وأغلقوا المبنى، ولكن «هورکهایمر» ومَن معه كانوا قد فروا إلى
«جنيف» لاجئين إلى هناك ينتظرون تأشيرات دخول الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه
بدءوا يضعون نظرية تشرح أسباب لجوء دولة — من المفترض أنها متحضِّرة — مثل ألمانيا،
إلى أيديولوجيا غير عقلانية، وعنيفة، وعرقية، بمثل تلك السرعة المذهلة. وفي
النهاية، أعلنوا أنَّ الرأسمالية الليبرالية، «منذ بداية بدايتها، تحتوي على توجُّه
نحو الاشتراكية القومية».
٢١ وفي الوقت نفسه، لجأ «هورکهایمر» والمعهد إلى الولايات المتحدة، قبل
ذلك بعام واحد فقط، في عام ١٩٣٥م، كان مديره «فردريش بولوك» يشجب «أمريكا الصفقة
الجديدة» ويندِّد بها «كمستنبت للفاشية».
٢٢ والآن كانت أمريكا هي الملجأ والملاذ، كان رئيس «جامعة كولومبيا»:
«نيكولاس بتلر»
Nicholas Butler من المحافظين
سياسيًّا، ولكنه شديد الإيمان بالحرية الأكاديمية والتنوُّع (وهي وجهة نظر سوف
يهاجمها «أدورنو» بعد ذلك ويعتبرها «تسامحًا قمعيًّا»)، وتحت إلحاح كليته، أعطى
«بتلر» مقرًّا في شارع ۱۱۷ للمجموعة الماركسية يحتوي على مكاتب لهيئة التدريس
والزائرين. بعد وقت قصير، لحِق ﺑ «هورکهایمر» و«أدورنو» عضوان آخران من المعهد، هما
«إريك فروم»
Erich Fromm، و«هيربرت وماركيوز»
Herbert Marcuse، وبقيت دائرة «هورکهایمر»
الصغيرة مغلقة أبوابها في وجه المجتمع متعدِّد اللغات والنابض بالحياة الذي احتواهم،
مستكنين في مرتفعات «مورننج ستار»، وسط بحر غير مألوف من البحبوحة
الأمريكية.
أصبح مقرهم، وبقيَ مثل مقاطعة للمنفيِّين الألمان البعيدين عن عملاء «هتلر»، وأخذت
صورة المعهد ملامح بطولية. أعلن «هورکهایمر» أنَّ المعهد الآن «كان هو المجموعة
الوحيدة التي تستطيع أن تحافظ على الوضع المتقدم نسبيًّا للنظرية التي تحقَّقت في
ألمانيا، وأنَّ تطوُّرها إلى ما هو أبعد من ذلك».
٢٣
وعلى مدى خمسة عشر عامًا تالية، سيصبح المعهد في «كولومبيا» قناةَ توصيل علم
الاجتماع الألماني والفلسفة والنظرية الماركسية إلى الحياة الفكرية
الأمريكية.
النظرية كانت ذات سلطة عليا، لم يكن «هورکهایمر» يميل إلى البحث الإمبيريقي، وكان
يؤكِّد على ميزات «الفكر النظري» ويفضِّله على الحقائق المجرَّدة أو ما يُطلق عليه
آخرون: الحقيقة الإمبيريقية.
٢٤،٢٥⋆
وبالرغم من أنَّ «هورکهایمر» كمدير للمعهد كان كثيرًا ما يزعم أنَّ المعهد يخلق
وحدة جديدة بين العلوم الاجتماعية، إلا أنَّ الوحدة الوحيدة بين منظِّري
«فرانكفورت»، كانت رغبتهم في القضاء على الرأسمالية البرجوازية وقيمها
البالية.
«هورکهایمر» و«أدورنو» أقنعَا نفسَيهما بأن الكابوس الذي هربَا منه في ألمانيا، لم
يكن مجرَّدَ حالة منفصلة من الهستيريا الجماهيرية. كانت الأحداث النازية تمثِّل شيئًا
أكثر عمقًا وأكثر صعوبة: المرحلة الأخيرة للحضارة الغربية كعملية كلية. جميع
المظاهر الحديثة المميزة للغرب، سواء في الحياة الاقتصادية أو الاجتماعية أو
السياسية أو الثقافية كانت تعكس الهدف نفسه: التحكُّم، والسيطرة الكاملة، كما
أشاروا إلى تلك الطبيعة التحكُّمية الواسعة للحضارة الغربية كدافع نحو: «الدمج
الكامل». كان «شبنجلر» قد أطلق عليها اسم «الروح الفاوستية» للغرب، وقد جعل منها
«هورکهایمر» و«أدورنو» في كتابهما «جدل التنوير» (١٩٤٤م) القوة الدافعة للتقدُّم.
كتبَا: «الطبيعة المنحطَّة للإنسان الحديث، لا يمكن فصلها عن التقدم الاجتماعي
(والمادي)»، «نمو الإنتاجية الاقتصادية يوفِّر الظروف الملائمة لعالم ينعم بعدالة
أكبر … هذا من ناحية، (ومن ناحية أخرى) فإن قيمة الفرد تتضاءل تمامًا بالنسبة
للقوى الاقتصادية التي … تضغط سيطرة المجتمع إلى ذُرًا لا شك فيها»،
٢٦ الفرد في الثقافة الغربية يصبح تابعًا تمامًا للكل المسيطر. إنه لا
يتنازل عن حريته السياسية فقط للدولة، وإنما يفقد كلَّ قوى العمل المستقل والتفكير
المستقل. «مرض» الحضارة الغربية «يقود الروح نحو ظلام مطبق»، حتى الشخص المنشق، مثل
«کارل مارکس»، لا يمكنه أن يصوغ معارضته إلا في «معادلة فقيرة ووضيعة»، وقطاعات من
الكلية الآفلة «تدعم القوى نفسها الموجودة في النظام القائم الذي يحاول أن
يحطِّمه».
٢٧
هذا هو سبب فشل الثورات في الغرب الحديث عادة، بينما تنتصر الفاشية دائمًا،
«الفاشية هي حقيقة المجتمع الحديث»، هكذا أعلن «هورکهایمر» و«هو ما أدركَته النظرية
منذ البداية». كان الغرب الرأسمالي بأكمله يقف على تلك الحافة نفسها التي سقطت من
عليها جمهورية «فيمر» بلا حول ولا قوة قبل انقضاض الدولة الفاشية العسكرية والجنون
الجماعي؛ فالبشرية «تسقط في بربرية جديدة، بدل الدخول في حالة إنسانية
حقيقية».
«هورکهایمر» و«أدورنو» أشارَا إلى أصول الرأسمالية وما وراءها من إعجاب غربي شديد
بالعقلانية، وأكَّدا أنَّ «انهيار الحضارة البرجوازية الحالي» كان بسبب التنوير في
النهاية. وعلى عكس صورته عن نفسه، فإن عصر العقل في القرن الثامن عشر لم يكن عن
العقل بالمرة، وإنما كان بالأحرى عن السعي وراء السيطرة على الطبيعة والبشر. «هذه
الطريقة في التفكير بالتحديد، تحتوي على بذرة عكس ما هو واضح تمامًا اليوم»،
وبعبارة أخرى، فإن النازية كانت هي النتاج النهائي للتنوير في رأي «أدورنو»
و«هورکهایمر».
٢٨
ويبدو هذا الاستنتاج أقلَّ إثارة للدهشة، عندما نُدرك أنَّ «مدرسة فرانكفورت» قد
ميَّزت بحدَّة بين تنویر «جيد» وتنوير «رديء». الأول أنتج الفلسفة العقلانية
الإنسانية مثلما هي عند «هيوم» Hume، و«کانت» Kant، و«هيجل» Hegel، وكذلك النزعة النقدية الشكوكية مثلما هي عند «فولتير» Voltaire، والتي وُلِدت مجددًا مع
«نيتشة» Nietzsche. كان ذلك هو عصر العقل إن أردنا الدقَّة، والذي كان «أدورنو» و«هورکهایمر» يعتبران نفسَيهما
آخِرَ ورثته. أما
الثاني أو التنوير «الرديء» فهو الذي ولَّد الهوس الحديث بالعلم والتكنولوجيا
والرقم، أو الذي يحوِّل العقل إلى «شيء أو أداة». كان ذلك هو تنوير «نيوتن»
Newton، و«كوندورسيه» Condorcet، و«جیرمي بنتام» Jermy
Bentham، و«آدم سميث» Adam
Smith، إلا أنَّ النوعين من التنوير لا ينفصلان، فهما في علاقة
«جدلية».
بمحاولة معرفة ما لا يمكن معرفته، فإن «التنوير قد حاول أن يؤمِّن نفسه ضد عودة
الأسطوري». وكانت النتيجة أن انتهى الفكر الغربي بتغريب الإنسان عن الطبيعة وعن
نفسه. وكما فعل «نيتشة»
Nietzsche، بدأ «هورکهایمر» و«أدورنو» قصةَ اضمحلال الغرب باليونان. الأسطورة اللاعقلانية والسحر
حافظَا على
وحدة الإنسان والطبيعة، تلك الوحدة التي حطَّمها المشروع الأبوللوني للفلسفة
اليونانية.
٢٩⋆
انطلق عقل الإنسان، ولكنه استخدم تلك الحرية ليسيطر على كلِّ شيء كان يبدو الآن
منفصلًا عن نفسه وعن العقل الإنساني، أو ما يُسمَّى ﺑ «الآخر». العلم، والقانون،
الحكومة، حتى اللغة نفسها، كلها أصبحت أدوات خفَّض بها الإنسان الغربي التنوُّع إلى
تماثل، والتلقائية إلى اتساق، والاختلاف (الذي يعرف بالآخر) إلى موضوعات متعددة
الأشكال للسيطرة عليها، مثل فراشات في مصيدة.
التنوير أطلق على عملية الإجمال
٣٠⋆ هذه،
اسم الحضارة أو التقدم، إلا أنَّ النتيجة لم تكن الإشباع، وإنما الاغتراب، وكما
يفسِّرها «هورکهایمر» و«أدورنو»: «البشر يغتربون عن الأشياء التي يحاولون أن
يمارسوا سلطانهم عليها.» الأمر الذي يجعلهم يسعَون نحو سلطة أكبر لكن دون جدوى،
وصعود التقدم، في حقيقته، اتجاه داخلي يدلُّ على الوهم والإحباط، يصبح فخًّا
نصبَته طبيعة الإنسان العقلانية حوله، مثل قفص «ماكس فيبر»
Max
Weber الحديدي.
٣١
أوصل التنوير ثقافة الهيمنة الغربية المدمِّرة للذات إلى هذا المعدل السريع في
حركتها، أعطى البرجوازية أو الطبقة الجديدة المسيطرة في الغرب أساسًا منطقيًّا، أو
«أسطورة» للبحث الواعي عن السلطة تُسمَّى «الطريقة العلمية».
٣٢ كل شيء يتمُّ اختصاره إلى «تكافؤ»، رقم، نظام. وهذا يؤدِّي إلى تأكيد
العلم الاجتماعي الحديث على الحقائق والبحث الإمبيريقي والمبدأ الكمي في
الديمقراطية الليبرالية، الذي يقول بصوت واحد لشخص واحد. وتحت ذلك كله، يوجد حلم
العقل الذرائعي بالسلطة المطلقة على
الآخر.
«الأساس المنطقي التكنولوجي، هو الأساس المنطقي للسيطرة نفسها»؛ ولهذا السبب فإن
«التنوير شمولي».
٣٣ والعقل، في النهاية يكشف عن وجهه الحقيقي، على الورق في الخيالات
الجنسية الوحشية للماركيز «دوصاد»، وفي عدمية «نيتشة» في النهاية (نيتشة هو البطل
والوغد في رأْي هوركهايمر وأدورنو)، وفي زنزانة التحقيق عند «الجستابو»، وفي أفران
الغاز المسوَّرة بالأسلاك الشائكة في «أوشفتز»، وتلك في رأْي «هورکهایمر» و«أدورنو»
هي النتيجة الطبيعية لأوروبا التي تمجِّد العلم والتقدم، وبعبارة «أدورنو»
المعروفة فإن: «الرعب والحضارة متلازمان».
٣٤
وبالطبع يمكن للمرء أن يعترض على أن تكون ألمانيا النازية، والمفترض أنها المنتج
النهائي للتنوير، هي بالفعل العدو المعلن لليبرالية التنوير وكل منجزاتها، حيث كانت
أيضًا تُعلي من شأن الثقافة على الحضارة. على أية حال، فإن «هورکهایمر» و«أدورنو»
كانا يُنكران أهمية تلك المزاعم. لم يكن الأمر الحاسم في فهم أصول أو جذور الحركة
النازية هو ما كان «هتلر» وشركاؤه يفعلونه، المهم هو كيف كانوا يعملون كجزء من
العملية كلها. توصَّل «هورکهایمر» و«أدورنو» إلى أنَّ العقلانية بعد أن هزمت
واستعبدت كلَّ شيء أمامها، كانت مضطرة في مراحلها الأخيرة إلى اللجوء إلى نقيضها، إلى
العنف والبربرية؛ لكي تحقِّق انتصارها الكامل والنهائي. «في الفاشية الجديدة، وصلت
العقلانية إلى نقطة لم يَعُد يكفيها عندها أن تمثِّل الطبيعة، العقلانية الآن تستغل
الطبيعة بدمج إمكانياتها الثورية في منظومتها»،
٣٥ وهكذا في النهاية، تصبح العقلانية هي أداة الجدل العقلاني.
وهذا بدوره أسَّس شعارًا بلاغيًّا مفيدًا، ومبدأً أصبح ملازمًا للآخرين من أتباع
التشاؤمية الثقافية، إلى جانب أعضاء «مدرسة فرانكفورت»: «كلما بدَت الأشياء متناقضة
— الليبرالية والفاشية، الثراء والفقر، حرية التعبير والرقابة — تكون في الواقع
متماثلة».
٣٦⋆
على أيَّة حال لم يكن لدى «هورکهایمر» أو «أدورنو» الكثير الذي يمكن أن يُقال عن
الأصول السياسية الحقيقية للدولة الفاشية. والواقع أنَّ السياسة ليست سوى أحد
تجلِّيات أهم ما كان يشغل عقلَيهما، وهو سؤال الثقافة. كانا علي اقتناع بأن
التكنولوجيا الحديثة تحوِّل الفن والموسيقى والثقافة في المجتمعات الصناعية إلى
«وسيلة للخداع الجماهيري … محيدة وجاهزة»، وطبقًا لبرنامج سياسي شمولي. والقول بأن
«جدل التنوير» قد تناول إهدار الرأسمالية للثقافة والحط من شأنها على نحوٍ جديٍّ،
يعتبر تبسيطًا مخلًّا:
-
في صناعة الثقافة، الفرد وهم … فهو يُجاز ويسمح له فقط، ما دام
تطابقه التام مع العام ليس محلَّ شك.
-
التكرار الأعمى والسريع للكلمات … يربط بين الإعلان وكلمة السر
الشمولية.
-
الفيلم الناطق، من أجل التفوُّق على مسرح الوهم، لا يترك مجالًا
للخيال أو التفكير … إنه يُجبر ضحاياه على أن يعادلوا بينه وبين الواقع
مباشرة.
-
التليفزيون يهدف إلى تحقيق الحلم الفاجنري بالعمل الفني المتكامل
Gesamtkunstwerk … وعلى نحوٍ ساخر،
هذه العملية تجمع بين كلِّ عناصر الإنتاج من الرواية (المكتوبة مع نظرة
إلى الفيلم) إلى آخر مؤثِّر صوتي.
-
الرسوم المتحركة … تؤكِّد انتصار العقل التكنولوجي على الحقيقة.
«دونالددك» في الرسوم المتحرِّكة، والتَّعِس الحظ في الحياة يجلدون لكي
يتعلَّم الجمهور كيف يلقَى عقابَه الخاص.
كان نقدهم الثقافي الواسع يرتكز على النظريات الجمالية عند «فالتر بنیامین»
Walter Benjamin الخارج على الجماعة، والأكثر أصالة في مدرسة «فرانكفورت». أكَّد «بنيامين» على دور التكنولوجيا
في تحويل التجربة الحديثة إلى «سلسلة من الصدمات للوعي الفردي لا نهاية لها». الإنسان
الحديث
النمطي في نظره، إحدى شخصيات «كافكا»: حائر، ضائع، مضطرب العقل، في حالة امتثال
سلبي وخدر عاطفي، صورة بائسة للاغتراب.
٣٧
وفي الوقت نفسه، كانت تلك التكنولوجيا نفسها تُعيد تشكيل الثقافة من خلال عمليات
النسخ الميكانيكي وبالصور والأفلام والتسجيلات وإنتاج الكتب المكثَّف. هذا التوجُّه
كشف مرة أخرى عند «الشعور بالمساواة العامة بين الأشياء» عند الحداثة؛ حيث إنَّ أيَّ
نسخة من صورة أو فيلم أو تسجيل تُشبه أيَّ وكل صورة أخرى تمامًا. التماثل في عملية
النسخ، والتطابق مع الأصل قد دمَّر إلى الأبد، ما يسميه «بنیامین»: «عبق» وهالة
العمل الفني، والإحساس بالمهابة والرهبة أمام تفرُّد الأشياء، تلك المهابة والرهبة
التي تجعل الإبداع والخلق الفني عملية ممكنة.
٣٨
ويرى بنيامين، مثلًا أنَّ صورة ﻟ «فينوس دي میلو» تجعل من المستحيل النظر إلى
«فينوس دي ميلو» الحقيقية بتذوُّق لفرادتها، كما أنَّ تجربة الإنسان القصيرة في
المجتمع تجعله غيرَ قادر على خلقِ أيِّ عمل فني حقيقي من إبداعه الخاص.
التكنولوجيا والرأسمالية يشكِّلان نهايةَ كلٍّ من الفن والفنَّان كما يقول. الوسيلة
الوحيدة أمام الفرد المبدع الخلَّاق، لكي يتجنَّب أن يكون جزءًا من ذلك النظام، نظام
الاستغلال الجمالي، وألَّا يكون «بغيًّا»، لقيمه الفاسدة المفسدة، هي نقيض ذلك،
عليه أن يتجنَّب أيَّ مزاعم بالإبداع أو الاستقلال الفني لا تفيد إلا أن تجعله يبدو
محترمًا في نظر الطبقة الوسطى. على الفنان بدلًا من ذلك كله، أن يستخدم مواهبه
ووسائل الإعلام الحديثة لخدمة البروليتاريا، ومساعدتها في القضاء على السبب الحقيقي
لتدهورهم المشترك، أي الإطاحة بالرأسمالية. وتلك بالطبع مهمة عسيرة، ناهيك عن أنَّ
«بنیامین» أبقى التفاصيل غامضة.
ويبدو أنه لم يَدُر بخلده أنَّ الفنان في محاولته لتفادي أن يكون «بغيًّا» للثقافة
البرجوازية، يمكن أن يصبح «بغيًّا» لثقافة «ستالين».
٣٩
ذكرُ «ستالين» يُثير المشكلة الرئيسية التي لم تُمسك بها «مدرسة فرانكفورت» على
نحو کامل. الماركسية التي كان ينبغي أن تقدِّم وسيلةً للهروب من قيام المجتمع
الشمولي، انتهى بها الأمر منتجةً لنمطها الخاص من الشمولية في الاتحاد السوفيتي. لم
يحاول «أدونو» و«هورکهایمر» وزملاؤهما أبدًا أن يدرسوا الدول البوليسية الوحشية
مثل «ألمانيا هتلر»، و«روسيا ستالين»، وما قد يكون بينهما من عوامل كثيرة مشتركة،
وكذلك ما يمكن أن يكون بينهما وبين القيم الرأسمالية من عوامل قليلة مشتركة، تلك
القيم التي من المفترض أنها مصدرُ كلِّ الشرور، ذلك ما لم توضحه النظرية
النقدية.
بدلًا من ذلك، فإنهم عندما واجهَتهم حقيقة الستالينية التي لا يمكن إنكارها، سمحوا
لأنفسهم باستخلاص نتيجة أكثر تشاؤمًا.
«أيُّ مجتمع قائم على النموذج الغربي، بصرف النظر عن أيديولوجيته الفعلية أو شخصية
حُكَّامه، يتقدَّم حتمًا نحو نوع من الشمولية الواضحة كما تبدَّت في رواية «جورج
أورويل»: «١٩٨٤م»؛ فحيثما يحكم العقل الذي لا روح له، لا بد أن يمدَّ الاستبدادُ
جذورَه، كما كانوا يؤكِّدون. هذا الاعتقاد، قادهم نحو نظرية «توينبي» عن تقارُب القوى
العظمى.»
على أنَّ ذلك التقارب أو الميل إلى الالتقاء لم يكن توجُّهًا مأمولًا أو مؤكَّدًا.
وبدلًا من ذلك، فإن الولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي، كان كلاهما نموذجًا
«لمجتمعات صناعية متقدِّمة» يدور في دولتَين شموليَّتَين، يمكن وضع إحداهما مكان
الأخرى. كانت المبادئ الديمقراطية الليبرالية والمساواة الماركسية مرآتَين للنخب
البيروقراطية الزائفة المشرفة عليها. الدولة البوليسية الشاملة هي النتيجة الطبيعية
للنموذج الغربي في الإنتاج الاقتصادي؛ حيث لا يوجد مجتمع صناعي متقدِّم يمكنه
الاحتفاظ بالسيطرة دون جهاز حكومي سرِّي، وما يصاحب ذلك من أعمال وحشية.
٤٠
هذه الرؤية المتشائمة لتقارب الحرب الباردة جاءت منسجمةً مع أفكار مفكِّر مارکسي
آخر، كان يقوم بالتدريس في «جامعة كولومبيا»، وهو «سي. رایت میلز»
C. Wright Mills، الذي سيصبح إلى جانب
«مارکیوز» و«أدورنو» واحدًا من المفكِّرين المعلِّمين في اليسار الجديد. تبدو
أعمالُه عند قراءتها خلاصةً وافية لأعمال «مدرسة فرانكفورت» و«بروکس آدمز». أهم كُتُبه
وأكثرها تأثيرًا وهو «نخبة السلطة» (۱۹٥۸م) يُشير إلى أخطار الدولة الصناعية
المتقدِّمة نفسها، ولكن بأسلوب أمريكي شديد الشك والارتياب في الآخرين، مغلَّفًا
بجنون العظمة (وهو الذي سوف يستخدمه المخرج السينمائي «أوليفر ستون» فيما بعد).
«میلز» يقدِّم الأرستقراطية الطبيعية الأنجلو ساكسونية في أمريكا على أنها مخندقة
وفي حالة دفاع، نخبة ذات ثراء قديم تُغلِّب مصلحتها الشخصية على أيِّ شيء آخر، رجال
أعمال وتكنوقراط وجنرالات وأدميرالات الحرب الباردة (كان «میلز» يكتب أثناء رئاسة
إیزنهاور)، ولأنهم كانوا مرتبطين بالثروة، وعلاقات المدرسة القديمة، «هارفارد»
و«بیل»، و«جوروتون»، و«وست بوینت»؛ فقد كانوا يؤثِّرون على صنع القرار الأمريكي في
المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية من خلال «إدارة سياسية،
٤١ منفردة شديدة القسوة».
ما كان «بروکس آدمز» قد حلم به: «ذات يوم سيُعيد العسكر تنظيمنا»، كان «میلز»
يزعم أنه قد تحقَّق، إلا أنَّ ذلك «المركب العسكري الصناعي» لم يكن أمريكيًّا
بالتحديد. كان يعبِّر عن طبيعة الدولة الصناعية الحديثة والغربية بالتالي. وكما كان
الحال في روسيا «ستالين»، كانت خطايا الولايات المتحدة تحت إدارة «إيزنهاور»
تشكِّل جزءًا من كلية تاريخية أوسع. كتب «میلز»: «هناك خطٌّ مستقيم تمامًا، يمضي
صاعدًا متخلِّلًا تاريخ الغرب، وهو أنَّ الظلم والاستغلال والعنف والدمار، إلى جانب
وسائل الإنتاج، تتزايد على نحو مطرد مع تزايد تمركزها.»
وعن طريق الإعلام الجماهيري المتلاعب بعقول الناس «اضمحلال السياسة كمنبر عام
وحقيقي لقرارات بديلة»، فقدان الاستقلال الذاتي، وتسليع الرغبات والأماني، قامت
«بنية السلطة» بتنظيم جميع جوانب المجتمع الأمريكي؛ لكي تُخفيَ سلطتها المناورة
المتلاعبة، فهي تجعل الناس يعتقدون أنهم يتخذون قراراتهم السياسية، والحقيقة أنَّ
تلك القرارات تُتَّخذ نيابة عنهم (وهو ما سوف يُطلَق عليه بعد ذلك: الموافقة
المفبركة).
٤٢
دور الأيديولوجیا مهمٌّ جدًّا في عملية الإخفاء والتمويه، وبالتالي سيكون بالغَ
الأهمية في عمل «الكلية» Totality.
«میلز» و«مدرسة فرانكفورت»، وورثتهم في اليسار الجديد، استخدموا مصطلح
«الأيديولوجيا» للإشارة إلى الطريقة التي يتخيَّل بها الناس عمل العالم في المجتمعات
الصناعية المتقدِّمة، في تعارضها مع الطريقة التي يعمل بها بالفعل. «کارل مانهايم»
Karl Mannheim، عالم الاقتصاد الذي كان يقوم
بالتدريس في جامعة فرانكفورت في العشرينيات، شرح كيف تساعد الأيديولوجيا في المجتمع
الصناعي على تنكُّر أو تخفِّي العلاقات الحقيقية في الإنتاج الصناعي، والصراع
الطبقي والسلطة السياسية؛ ففي حالة أمريكا مثلًا، توجِّه الأيديولوجيا الناس لكي
يتصوَّروا أنهم يتمتَّعون بسيطرة أكبر على حياتهم، وبفائض وفرة، وباختيارات
استهلاكية أوسع، وحراك اجتماعي وجغرافي أكبر، بينما هم في الحقيقة مستعبدون بشكل
دائم لمطالب الرأسمالية الحديثة.
والواقع أنَّ «مدرسة فرانكفورت» كانت تنظر إلى الأيديولوجيا كشبكة مساعدة ودعم
لتماسك المجتمع الصناعي، وأنَّ الجماهير لا بد أن تثور بدون الغمامة الأيديولوجية.
كتب «كارل مانهایم»
Karl Mannheim في حالة
معينة، يساعد اللاوعي الجمعي في جماعات بعينها، على إخفاء الحالة الحقيقية للمجتمع
سواء عنه أو عن الآخرين، وبالتالي فإنه يساعد على استقراره
٤٣ (ويؤكد على العبارة الأخيرة)، وكان المصطلح الذي استخدمه «س. رایت
میلز»، ومن بعده «مارکیوز»، لوصف تلك الأيديولوجيا الحاجبة، والتي تساعد على
الاستقرار، هو: المحافظة
٤٤⋆Conservatism .
كانت «المحافظة» الأمريكية قبل كل شيء، أيديولوجيا برجوازية. والحقيقة أنَّ كون
الفرد «محافظًا» أصبح يعني عند اليسار الجديد أن يكون «ليبراليًّا» بمفهوم أتباع
«نيتشة» في اليمين الألماني، كان يعني عقمًا مقصودًا إزاء فراغ الحياة الحديثة،
عقمًا في وجه الفساد والاضمحلال.
٤٥ الشيوعية تحت حكم «ستالين» فقدَت قدرتها على تعرية تلك الأيديولوجيا
الزائفة. وبدلًا من ذلك أنتجت أيديولوجيتها الزائفة الخاصة أو «الاشتراكية
السلطوية»، التي استخدمَتها لكي تسندَ مجتمعها الصناعي المضمحل، الآيل
للسقوط.
كان البديل الوحيد الباقي أمام الشمولية إذن، هو النظرية النقدية. لكن توقُّع
السقوط المفاجئ لعملية تجميع الحضارة الحديثة بكاملها تحت هجوم النظرية النقدية، لا
بد أن يكون توقُّعًا ساذجًا وعقيمًا. على أية حال، وبمنطق «جدل التنوير»، فإن فشل
الشيوعية كان يعني أنَّ التقدم للأمام؛ حيث إنَّ أيَّ امتداد للعقلانية
المنظَّمة، حتى الماركسية نفسها، لا يجلب سوى شكل آخر من شراك الموت: شرك العقلنة
والتجميع. المهرب الوحيد هو فعل النقد الفردي النيتشوي، والذي كان «هورکهایمر»
يسمِّيه «الديالكتيك السلبي»، والذي كان «ماركيوز» يسمِّيه «الرفض الكبير»،
مستعيدًا مصطلح السيرياليِّين الفرنسيِّين. كان ذلك هو القرار الواعي للمثقَّف: وهو ألَّا
يشارك في أيٍّ من قيم وأعراف المجتمع البرجوازي، كاحتجاج ضدَّ الحكم الكلي بالسلطة،
وهكذا يُعلن الفكر النقدي استقلاله، حتى عندما تحوِّل الرأسمالية الجماهير الذاهلة
إلى قطعان وجموع بلا عقل، أثناء تمهيدها للدكتاتورية والفاشية. المثقَّف يموضع
نفسه، بحيث لا يكون «منغرسًا بعمق»، أو مطيعًا منصاعًا، مثل الأيديولوجيِّين
الشموليِّين والفاشست للنظام السياسي، ولا متباعدًا أو مطيعًا مثل الليبراليِّين لنظام
ثقافي محتضر. وبدلًا من ذلك، فهو «سلبي» بمعنى الهجوم العنيف على حالة الوضع
الراهن. ولكن تلك ليست علامةً عقيمة أو إيماءة رمزية. العقيدة الرئيسية ﻟ «مدرسة
فرانكفورت» بكاملها، ولأشخاص بعدها مثل «ماركيوز» و«جورجن هابرماس»
Jurgen Habermas هي أنَّ كلمات الناقد
الراديكالي ليست لغوًا ولا ثرثرةً عديمة الجدوى، وإنما هي شكل مهم للعمل الاجتماعي،
لأن احتجاجه على الكلية
Totality يحافظ على إمكانية
وجود بديل في أذهان الناس.
٤٦ ويمكن أن يدرك المرء كيف أنَّ صورة البطل المتوحِّد المنشق على
الكنيسة. كان لها معنًى في ألمانيا النازية، ولكنها لم تكن تنطبق على واقع الولايات
المتحدة في الأربعينيات والخمسينيات، ناهيك عن أيام جمهورية «فيمر»، «ما قبل
الفاشية».
والحقيقة أنَّ إحدى مشكلات «فیمر» الأساسية، ربما كانت وفرة الكلمات النقدية
الزائدة عن الحد، والمتنكِّرة في لباس «حديث هام».
على أية حال، فإن الكلمات والأفعال بالنسبة ﻟ «مدرسة فرانكفورت»، كانت في
السلسلة المتصلة ذاتها. أصبح النقد اللفظي للمجتمع البرجوازي واجبًا أخلاقيًّا، حتى
وإن كان منطلقًا من بين الجدران الآمنة لقاعة الدرس، أو من فوق صفحات مجلة مدرسية
(وربما كان ذلك هو المفضَّل)، وحيث إنَّ الناقد السلبي (مثل «س. رایت میلز» في جامعة
كولومبيا، أو «هيربرت ماركيوز» في جامعة برانديز) قد أعلن استقلاله الروحي بالفعل
عن نظام اجتماعي وثقافي محتضر، لم يَعُد جزءًا منه، حتى وإن استمرَّ في تسديد فواتيره،
أو بعبارة «مدرسة فرانكفورت»: «لم يَعُد يعترف بسلطته».
الحضارة السلطوية: تأثير «فرويد»
ألَا يعتبر الفرد الذي يعمل بشكلٍ عاديٍّ وكافٍ وصحيح كمواطن في مجتمع مريض،
شخصًا مريضًا؟
هربرت ماركيوز
في النهاية، استقرت التشاؤمية التاريخية ﻟ «مدرسة فرانكفورت» على تطابق غير دقيق
بين «أمريكا» و«فيمر قبل النازية»، كلاهما كان ينظر إليه كمجتمع في مرحلة
الرأسمالية المتأخرة، مجتمع بلا حياة وبلا عقل، يتأرجح على حافة الدكتاتورية. وهنا
كان «سيجموند فرويد» مثلما كان «نيتشة». من النظرة الأولى، يبدو «فروید» نموذجًا
مدهشًا للهجوم على العقلانية الغربية وقيم الطبقة المتوسطة. كان «فروید» المثقَّف
الليبرالي اليهودي، فخورًا وشديدَ الثقة بمهنة الطب البرجوازية. كان يعتبر نظرياته
في التحليل النفسي جزءًا من الفكر الغربي السائد ونوعًا من العلم. وعند «مدرسة
فرانكفورت»، كانت أعمال «فرويد» لا تنتمي إلى العلم بالمرة، بل إنهم كانوا يعتبرونه
ناقدًا زميلًا، وواحدًا ممن اهتموا بدور اللاوعي، ويُلقي بظلٍّ كئيب على الوجود
الإنساني، مشابه لظلال روائيِّين مثل «ديستويفسکي» و«فرانز كافكا». وفي هذا الاتجاه
حدَّدت «مدرسة فرانكفورت» الطريق نحو بروز «فرويد» المستقبلي في النظرية الأدبية،
إلى جانب علم النفس.
٤٧
«إريك فروم» تعلَّم على المدرسة الفرويدية كمحلِّل نفساني. وفي أواخر العشرينيات
أصبح مهتمًّا بمزج الفرويدية بالماركسية ولم يكن أوَّلَ من فعل ذلك. كان «ولهلم ريش»
Wilhelm Reich قد قام بنفس المحاولة مما أثار
غضبَ واستياء «فرويد» الشديدين.
٤٨ لكن بينما يحدِّد «ریش» نفسه بالإصرار على أنَّ نهاية الرأسمالية تعني
نهاية العصاب، نجد أنَّ «فروم» وأنصاره في «معهد البحوث الاجتماعية» قد أعطوا دفعة
تحليلية أبعد لعملية المزج بين «فرويد» و«مارکس». حاولوا أن يصفوا علم النفس
الاجتماعي للرأسمالية المتأخرة، بكشف آثاره المشوَّهة المزعومة على الفرد والأسرة
وبين العمَّال بخاصة.
في عام ۱۹۳۷م كتب «فروم»: «كلما تدهور المجتمع اقتصاديًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا،
عظمت الفروق في البنية النفسية بين مختلف الطبقات.» الأسرة الحديثة مثل الرأسمالية
المتأخرة نفسها كانت «في أزمة»، كما كتب «فروم» و«أدورنو» في عملهما: «دراسات في
السلطة والأسرة». كانت الآثار واسعة وقاتلة وبخاصة على الفرد. الناس يخرجون من
الأسرة الحديثة مثل المصابين بشلل نفسي، وخاصة فيما يتعلَّق بتعاملهم مع السلطة
ورموز السلطة. الطاعة العمياء لمجموعة متنوعة من رموز السلطة يضع «أدورنو»
بينهم الآباء والأشخاص الأكبر سنًّا والقادة والقوى الخارقة للطبيعة … وهكذا تظهر
في مجتمع الرأسمالية المتأخرة، حيث يكون الناس قد أصبحوا مهيئين لتصديق أكاذيب
القابضين على السلطة، والتي يحاولون بها إخفاء استغلالهم وتلاعبهم.
٤٩
وبفضل «مدرسة فرانكفورت» ستُصبح «السلطة» كلمةً سيئة السمعة مثل كلمة «الاستعمار»
عند الماركسيِّين والتقدميِّين، إلا أنَّ السبب كان قليل الصلة بالسياسة عنه بنظرية
التحليل النفسي. وربما القول بنظرية الانحلال، وبينما كان التنوير يرى الاعتماد
على السلطة علامة تميز الثقافات البدائية، كان «فروم» و«هورکهایمر» يقولون بعكس
ذلك، وهو أنَّ البحث عن رموز السلطة هو الحالة الطبيعية للبشر في الغرب الحديث.
الناس عندما يشعرون بضعفهم وعقمهم الخاص في ظلِّ الرأسمالية المتأخرة، يتَّجهون
غريزيًّا نحو أولئك الذين يبدو أنهم يمثِّلون القوة والسلطة. كتب «هورکهایمر»:
«عندما يحترم الطفل في سلطة أبيه علاقة أخلاقية، وبالتالي يحب ما يُدرك عقله أنه
واقع، فإنه يمرُّ بأول تدريب له على علاقته بالسلطة البرجوازية».
٥٠ الأسرة الحديثة النمطية إذن تتضمَّن «حلًّا سادو-ماسوشي لعقدة أوديب»،
فتنتج مريضًا بالشلل وهو «الشخصية السلطوية»، كراهية الفرد للأب تؤجِّل وتبقى بدون
حلٍّ، وتُصبح بدل ذلك جذبًا نحو رموز أكثر سلطوية، ينصاع لهم ويطيعهم بلا تفكير. وهي
مثل الانحلال، صورة من صور الرُّجْعَى
(Atavism)، أو
العودة إلى صفات الأسلاف التي ابتعدت عنها الأنسال السابقة.
– استخدم «أدورنو» هذا المصطلح فيما بعد، وهو الأمر السائد والواضح في الطبقات
الدنيا.
٥١ الشخصية السلطوية تنظر إلى حركات الجماهير والقيادة الكاريزمية (مثل
هتلر وموسولیني) بحثًا عن شعور بالاتجاه والهدف، مثل «الإنسان في الزحام» عند «لي
بون»
Le Bon. وكما هو عند «لي بون» أيضًا، فإن هذا الارتداد الرجعي هو نفسه نتاج التقدم، أو بمعنًى
آخر نتاج للقوَى الاجتماعية-الاقتصادية للديمقراطية الطليقة وللحداثة غير المقيدة. المجتمع
البرجوازي الذي
يبدو وكأنه يمجِّد الاستقلال الذاتي الفردي، يولد العكس في الحقيقة. البرجوازية
الماسوشية وتوابعها من الطبقة العاملة يستسلمون سلبًا لمطالب سادتهم السياسيِّين
الساديِّين، كما يستسلمون لتقسيم العمل في الرأسمالية. كان «هور کهایمر» يقول — بأسًى:
«الأنماط البشرية السائدة اليوم لا تستطيع الوصول إلى جذور الأشياء … إنهم لا «يستطيعون
أن يفكروا نظريًّا، أو أن يتحرَّكوا أبعد من مجرَّد التسجيل البسيط للحقائق».» كان الاستنتاج
الحتمي عند «هورکهایمر» هو أنَّ «الغالبية العظمى من الناس
الذين يعيشون في المجتمع الرأسمالي «ليس لهم شخصية».» ويضيف «فروم»: «هذه
الديناميكية واسعة الانتشار في المجتمع الحديث، لدرجة أنَّ أغلب الناس في مجتمعنا،
«يعتبرون» الكائن البشري البرجوازي هو الكائن «العادي والطبيعي».»
٥٢
وقد عبَّر «فروم» جيدًا عن المعاني السياسية المتضمنة في ذلك في كتابه «الهروب
من الحرية» الذي نُشِر في عام ١٩٤١م، قبل دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية
الثانية مباشرة. «بعد تحرُّره من قيود مجتمع ما قبل الفردانية»، أو جماعته
الاجتماعية:
Gemeinschaft، فإن الكائن البشري
الحديث «لم يحصل على حريته بالمعنى الإيجابي لتحقيق ذاته الفردية، أو التعبير عن
قدراته الذهنية والعاطفية والحسية» وهو — بالتعبير الماركسي — مغترب. هذا الشعور
بالاغتراب دفع الجماهير والمواطنين الألمان إلى الخروج من مجتمعاتهم الصناعية نحو
حركات مثل الاشتراكية القومية، بدلًا من أن يحرِّروا أنفسهم من الاستغلال الاقتصادي
الذي هو السبب الأساسي لبؤسهم. وكان «فروم» يحذِّر زملاءه الأمريكيِّين: «في مجتمعنا
الخاص نحن مواجهون بالظاهرة نفسها، والتي هي تربة خصبة لقيام الفاشية في كل مكان:
تفاهة الفرد، وشعوره بالعجز التام.» المواطن الأمريكي الحديث حرٌّ فقط ليعمل شيئًا
من اثنين: «فهو يمكنه أن يتبع بخطوة منتظمة مثل جندي أو عامل على سير لا نهاية له،
أو يستطيع أن يسلك طريقه، ولكن شعوره بالاستقلالية والأهمية لا وجود له.»
٥٣،٥٤⋆
نظرية «فروم» عن «خوف» الإنسان الحديث «من الحرية»، وضعَت الأساس كذلك لأكبر طموح
حمله المعهد على عاتقه: «الشخصية السلطوية».
وبينما كانت الاستنتاجات السابقة لكلٍّ من «فروم» و«أدورنو» عن سيكولوجية
الرأسمالية المتأخرة مستمدةً من نماذج ألمانية، كان كتاب «الشخصية السلطوية»
مشروعًا أمريكيًّا؛ فقد احتكم قبل كلِّ شيء إلى المُثُل الأمريكية، موضِّحًا أنَّ الشخصية
السلطوية هي عدو «الحضارة الديمقراطية». صدر الكتاب في عام ١٩٤٨م، وكان ينظر إلى
الإطار الأمريكي بعد الحرب، حتى بالرغم من أنَّ أمريكا قد هزمت الفاشية في الحرب
العالمية الثانية، إلا أنَّ المؤلِّفَين كانَا يُحذِّران ويُنبِّهان إلى أنَّ خطر
انبعاثها كان ما يزال قائمًا. وذلك لأن التشوُّهات الشخصية التي سبَّبتها لم تختفِ
بعدُ. والواقع أنها كانت «كلية الوجود».
٥٥⋆ بهذا المعنى فإن رسالتهما كانت أيضًا — وضمنًا — حربًا باردة مضادة:
الفاشية، أكثر مما هي الشيوعية، هي الأشد خطرًا على القيم الأمريكية التقليدية في
عالم ما بعد الحرب.
٥٦
وفي انعطافة غير عادية، احتكم «أدورنو» وفريقه أيضًا إلى الذوق الأمریکي للطرق
الكمية في دراستهم، مقدِّمين «الشخصية السلطوية» كنموذج علمي اجتماعي مع درجة
عالية من التنبُّؤ، ولكن هذه الحُلَى العلمية الموضوعية كانت في الحقيقة
مضلِّلة.
كان كتاب «الشخصية السلطوية» ينطوي على تحذير شديد وتنبيه إلى أنَّ الفاشية كانت
تبحث عن وطن جديد لها في أمريكا نفسها، وكانت تلك الأخبار صادمةً لمؤلِّفي «جدل
التنوير»، وحيث إنَّ أمريكا كانت وطنَ القيم الحداثية السائدة، وطن البراجماتية
والعلم الوضعي، فلا بد من أن تصبح في النهاية أيضًا المركز السطحي لانزلاق الحضارة
الحديثة نحو الفاشية، ولكن هذه الأجندة الأوسع ظلَّت مخفيةً جيدًا.
في عام ۱۹۳۹م، كان كتاب «الشخصية السلطوية» يعتبر جزءًا من مشروع مشترك أكبر مع
«دراسة الرأي العام في بيرکلي»، واللجنة الأمريكية اليهودية التي تتناول موضوعَ
معاداة السامية، تلك القضية التي أدركت مدرسة فرانكفورت في وقت متأخر أنها كانت
مركزية في كل المرحلة النازية في ألمانيا.
٥٧ المشروع بُنيَ حول مجموعة من الاستبيانات التي حاولت أن ترسم صورة
«للشخصية الفاشية المحتملة» (الغريب أنه لم يكن لديهم أيُّ اهتمام بدراسة الفاشست
أنفسهم)، وكان من المفترض أن تعكس الإجابات «تلك التوجُّهات التي تظلُّ عميقةً نسبيًّا
داخل الشخصية»، أي التي ليست في متناول أيديولوجيات بعينها، وبخاصة تلك التي تركت
رعاياها عرضةً للتعبير عن الأفكار الفاشية أو «تقع تحت سيطرتها». كانت النتائج مسوغةً
للانزعاج. تحوَّلت معاداة السامية لتصبح الحافَّة الوحيدة المرئية لشخصية مختلة
وظيفيًّا، والتي تتجلَّی في كثير من التوجُّهات «المتمركزة حول العرق»، و«التقليدية»
في الجمهور الأمريكي العام، بالإضافة إلى توجُّهٍ مذعنٍ مقلق، نحو السُّلطة بكل
أشكالها.
وقد فسَّر «أدورنو» ذلك في تقديمه، مُبدِيًا دهشته: «بالرغم من تنويرنا المفترض،
فإن الأهواء العرقية والجنسية المنتشرة، قد كشفت عن بقاء «الرُّجعَى» المتضاربة
للشعوب القديمة» في المجتمع الحديث، بالرغم من أنَّ «أدورنو» كان قد انتهى لتوِّه من
محاجته في «جدل التنوير» بأن تلك الأهواء والتحيُّزات كانت جزءًا أساسيًّا من
المجتمع الحديث.
واتضح أنَّ السمات الأساسية في الشخصية الفاشستية المحتملة هي الالتزام الصارم
بالقيم السائدة (وخاصة تلك المتعلِّقة بالأخلاق والدين)، والاهتمام بألَّا يكون الشخص
متطفِّلًا في السلوك والمظهر، والتأكيد على الكفاءة والنظافة والنجاح. وباختصار هي
تلك السمات النمطية في المواطن الأمريكي المهذَّب والمقبول.
والواقع أنَّ تلك السمات، تُخفي تحتها «نظرةً تشاؤمية ومحتقرة للإنسانية» (ممثَّلة
بالموافقة على عبارة «مهما كانت الطبيعة البشرية، فسوف يكون هناك دائمًا حرب
وصراع»)، ومخاوف شديدة من النشاط الجنسي والنشاط العفوي، ومقاومة للجماعات الأخرى
المختلفة وللأقليات، وسرعة التأثُّر برموز السلطة.
وبكلمات أحدث مؤرِّخ للمشروع، فإن صاحب مثل هذه الشخصية السلطوية: «يوحِّد بين
نفسه وبين السلطة ويحتكم إلى الديمقراطية والأخلاق والعقلانية، ولكن لكي
يحطَّهما».
٥٨
لجأ «أدورنو» وباحثوه إلى «فرويد» في تشخيصهم لتلك الشخصية مختلَّة الوظائف. كل شيء
ناتج عن «أنا» ضعيفة، و«أنا عليا» خارجية تبريرية، وبالمصادفة أيضًا فإن تلك هي
الصفات الرئيسية للإنسان في المجتمع الصناعي الكبير. الشخصية السلطوية موجودة في
مجموعة من الأعمال التي ظهرت بعد الحرب، مثل كتاب «سارتر»: «تأملات في المسألة
اليهودية»، وكتاب «ديفيد ريزمان» David Reisman «الزحام الموحش»، ورواية «ألبرتو مورافيا»: «الممتثل» التي توصَّلت إلى أنَّ
الفاشية ومعاداة السامية كانتا تروقان للشخصيات المشوَّهة «المتوجِّهة نحو الغير»،
الضعيفة والمجرَّدة من الكمال الداخلي.
كان «أدورنو» وزملاؤه أيضًا يقومون بتجديد العلم الاجتماعي عند «لومبروزو» في
إطار يساري جديد. كان «الشذوذ» يُعرَف بسمات محدَّدة قابلة للقياس على ميزان
F (
F. للفاشية)، ثم تُقارن تلك السمات بنموذج يُفتَرض أنه للشخصية «العادية» أو الصحية.
ولكن بالرغم من كل عمليات القياس «العلمية» و«المعملية» والمخططات، على طريقة
«لومبرونو» و«جالتون»، سرعان ما اتضح للنقَّاد الجادِّين أنَّ عدد الذين أجابوا (وهم
ثلاثة آلاف)، وأنَّ اختيار المجموعات الأساسية كان عينةً غير دالة، وأنَّ البيانات لم
تكن دقيقة؛ ولذا كانت الدراسة عديمة القيمة. فما حدث مثلًا في عمليات المسح الصغيرة
للعمَّال الألمان في الثلاثينيات، والتي كانت أساسَ كتاب «السلطة والأسرة»، أن كانت
الأسئلة تُقدَّم بطريقة معينة، بحيث إنَّ أيَّ إجابة تعبِّر عن القيم التقليدية، كانت
تُفسَّر على أنها «سلطوية» (أي مشوَّهة)، وبالتالي فصاحبها «فاشستي محتمل». ومن
ناحية أخرى، فإن احتمال أن يكون شخصٌ ما تقدُّميًّا من الناحية السياسية وما يزال
سريعَ التأثُّر برموز السلطة، كان مستبعدًا تمامًا. أما الأشخاص الذين يميلون إلى
الأفكار اليسارية، فكان «يُبرهن» على أنهم أصحُّ عاطفيًّا وأسعد من نظرائهم
المحافظين، سواء في حياتهم الشخصية أو العامة. كان ذلك منعكسًا في صراحتهم،
و«قدرتهم على الحب»، وتعاطفهم مع الآخرين وفهمهم للواقع. هذه الصفات جعلتهم مؤيِّدين
للقضايا التقدمية أو الاشتراكية، رافضين للحركات السياسية السلطوية. وكان
«أدورنو» يقول: «إذا كان الخوف والدمار هما المصدران الرئيسيَّان للفاشية، فإن
«الإيروس» هو «مصدر الديمقراطية»، أو بمعنًى آخر: الاشتراكية.»
٥٩
عدد آخر من علماء الاجتماع والنقَّاد،
٦٠⋆ هدموا
ما جاء في «الشخصية السلطوية»، ولكن المصطلح — الشخصية السلطوية — استمرَّ ونجح في
استرضاء نقَّاد اليسار الجديد؛ فقد مكَّن الماركسي من اتِّهام خصومه سواء من
الليبراليِّين المعادين للشيوعية أو المحافظين بأنهم: إما «شواذ» أو «نازيون غير
واعين»، تمامًا كما كان المجرم عند «لومبروزو» «شخصًا مريضًا» متفسِّخًا.
أمريكا، طوطم الثقافة الديمقراطية الحديثة، كانت في الواقع «فاشية مستترة»، أو
كامنة، كان غياب حركة فاشية حقيقية في أمريكا، مثل غياب حركة «معاداة سامية» حقيقية
إلى حدٍّ بعيد علامة على المدى الذي وصل إليه الفساد. وكما عبَّر عن ذلك «هيربرت
ماركيوز»: «كوننا لا نستطيع أن نُشير إلى أيِّ واحد من اﻟ
SS، أو اﻟ
SA هنا، يعني ببساطة أنهم ليسوا ضروريِّين في
هذا البلد.»
٦١
في مقابل الشخصية السلطوية الامتثالية، كان هناك «انفتاح» الشخصية السليمة الذي
كان «إريك فروم» يحدِّده بالاعتراف بعدم وجود قيم أو سلطة أعلى من ذات الشخص.
«الإنسان هو مركز وهدف حياته». كان «فروم» يرفض أيَّ فكرة ترى أنَّ ذلك الوجود
المرتكز على الذات يمكن أن يؤدِّيَ إلى فوضى أو عدمية ثقافية. والعدمية كما كان
«نيتشة» قد أوضح تأتي نتيجة لضغط وقسر أخلاق الطبقة الوسطى وأعرافها على حيوية
الإنسان، وليس عدم وجودها، وبمجرد زوال تلك الضغوط تنطلق مصادر القوة العاطفية
والإبداع غير المحدودة، ولكن إذا كان «فروم» يعتقد أنَّ الإنسان الغربي ما يزال
قادرًا على إنقاذ نفسه وبناء «مجتمع معقول» (العنوان الذي وضعه كذيل لكتابه «الهرب
من الحرية» عام ١٩٦٤م)، فإن «أدورنو» لم يكن لديه هذا الوهم.
كان «أدورنو» قد أصبح مهووسًا بقلب الحضارة الحديثة المظلم، الذي كان أوَّل مَن
كشف عنه مع «هورکهایمر» في «جدل التنوير».
الحرب العالمية الثانية و«الهولوكوست» جعلتَا «أدورنو» يصل إلى نتيجة مؤدَّاها أنَّ
الإبادة الجماعية، مثل الفاشية، كانت «مخطَّطًا مطبوعًا» داخل حلم الحضارة الغربية
بالعقل والسلطة. التصنيف العقلاني للآخر يؤدِّي حتمًا إلى إبادة الآخر في هيئة
يهود وجماعات «هامشية» أخرى. كان «أدورنو» يقول بأسًى إنَّ المذبحة، هي عملية القتل
الطقوسي للحضارة. في المذبحة انقلبَت العقلانية الغربية على نفسها كما يحدث عادة في
حالة إيذاء النساء جسديًّا. «علامات العجز، الحركات المفاجئة غير المتسقة، الخوف
الحيواني، الارتباك، إيقاظ التعطش للدم». الأقوياء «الذين لا بد أن يدفعوا ثمن قوتهم
بالاغتراب عن الطبيعة، ولا بد أن يكبحوا خوفهم دائمًا»، ويحوِّلوه إلى غضب لا عقلاني،
يمكنهم أن يجدوا مخرجًا بالانقضاض على الضعاف لإشباع شهوتهم للدم. «عندما يسمعون
صرخة ضحاياهم مرارًا وتكرارًا، تلك الصرخة التي لا يجرءون هم أنفسهم على إطلاقها».
الجذر الحقيقي لهذا النوع من الخطاب المفرط في الحماس، لا يوجد في الماركسية، وإنما
في الخيال الألماني التجريبي
٦٢⋆
كانت الحضارة الصناعية تلوح الآن في الأفق مثل الغابة في رواية «كونراد»
Conrad «قلب الظلام»، متاهة معتمة لا يمكن
اجتيازها، مسكونة بالرعب البدائي والصور الوحشية (مثل باریس «بودلير» المضاءة
بالغاز، المسكونة بالهياكل العظمية والهامات، أو مدينة «الماهوجني» عند
بریخت).
على أنَّ قراءة «أدورنو» و«هورکهایمر» النهائية لمعاداة السامية، بعيدًا عن إبراز
رعب «الهولوكوست»، قد أفرغَتها فعلًا من معناها ومضمونها المحدَّدَين. معاداة النازية
للسامية لم تكن موجَّهةً ضدَّ اليهود في نهاية الأمر كما كانا يقولان، ولا كان سببُها
المباشر أيَّ شيء في الأيديولوجيا النازية أو المجتمع الألماني.
هذه النظرة تجاهلَت الدرجة التي قدَّم بها البرنامج النازي للمذبحة حلًّا
متطرِّفًا لما كان يبدو أزمة شديدة: خطر التلوُّث اليهودي والكارثة العرقية.
كان «الهولوكوست» موجودًا ضمنًا في كل نظريات التشاؤمية العرقية. «جوبينو» نفسه
شرح في «فصل المقال» كيف أنَّ الاضمحلال العرقي في روما كان يتمُّ «ضبطه» من وقت لآخر
أثناء دكتاتورية «سوللا» Sulla، عندما أمر
الطاغية — المغرم بالانتقام — بإقامة مذبحة لخصومه «کریمي المَحْتِد»، وبالمرة، يحصد
فيها السلسلة الضعيفة والأكثر فسادًا في الأرستقراطية الرومانية، كان «جوبينو» يجد
طرافةً في ذلك الموقف الغريب: رجل شرير، أنقذ مدينته دون قصد بعمل إجرامي جاهل. أما
بالنسبة ﻟ «هينرش هملر» Heinrich Himler ومساعديه فلم يكن في الأمر جهلٌ ولا مفارقة، ما هو الخيار الذي كان أمامهم لكي
يُنقذوا الجنس الآري من القوى المدمرة للحضارة؟ كان الشيء الوحيد المطلوب هو أن
يظلَّ «قويًّا وصلبًا»، كما كان «شبنجلر» يقول.
أما بالنسبة ﻟ «مدرسة فرانكفورت» فقد كان «الهولوكوست» عملًا من أعمال نظام صناعي
عقيم
٦٣ ومنتجاته الإنسانية الرجعية، التي تُوجِّه طاقاتها السادية نحو أيِّ شخص
مختلف أو غير محصَّن. بعد ذلك سيكتب «هيربرت مارکیوز»: «لم يكن عالم معسكرات
الاعتقال مجتمعًا وحشيًّا استثنائيًّا، ما رأيناه هناك … مثال على مجتمع الجحيم الذي
نغوص فيه كل يوم.»
٦٤
وهناك عبارة ﻟ «أدورنو» تُقتبَس دائمًا عند الكلام عن «الهولوكوست»، وهي أنه لا
يمكن أن يكون هناك شعرٌ بعد «أوشفتز». والحقيقة أنه كان قد توصَّل إلى ذلك الرأي قبل
«أوشفتز» بكثير، كما كان بطله «نيتشة»، وحتی «بروکس آدمز»، قد فعل عندما كتب:
«لا يمكن أن ينبت شعر في التربية الحديثة.»
وفي النهاية، فإن فظائع «أوشفتز» لم تكن نتيجةً للنازية أو معاداة السامية ولا حتى
للشخصية السلطوية. في مركزها السطحي، كانت هناك حضارة غربية «مريضة»، تضرب بشدة؛
لكي تُفسد أو تخرِّب كلَّ ما في قبضتها المهلكة.
«هيربرت مارکیوز»: وعد اليوتوبيا
صدر «جدل التنوير» متزامنًا تقريبًا مع يوم الغزو، الذي يحدِّد بداية النهاية
لإمبراطورية «فيمر». وفي خلال عام طهَّرت قوى الغرب الرأسمالية بقيادة الولايات
المتحدة وبريطانيا العظمى، أوروبا الغربية من الفاشية، وتراجعت ثورة اليمين وراء
الأفق الثقافي. وفي عام ١٩٤٩م، غادر «هورکهایمر» و«أدورنو» أمريكا، عائدَین إلى
ألمانيا. وبالرغم من ماركسيتهم المعلنة، إلا أنهما قرَّرا عدم الاستقرار في ألمانيا
الشرقية، عادَا إلى «فرانكفورت»، وهناك أعادَا تأسيسَ «معهد البحوث الاجتماعية»
للمرحلة الجديدة بعد الحرب. وبالرغم من انتهاء الكابوس النازي، إلا أنَّ تشاؤمية
«أدورنو» واكتئابه الشديد بشأن المستقبل كانَا أكثر عمقًا.
في عام ١٩٥١م، نشر مجموعة من التأملات والأقوال تُشبه كتاب «نيتشة» بعنوان:
Minima Moralia «تأملات من حياة معطوبة»،
كشف فيه عن عمق شعوره بالمرارة والبغض للجنس البشري. ذهب يأسُه إلى ما هو أبعد من
ذكرى «الهولوكوست» أو خطر الكارثة النووية. كتب يقول: إنَّ المجتمع الحديث قد أصبح
بلا معنًى أو قيمة بالمرة. كل العواطف والصفات الإنسانية قد تدهورت وانحطَّت لأنها
أصبحت جزءًا من كلٍّ رأسمالي واحد. الصداقة، الزواج، الكياسة، الشعور بالخصوصية،
الرحمة … كل ذلك انقرض. «احترام المخالطة الاجتماعية والمشاركة ليس سوى قناع لقبول
ضمني بكل ما هو لا إنساني». كانت الأمور سيئةً لدرجة أنَّ «أدورنو» كان يشعر بحنين
لمرحلة برجوازية سابقة قبل التكنولوجيا الواسعة والتليفزيون. «كل ما كان جيدًا
ومقبولًا في القيم البرجوازية ذات يوم، مثل: الاستقلالية والمثابرة وبُعْد النظر
والحذر، قد تمَّ إفساده تمامًا». حتى الإيمان الليبرالي الكلاسيكي بالملكية الفردية
كان يتمُّ تدميره، منذ أن قلَّل تغلغل السلع في المجتمع الاستهلاكي من الشعور
بالكبرياء في الملكية. وبدلًا من ذلك كانت كل السلع الاستهلاكية، كما كان «أدورنو»
يعتقد، تدلُّ على «المعاملة الفاشية السيئة والعنيفة». أبواب السيارات لا بد من
«صفقها بقوة» لكي تقفل، نوافذ الزجاج المنزلقة لا بد من دفعها بعنف، (على خلاف
نوافذ الماضي ذات المزلاج البسيط السلس)، كل هذه التكنولوجيات الحديثة جعلت الشخصية
الإنسانية وحشية. كان يتساءل: «أين هو ذلك الذي لا تُغريه قوةُ سيارته بكنس هوام
الشوارع في طريقة …؟ المشاة، الأطفال، حتى راكبي الدراجات».
٦٥
وبينما وقع «أدورنو» في يأسٍ عميق وحادٍّ مثل «هنري آدمز» — كان يقول بأسًى إنَّ
المثقَّف لا بد أن يعيش «بعار أن ما زال لديه هواء يتنفَّسه في الجحيم»
٦٦⋆ — نجد أنَّ زميله الأصغر «هيربرت ماركيوز» يتخذ موقفًا مختلفًا.
مثل «أدورنو» و«هورکهایمر»، سوف يؤكِّد «ماركيوز» على الموت الحتمي للغرب بيده،
ليس بسبب الشمولية (بالرغم من أنَّ ذلك كان أيضًا حتميًّا ومهمًّا)، بقدر ما هو بسبب
الفائض المادي المربك. ولكنه سوف يتنبَّأ كذلك بما سيجيء لاحقًا: نظامٌ ثقافي جدید
مبنيٌّ على ما كانت «مدرسة فرانكفورت» الباكرة تُطلق عليه «تمرُّد الطبيعة». هذه
النبوءة ستجعل من «ماركيوز» واحدًا من نجوم الحركة الراديكالية واليسار الجديد في
ستينيات القرن العشرين، كما ستجعل منه المتشائم الثقافي الأوَّل في «مدرسة
فرانكفورت».
كان تمرُّد الطبيعة هو الثمن الاجتماعي الذي دفعَته الحضارة لقاءَ كبحِها الشديد
لغريزة الحياة. وكان «هورکهایمر» قد أعلن في كتابه «أُفُول العقل» أنَّ انتصار
الحضارة قد أصبح كاملًا لدرجة أنه لا يبدو حقيقيًّا. ومن هنا فإن «التكيُّف في
زماننا يتضمَّن عنصرًا من الرفض والغضب المكتوم».
٦٧ والنتيجة، هبَّاتٌ متقطعة للاعقلانية وعلى أشكال مختلفة، والمثال
الدال على ذلك هو معاداة السامية، ولكن هناك أيضًا العنف والإجرام بمختلف
صورهما.
تمرُّد الطبيعة أصبح المفصلة التي تفتح عليها الحضارة العقلانية بابها على
نقيضها، أي على بديل لها. هكذا ودون تعمد. كانت تلك هي الإمكانية التي أمسك بها
«مارکیوز» ليبنيَ مستقبلًا إنسانيًّا جديدًا.
كانت فلسفة «ماركيوز» تتضمَّن جرعات ذكية وعنيفة، زوَّدها بها مفكرون ألمان من ذوي
الوزن الثقيل مثل «هيجل» و«مارتن هيدجر»، بالإضافة إلى «مارکس» و«فروید».
٦٨
ولكن الواقع أنَّ ميول «ماركيوز» الحقيقية لم تكن نحو الفلسفة الألمانية الرسمية،
وإنما نحو «عصيان الأبناء لآبائهم»، في جيله من الشباب الألماني قبل عام ١٩١٤م.
«ماركيوز» كتب كلَّ أعماله المهمَّة في السنوات التالية للحرب العالمية الثانية، وكانت
تحمل وجهة النظر الخرقاء المهاجمة للمعتقدات، عند المتمرِّد التعبيري في أعمال
«هازينكليفر» Hasenclever
، و«جورج هيم» Georg Heym، و«برتولد برخت» Bertold Brecht. علاقة «ماركيوز» ﺑ «مدرسة
فرانكفورت» كانت مشابهةً لعلاقة «مارکیوس جارفي» Marcus
Garvy، و«دبليو إي بي دو بوا»: W. E. B.
de Bois في جوانب كثيرة. كانت تتكوَّن من أخذ بعض الأفكار
الرئيسية وتطويرها إلى أقصى مدى. كانت الفكرة الأولى هي اختفاء البروليتاريا
الثورية على يد الثقافة البرجوازية الخرقاء. «ماركيوز» کتب وشرح وتكلَّم بقوة عن هذا
الموضوع في أشهر أعماله وأكثرها انتشارًا، وهو «الإنسان ذو البعد الواحد» (١٩٦٤م)
والذي يعتبر إلى حدٍّ بعيد، تكبيرًا للصورة القاتمة عن طبيعة الرأسمالية المتأخرة،
كما جاءت في «جدل التنوير»، وهو ما كان يشير إليه الآخرون ﺑ «مجتمع الوفرة»
و«الحضارة ما بعد الصناعية». الحضارة المدمِّرة للروح تحوَّلت إلى «المجتمع
الاستهلاكي» الذي يُخفي طبيعتها القمعية تحت وفرة من السلع والخدمات.
وكما هو الحال في الرأسمالية المتأخِّرة المجمعة، فإن ما قد يبدو أنه يزيد من
الحرية الشخصية ليس سوى عكس ذلك في الحقيقة: الطبقة الوسطى والعمَّال يظلُّون
غالبًا في غيبوبتهم، غير واعين بما هم فيه من تعاسة. وعلى أية حال، فإن «امتداد
الاستغلال إلى قطاع أكبر من السكان، مصحوبًا بمستوى معيشة أعلى، هو الحقيقة الكامنة
خلف واجهة المجتمع الاستهلاکي».
٦٩
کتب «ماركيوز»: «في مجتمع الوفرة، تكون الرأسمالية قد نالت من نفسها.» ضحيتها
المتفسِّخة هي المستهلك الذي لا وجهة له ولا خيار لديه، والذي كان «فروم»
Fromm قد وصفه قبل عشرين عامًا بأنه يعيش «تحت
وهم أنه يعرف ما يريد، بينما الحقيقة هي أنه يريد ما يفترض أنه يريده»، والذي
يبدِّد وقته في شراء منتجات «تُوحي له وتتلاعب به».
«النزعة الاستهلاكية» كما كتب «مارکیوز»، «تُنمِّي وعيًا زائفًا محصَّنًا ضدَّ
زيفها»، خاصة لأنها تُشعر بأنها جيدة، وتحذِّر ضحيتها ضدَّ التفكير الأعمق، ومثل
برجوازية «هورکهایمر» فإن المستهلك يتعلَّم أن يتعرف فقط على الحقائق السطحية
والمظاهر الخارجية، وليس على الحقيقة الاجتماعية تحتها.
٧٠
ويقول «ماركيوز»: «وهكذا ينشأ نمط من التفكير والسلوك ذي البعد الواحد»، وهو الذي
يميِّز الغرب، «الناس يتعرَّفون على أنفسهم في سلعهم، يجدون أرواحهم في سياراتهم
وأجهزة «الهاي فاي» … الميكانيزم الذي يربط الفرد بمجتمعه قد تغيَّر، والتنظيم
الاجتماعي يجد مرساته في الحاجات الجديدة التي خلقها.»
٧١ هذا التنظيم الاجتماعي الاستغلالي يأخذ أشكالًا غير متوقعة، أحدها
دولة الرفاهة التي تُطعم الفقراء جيدًا عندما يجب أن يكونوا جوعى، وفي الاضطرابات
التي تسبق الثورة.
٧٢
والثاني هو «التسامح القمعي» تجاه الجماعات المنشقَّة، والذي بواسطته يبسط المجتمع
الليبرالي حريات ليبرالية للنقَّاد بطريقة تجعله يُحَيِّد رفضهم له. وهذا يُمَكِّن
المجتمع الليبرالي مثلًا من أن يُسكِت الأعداء الألداء مثل «مارکیوز» بنشر
أعمالهم. هذه الاستراتيجية تجعل أفكاره غير فعَّالة (حيث إنَّ كلماته قد تجعله يبدو
غريبًا وشاذًّا)، بينما مراقبة أعماله والقبض علية قد تجعل منه شهيدًا. «جان بول
سارتر» واجه المشكلة نفسها بسبب الوقت الذي كان يُمنَح له في الراديو والتليفزيون
المملوكَين للدولة.
التسامح مع وجهات النظر الأخرى في عصر الاتصال الجماهيري كشف عن وجه الاستبداد
السياسي بشكل جديد: «الوجه الذي قد يتناسب مع «تعدُّدية» الأحزاب والصحف وقوى
التوازن … إلخ»؛ ذلك لأن ما يُسمَّى بالمجتمع الليبرالي هو في الحقيقة شكل جديد من
أشكال الدولة الشمولية، وكما يقول «ماركيوز»: «حيث إنَّ الشمولية ليست فقط عمليةَ ربط
سیاسي إرهابي للمجتمع، وإنما هي أيضًا عملية ربط تقني اقتصادي، يعمل من خلال
التلاعب المتقن باحتياجات الناس.» وعن طريق هذه الأساليب الماكرة، يستطيع المجتمع
الاستهلاكي إذن أن يبنيَ نظام سيطرة كاملة. والنتيجة هي أنَّ «حالة من اللاحرية
المريحة، الديمقراطية المعقولة الهادئة، تسود في الحضارة المتقدِّمة صناعيًّا، وتُصبح
رمزًا للتقدُّم التكنولوجي».
٧٣
كانت تلك في الواقع هي الطبيعة المتناقضة للمجتمع الحديث، والتي دفعت بكل نقَّاد
«فرانكفورت» إلى حالة من الارتباك، فهي تجعل الاستبداد يبدو كأنه حرية، والفقر
كأنه وفرة ورغد، إلا أنها في الوقت نفسه سلطوية مثل نظيرتها السوفيتية
الستالينية.
وإذا كان كتاب «الإنسان ذو البعد الواحد» قد بسط تشاؤمية «هورکهایمر»، فإن کتاب
«الإيروس والحضارة» (١٩٥٥م) قد أعاد تدويرَ «فرويد» الماركسي عند «إريك فروم»
والشخصية السلطوية. «مارکیوز» استغل غموض مصطلح «القمع» الذي يمكن أن يُستَخدم
بالمعنى السياسي، بينما هو المستخدم أيضًا للميكانزم النفسي في نظرية «فرويد» عن
الشخصية، ولكن «ماركيوز» — وبكل بساطة — كان يُصرُّ على أنهما في الحقيقة شيء واحد.
كان «مارکیوز» يقول إنَّ الحضارة قامت على القمع فعلًا، كما كان «فرويد» يزعم في
كتابه «الحضارة ومساوئها»، ولكن خطأ «فروید» كان في افتراضه أنَّ الشكل الذي اتخذَته
الحضارة الغربية بإعلائها للغرائز الحيوية من خلال «العمل البطيء والمنهجي»، و
«تأجيل الإشباع غير المرضي»، كان هو الشكل الوحيد الممكن للحضارة.
٧٤ «فرويد» فشل في أن يرى أنَّ ذلك القمع كان الناتجَ المميز لحضارة
رأسمالية.
ويقول «مارکیوز» إنَّ هناك حضارة غير قمعية ممكنة، ولكنها كامنة في لا وعي
الإنسان، يمكن أن تنطلق فيها غريزة الحياة … الإيروس … وتتحرَّر من قيودها. من خلال
انتشار الأساليب الأوتوماتيكية الحديثة مثلًا، فإن الآلة تسمح «بإشباع الحاجات بدون
ألم»، وتجعل «تخفيض يوم العمل» ممكنًا وإلى أدنى حدٍّ، حتى لا تمنع تطوير الإنسان
لذاته. و«تحرير الإيروس هذا، قد يخلق علاقات عمل جديدة وقوية»، كما كان «مارکیوز»
يتصوَّر، ولن تكون هناك ضرورة للاستغلال.
٧٥
وباختصار، فإن التكنولوجيا قد تنقلب على سيدها وتمحو الرأسمالية، وهي نتيجة ليست
بعيدةً عن تلك التي كانت لدى «أوزوالد شبنجلر» شقيق الروح اليميني ﻟ
«مارکیوز».
«العمليات التكنولوجية للميكنة والتوحيد القياسي، يمكن أن تُطلق طاقة الفرد نحو
عالم الحرية المجهولة». الوجود الإنساني ذاته يمكن أن يتغيَّر تغيُّرًا أساسيًّا،
«الفرد سيصبح حرًّا ليمارس سلطته الذاتية على عالم سيصبح ملْكَه بالكامل».
٧٦ وبفضل التكنولوجيا سيختفي عامل «مارکس» المغترب، ويحلُّ محلَّه إنسانٌ
جديد: فرد متكامل يحمل الكثير من ملامح الفلاح الألماني غير المتخصِّص «عند: فردریش
راتزل»، ومن الشعب الأسود عند «دبليو إي بي دو بوا». ويفسِّر «مارکیوز» ذلك:
«ولکي يصبح العلم والتكنولوجيا وسيلتَين من أجل الحرية، فلا بد أن يُغيِّرا
توجُّهاتِهما وأهدافَهما الحالية. وبدلًا من استخدامهما لعمل أو صنع الأشياء، يجب أن
يُستخدَما من أجل تعزيز «الحساسية الجديدة – متطلبات غرائز الحياة».»
الإنسان الجديد يخطو نحو حضارة غير قمعية، لا تُنتج شيئًا سوى دورة من الرضا
الذاتي لا تنتهي، قد تبدو تلك يوتوبيا بعيدة المنال أو جنة اشتراكية خالية، ولكن
مصطلح «یوتوبیا» كان مصطلحًا إيجابيًّا عند «ماركيوز». لم تكن اليوتوبيا خيالًا
مضلِّلًا للذات، ولكنه عملية تعرية يقوم بها العقل النقدي لنظام اجتماعي محتضر،
٧٧ ويقوم بها على أساس حقيقي أكثر عمقًا مما هو إمبيريقي.
٧٨ وبالطبع فإن تحقيق «وعد اليوتوبيا» سيتطلَّب تخفيضًا لمستوى المعيشة
وبخاصة بالنسبة للأغنياء، ولكنه لا يكفي «ليكون فاعلًا ضدَّ التقدم في الحرية».
إلا أنه قد يتطلَّب إطاحةً كاملة بالمصالح الاقتصادية والمؤسسات السياسية للمجتمع
المتقدِّم صناعيًّا، وكذلك بالأيديولوجيا التي كانت وراءها.
ومثل كلِّ بقية أعضاء «مدرسة فرانكفورت»، كان «مارکیوز» لا يرى أملًا في الثورة من
قِبَل الطبقة العاملة. كان بدل ذلك، يتطلَّع إلى الجماعات المهمَّشة المستبعدة من
المجتمع الاستهلاكي، والتي كانت بالتالي محصَّنةً ضدَّ تملقاته: «طبقة سفلية من
المنبوذين من المجتمع والخارجين عليه، المستغلين والمضطهدين من الأجناس والألوان
الأخرى، العاطلين عن العمل والعاجزين عنه».
٧٩ «مارکس» نفسه كان يُطلق على تلك الجماعة الأشبه بالغوغاء:
«البروليتاريا الرثَّة»، أدوات ردِّ الفعل الديماجوجي، ولكن هؤلاء أصبحوا أملَ
«ماركيوز» الأخير. في مقاله عن «التحرُّر» (١٩٦٩م) استنفر «ماركيوز» تحالفًا من
«الشباب والإنتلجنتسيا» والسود، ومتلقِّي المعونات الاجتماعية، وثُوَّار العالم
الثالث، وطلَّاب اليسار الجديد الذين «سيكسرون قيود الظلم والقسوة والصمت التاريخي».
«إنَّ صراع الطبقات المسلَّح يدور خارج السياق الرئيسي في المجتمع الغربي، هو في
الشارع والجيتوهات وحقول الأرز في آسيا وجبال أمريكا اللاتينية».
٨٠ «الثورة الكوبية وثوَّار «الفيت كونج» أثبتوا أنَّ ذلك يمكن أن يحدث»
كما كتب «مارکیوز» في عام ١٩٦٨م.
«هناك روح معنوية، إرادة، إنسانية، وإيمان يمكن أن يُقاوم ويروِّع القوة
التكنولوجية والاقتصادية الهائلة للتوسُّع الرأسمالي»، والتي كان يسمِّيها ﺑ «وحش
الوفرة».
٨١
ثورة الطلَّاب في الستينيات لم تحرِّك ساكنًا لدى الحرس القديم في «مدرسة
فرانكفورت». لم يتحمَّسوا لها. عندما قام الطلاب بأعمال الشغب والفوضى في قاعات
الدرس في «فرانكفورت»، لم يتردَّد «أدورنو» في طلب إلقاء القبض عليهم، كما وصفهم
«هورکهایمر» بأنهم «فاشيو الجناح اليساري». لكن غرائز حركة الشباب النيتشوية عند
«مارکیوز» جعلَته يحتضن مسيرات المعارضة لحرب فيتنام، ويسجلها في قضيته الثقافية
الخاصة. كان يرى فيها «حساسية جديدة» تطيح بالوعود القديمة لمجتمع استهلاكي مريض.
وكما قال في مقابلة معه: «المجتمع يكون مريضًا عندما لا تسمح مؤسساته وعلاقاته
الأساسية بالتطوُّر الأمثل لحاجات الفرد.»
٨٢ وكان يعني أمريكا الرأسمالية، إلا أنه بحلول عام ۱۹۷۰م، عرف
«ماركيوز» وكوادره الشبابية أنَّ أمريكا المتفسِّخة المجرَّدة من الروح لن تنهار من
«أول لمسة»، وأدركوا، كما عبَّر عن ذلك أحدُ كتَّاب سيرته المعجبين به، أنهم كانوا
يواجهون «صراعًا طويلًا وصعبًا لتغيير المجتمع القائم». كانت هناك صعوبة واحدة
تتمثَّل في عدم لباقة وقلة ذوق حلفائه الثوريِّين المفترضين. مرَّة عندما كان
«ماركيوز» يتكلَّم في مؤتمر الدارسين الاشتراكيِّين في نيويورك عن: «الراديكاليون
والهيبيز: استجابات الشباب للمجتمع الصناعي»، اندفع «أبي هوفمان»
Abbi Hoffman وهو يرتدي ملابس الكاوبوي،
مُدجَّجًا بمسدساته، وتقدَّم نحو المنصَّة وأشعل غليونًا وراح يدخن الأفيون، وطلب من
داعية «الإيروس» أن يتوقَّف عن الكلام ليدخِّن معه.
٨٣
شيء آخر، وهو آراء «ماركيوز» العنيفة المتعنتة المتعلِّقة بالسياسة، وهي آراء
أقل وصف لها هو أنها «سلطوية». ومثل «شبنجلر»، كان «مارکیوز» يُكِنُّ احتقارًا شديدًا
لعمليات الديمقراطية العادية. اليوتوبیا الجديدة التي جاء بها، لم تترك مجالًا
للحوار أو النقاش. المجتمع الأمريكي كان قريبًا جدًّا من الفاشية الواضحة، كما كتب
في عام ١٩٦٨م، وكان في أزمة خطيرة لدرجة أن دماره الكامل كان قاب قوسين. أمريكا
والغرب يعيشان «حالة طوارئ» يتمُّ فيها تبريرُ «تعليق حق حرية التعبير والاجتماع».
وكما قال لأحد مراسلي إذاعة اﻟ «بي بي سي» في عام ١٩٦٨م: لقد حان الوقت لسحب
«حق حرية التعبير والاجتماع من الجماعات والحركات التي تنتهج سياساتٍ عدوانيةً،
وترمي إلى التسليح والشوفينية والتمييز على أساس عرقي أو ديني، أو التي تعارض نشْرَ
الخدمات العامة والضمان الاجتماعي والرعاية الصحية … إلخ».
في كتابه «نقد التسامح الخالص»، أضاف أنه على عكس «المبدأ الليبرالي المقدَّس»
الذي يعطي وقتًا مساويًا للجانب الآخر في المناظرة السياسية، فإن هناك قضايا
«لا يوجد فيها جانب آخر»؛ حيث يكون «الجانب الآخر» «رجعيًّا»، ويمكن أن يُعرقل أيَّ
تقدُّم ممكن في الظرف الإنساني.
٨٤
مَیلُ «ماركيوز» لحالة الطوارئ، يحمل تشابهًا مقلقًا مع تبرير «هتلر» لأحكام حالة
الطوارئ في عام ۱۹۳۳م، وهو تشابهٌ ليس من قبيل المصادفة، فهو مثل نظرائه من أصحاب
التشاؤمية الثقافية، يقف على يمين الثورة الألمانية. كان ينتظر على أحرِّ من الجمر
قيامَ نظامٍ ثقافيٍّ جديد من بين أنقاض وبقايا الغرب الرأسمالي الليبرالي
القديم.
وراء كلِّ نبيٍّ من أنبياء الاضمحلال تلوح «رؤیا» تقدُّم، وهذا على نحوٍ خاصٍّ يضمُّ
دعاةَ
التشاؤمية الثقافية. في حالة «ماركيوز» وحلفائه الأيديولوجيِّين دعاة «الثقافة
المضادة»، كان التقدم يعني برنامجًا كاسحًا لتحقيق الذات، يمتدُّ إلى ما وراء كلِّ
الحدود أو التابوهات في المجتمع الغربي النمطي أو «العادي» (الذي كان يُعرف الآن
بأنه مريض): النوع، الطبقة، العرق، الأفضلية الجنسية. التحرُّر الإنساني لن يؤدِّيَ
فقط إلى موت المجتمع الاستهلاكي وبنية السلطة عند «سي. رایت مليز»
C. Wright Mills. بل إنه سوف يضع نهايةً لكل
أيديولوجية ومؤسسة وهويَّة زائفة فرضها الغرب الحديث على ضحاياه المنكودين. كان
«عالم الخطاب والسلوك القائم» — كما يُطلق عليه «مارکیوز» — يتطلَّب «نفيًا»
راديكاليًّا، ومراجعة بقدر الديمقراطية التمثيلية والرأسمالية؛ حيث إنهما كانا أيضًا
جزأين من نفس الكل.
عندما مات «مارکیوز» في عام ١٩٧٥م، لم تكن المجتمعات الأمريكية والغربية قد
تحوَّلت بنفس الأساليب التي كان هو وغيره من اليسار الجديد يتمنَّون. إلا أنه قبل
موته، كان قد رأى إمكانية أخرى للنفي داخل النظام. كانت تلك هي الجامعة في أمريكا
الوفرة بعد الستينيات. مدارس مثل «بیرکلي»، و«برانديز»، و«كولومبيا» كانت تعمل كقواعد
عمليات لأفكار «ماركيوز»، وكان يشكُّ في أنها ستكون في المستقبل مرفأً آمنًا ليسار
ثقافي مضاد، أثناء ما كان يسمِّيه الراديكالي الألماني «رودي داتسشکي»
Rudi Dutschke: «المسيرة الطويلة عبر
المؤسسات». في أواخر حياته كان ماركيوز مهتمًّا بالحركة النسوية
feminism، وكان يؤيِّد تعيينَ منظِّريها، وكذلك
الراديكاليِّين السياسيِّين في المناصب الأكاديمية. وعندما سأله أحدُ المحاورين في عام
١٩٧٤م عمَّا إذا كان اليسار الجديد قد مات بعد «ووتر جيت» والانسحاب الأمريكي
أجابه:
«لا أعتقد أنه مات، أحسب أنه سينبعث في الجامعات الأمريكية.»
٨٥ وهذه النبوءة، على الأقل، تحقَّقت.