نماذج ومقتطفات لبعض ما نُشر عن المسرحيات المترجمة
(١) صحيفة «نور إكلير» (شمال فرنسا)١
«إن مسرح توفيق الحكيم قد فرض علينا — نحن الغربيين — الالتفات إليه … إن رسالة توفيق الحكيم، وإن كانت في نتائجها النهائية لا تختلف كثيرًا عما نهدف إليه، وما برح يشغلنا منذ أعوام، إلا أنها في المجال المسرحي تُعبِّر عن عقيدة قديمة للعالم العربي، عقيدة طالما سخر منها — بغير وجه حق — كثيرٌ من الأوروبيين، إن مأساة الحياة لَتكشف عن عجز أساسي في الإنسان أمام مصيره.»
(٢) روبير كيمب (عضو الأكاديمية الفرنسية، باريس)
«لقد قرأت المسرحيات العشر (في المجلد الأول) لتوفيق الحكيم؛ بل وأعدت قراءة مسرحيتين منها. وإني لأُعلن بكل ما في نفسي من إخلاص أني وجدتها كلها بالغة الأهمية. وكم أتمنى لو ظفِرنا — ولو بين الحين والحين — ضِمن ما يَرِد إلى مسرح «الكوميدي فرانسير» من نصوص بمثل هذه الثروة في الفكر والروعة في الشكل، إن توفيق الحكيم يملك موهبة الرمز والمجاز، ويستخدمها بفخامة. وإني بغير تردد أؤكد أن القيمة العُليا نراها واضحةً في المجلد كله.»
(٣) مجلة «رفليه» (جنوب فرنسا)
«عشر مسرحيات (المجلد الأول) بعضها سيبقى بين الأعمال الخالدة للفن المسرحي.»
(٤) صحيفة «لينوفيل ليتِيرِير» (باريس)
«المسرحيات التسع الأخرى في «المجلد الأول» بعضها، على اختلاف منابع وحيها، تُردد تلك النغمةَ الخالدة التي تُراود المؤلف: «عجز الإنسان أمام مصيره».»
(٥) صحيفة «ليبر بلجيك» (بلجيكا)
«بينما «بيتس» في جوهره شاعر، فإن «الحكيم» ينتمي إلى الأخلاقيين؛ فهو حريص على تتبُّع الإنسان في مهاويه وشياطينه … إن فن هذا الكاتب المسرحي يلقي تحت إضاءة محكمة ما في عصرنا من شخصيات عظيمة وحقيرة.»
(٦) صحيفة «لاتريبون دي جنيف» (سويسرا)
«إن هذه المجموعة (من المجلد الثاني) تنقسم إلى ثلاثة أجزاء: المسرح السياسي، والمسرح الفكاهي، والمسرح التراجيدي … إن توفيق الحكيم لذو صنعة وخيال. وإننا لَنأمُل لمسرحيات كهذه أن يكون لها نظارة كثيرون، وليس قُراء فقط؛ فهي جديرة بالتمثيل فوق مسارحنا.»
(٧) صحيفة «جازيت دي لوزان» (سويسرا)
«لقد كشف لنا «المجلد الأول» عن قوة السخرية لدى الحكيم؛ بل وعلى الأخص عن مَلَكاته الشعرية. وها هي مجموعة «المجلد الثاني» قد ظهرت … إنه يكتب بحذق، ويرسم الصور بدقة وترف، وبروح فكِهة نفَّاذة.»
(٨) صحيفة «ريبلكان لورين» (اللورين)
«إنها (المجلد الثاني) مجموعة ساحرة، تنطوي على فلسفة لا ادعاءَ فيها، مفعمة بروح التفاؤل والفكاهة المستمدة بعناية من الواقع.»
(٩) مجلة «يوفوليا» (باريس)
«إن أغنية الموت (في المجلد الثاني) تُحفة فنية حقيقية، يجب أن تُوضع في مكان الشرف من مسرح الثقافة العصرية … إنها الحكم الدامغ على الأحقاد الوحشية، وعلى المعارك المجنونة، وعلى الجهل والأفكار الخاطئة المتأصلة التي تطيل أمد الشقاء البشري … هذه المأساة إن هي إلا احتجاج أليم على مصير يُلح في إنماء الأكاذيب التي تقتل.»
(١٠) مجلة راديو تايمز (لندن)
١٨ مارس ١٩٥٥م.
(١١) مرجريت ليتون وجون جلجود في (شهرزاد)
هذه القصة القديمة أصبحت لها نهاية جديدة في مسرحية توفيق الحكيم عن شهرزاد والملك الذي أَسَرَته بقصصها … ويعرض هنا «ريتشارد بنيت» هذه المسرحية التي سيقدمها البرنامج الثالث يومي الإثنين والجمعة، بعد أن نُقلت إلى الإنجليزية:
تبدأ مسرحية شهرزاد لتوفيق الحكيم صباح اليوم التالي للألف ليلة وليلة، وقد قصَّت جميع الحكايات المعروفة، والملك شهريار متبرِّم ضَجِر، يخشى رعاياه أن يكون قد أُصيب بالجنون، ويرى الوزير أن حيرة الملك مَبعَثُها الحب لزوجته شهرزاد التي يحبها الوزير نفسه حبًّا شريفًا.
أما الملك فهو في نظر شهرزاد ما زال الطفل المشاكس، الخطر أحيانًا، الذي يردد: «ليس في الحياة من جديد … استنفدت كل شيء … ما قيمة عمري الباقي … لقد استمتعت بكل شيء وزهِدت في كل شيء.» وهو قد شبع فعلًا من حياته الحيوانية العنيفة، وملَّها، وأخذ يبحث عن الحكمة في الأسفار … إنه يريد أن يرى ما هو كائن … ما هو حقيقي في الوجود: «… دعك من الخيال يا قمر … مضى ذلك العهد الساذج … اليوم نريد الحقائق … نريد الواقع … نريد أن نرى بأعيننا وأن نسمع بآذاننا.»
إن مسرحية «شهرزاد» غنية بتفاصيل أساطير الشرق، ويُزين غموض الشرق فيها، ويزيد عليه ما تحويه المسرحية من التعقيد النفسي كما نفهمه في الغرب … والحوار الذي يدور بين شهرزاد والملك والوزير — وقد لَعب أدوارهم كل من «مرجريت ليتون» و«سيرجون جلجود» و«كارلتون هوبز» — هو حوار متألق بالذكاء والروح، والملك على الرغم من ماضيه المخضَّب بالدماء، مخلوق بائس كثير التأمل، والوزير حائر بين فكرته المثالية عن حبه لشهرزاد وبين ولائه لسيده … كل ذلك لو أنه حدث في عصر آخر وفي بيئة أخرى؛ لكان من المفيد للرجلين أن يستشيرا طبيبًا نفسانيًّا.
أما «شهرزاد» فهي في مثل صلابة «آن هوايتفيلد» في مسرحية شو «الإنسان والإنسان الأعلى» إلا أن سلوكها أكثر انطلاقًا؛ فهي تتخذ عشيقًا زنجيًّا في غيبة الملك …
وهذا العمل بعينه كانت قد اقترفته زوجةٌ سابقة، وهو الذي دفع الملك إلى ممارسة هذا النظام الرتيب: (الزواج في المساء وإعدام الزوجة في الصباح)، ذلك النظام الذي لم يُخِلَّ به إلا موهبة شهرزاد القصصية، ولم تعد بعد تخشى الاضطرار إلى سرد القصة الثانية بعد الألف، فقد قالت لعشيقها العبد عن الملك: إنه قد ألقى وراء ظهره بكل تجاربه الحسية والحيوانية. ويسألها العبد: وأين هو الآن؟ … (وهذا العبد رجل بسيط، لا يداوم سؤالها عمن تكون كما يفعل الملك والوزير) فتُجيب: هجر الأرض ولم يبلغ السماء، فهو معلَّق بين الأرض والسماء.
وفي تلك اللحظة … يكون الملك في خان أفيون، مع الوزير حيث يعلمان بخيانتها، ويقدم المشهد الختامي المتوتر ما يبدو لأول وهلة أنه موقف تقليدي، ولكنه ينتهي نهاية غير تقليدية، وتُترك الشخصيتان الباقيتان لتشُقَّا طريقهما في الحياة.
(١٢) جريدة التايمز (لندن ٢٢ مارس ١٩٥٥م): شهرزاد لتوفيق الحكيم
تتناول «شهرزاد» التي أُذيعت مساءَ أمس في البرنامج الثالث من إخراج «مستر كريستوفر سايكس» أسطورة ألف ليلة وليلة في طريفة: في الليلة الثانية بعد الألف، حين تكون شهرزاد قد فرغت من سرد كل قصصها، ويكون إعدامها قد أُرجئ إلى حين، ويكون لهذه الأقاصيص تأثير مُطهِّر على الملك شهريار، فكأنه قد وُلد من جديد، فيقرر نبذ الحياة الشهوانية والحيوانية — حتى فيما يتعلق بشهرزاد نفسها — ويمضي يحاول البحث عن أرض الواقع، التي تبيَّنها أول ما تَبين من قصص شهرزاد نفسها. ويقوده بحثه المُحير — مصحوبًا بموسيقى غريبة من وضع «مستر نورمان فوربر كاي» — إلى الصحراء الشاسعة هو ووزيره قمر … وأخيرًا إلى مجلس الأفيون. ويعترف شهريار أثناء رحلته بعلة قلقه وعدم استقراره: «اليوم نريد الحقائق … نريد الواقع … نريد أن نرى بأعيننا وأن نسمع بآذاننا.»
وقد استطاعت مسرحية الحكيم الأسطورية — في ترجمتها الممتازة التي قام بها «مستر سايكس» — أن تحمل خلال بساطتها الجميلة مثل هذه المشاعر دون الانهيار تحت وطأتها، وإنَّ جمْعَها بين روح السحر، والتأمل الفلسفي، والإحساس بالمذلة العميقة أمام الأشياء الغامضة التي تحاول كشفها؛ قد جعل من الإصغاء إليها تجربة نادرة … على أنه قد يمكن للعقل الغربي إلا أن يُصدم بما فيها من غموض مقصود ورمزية غير مألوفة؛ ففي حين أن القمر عندنا مؤنث نجد هنا أن «الوزير» قمر «مستر كارلتون هوبز» الذي يعني اسمه القمر؛ مُتيَّم بحب شهرزاد التي ترمز للشمس … ويموت القمر (قمر) بطريقة محيرة؛ لأنه لا يستطيع المضيَّ في إيمانه بأن الشمس تستحق العبادة؛ في حين أن سيده الملك شهريار يجب أن يستأنف بحثه عن الحقيقة مُعلقًا بين الأرض والسماء.
الممثلون اختيروا من الممتازين، وأدوا أدوارهم خير أداء، وستُعاد إذاعة المسرحية يوم الجمعة، وقد أدى «سير جون جلجود» دور شهريار أداءً سيظل في الذاكرة؛ بتعبيره عن القلق والشك اللذين ينتابان الطاغية الذي زَهِد السلطان والجمال، كما أبرزت «مس مرجريت ليتون» ما في الملكة الجريئة شهرزاد من قوة المقاومة الذكية الفطنة.
(١٣) شهرزاد على مسرح «الكوميدي دي باري» (باريس، نوفمبر ١٩٥٥م)، للكاتب الفرنسي «ألكسندر أرنو» عضو أكاديمية جونكور
«لا ينبغي أن ننتظر من هذه المسرحية صورًا سهلة للشرق، مما يخطف البصر، كما اعتدنا هذا التصور للبلاد النائية عنا، فتوفيق الحكيم الذي وضعها بالعربية هو نفسه شرقي، فسوء الفهم إذن، أو الوقوع تحت تأثير سِحر البلاد البعيدة؛ أشياءُ لا توجد بالنسبة إليه، فهو إذن يدخل مباشرةً في صميم قصص ألف ليلة وليلة، كما ندخل نحن في حكايات «أمي الأوزة» المألوفة لدينا … فما من «ديكور» مفتعل أو متعمد للإدهاش يخفي عنه قيمتها الحقيقية وعمقها الإنساني، فهو لا يكتشفها من الخارج ولا من السطح، ولكنه يغوص فيها، وهي التي أرضعته وغذته أبًا عن جَد. فهو إذن يتمتع بسلطة وحرية في اللعب بمادة ليست غريبة عليه، يعجنها ويُكيف أشكالها، ويوفِّقها مع الأنغام الحديثة التي يملك كل منابعها، ويستخدمها بأبسطِ وأدق وسائلها.
إن شهرزاد قد بذلت — في مبدأ الأمر — كل ما لديها من مواهبَ وخيال قصصي؛ لتنقذ حياة عذارى كان السلطان شهريار يذبحهن كلَّ صباح غيرةً منه وحقدًا، بعد أن خدعته زوجته مع زَنجي … ولكن شهرزاد انتهت بالوقوع في الشَّرَك الذي نصبته؛ بأن أحبت ذلك الذي اعتبرته في أول الأمر جلاد بنات جنسها. على أن قصصها وما أحدثته من فتح للنوافذ على العالم، قد غيَّرت شهريار، وجعلته يصبح — رويدًا رويدًا — رجلًا آخر، يملؤه القلق والرغبة في أن يسمو على نفسه، وأن يخترق حُجُب الأسرار، وأن يحيط معرفةً بكل شيء. وهنا عقدة المأساة؛ فإن هذين الكائنَين اللذين يواجه أحدهما الآخر اليوم، ما عادا هما نفس الشخصين اللذين عاشا أول الأمر … إن توفيق الحكيم الشاعر والكاتب المسرحي عالج هذا الموضوع الكبير الذي يمَسُّ جوهر الإنسان بآماله ويأسه، معالجةً مبعثها قوة داخلية لا تنضَب، وهو لا يستسلم أبدًا في التعبير لبريق الألفاظ، ولا يستخدم غير أبسطها، محمِّلًا إياها من المعاني ومما لا ندري من أي سِحر ما يضيئها من الداخل … إنه قد شيَّد أثرًا فنيًّا من النور، دون أن يلجأ إلا إلى ألوان من الظلال.»
(١٤) بجماليون على مسرح «المورارتيون»
(١٤-١) (سالزبورجر فولكزبلات في ٨ ديسمبر ١٩٥٣م)
إن تمثيل مسرحية «بجماليون» يعتبر كسبًا فكريًّا «للموزارتيوم» وللحياة المسرحية في النمسا … وتوفيق الحكيم، المؤلف المسرحي المعاصر، لا ينسى في مسرحياته مسائل العصر … وهو قد جعل من بطل الأسطورة في مسرحيته (بجماليون) بطل مأساة — عكس ما فعله «برناردشو» من معالجته الموضوع على النحو الكوميدي — وتتميز مسرحية توفيق الحكيم بقيمتها الشعرية وثروتها الذهنية. وكان إخراج الدكتور جيزاريش لهذه الرواية صارمًا بالغًا في الصرامة، غير أن تلك الطريقة في الإخراج لم تَعُق الممثلين من إظهار جهدهم. ووضع الموسيقي «جيرهارد فمبرجر» المسرحية في إطار موسيقي ملائم كلَّ الملاءمة. أما توزيع الأدوار فربما كان من الأنسب أن يختص الأساتذة الكبار بأدوار الآلهة في القصة؛ فيقوم «كارل بلوم» مثلًا بدور «أبولون» إلى جانب «هيرتافيبر» في دور «فينوس» … ولقد أبدى الجمهور — الذي ضم كل الشخصيات البارزة في المجتمع بمدينة «سالزبورج»، وعلى رأسهم محافظ الإقليم دكتور كلاوس — أبلغَ تحمُّسه وإعجابه بالمسرحية والتمثيل.»
(١٤-٢) «فينر زايتونج» في ١٢ ديسمبر ١٩٥٣م
كان يبدو أن تمثيل «بجماليون» لتوفيق الحكيم على المسرح الأوروبي سيواجه منافسًا خطرًا هو «برناردشو»؛ الذي عرض لنفس الأسطورة القديمة، ولكن توفيق الحكيم عالج موضوع الأسطورة الإغريقية القديمة بطريقة خاصة مستقلة وأصيلة مبتكرة. وهنا كانت المفاجأة؛ فقد نجح المؤلف المصري في إيجاد الصلة المباشرة بالمنبع الإغريقي، بغير الالتجاء إلى الوسائل المفتعلة التي يتوسل بها كثير من الكتَّاب الغربيين. وربما كان مرجع هذا إلى أن الشرق كان له اتصال وثيقٌ بالكلاسيكية الإغريقية قبل أوروبا. ولقد أبرز المؤلف المصري فكرة الكفاح الإنساني الخالد في الخلق، هذا الكفاح الذي لا يَقنَع بما تم أبدًا … كل ذلك في لغة تهمس بالتأمل والشعر وفي شكل جديد من الأسلوب الفني.
ولقد قام بعرض هذه المسرحية ممثلو أكاديمية «الموزارتيوم» على نحو يسمو على المعتاد … فنهض «كارل بلوم» بدور «بجماليون» في صراعه بين عمل الفن والحياة، كما نهضت «إيريكا ليزا كوفسكا» بدور «جالاتيا» الصعب … في حين أن «مرجريت جروبهوفر» و«لوتزهابر كورن» قد لعبا دورَي «إيسمين» و«نارسيس» على نحو آلي … أما «هيرتافيبر» و«ت. ويسلر» فقد ارتفعا حقًّا إلى مرتبة آلهة الأولمب. وكان إخراج الدكتور «جيزاريش» متناسقًا رائع التأثير، وموسيقى «جير هارد فمبرجر» بارعة في الإيحاء، وقد كان تصفيق الاستحسان طويلًا حارًّا.
(١٤-٣) «داي بريس» في ١٢ ديسمبر سنة ١٩٥٣م
كان لقاًء مُهمًّا ومفيدًا مع الكاتب المصري المعاصر «توفيق الحكيم»، ذلك العرض الأول الذي شاهدناه على مسرح «الموزارتيوم» الكبير ﻟ «بجماليون»، وهي مسرحية في أربعة فصول … ألَّفها «الحكيم» بموهبة شعرية عالية … كشف فيها عن الإنسان في سخطه الخالد، وخلافه الدائم مع الآلهة … وكان إخراج «جيزاريش» سليمًا، متناسق العناصر في إطار المناظر الأنيقة التي صممها «جوستاف فارجو»، والموسيقى التي وضعها «جيرهارد فمبرجر»، وكان استقبال المسرحية والمؤلف الحاضر على أقوى ما يكون من الحماسة.
(١٤-٤) «فينر كورير» ٨ ديسمبر سنة ١٩٥٣م
كان العرض الافتتاحي لمسرحية «بجماليون» لتوفيق الحكيم في القاعة الكبرى للموزارتيوم، حدثًا ثقافيًّا واجتماعيًّا شاهدته الشخصيات البارزة في مدينة «سالزبورج» وإقليمها … والمسرحية عميقة الموضوع، تتخللها فواصل ملطفة متماوجة، من جوقة الفتيات التسع اللاتي يمثلن عرائس الوحي، تحت أنظار «فينوس» و«أبولون» المشرفة على ذلك الصراع بين الفن والحياة؛ هذا الصراع الذي انتهى بموت «بجماليون»، وجعل الآلهة تقول: «إن البشر يحطمون ما يخلقون من جمال ليبدءوا من جديد.» وقد استطاع إخراج الدكتور «جيزاريش» التعبير عن مأساة الفنان العبقري في صراعه الخالد، بأداء متسق في مجموعه … وقد حيَّا الجمهور — الذي كان يملأ المكان — المؤلف والممثلين بحماسة بالغة.
(١٤-٥) «ديموكراتش فولكربلات» في ٨ ديسمبر سنة ١٩٥٣م
«بجماليون» الفنان الملهم … في خلافه مع نفسه ومع العالم … إنها ليست حالته وحده؛ بل الذي يتكرر دائمًا ما دام على الأرض فنانون … وقد أدى «كارل بلوم» شخصية المثَّال «بجماليون» أداءً كشف عن مأساة العبقرية. كما أدى «لوتر هابركورن» دور «نارسيس» أداءً جمع بين الجمال والبساطة. وكانت «مرجريت جروبمولر» ساحرة في دور «إيسمين» … أما الاستقبال الذي قوبلتْ به المسرحية من النظارة فكان رائعًا، وقد تلقى المؤلف شخصيًّا (وهو يعتبر خالق المسرح الفكري في الأدب العربي) هُتافَ الاستحسان من الجمهور المحتشد في الصالة.
(١٤-٦) «سالزبورجر فولكرايتونج» في ٨ ديسمبر سنة ١٩٥٣م
اجتمعت في مساء الأحد كلُّ شخصيات الحياة الثقافية في «سالزبورج»؛ لتشاهد العرض الأول باللغة الألمانية لمسرحية «بجماليون» «لتوفيق الحكيم»، في القاعة الكبرى «للموزارتيوم»، وقد امتلأت بالجمهور. وموضوع المسرحية عميق … موضوع يمس الحد الفاصل بين ما هو إلهي وما هو إنساني. وقد أخرجه الدكتور «جيزاريش» فأبرز ما في داخل الفنان العبقري من مأساة في كفاحه الخالد الذي لا عزاء فيه، وقام «هانز هابنزولر» بدور «أبولون» فأظهر ما فيه من علو ممزوج بالسخرية، وقامت «هير تافيبر» بدور «فينوس» فأظهرت ما فيه من نضج وتجربة … أما الملابس والمناظر فتُذكر بالثناء «لجوستاف فارجو»
(١٤-٧) «سالزبورجر ناشرشتن» في ٨ ديسمبر ١٩٥٤م
«بجماليون» لتوفيق الحكيم مسرحية في أربعة فصول. تدور حول حياة الفنان الإغريقي الذي أبدع تمثالًا ووهبت له الآلهة الحياة … وسِحر مسرحية «الحكيم» لدى جمهور أوروبا يقوم بالأخص على ذلك التقابل بين العالمين … العالم الإنساني والعالم الإلهي! … وقد وضع «جيزاريش» هذه المسرحية في إطار من الإخراج الدقيق، تجنَّب فيه كلَّ ما يمَس نواحي «الميلودرام»، حدود «الكوميديا»، وقد فهم ممثِّلوه أغراضه ومراميَه فلبَّوا ونجحوا، وكان المؤلف حاضرًا بشخصه، فاحتفل به احتفالًا حارًّا حارًّا؟!
(١٥) «مسرح توفيق الحكيم الفلسفي للناقد الفرنسي جورج ألبير آستر» (عن مجلة «كريتيك، العدد ٦٦، باريس ١٩٥٢م)
بدأ الغرب يكشف الأدب الجديد الذي انبثق من النهضة العربية الإسلامية. وأجمل ما يراه من هذا الأدب هو، من غير ريب، نزعته الفريدة نحو الوَحدة الشاملة والتركيب التام. إن الجهد الصادق الذي يبذله الشرق، على هدًى من موازينه وتقاليده الموروثة؛ لكي يُساير ركب التاريخ، وحاجته الملحة إلى عدم إنكاره أو الخضوع لمشيئته كلَّ الخضوع — كما كان شأنه معه من قبل — نقول: إن هذا كله لم يكن ليخنق الأصداء التي تتردد على تراثه القديم، هذا التراث الذي نما على أرضه منذ آلاف السنين. إن نهضة الشرق الجديدة تتقدم مدفوعة بروحٍ مفعمة بالإخلاص واليقين، وإن جاهدت وتعثرت في بعض الأحيان.
و«توفيق الحكيم» الذي لم يتسنَّ للقارة الأوروبية أن تعرف أفكاره حق المعرفة؛ ينبغي أن يُنظر إليه من هذه الزاوية … إنه بغير ريبٍ المفكر المجدد، الذي يوشِك أن يكون الوحيد في مضماره … هذا الفنان المسرحي قد أضاف إلى الأدب العربي صورة جديدة من صور الفن؛ ذلك لأن المسرح «الفلسفي» يكاد أن يكون مجهولًا من الحضارة الإسلامية قبل «توفيق الحكيم» … وليس هنالك ما يشبهه في هذا الباب إلا المسرح المعروف بالنور (المسرح الياباني القديم) … والمقامات التي عُرفت في الأدب العربي والفارسي قد سمَت «بالحريري» في القرن الحادي عشر إلى المجد، إلا أنها لا تتصل إلا من بُعْد بما نسميه اليوم «بالتمثيليات المسرحية». والأراجوز، وهو في صميمه تركي النشأة، لا يعدو أن يكون مسرحًا من الظلال والأشباح.
البلاد الفارسية وحدها تستطيع أن تفخر (على تراث الأدب العربي على الأقل) بما لديها من مقطوعات «التازياز» التي ترجع إلى عهد يُعد قريبًا، والتي تشبه أن تكون لونًا من الأسرار الصوفية الغامضة، تدور حول مصرع الإمام الحسين. هذا؛ إلا أن هذه المقطوعات قد اختفت في أوائل القرن الحالي عندما انهار كيان العصور الوسطى، الذي طبع بلاد فارس بطابَعه حتى عهد قريب، واتصل المسرح الذي يتوفر المؤلفون الإيرانيون على خلقه بالأدب العربي حينًا، وبحكايات من التراث القومي لم تزل تمثَّل على المسارح الإيرانية منذ القرن التاسع عشر حينًا آخر.
إن الدراما الحقة، والتراجيديا على وجه الخصوص، تبدو على جانب من التعارض مع روح العقيدة الإسلامية؛ ذلك أنها تقتضي وجود مبدأ ثوري على نحو من الأنحاء، كما أنها تبتعد عن العقيدة الدينية بُعدًا ما. وحين يصطدم الإنسان بالقدر يتجدد في نفسه الأمل بأنه ربما سنحت فرصة لتغيير قدر محتوم، بفعل من أفعال الإرادة الحرة (التراجيديا الحقة تنبع من الدين، ولكنها لا تزدهر حتى توضع المقدسات نفسها موضع الشك والسؤال)، وهناك أمثلة عديدة على صدق هذا القول، فلن ندرك حقيقة «هاملت» إذا جردناه من أزمة الوجود الإنساني، ولم تكن «فيدرا» لتوجد لو لم يشتعل القلق في قلب راسين. جوهر الدين الإسلامي في التسليم والاستسلام، والنزعة الإنسانية العقيمة التي ينطوي عليها؛ تقابلها نزعة الرضا والإذعان لمشيئة عالية؛ ومن ثم لم يتلاءم العنصر التراجيدي مع روح هذه العقيدة.
يُضاف إلى هذا عقبة تتمثل في اللغة العربية نفسها؛ فهي تنقسم إلى لغة للأدب وأخرى للكلام، تختلفان فيما بينهما اختلافًا شديدًا. وقد ظلت الآداب العربية قرونًا طويلة وقفًا على خاصةِ «العلماء»، تتنكر لكل شيء من أشكال الفن يراد به الاتصالُ بالجماهير اتصالًا مباشرًا.
الأزمة التي يمر بها العالم الإسلامي اليوم تسمح بقيام مسرح أصيل، تضطرب على خشبته ألوانُ الصراع والقلق التي تُصاحب نهضته الحاضرة، وتوافق وعيه الجديد، وإلى جانب التأثير الغربي المحتوم عليه، هناك تأثير من نوع آخر مستمَد من الفكر الإسلامي نفسه، في صوره الجريئة النبيلة، وليس يخلو من مغزًى أن نجد الكُتَّاب المصريين المحدَثين يولون وجوههم نحو أرض اليونان، ربما لأنهم يريدون أن يسيروا في الطريق الشاق الذي قطعته حضارة البحر الأبيض المتوسط، حضارة التركيب والوحدة الشاملة، فيجدوا عهدًا جعلت فيه بلادُ البطالمة من نفسها حارسًا أمينًا على تراث الإغريق، وصانته من الاندثار، ويذكِّرنا بعهد ازدهرت فيه حضارة الإسلام يومَ أن نهلت من ينابيع الثقافة الإغريقية.
وثمة عامل ثالث لا يمكن أن نُغفله من حسابنا: فعلى شاطئ النيل شعب قد طالما ذاق الظلم والهوان، تتدفق من بين شفتيه ثروةٌ خصبة من الأساطير والنوادر والحكايات، وتمتزج بوجدانه الحي وشعوره الرقيق.
بهذه النظرة يمكننا أن نُقدر قيمة مسرحيات مثل «أهل الكهف»، و«شهرزاد»، و«سليمان الحكيم»، فهي إلى جانب قيمتها الجمالية الخالصة تقدم لنا تفسيرًا دراميًّا للأزمات العميقة التي يعانيها العالم الإسلامي اليوم، وللأحلام التي تراود مصر من قديم الزمان. إنها تمزج في وحدة مبهمة بعضَ الشيء بين عوالمَ ما تزال متمايزة، فتؤلف بين المقدسات والمحرمات، وتجمع بين ما يملكه الشعب وبين ما تستأثر به خاصةُ المثقفين.
ترجع المسرحيات الأولى التي كتبها توفيق الحكيم إلى ما يقرب من نحو ثلاثين عامًا مضت. وقد وضع قبل الحرب الأخيرة رواية طويلة جعل موضوعها البعث الجديد في مصر، وأسماها «عودة الروح»، وأما أعماله المسرحية التي نُشر جانب كبير منها في اللغة الفرنسية، فهي تقوم على نظرة رحيبة الأفق للنهضة الفنية في البلاد العربية. وليس هذا وحده هو ما يلفت النظر في هذه المسرحيات الفلسفية، فتوفيق الحكيم يرى أن النهضة واحدة من حيث اللسان العربي، متعددة من حيث استعداداتُ كل شعب ومواهبه، هذه النهضة يجب أن تُعبر عن الأهداف الجديدة للأمة، كما يجب أن تترجم عن الأحلام التي داعبت روحها آلافًا من السنين، حتى صبغت كيانها الفكري بصبغة مميزة، وطبعت شخصيتها بطابَع فريد. ويعرض كاتبنا لوجهة نظره في كتابه «تحت شمس الفكر»؛ حيث يقول: «من هذا النيل خرجت أساطير البعث، وفي هذه الأرض الجميلة الدائمة الخصب نشأت فكرة الخلود وقتال «العدم»؛ تشبثًا بهذه الأرض المحبوبة التي لم تخلق الآلهة جنةً سواها.»
ألم يكن مِن هَمِّ هذه البلاد أن تكافح كفاحًا لامتناهيًا ضد الزمان والمكان، وأن تدخل في معاركَ هائلة — وإن تكن غير مجدية — لتنتصر على كل الحدود والقيود؟! … أليس هذا ما فعلته في عهد الفراعنة الذين بنوا الأهرام، وتشهد أجسادهم الباقية بشوقهم الملتهب إلى الخلود؟!
ألا نستطيع إذن أن نرسم في أذهاننا صورةً مصرية خالصة للمأساة (التراجيديا)، وأن نتمثل الدراما التي تعبر عن هذا الصراع القاسي بين الإنسان من ناحية، وبين الزمان والمكان من ناحية أخرى؟ ألا تترجِم عن هذا الجهد الذي لا يهدأ ولا يستريح، على نحو ما تصورت يونان القديمةُ تلك اللعبةَ الجامعة بين الآلهة وبين المخلوقات.
الحق أن ذلك من شأنه أن يؤدي بنا إلى مشكلة رئيسية: فمثل هذا الصراع مع الزمان يتخذ بسهولةٍ صورةَ الإنكار للتاريخ، كما يصبح إغراء خطرًا بالانطلاق والخلاص، وبالحياة في ظل وجود عالم تسيطر عليه مطالب وحاجات مُلحة؛ وهكذا ينبثق عنصر المأساة انبثاقًا ذاتيًّا. وكان من ذلك أيضًا — ولم تَغِب هذه النقطة عن بال كاتبنا — محاولة الربط بين الأدب وبين حياة الشعب؛ حيث يجعل من الأسطورة — لا البلاغة — مصدر وحيه وإلهامه، ويتيح الفرصة للمقدسات السماوية لكي تواجه ألوانًا من المحرمات مواجهةً واقعية مباشرة.
هكذا وجدناه يُعنى عنايةً بالغة بقصص «ألف ليلة وليلة»، وبالقرآن، ويعُدُّهما مصدرين خطيرين للإلهام الفني … ولقد تأثر فن «توفيق الحكيم» في مراحل تطوره الأوليِّ بمؤثرات عديدة؛ من رمزية «مترلنك» التي انقضى عهدها، إلى «الدراما البرجوازية». وهذا ما جعلنا نكشف عن مذهبه الأصيل في ثلاثة أو أربعة من مؤلفاته الخالدة: «شهرزاد، أهل الكهف، سليمان الحكيم»، كما دفعنا هذا أيضًا إلى النظر في مسرحيتين تنفردان بطابع خاص له؛ هما: «أوديب» و«بجماليون».
من هذه الناحية نرى صاحب «المسرح العربي» قديرًا في إنشائه لمسرحيات تعتمد على الحركة الداخلية، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالقصة التي نبعت منها، وما الأسطورة ها هنا إلا الرداء الخارجي، فتوفيق الحكيم يبحث في طبيعة الحياة، ويتفكر في ماهية الوجود، على نحو لم يسبقه إليه أدب قديم أو حديث.
وتسنح المناسبة الطيبة ﻟ «توفيق الحكيم» عندما يردد حيرة الشرق في سؤاله الخالد: هل ينبغي أن نرى الوجود كأنه حلم من الأحلام؟ … وكيف يتسنى لنا الخلاصُ في هذه الحالة؟ … وما عسى أن تُجدي في عصرنا الراهن حرية الحالمين، وهي تحمل في تضاعيفها الغربة والخطورة والمفارقة؟! … وما قيمتها بالقياس إلى الواقع والتاريخ؟!
الهدف الأساسي الذي يشغل أصحاب الكهف، ويعصر قلب «شهريار»؛ هو التحرر من سلطان الزمان، والانطلاق من سجن المكان … هم يتمنَّون لو استطاعوا أن يخلصوا من طغيان أفعالهم، يعذبهم الشوق إلى الحياة في ظل عالم لا أثر للظلم فيه؛ بل إنهم يمقتون فكرة الحد «نفسها»، ويتوقون إلى لقاء الموجود الكامل الذي لا يحُدُّه قيد، بعيدًا عن أسوار هذا العالم وضروراته.
لا أثر للتصوف في هذا الاتجاه: إن أبطال «توفيق الحكيم» يرتابون في القوة الغيبية أبلغ الريب، وليس من همهم أن يفنوا في مبدأ روحاني علوي، فلا يزال الإنسان يواجه مصيره الغامض القاسي، فلا يجني من هذه المخاطر غير حال عجيبة من التناقض تجعله معلقًا بين السماء والأرض، ولا تَهبُه الحرية إلا إذا تكلف نوعًا من اللامبالاة، في جو من السخرية المُرة التي تقضي عليه بالموت والضياع.
هكذا نجد أنفسنا إزاء مسرح تدور مآسيه في دائرة من العذاب الفظيع، وتسعى شخصياته إلى مُثل بعيدة المنال.
ليس ينبغي أن نضل الطريق على أي حال؛ فالصراع الناشب بين «الوجود الأسطوري» و«الوجود التاريخي» لا يسيطر على زمام هذا المسرح، إلا أنه يعبر عن الأزمة التي تسود العالم العربي والإسلامي في القرن العشرين. «توفيق الحكيم» يعيش في صميم المشكلة التي يكابدها الشرق الحديث، فالمسرح لديه يدور حول مصير الفكر الذي يريد أن يكون إنسانيًّا.
والحق أن هذه المسرحيات تنطوي أخيرًا على ميزة ذات دلالة هامة؛ إن كاتبها لَتمتد سخريته فلا ترحم أحدًا، إنها لتجري على لسان شخصياته؛ عذبةً حينًا، مُرةً في أغلب الأحيان، تتهكم بنفسها على طموحها وعلوها واعتدادها بنفسها.
من هذه الناحية يعد توفيق الحكيم شاهدًا على الاتجاه إلى التخلي عن الحياة الأسطورية، والسعي نحو الحياة الواقعية والتاريخية، (بينما يتجلى عكس هذا الاتجاه لدى الكثير من كُتَّاب العرب)، وهو في رأينا يُعبر أصدق تعبير عن الوعي المضطرم في كيان مصر الناهضة، وعن موقفها في العصر الحديث بين الأعاصير التي تثور من حولها وتوشك أن تمزقها، واختيارها السير في موكب الزمن والتاريخ، مُعرِضةً عن الحياة بين أحلام الخرافة والوهم القاتل. ولعل العالم العربي قد أدرك الصواب حين اهتم بهذه المسرحيات، وتبيَّن خطرها العظيم بالنسبة إليه، فقد وجد فيها مرآةً صادقة للأزمات العميقة التي تضطرب في وجدانه، والآمال العزيزة التي تخالج قلبه.
لقد كان الهدف الحقيقي في «أهل الكهف» هو إبراز المشكلة الأساسية؛ مشكلة الزمن.
ولا شك أن هؤلاء الفتية الذين أوَوْا إلى الكهف قد تحرروا رغمًا عنهم من سلطان الزمان وسطوة التاريخ، إنه يحاولون أن يتحينوا هذه الفرصة التي أتاحها لهم القدر، أو الأسطورة إن شئنا (وهي فرصتهم إلى الخلود)، إنهم يستيقظون من نومهم بعد ثلاثة قرون، فيحاولون أن يستهينوا بقدرة الزمان، وأن يروا فيه شيئًا عقيمًا ضائعًا، بل يذهبون لإنكار وجوده البتة. وهكذا نجدهم يدافعون بسخرية مُرة عن الفكر السرمدي والخلود الأسطوري، اللذين تنفيهما حقائقُ الواقع.
ما قيمة الحقائق العقلية التي يتذرَّع بها مرنوش؟! … وما جدوى الصرخات اليائسة التي يطلقها ميشلينا؟ … هذا العاشق الخالد لبريسكا الفانية … وهل يُغني وجود محبوبة جديدة تحمل اسم جدتها التي ماتت منذ ثلاثة قرون؛ كما تحمل ملامح وجهها؟! … هل يغني عن الواقع شيئًا؟! … إن «يمليخا»، وهو الراعي الساذج البريء، لا تخدعه انفعالات الشعور عن الواقع الملموس: «إنا أشقياء … أشقياء … نحن ثلاثتنا وقِطْمير معنا … لا أمل لنا في الحياة إلا في الكهف.» «فلنعد إلى الكهف … هلم يا «مرنوش»! … فلنذهب إلى عالمنا!»
ثم يقتنع العقل بدوره في شخص مرنوش المفكر؛ حيث يقول: «إن مجرد الحياة لا قيمة لها … إن الحياة المطلقة المجردة عن كل ماضٍ وعن كل صلة، وعن كل سبب؛ لَهي أقل من العدم.»
وهكذا يقضي على الوهم الذي طالما داعب خيال الشرق، وزيَّن له أنه يمكن أن يحيا حياةً كأنها الأسطورة السرمدية، حياةً خارج حدود الزمان؛ ثم يأتي دور التحول الأخير في نفس العاشق المسكين ميشلينا … إن الأميرة بريسكا، التي تشبه أخرى أحَبَّها قبل أن يعانقه النوم الطويل؛ لا يمكن مع ذلك أن تشبِهَها كلَّ الشَّبه … فسَرعان ما ينكشف له وجه الضلال في حبه القديم الجديد. ها هنا حُكمٌ صادر بالموت على الفكرة الميتافيزيقية الكبرى التي عُرفت عن الشرق العربي الإسلامي، وعن نزعته التي تميل به إلى إنكار الجزئيات، وشِرْعته التقليدية التي تجعله ينظر إلى الظواهر الواقعية وكأنها حلم من الأحلام، ويعد الحقيقة الخالدة لمبدأ غَيبيٍّ غير منظور، وكأنها الحقيقة الوحيدة الجديرة بهذا الاسم. فإذا نظرنا من الزاوية الجديدة التي يقدمها لنا توفيق الحكيم، وجدنا أنه لم يَبقَ لنا غير عالم التاريخ، وغير الزمن الذي تحدده الولادة الأولى والموت الأخير من طرفيه، لن تستطيع الأسطورة أن تقف أمام سلطان الزمن والتاريخ؛ «أي: الواقع»، وإن حسبتْ أنها انتصرت عليه، فقد خدعت نفسها بالباطل، ولا أمل للإنسانية إن أفلتت من أَسْر الزمان … وسوف يحكم على مصر بالفناء، أو تقيَّض لها الحياة تبعًا لموقفها من التاريخ!
وجملة القول: إن «أهل الكهف» تقرُب بمعطياتها من موضوع أكبر من موضوعات الفكر الإسلامي. وتتصل بهذه اللعبة الشعبية، ونقصد بها الأراجوز التركي، التي هي لعبة الظل مع الحياة … إنها تحطم آمالًا شاعرية كثيرة. وإن القارئ يحكم في نهاية المأساة بضآلة الفرصة التي بقيت لهؤلاء الفتية الذين أغلقوا باب الكهف عليهم، فماتوا وهم يواجهون هذا السؤال القاسي: هل يتيح لهم القدر أن يُبعثوا من جديد، وأن يعيشوا في ظل الديمومة الأسطورية التي خبَروها من قبل؟! … ويأمر الملك — بعد أن ينتهي كل شيء — بأن تُدفن معهم المعاول التي تتيح لهم، إذا ما بُعثوا من جديد، أن يعودوا إلى عالم الأحياء، ولكن هذا لا يُغير شيئًا من الحقيقة … لقد استسلموا للموت في هذه المرة بمشيئتهم، وطرحوا عنهم وهْمَ الخلود. وإذا كانت «بريسكا» الثانية قد أخذت بسحر عالمهم المجهود، فآثرت أن تُقبَر حيةً معهم، فإنها قد فعلت ذلك مجردةً من كل أمل في العودة أو رجاء. وفي نفس الوقت يُسدل الستار على عهد القداسة. ولا تبقى بقية الشك في زواله:
•••
ذلك أن ما يبقى في القصة القديمة مظهرًا عرضيًّا أو إطارًا خارجيًّا؛ يصبح عند «توفيق الحكيم» مادة العمل الفني وجوهر الحقيقة نفسها؛ فهنا نجد التعارض الحاد بين «شهريار» و«شهرزاد»، والصراع الدائر بين «الوجود اللامتناهي» الذي يشيع في جو الأسطورة، وبين مطالب الحياة المحدودة وضرورات الواقع القاسية.
إن «شهريار» الأمير الذي لا يرتوي ظمؤه، ولا ينتهي طموحه؛ يلوح لأعيننا كأنه «فاوست» وقد تلفَّح في مسوح شرقية، و«شهرزاد» الرواية تخطر أمامنا كأنها سر الأزل … إنها هي الأسطورة، هي الانطلاق من أَسر الزمان، وصورتها تقترب في أذهاننا من رمز القداسة الخالدة «إيزيس»؛ إلهة مصر القديمة التي ترفرف روحها القلقةُ على الدوام. «أنا كل ما كان … كل ما يكون … كل ما سيكون … قناعي لم يكشفه بعدُ إنسان …»
ويبدو لنا أننا لا نخرج عن مفهوم هذه القصة العجيبة حين نجد فيها تعارضًا أساسيًّا بين «الوجود الميتافيزيقي» وبين «الوجود الواقعي»؛ يكاد يستعصي على الحل.
الحق أن شهريار يحيا حياةً ميتافيزيقية بحتة، لكن لأية غاية؟ إنه لم يعُد يستطيع أن يعاود حياته البشرية … «إيزيس» و«شهرزاد» تحتفظان بسر أبي الهول الخالد: الخلاف الغامض بين الأسطورة والحياة. والإنسان بدوره لا يستطيع أن يهزم الزمن إلا على حساب حياته نفسها.
«لا فائدة من نزال الزمن» وحين يهتف مارنوش قائلًا: «لأننا أحلام … نحن أحلام الزمن» يكاد شهريار أن يردِّد صداه: «إن الزمان يجثم على صدري.» ويَهيم الملك من بلد إلى بلد، مأخوذًا بسحر اللانهاية التي تنعكس في عيني «شهرزاد»، إنه لا يجني من بحثه وتَطوافه في الآفاق إلا فِقدان ذاته، وضياع الوجود الحق الذي جاب الأفقَ بحثًا عنه: «أوَلست كالماء يا شهرزاد؟ … سجينا دائمًا كالماء؟ … نعم … ما أنا إلا ماء … هل لي وجود حقيقي خارج ما يحتوي جسدي من زمان ومكان؟!»
ومع ذلك «فسَرعان ما اتخذتْ حياتي شكل ما احتوى جسدي من زمان ومكان.» ونعود فنقول: إنه من الخطأ أن ينظر النقاد ها هنا فلا يجدوا إلا التعبير عن حنين غامض «رومانتيكي» إلى الأوطان … إن مقوماتنا الذهنية تقف عاجزة (أو هي كذلك حتى الآن)، في كل ما يتصل بكُتَّاب الشرق النابغين، وأشد ما نخافه أن يحاول امرؤ التقريبَ بين أعمالهم وبين فلسفتنا الوجودية الحديثة؛ تقريبًا من شأنه أن يُغفل التاريخ من حسابه، فهنا تصبح المشكلة التي تقابلنا هي قيمة «الواقع» نفسه، كما يحلو للكُتَّاب السرياليين في الغرب أن يقولوا، كما واجهته أنفسٌ حاولت أن تتسامى على الواقع منذ آلاف السنين …
ومن أبلغ الأمور دلالةً على صدق ما نقول أن هذه المشكلة منبثقة في جميع الأعمال الدرامية التي دبَجَتْها يَراعُ كاتبنا (وشخصياته تطوف حولها على الدوام).
وأهم ما هنالك هو إبراز هذا الشعور بالفِقدان الذي يعانيه أبطال توفيق الحكيم؛ إذ يستولي عليهم القلق الجارف نحو المطلق واللامحدود: «فإلى جانب شهريار، وهو شهيد حلم لا عمر له بعثه الشرق في خياله، نرى «قمر» الذي يظل أبدًا المخلوق البسيط، ويتصرف في نطاق الشهوات الجزئية، ويحب شهرزاد كما يحبها سائر الناس، وعلى مقتضى القانون البشري العام، بينما العبد الأسود تتجسد فيه الصور اللامعقولة من الحياة …»
ليس إذن من قبيل الصُّدف أن نجد الصراع ينتهي إلى التجربة المحتومة؛ تجربة شهريار لا يحرك ساكنًا حين يرى الملكة تخونه خيانةً مفضوحة مع العبد الأسود … «شهريار» الذي ارتفع عن كل شهوة أرضية، وتجاوز حدود الغيرة التي جعلته يومًا ما رجلًا كسائر الرجال … الذي حكم عليه أن ينتهي إلى حيث قادة السراب الخادع؛ إلى القرار السَّحيق الذي لا نجاة منه. ولِمَ لا؟! … وهذه «شهرزاد» التي ألحَّت عليه بالبرهان؛ قد أصبحت عاجزة عن أن تُعيده إلى الأرض «شهريار! … أنت رجل هالك!»
جملة الرأي: إن «توفيق الحكيم» يقدم لنا مصر الجديدة، التي تختلف عن التي تمثِّلها أسطورة «إيزيس»، والتي كانت تسير معصوبة العينين. يقدم لنا مصر التي تُطرق باب الواقع والتاريخ، وتقف موقف الاختيار الحاسم لمصيرها، ويبدو أنها منذ ذلك الحين قد عرَفت دورها التاريخي في موكب الحضارة.
•••
وعلى الرغم مما يشوب الترجمةَ من جمود في بعض أجزائها، فإن مسرحيات مثل «بجماليون»، و«سليمان الحكيم»، و«الملك أوديب»؛ تقدم لنا نفس المشكلات التي رأيناها في زميلاتها، كما تتمثل فيها ألوانُ الصراع والتناقض بعينها. وهذا المسرح كله يعرض لنا نماذجَ من الوجود تتحدد، لا بالنسبة إلى «الخير» و«الشر»، بل بالقياس إلى «الواقع» و«الحلم»، وهل تُهم الصورةُ التي يتخذها الحلم في هذا المجال؟!
وفي ظلال الوعي الذي يغمُر بلاد الشرق الإسلامي في هذه الأيام، نجدها تطرح عنها أسباب الطموح التقليدي التي جعلت الروح الشرقي يسعى نحو المطلق، يتمثل في الحكمة الكاملة عند الملك سليمان، وفي الفن المطلق عند بجماليون، وفي الحقيقة الرهيبة لدى «أوديب الملك». يمكن القول بأن كل شيء يجري هنا في عالم لا تزال مشكلة التعارض بين المقدسات والمحرمات قائمةً فيه …
وفي مفترق الطرق نرى «توفيق الحكيم» الكاتب المسرحي المعاصر، شاهد صدق على هذا الشعور الذي يَجيش بالأزمات والمتناقضات في ضمير الشرق الإسلامي. لدى هذا الكتاب تتم معجزة التحول العظيم في ثوب مسرحي؛ إنه التحول المحتوم من مجال المقدسات إلى مجال إنساني محض، ومن عالم يَسري فيه الروح الغيبي، وتسوده أحلامُ ما وراء الطبيعة إلى آخرَ يساير موكب التاريخ، إنه تحول تجاه الواقع … الواقع الحي.
(١٦) توفيق الحكيم بقلم: كلادفيا أود، فاسيليفيا (عن مجلة «الأدب السوفييتي» موسكو، عدد فبراير ١٩٥٧م)
وقد وصف بعض النقاد توفيق الحكيم بأنه كاتب متأرجح؛ إشارة إلى تردُّده وتدقيقه في البحث عن الحلول للمشكلات ذات الأهمية الاجتماعية، وقد ذهب في بحثه هذا إلى آفاق بعيدة، محاولًا أن يصل إلى كُنه مهمة الكاتب، وأن يؤكد وظيفة الفن في الحياة العصرية، ومعالجًا قضية تشكيل نظرة معاصريه في اتجاه تقدمي، ومؤكدًا فكرة الاستقلال الوطني، وأن بعض مؤلفاته ﻛ «عودة الروح» و«يوميات نائب في الأرياف» لَتستحقُّ مكانًا عاليًا في الأدب العالمي الحديث.
و«عودة الروح» تعتبر إلى حدٍّ ما سيرةً ذاتية؛ فنحن نجد البطل فيها قد وُلد في مدينة دمنهور، أبوه فلاح ميسور الحال، يشغل منصبًا بارزًا في المدينة، وأمه منحدرة من أصل تركي، تكره الفلاحين وتحاول دائمًا أن تثبت تفوقها عليهم. على حين كان «والد توفيق» يُبدي إزاءهم نوعًا من الضعف، وكان ذلك سببًا للنزاع العائلي. أما الفتى فقد أَحب الفلاحين، وقد شهد عملَهم الشاق، وعرَف حرمانهم، وأدرك ما في موقف أمه منهم من عدم إنصاف؛ فأخذ ينسلخ عنها رويدًا رويدًا. وكانت طفولته شقية، وذكرياته السعيدة عن تلك الفترة من حياته مرتبطة بفرقة من الممثلين المتجولين الذين كانوا يزورون داره بين الحين والحين، لقد كانت طلاقة الممثلين وأغانيهم حبيبةً إلى الفتى، وربما كان ذلك أصل اهتمامه بالفن.
وفيما أقبل من الأيام، أرسل أهل الفتى ابنهم إلى القاهرة ليتلقى العلم؛ فأقام مع أقارب له في أسرة محدودة الموارد، ومع ذلك فإن تلك الحياة التي كانت مزيجًا من العمل والعَوَز في بيتهم؛ كانت أَحبَّ إليه من الحياة في بيت أبيه.
ولم يُرضِ ذلك الاهتمام بالأدب والفن والدَي الفتى اللذين أرادا له أن يدرس الحقوق. وقد أشار عليهما بعضُ الأصدقاء فأرسلوه ليتلقى علومه في فرنسا؛ مؤملين أنه عندما يُحاط بجوٍّ جديد ويهتم بمسائلَ جديدة، قد يسلو بها عن الفن وينصرف إلى ما تمناه له والده من حياة قانونية قضائية محترمة، ولكن خاب ظنهم؛ فتوفيق لم يهتم بالقانون، وقد كتب لأحد أصدقائه يقول: «إني في عُرف القانون محامٍ، ولكن أي محامٍ؟! … … لقد كانت فجيعةً لأبي المسكين، أيامَ أن كان يسمع ويرى، أني أنسى صفتي كمحامٍ، وأنحشر في زُمرة الممثلين.»
وكان «توفيق الحكيم» في الواقع قد بدأ يكتب مسرحيات بالفرنسية، وكان بعضها قد بدأ يخرج على المسارح الفرنسية.
وعندما عاد «الحكيم» إلى مصر، عُيِّن نائبًا في الأرياف، وفي منصبه هذا — وهو ذو الملاحظة الدقيقة لتفاصيل حياة شعبه — أُتيح له أن يجمع ثروة من المواد لكتاباته المقبلة، وقد نُقل بعد ذلك إلى القاهرة حيث اشتغل في وزارة المعارف، وتفرَّغ في السنوات الأخيرة للإنتاج الأدبي.
ولم يكن التطور الأدبي لكاتبنا تطورًا بسيطًا، فهو قد وصل إلى أوروبا في السنوات التي أعقبت الحربَ العالمية الأولى، في الفترة التي احتدم فيها الصراعُ في مجال الأدب والفن بين اتجاهات الواقعية والاتجاهات الشكلية المتعددة، وكانت تلك سنواتِ التكوين بالنسبة لكاتبنا. ولم يكن موقعه في البداية واضحًا تمامًا، فقد شعر بنفسه منجذبًا نحو التيارات الحديثة للواقعيين الفرنسيين، لكنه في الوقت ذاته كان يرى في اتجاهات «المودرنزم» منبعًا للخلق الجديد في الفن، وقد كتب في «زهرة العمر» عن تفتيشه وبحثه أثناء إقامته في باريس: «أنا لا أستطيع أن أقول مع الثائرين: فليسقط «القديم»؛ لأن هذا القديم أيضًا جديد عليَّ، فأنا مع أولئك وهؤلاء.»
وتابع «توفيق» تفتيشه فدرس الرسم والموسيقى؛ محاولًا أن يعثر على ارتباطاتهما الداخلية بالأدب. وقد كتب عن زياراته لمتحف اللوفر، يقول: «كل لوحة في الحقيقة ليست إلا قصة تمثيلية داخل إطار، لا داخل مسرح، تقوم فيها الألوان مقام الحوار، إني لأكاد أُصغي إلى أحاديث الأبطال وهم على الموائد في أفراح «قانا» لوحة «فيرونيز»، أكاد أسمع ضجيج الحاضرين وصياح الشاربين ورنين الكئوس وخرير النبيذ يُفرغونه من دنٍّ إلى دن … إن طريقة إبراز كل هذه الحياة بالريشة تقرُب من طريقة إبرازها بالقلم … إن أساس العمل واحد فيهما: الملاحظة والإحساس، ثم التعبير بالرسم والتلوين؛ بل إن الروح أحيانًا لَيتشابه.»
وإننا لنشعر في مؤلفات الكاتب في تلك الفترة بميل نحو الواقعية، ونجد صورة متعددة الألوان للحياة نابضة، ولكن ملاحظته للحياة كانت لا تزال تصدر، لا عن العقل؛ بل عن المشاعر، كما هو الحال عند الثائرين.
وفي سنة ١٩٣٣م أصدر رواية «عودة الروح» التي كان قد ألَّفها في أواخر العقد الثالث من هذا القرن، عندما بدأ يتجلى في الأدب المصري تيار جديد. وكانت جِدَّة هذا التيار هي المصدر الذي استمد منه هذا التيار اسمه — التجديد — وكان في واقع الأمر، في تلك السنوات، تيارًا واقعيًّا يعكس تطور الوعي الوطني في البلاد.
إن الرواية تصف الانبعاثة الأولى لحركة التحرر الوطني في مصر في ١٩١٩م. وهو لم يَرَ في تلك الحركة في عام ١٩١٩م أن المصالح الطبقية للشعب وللبرجوازية لم تكن متطابقة.
وكان القبض — في ٨ مارس ١٩١٩م — على عدد من أعضاء الوفد الذي أرسل لحضور مؤتمر «فرساي»؛ السببَ المباشر في قيام المظاهرات التي شمِلت مصر بأسْرها في وقت واحد. وكانت المطالب الرئيسية للوفد المصري — وهو اللجنة التي قادت حركة ١٩١٩م — هي الاستقلال التام لمصر، وسحب القوات البريطانية، وجلاء الإنجليز عن السودان. وكان تحقيق هذا البرنامج يتيح للبرجوازية فرصة واسعة لاستغلال ثروة البلاد وشعبها. وكانت البرجوازية بحاجة إلى قائد قادر على توحيد البلاد.
والمؤلف يعتبر هبة ١٩١٩م بمثابة عودة روح مصر القديمة، فهو يكتب: «لا تعجب لهذا الشعب المتماسك المتجانب المستعذب، والمستعد للتضحية؛ إذا أتى بمعجزة أخرى غير الأهرام …»
ربما كانت «عودة الروح» أكثر المؤلفات العربية غنًى بالألوان في العقد الثالث من هذا القرن، فالمؤلف يصف فيها حياة الفلاحين، ويهاجم الظلم الاجتماعي الذي كان سائدًا في مصر في تلك الأيام، غير أنه يُبالغ كثيرًا في دور سعد زغلول، فيكتب: «وها هي ذي مصر التي نامت قرونًا تنهض على أقدامها في يوم واحد. إنها كانت تنتظر … تنتظر ابنها المعبود، رمز آلامها وآمالها المدفونة، ينبعث من جديد … وبُعث هذا المعبود من صلب فلاح.»
فالواقع أن المبادأة في الكفاح ضد السلطة المحتلة كانت للشعب لا لسعد زغلول … إنه الشعب الذي عبَّر عن إرادته التي لا تتزعزع، والذي تحمَّل التضحيات التي لا آخر لها في هبة ١٩١٩م.
وقد نشر «توفيق الحكيم» في الفترة ذاتها مجموعةً من المسرحيات يلجأ أبطالها جميعًا إلى الهرب من صعوبة الحياة.
ففي رواية «أهل الكهف» استخدم أسطورة «الشبان السبعة» الذين رقدوا في الكهف ٣٠٠ سنة، وعندما استيقظوا لم يجدوا للحياة معنًى؛ لأن كل ما كان يربطهم بها من أحباءَ وأصدقاء، كانوا قد ماتوا منذ زمن طويل، فما كان منهم إلا أن عادوا إلى الكهف؛ وإلى اليوم لم يغفر النقاد التقدميون للمؤلف إنهاءه لروايته على هذا النحو؛ لأن العام الذي كُتبت فيه هو عام ١٩٣٣م، حينما كان على رأس الحكومة المصرية الحاكم الرجعي البغيض صدقي باشا. لقد رأى أبطال «أهل الكهف» دستورًا يُنتهك، وسجونًا تزدحم بنازليها، واقتصاد البلاد يدمَّر، والفقر ينتشر، ومع ذلك فقد عادوا إلى كهفهم؛ مقدرين أنه لا جدوى من محاولة تغيير الوضع القائم.
وشهد عام ١٩٣٧م نشر «يوميات نائب في الأرياف» بما فيها من وصف صادق دقيق للحياة في قرية نائية … إنها تصور الموظفين الصغار في الأرياف بكل جهلهم وبكل آرائهم المحافظة الجامدة، وتبين عجزهم ورفضهم لفهم حياة الفلاحين الذين يساقون أمامهم إلى المحاكم.
والحالات التي يعرضها علينا في المحكمة حالاتٌ نموذجية. وأكثرها يتضمن لمسات كوميدية، ولكنها في الوقت ذاته درامية؛ كحالة شخص جريمتُه أن يملك كلبًا بلا رخصة، والأشخاص الذين يغسلون ملابسهم في مياه الترعة ومشابهها، والمتهمون لا يعترفون بخطئهم، بل هم يعتبِرون الغراماتِ التي تُفرض عليهم كعقوبة من السماء. والمؤلف يعترض على القوانين المستوردة من الخارج والتي تُفرض على الشعب فرضًا.
وفي السنوات التالية تناولت كتاباتُ «توفيق الحكيم» عددًا من القضايا الاجتماعية الحيوية؛ كالكفاح من أجل الاستقلال الوطني، ومساوئ الظلم الاجتماعي، وتحرير المرأة («الرباط المقدس»، «عصا الحكيم»، «تأملات في السياسة»). ومع ذلك فالكاتب لا يكشف السبب الأساسي للمتناقضات الاجتماعية، وكثيرًا ما ينتهي إلى نتائج خاطئة. وكما قال أحد النقاد العرب: «إنه يضع نفسه داخل سور يحجُبه عن العالم الخارجي، عالم الشعب، ويظل يحوم بين خيالات غامضة وأفكار عارية.»
إن نظرة «توفيق الحكيم» ليست دائمًا نظرة واقعية؛ فهو أحيانًا يدافع عن «الفن للفن»، ويؤكد في أحيان أخرى أن «الفن هو الحياة نفسها». بيد أن خدماته، مع هذه التحفظات، للأدب الواقعي المصري الحديث؛ معترف بها من الجميع. وهو أول من عالج فكرة الكفاح من أجل الاستقلال، وأول من ساعد على خلق الطراز الجديد من القصة الاجتماعية، وأول من أدخل اللغة العامية في الأدب.
وقد كتب الكاتب التقدمي «أحمد بهاء الدين» في مقدمته لكتاب «تأملات في السياسة»: إننا، نحن الكُتَّابَ الشباب، نستطيع أن نتعلم منه الشيء الكثير، فقد كان «توفيق الحكيم» يكتب غير متسرع ولا متعجل، وينفق في كتبه سنوات طويلةً قبل أن ينشرها. ونحن إذا كنا نختلف معه في كثير من الآراء، فكلنا نعترف بخدماته للأدب العربي وخاصةً في «مجال الدراما المصرية» والرواية الواقعية.
(١٧) توفيق الحكيم وعمله الأدبي (بقلم أ. بابا دوبولو)
يحتل «توفيق الحكيم» مركزًا رئيسيًّا في النهضة الأدبية التي أذكت حركة الإنشاء والإبداع في مصر منذ بداية القرن الحالي، بالرغم من أنه لم يبدأ التأليف الجدِّي قبل سنة ١٩٢٠م.
و«توفيق الحكيم» اليوم أكثر الكُتَّاب نصيبًا من الأحاديث ومن الإقبال على ترجمة مؤلفاته؛ فقد نُشرت كتبه باللغات الفرنسية والإنجليزية والروسية والألمانية والإسبانية والإيطالية والسويدية، كما مُثلت مسرحياته في «لندن» و«باريس» و«باليرمو» و«استكهولم» و«سالزبورج»، وأدرجت إحدى الجامعات الشهيرة في «الولايات المتحدة» كتابه «يوميات نائب في الأرياف» بين ستين كتابًا اختيرت لتمثل أهم المؤلفات العالمية التي ظهرت بين سنتَي ١٩٠٠ و١٩٥٠م. ولكي نستعرض إنتاجه بإيجاز في الإطار التاريخي الذي بيَّنه على حقيقته، نذكر أن الشعراء الثلاثة الكبار «شوقي» و«حافظ» و«مطران» خلقوا الشعر العربي الحديث في مصر — في مطلع القرن الحالي — بإنتاجهم الرائع المتباين الألوان. وقد لحِق بهم رعيلٌ من الشعراء المجددين؛ منهم «العقاد» و«المازني» و«شكري». ومن ثم فقد أخذت النهضة الشعرية تتقدم بخطًا سريعةٍ قوية.
على أن النثر لم يحظَ — في البداية — بالْتِقاء عبقريات ومواهبَ كهذه التي حظي بها الشعر، فاقتصر على المقالات الدينية والفلسفية والتاريخية، كتلك التي كتبها «الأفغاني» و«محمد عبده» و«لطفي السيد»، بعد أن كان محصورًا في نطاق ما تُرجم عن الأدب القصصي والمسرحي — والفرنسي بوجه خاص — وعن الأدب اليوناني القديم. ثم ظهرت في الأدب العربي المعاصر بعد ذلك محاولاتٌ في المجال التاريخي والمجال الشعبي، عالجها «المنفلوطي» و«زيدان» و«رمزي» و«محمود تيمور»، و«محمد حسين هيكل» و«العقاد» و«المازني»، وقُدِّر لطه حسين — في تلك الأثناء — أن يبرُز بأسلوب ممتاز تحالفٌ مع تفكير حديث، في سلسلة من الكتابات في النقد والتاريخ والفلسفة، وبعد ذلك في قَصَص مثل «الأيام» الذي كان من أبرز معالم جيله كله. في هذه الحركة الواسعة النطاق، ظهر إنتاج «توفيق الحكيم»، فقُدر له أن يكون صاحب الشرف في خلق أدب مسرحي نثري حقيقي مبتدَع للمرة الأولى في تاريخ الأدب العربي، وأن يبُثَّ في الأدب القصصي دوافعَ جديدة؛ سواءٌ بجودة بناء القصة والأسلوب، أو بحسن اختيار الموضوعات المستمدة من واقع الحياة القومية والاجتماعية في مصر.
•••
وُلد «توفيق الحكيم» في «الإسكندرية»، في سنة ١٨٩٨م، كما يُستدل من تاريخ حياته، وفي سنة ١٩٠٢م، كما تردد في أقواله، في أسرة مصرية من الطبقة الوسطى، وكان أبوه قد انتقل إلى الريف — إبان الفترة التي وُلد فيها — فلم يستطع أن يشهد مولده؛ إذ احتجزته أعماله القاسية التي قُدر لتوفيق الحكيم أن يصفها فيما بعدُ بأسلوب مفعم بالفكاهة. ومع ذلك فإن والد المؤلف لم يفكر قط في أن يهجر وظيفته، فما لبث أن أصبح قاضيًا، ثم مستشارًا في المحاكم. وليس من شك في أنه كان يحب عمله — رغم ما فيه من واجبات مستبدة غاشمة — حتى إنه حرص على أن يحذوَ ابنُه حَذوَه، ويترسَّمَ خطاه. على أن هذا الابن أظهر، منذ صباه، أنه لم يكن أصمَّ عن سماع نداء آخر؛ إذ كان قد تعرَّف على الأوساط الفنية في أكثر نواحيها تواضعًا، مُمثَّلة في ممثِّلي الفِرَق التمثيلية المتنقلة، والحواة والمشعوذين الذين كانوا يقيمون حفلات في المراكز!
وكان لهذا الوسط البوهيمي، وللدنيا المصطنعة بين جنباته، دنيا الثياب التنكرية والمناظر المسرحية و«الماكياج»، أثر كبير على خيال الفتى اليافع، وسِحرٌ لا يُقاوم، حتى إنه كان يهمل دروسه ليجري في أعقاب زملائه الجدد. ولم يرُق هذا لوالديه اللذين لم يكن ليخطر ببالهما إطلاقًا أن هؤلاء الممثلين البائسين، بأزيائهم الزَّرية، إنما كانوا يفتحون لابنهما نافذة تُطِلُّ على جنة الفن، وكانوا يَذْكون بين جوانحه جَذوةَ مهنة أنتج فيها كل هذا الإنتاج الوافر من الأعمال الأدبية. والواقع أن انغماسه في ارتياد هذا الوسط، وفي مخالطة هؤلاء الناس، كان يبدو من الأمور التي تَشين أبناء الأسرات الطيبة في ذلك الحين، على أن «توفيق الحكيم» استطاع أخيرًا أن يظفر بإجازة القانون في مدرسة الحقوق بالقاهرة في سنة ١٩٢٤م.
على أنه كان — في تلك الأثناء — قد بدأ يكتب المسرحيات، فوضع أولى مسرحياته في سنة ١٩١٨م. ولم تَحِنْ سنة ١٩٢٤م حتى كانت له مسرحيات تمثَّل في المسرح، ويساهم في إخراجها بنفسه. ولم يَعُد أبواه يملكان أن يمنعا هذا الابن — الذي أصبح رجلًا — من غِشيان الأوساط المسرحية في العاصمة … الأوساط التي كانا يريان — بلا شك — أنها ذات آثار خُلُقية سيئة على أمثاله …
وكانت مصر قد شرعت تجتاز مرحلة حاسمة دقيقة من تاريخها، في السنوات الأخيرة للحرب العالمية الأولى … مرحلة كان مُقدرًا لها أن تُحدث تحولًا بعيد المدى في نفوس جميع شباب ذلك العهد. ذلك لأن الثورة الوطنية التي امتدت من سنة ١٩١٩م إلى سنة ١٩٢٢م كانت جماع قرن كامل من التقدم والرقي، امتدت فيه يدُ التطور الحديث إلى كل ناحية في البلاد التي تفتحت للأفكار الحديثة، التي كانت في تفاعل وتخمر مستمرَّين في أوروبا منذ الثورة الفرنسية حتى الثورة الروسية. وكانت الآراء الخاصة بالقومية وبالديموقراطية السياسية والاجتماعية قد تغلغلت في مصر إلى حد بعيد؛ بفضل الصفوة المثقفة من أبناء مصر، والذين تعلموا في فرنسا …
وكان الحلفاء — الذين قُدر لهم أن ينتصروا في الحرب العالمية الأولى — قد بذلوا كل لون من الوعود القائمة على حرية الشعوب في تقرير مصيرها؛ بغية اجتذاب مصر إلى الصراع الذي كان دائرًا ضد الأتراك، وكانت مبادئ الرئيس «ولسن» الأمريكي الأربعة عشر قد أُعلنت … وكان الشعب المصري قد فطِن في مرارة إلى نفسه وإلى مصالحه التي كانت تتعارض مع مصالح البيت المالك والطبقة الأرستقراطية التي كانت مؤلفة من أتراك … كان قد فطن إلى كل ذلك منذ ثورة عرابي في سنة ١٨٨١م. ومن ثم فقد ساهمت كلُّ هذه العوامل، نهضة الأدب والفكر في عهد «الأفغاني» و«محمد عبده» إلى عهد «مصطفى كامل» و«لطفي السيد» أستاذ الجيل الذي كان يدافع باستمرار في صحيفته «الجريدة» عن مبادئ الحرية، وعن القومية، وعن ضرورة التفكير على أسس علمية ومنطقية … ساهمت كل هذه العوامل في التمهيد للثورة القومية.
ومن ناحية أخرى كان سكان المدن، وكذلك الفلاحون، في مصر قد أَثْرَوا بدرجة كبيرة خلال الحرب العالمية الأولى؛ من جرَّاء الارتفاع الخيالي الذي طرأ على أسعار القطن … وكانت حركة التصنيع بدأت وظهرت حركة عمالية منذ سنة ١٨٩٩م. وقد أدى كل هذا إلى أن يشعر سكان المدن في مصر بقوتهم؛ مما حفز الشعب على أن يعرض مطالبه على المعتمد البريطاني في ١٣ نوفمبر سنة ١٩١٨م، ثم على مؤتمر السلام بفرساي، وعلى كل من «كليمنصو» و«يلسون» و«لويد جورج» رؤساء حكومات الدول الكبرى الثلاث إذ ذاك. وقد أجابت إنجلترا على ذلك بأعمال استعمارية وحشية؛ ثم عمدت في ٨ مارس سنة ١٩١٩م إلى نفي الزعيم «سعد زغلول» إلى «مالطة» مع ثلاثة من زملائه. وفي اليوم التالي مباشرةً، قامت الثورة الوطنية ضد الاحتلال، انتهت — بعد نفي «سعد زغلول» وبعض زملائه مرة أخرى إلى سيشل — بالاعتراف بمصر مملكة، وبإعلان ٢٢ فبراير سنة ١٩٢٢م.
•••
في خلال هذه الفترة الحافلة، التي تأججت فيها شعلة القومية في شوارع القاهرة، وفي مصر كلها، لا سيما في نفوس الطلبة بالذات … في هذه الفترة بدأ «توفيق الحكيم» ينضج.
في تلك الفترة الزاخرة بالانفعالات أقبل المسرح المصري على عصره الذهبي، ممثَّلًا في فِرَق «نجيب الريحاني» و«علي الكسار» و«زكي عكاشة»، التي كانت تعتمد على مؤلفين من أمثال «أمين صدقي»، وعلى ملحنين من أمثال «سيد درويش». وراج إذ ذاك نوعٌ من المسرحيات الفكاهية — «الكوميديات» — الشعبية المصحوبة بأغانٍ ورقصات وموسيقى. بيد أن الأحداث السياسية التي أدت إلى نفي سعد زغلول ورفاقه، وإلى ثورة سنة ١٩١٩م؛ كانت ذات تأثيرات عظيمة على المسرح الشعبي؛ إذ إنه انتهز فرصة ليُدخل على مسرحياته إيحاءاتٍ وطنيةً متوارية، وعلى أغانيه نغمةً قومية تناسب الموقف وتستمد من وحيه. وسرعان ما أصبحت هذه الأغاني تُردَّد في الشوارع … وهكذا ساهم المسرح الشعبي — في تلك الفترة — في القضية السياسية لمصر.
وفي هذا الجو المشحون بالانفعالات الوطنية، وبالصراع السياسي، وبغِنى المسرح القومي؛ كان «توفيق الحكيم» يجتاز أهم سِني العمر، وهي السنون التي تمتد من الثامنة عشرة إلى الخامسة والعشرين، ففيها تجلَّى حبه العميق للمسرح … ذلك الحب الذي كان كامنًا — دون ما ريب — في أعماقه، والذي كان ينمو ويستوي كالنبتة القومية، والذي كان ينمو نموًّا قوميًّا واقعيًّا، فألهمه أولى رواياته: «عودة الروح» التي قُدر لها أن تُنشر في سنة ١٩٢٣م؛ على أنه — فوق هذا — راح يغذي الفِرَق التمثيلية التي قامت في تلك الفترة بمسرحيات كان يبتكر أفكارها ويكتب حوارها، دون أن يضع اسمه ولقبه عليها؛ ومن ثم اكتسب تجربة ككاتب مسرحي على اتصال دائم بالممثلين الذين كانوا أكثر منه خبرةً بضرورات الإخراج وتكوين المناظر؛ بحكم ما كانوا يلمسونه من نجاح أو فشل في اتصالاتهم اليومية بالجمهور … فاكتسب «الحكيم» من خبرتهم ما أفاده في استكمال استعداده للتأليف المسرحي.
وكانت أولى مسرحياته تسمى «الضيف الثقيل» في سنة ١٩١٨م، وكان من الواضح أن إنجلترا هي الضيف الثقيل الذي لم يَدْعُه أحد، ولكنه أقبل دون استئذان، ثم أبى أن يبرح الدار. وقد منع الرقيب المسرحية، فلم يُقدَّر لها أن تُمثَّل … على أن ثلاث مسرحيات أخرى — كتبها لفرقة «زكي عكاشة» — لقيت قَبولًا، ولكنها لم تشتهر؛ وهي: «الخطيب» — التي مُثِّلت في سنة ١٩٢٤م، و«المرأة الحديثة» — وقد مثِّلت في سنة ١٩٢٦م — وأوبريت «علي بابا»، وقد أُخرجت في سنة ١٩٢٦م كذلك.
ومع ذلك، فإن أباه لم يرَ في كل هذا الاتجاه الذي لا يقاوم نحو الوسط المسرحي سوى مظهرٍ للفساد، برغم أنه كان قاضيًا منصفًا؛ ذلك لأنه لم يحدس مدى عمق ذلك الحب وتأصُّله، ولا على أي أساس روحي خالد كان يقوم؛ فقد غفل — ككل الآباء — عن مواهب ابنه، ولكي ينتزعه من هذه النزوات، أوفده إلى باريس لكي يستكمل دراساته القانونية ويحصل على «الدكتوراه»، ولكنه لم يفطِن قط إلى أنه إنما أوفده إلى عكس ما كان يبغي تمامًا. فما إن استقر الشاب في باريس، والتحق بكلية الحقوق، حتى اتجه — كما تتجه إبرة البوصلة نحو الشمال — إلى الأوساط الفنية والأدبية البوهيمية، وإلى المقاهي التي كان الممثلون يَغْشونها، وكثيرًا ما كانت قدماه تُقلَّانه إلى مسارح «البوليفار» و«مونبارناس» و«مونمارتر»؛ بدلًا من قاعات المحاضرات في «السربون».
وانقضت ثلاث سنوات — من ١٩٢٥ إلى ١٩٢٨م — قبل أن يفقد أبوه الأملَ في أن يراه حاملًا للقب «دكتور في القانون» … ثلاث سنوات أنفق الشاب وقته خلالها في قراءة الأدبين: المعاصر والقديم، وفي شَحْذ قريحته، وفي صَقْل مواهبه وذوقه.
•••
ولكن لكل شيء نهاية.
ففي ذات يوم، عزف الأب المصدوم في آماله عن أن يبعث إلى ابنه بالمعونة المالية التي كان يسيء استخدامها فيما لا نفع له — كما كان يرى — وأرسل إلى ابنه يستدعيه للعودة إلى مصر. على أن الأمل لم يفارقه في أن يرى ابنه يتخذ المهنة التي ارتقى هو درجاتِها موفقًا. ومن ثم فقد قضى «توفيق الحكيم» المدة بين سنتَي ١٩٢٨ و١٩٢٩م عضوًا في المحكمة المختلطة بالإسكندرية، وكان هذا المنصب ملائمًا له كلَّ الملاءمة، فهو في العاصمة الثانية للبلاد، وهو منصب مرموق، لامع، يُكسب صاحبه مكانة اجتماعية. ومن ثم لم يجد «توفيق الحكيم» فيه أية غضاضة أو مضيعة لأحلامه. حتى إذا كانت سنة ١٩٢٩م إذا به يُعيَّن نائبًا لدى المحاكم الوطنية.
وقُدِّر للشاب في الأعوام الأربعة التالية أن يرى مصر كما لم يرها من قبل، لا الواجهة الجميلة لمصر التي تتمثل في أهل المدن، وفي مظاهر المدنية الحديثة في القاهرة والإسكندرية. وإنما الواجهة التي تتمثل في المجتمع الأكبر؛ مجتمع أبناء المدن الصغيرة، وأدنى أوساط الطبقة الوسطى، في البنادر والمراكز الريفية التي تنقَّل بينها بحكم منصبه … وحولها الريف الواسع الشاسع بأهله الذين لا حصر لهم من الفلاحين الكادحين، وكان هذا بالنسبة لتوفيق الحكيم بمثابة رفع حجاب عن عينيه؛ ليرى فرط شقاء هؤلاء القوم، وعواطفهم العنيفة الكظيمة من ناحية، ولطفهم ومرحهم وروحهم الشاعرية التي كانت بمثابة منحة من السماء أو نعمة جعلت عيشهم الزريَّ محتمَلًا بالنسبة لهم.
وراح يقيس السياج الخفي الذي كان يفصل الفلاحين من أهل مصر الذين يعيشون في عهد متأخر عن عهد مواطنيهم الموظفين من أهل المدن، الذين كانوا يطبقون عليهم قوانين مستمدة من قوانين نابليون، التي لم يكونوا يفقهون منها شيئًا، ومع أنهم كانوا مطواعين سلمى القِيَاد، فإن أحدًا لم يُعْنَ بمساعدتهم في محنتهم وشقائهم.
وفي خلال هذه الفترة من حياته، راح «توفيق الحكم» يجمع مشاهداته عن حياة الفلاحين، وعن عاداتهم وعن كلامهم، وعن معتقداتهم، وعن ظلم أو إهمال الموظفين الحكوميين لشئونهم، وعن طغيان مُلاك الأراضي الأغنياء … وهذه المشاهدات التي استخدمها بعد ذلك في «يوميات نائب في الأرياف» — في سنة ١٩٣٧م — وفي كثير من القصص التي تضمنتها المجموعة المسماة: «ذكريات في الفن والقضاء»، التي نشرت في سنة ١٩٥٣م، ثم في مسرحية: «الصفقة»، التي مُثلت في سنة ١٩٥٧م.
وبعد أربع سنوات من العمل الذي كان يَعافُه لولا أن وجد فيه نواحي فكهة، وشاعرية كذلك، كان توفيق الحكيم قد جمع كل ما ينبغي أن يعرف عن بلاده، وعن شعبها، وأثقلت فؤاده صورُ التعاسة والشقاء التي كانت تحيط به، وإن لم يكن أثرها عقيمًا في نفسه، فما لبث أن تعطَّش إلى العودة إلى الأوساط المتمدينة ليُطلعها على هذه الصور، وشعر بأنه لا سبيل إلى إثارة انتباه الرأي العام بالمؤلفات والمقالات إلا إذا استقر به المقام في عاصمة البلاد؛ ومن ثم طلب تحويله إلى وزارة المعارف العمومية (وزارة التربية والتعليم). وفي تلك السنوات كانت جهوده الأدبية في نضوج وتقدُّم، برغم الجو الذي كان يعيش فيه، فما لبث أن نشر في سنة ١٩٣٣م أولى مسرحياته الفلسفية التي أثارت ضجة ومعارضة كبيرة، وهي: «أهل الكهف».
وإذا علم النائب العام أن أحد معاونيه هو سر الضجة التي ثارت حول أحد الأعمال الأدبية، حتى استدعاه ونصحه — في نهاية المقابلة — بأنه كان من الأفضل لو أنه برز بمؤلف في «القانون»، فانتهز توفيق الحكيم هذه الفرصة ليجيب قائلًا بأنه من الأنسب لحياته الأدبية وما قد تثيره من ملابسات لا ينبغي أن تؤثر على منصبه القضائي، أن يحول إلى وزارة المعارف العمومية.
وهكذا لم يُقدَّر للنزاع الطويل بين ميوله المتأصلة ككاتب، وبين دراساته، وبين منصبه القضائي الذي حاول أبوه أن يحمله على المضي فيه … لم يُقدَّر لهذا النضال أن ينتهي إلا وقد بلغ «توفيق الحكيم» السادسة والثلاثين، فعُين مديرًا لإدارة التحقيق بوزارة المعارف العمومية في سنة ١٩٣٤م، وهو منصب قضائي هو الآخر، ولكنه أكثر تحررًا من سابقه، وأدعى لاستقرار صاحبه في القاهرة، وما لبث الكاتب أن نُقل في سنة ١٩٣٩م إلى وزارة الشئون الاجتماعية، التي أُنشئت على أثر الضجة التي أثارها كتابه «يوميات نائب في الأرياف»، لا سيما التعليقات المهتاجة التي نشرتها الصحف عن هذا الكتاب الذي عرض بصراحة صادقة — لأول مرة — الأحوال الاجتماعية للفلاحين.
وفي وزارة الشئون الاجتماعية عُين «توفيق الحكيم» مديرًا لمصلحة الإرشاد الاجتماعي، التي تسمى — في بداية عهد الوزارة — بمصلحة الإرشاد القومي، وكثيرًا ما تعرَّض توفيق الحكيم خلال عمله لغضب رؤسائه من جرَّاء مؤلفاته ومقالاته التي كانت تهاجم جميع الجهات ذات السلطان على السواء. وكم من مرة أُنذر بالإيقاف والتحويل إلى مجلس تأديب! ولكن خوف المسئولين من ثورة الرأي العام؛ ولما كان للكاتب كثير من الأنصار في الصحافة، انتهى إلى خصم مرتب نصف شهر، وهو أقصى ما كان الوزير يملك أن يقضي به وَفقًا للوائح.
على أن توفيق الحكيم لم يَعُد — في سنة ١٩٤٣م — يطيق القيود التي كانت الوظيفة تفرضها على حريته، ولا المضايقات التي كان مُعرضًا لها كموظف، فقدَّم استقالته من العمل الحكومي ليصبح حرًّا يستطيع أن يُعبر عما يَجيش بنفسه، ومع ذلك فإنه قَبِل — في سنة ١٩٥١م — منصب المدير العام لدار الكتب، وهو منصب كان يبيح له كلَّ الحرية في أن يكتب ما يشاء في جو ملائم. حتى إذا أنشئ المجلس الأعلى للفنون والآداب — في سنة ١٩٥٦م — عُين توفيق الحكيم عضوًا دائمًا فيه … وهو منصب ظل يشغله إلى أن عُين في منصب المندوب الدائم للجمهورية العربية المتحدة في «اليونسكو» بباريس، بعد أن حظي بأرفع وسام في الدولة.
•••
ولا يبدو أن للمسائل الشخصية — من غراميات أو عواطف أو رياضة أو أية هواية — مكانًا كبيرًا في حياة «توفيق الحكيم»؛ فقد انصرف بكل ذاته إلى الأدب والمسرح والصحافة في أوقات الفراغ التي كانت أعماله الحكومية تتركها له، ولعل رياضته الوحيدة تمثلت في حبه للجلوس في المقاهي — في فترة العصر من كل يوم — بصحبة الأصدقاء الذين يلتفون حوله … ولعل هوايته هي العصا و«البيريه» اللتين لا تفارقانه … والبخل الذي يشاع عنه!
ولم يقبل «توفيق الحكيم» أن يشتغل بالسياسة الحزبية ولا بكتابة المقالات السياسية بالمعنى الحزبي المعروف، بل إنه جعل يُسجل استهجانه للأحزاب السياسية جميعًا، والنظام الديمقراطي الزائف الذي ساد مصر منذ انتهاء الثورة في سنة ١٩٣٢م، وذلك بمقالات أدبية في أسلوب مفعم بالسخرية، فقد كان ذلك النظام الديمقراطي — كما صوَّره في «شجرة الحكم» — يتيح لمحترفي السياسة أن يَجنوا كثيرًا من الثمار الشهية. وقد أصدر هذا الكتاب في سنة ١٩٤٥م، وضمَّنه مقالات حمل فيها على هذه المساوئ. كما أنه عالج مشكلة الحكم والسلطان في مصر — في سنة ١٩٣٩م — في مسرحية من وحي الشاعر الإغريقي الفَكِه «أريستوفان»، سماها «براكسا: أو مشكلة الحكم». وفي بعض مؤلفاته الأخرى التي تعالج نفس الاتجاهات، مثل «يوميات نائب في الأرياف»، وعدد من قصصه القصيرة، و«مسرح المجتمع» — الذي أصدره في سنة ١٩٥٠م، والذي ضم ٢١ تمثيلية — و«ذكريات الفن والقضاء» … بل ومسرحيته «الصفقة»، فإن هذه كلها تسعى إلى كشف أسباب العلة في الظروف الاجتماعية الاقتصادية التي صوَّرها «الحكيم» بأسلوب واقعي تخالطه حرارة العاطفة، ولطف الفكاهة والشعر؛ فقد رأى أن الفكاهة والشعر كانا دائمًا صِنْوين لا يفترقان عن الشقاء والبؤس في الريف المصري.
ولقد ظل «توفيق الحكيم» معروفًا لأمد طويل بأنه «عدو المرأة»؛ لِمَا نشره من مقالات حافلة بالسخرية والفكاهة عن الحركة النسوية المصرية «وعن اشتغال المرأة بالأعمال»، وكانت «براكسا» بالذات مثالًا واضحًا لذلك. على أنه لم يلبث في سنة ١٩٤٦م أن تزوج، وكان زواجه موفقًا سعيدًا، وأتاح لعدو المرأة أن يصبح أبًا لولد وابنة.
•••
وتزخر مؤلفات «توفيق الحكيم» بالتناقض الأسلوبي؛ فهي تلفت النظر لأول وهلة بما فيها من واقعية التفصيلات وعمق الرمزية الفلسفية … بروحها الفكهة وبرقَّة شاعريتها … بنزعة حديثة مقترنة — في كثير من الأحيان — بنزعة «كلاسيكية».
ذلك لأن «الحكيم» فنان في أعماقه، ولعله من أكثر الكُتَّاب الكبار فنًّا، لا في مصر وحدها، ولا في الأدب العربي فحسب، بل في الأدب العالمي بأَسْره، فقد أخذ من الإغريق القدامى تقدير العمل المتقن الأداء، وحب المسرح الذي يصور مصير الإنسان خلال قصة رمزية، تعالَج غالبًا بدقة تتسم بكثير من الواقعية والتحليلات النفسية والتاريخية والسياسية والاجتماعية في آن واحد. وقد عرف كيف يكتسب لنفسه شيئًا من فكاهة «أريستوفان» وذكائه اللاذع، ومن الشاعرية الدرامية التي امتاز بها «يوريبيدس» و«سوفوكل»، وكثيرًا ما وفِّق إلى ذلك التوازن الرفيع بين عناصر عديدة متباينة، بعضها يتصل بالحياة أو بالخيال، وبعضها بالحس أو العاطفة، ولكنها تتسق جميعًا حول الشخصيات الرمزية، وتَدَع للفكر الغلبة في النهاية، بعد موت الأبطال أو فشلهم، وبعد غياب الممثلين عن المنصة.
ولا يبدي «توفيق الحكيم» هذه البراعة في المسرحيات التي تدور حول موضوعات أسطورية قديمة، مثل «بجماليون» و«براكسا» و«الملك أوديب» فحسب، بل إنه لم يكد يصل إلى سر صنعة الإغريق، حتى عكف على محاولة تطبيقه على موضوعات جديدة؛ ليخلق شخصيات جديدة، كذلك انصهرت في أعماقه آدابٌ أخرى بنفس الدرجة … آداب الشرق في عهد ازدهارها — أيام «ألف ليلة وليلة» وأشعار «ابن الرومي» و«أبي نواس» و«المتنبي» — وآداب الغرب ممثَّلة في إنتاج «شكسبير» و«راسين» و«ميترلنك» و«إبسن» و«جيرودو» و«بيرانديللو» و«كوكتو». وقد تعاونت هذه العناصر متكافئةً مع شخصيته الفنية لإنتاج مسرحيات رصينة متزنة.
وإلى جانب ذلك، أوتي «الحكيم» روحًا حديثة، وموهبة مجددة، بالرغم من إغراءات الفن، وفتنة الموضوعات الكلاسيكية والشخصيات الرمزية الخالدة. وقد تجلى هذا إلى درجة كبيرة بما أضافه — إلى كل ما سبق — من الواقعية المستمدة من الدراسات النفسية؛ مما يوحي بإلمام واسع بالثقافة المعاصرة، وبالتحليل المنطقي بوجه خاص. فبهذا توسل إلى تفادي المغالاة في الحركة المادية، التي كانت كفيلةً بأن تُكسب مسرحياته شيئًا من المبالغة.
•••
على أن الفن لا يتعارض مع الحياة عند «توفيق الحكيم»، بل إنه — على العكس — قد أتاح له أن يوقِع النغم المناسب، المليء بالأصداء والرنين، أو بما يختار الفنان أن يشحنه به من معانٍ؛ ففي «يوميات نائب في الأرياف» يَرِد الوصف الواقعي لحال الفلاحين في سياق عقدة روائية شبه بوليسية، لا يكشف المرء غموضها قط، كما في ذلك الشعر الغامض الذي ساقه على لسان «شَريد به خَبَل» هو «الشيخ عصفور» وهو يتغنى بمحبوبته.
هذه الخيوط المتشابكة بحذق الكاتب جَدَلها بمهارة الفنان؛ لينتج صورة تطبع على صفحة النفس أثرًا أكثر شمولًا لوقائع الحياة؛ الحياة في الريف المصري … تلك الوقائع التي كان يراها، والتي يقوم فيها — إلى جانب ما كان يستهجنه ويعلنه من شقاء الفلاحين — ذلك الجانب الشاعر الغامض، وتلك الجرائم التي كان يدرك أكثرَ مِن سواه أن لا سبيل لامرئ إلى أن ينفُذَ إلى سرها.
•••
وفي الوقت ذاته، نرى أن «الحكيم» يجيد استخدام وسائل الفن المختلفة لخدمة الموضوع؛ ففي «عودة الروح» وفي «ذكريات في الفن والقضاء»، وفي تمثيلياته الفكهة، نجد أن الفن يتمثل دائمًا في بنيان الإنتاج الأدبي، وفي الأسلوب، مستخفيًا بحيث يَدَع الصورة تبدو بمظهر واقعي محض. وهذا عين ما حدث في «الصفقة»، فهنا عمد الكاتب إلى تجربة استخدام لغة عامية تمامًا، ولكنها تخضع لقواعد اللغة العربية الفصحى. وهذا مثال للفن المستتر الذي يسمح بعرض الواقع بكل ما له من نكهة شعبية أرضية.
وبوُسع المرء أن يقول: إن الفن كان دائمًا العنصرَ الجوهري في حياة «الحكيم» بأَسْرها، فلا يعرف أحد في حياة هذا الكاتب عاطفة جامحة، أو عملًا سياسيًّا خارج نطاق الفن، فإن الرجل المتمثل في شخصيته اعتاد أن ينظر إلى الأحداث السياسية، وإلى الأشخاص الأعزاء لديه، وإلى المواقف الخاصة والمواقف القومية خلال فنه، فنجد أن الفن قد خدم هذا الفنان في التعبير عن حبه وعن عواطفه، وللتسامي بأحزانه وصدماته النفسية، وليحقق — في دنيا المسرح — أهواءه وأمانيه، فيبني واقعًا يخضع للقواعد والقوانين التي يفرضها الفنان. فكان الفن، والفن المسرحي بوجه خاص، ملاذًا «لتوفيق الحكيم» من قسوة الحياة؛ ففيه الأمل الذي يُمني نفسه بتلك الجنة المصطنعة، التي بهرته على مسارح الفرق التمثيلية المتجولة؛ وهو بعدُ صبيٌّ صغير. فالفن لهو — كما كان يشتهيه «أرسطوطاليس» — مُطهِّر لنزوات نفسه ومحقِّق لها، في دنيا لا تخضع للمصادفات، وإنما تخضع فيها إرادة الغير لإرادته الشخصية، أو لإرادة الفنان الكامن في نفسه على الأقل.
على أننا يجب ألا نستنتج من هذا أن «توفيق الحكيم» داعيةٌ من دعاة «الفن من أجل الفن»، يعيش حبيسًا في أطواء فنه كمن يعيش في برج عاجي، فهو يستطلع خلال عدسة الفن وحدها كلَّ جواهر الدنيا التي كان يراها في الواقع بكل أدوائها الاجتماعية، وديمقراطياتها الزائفة. إن «توفيق الحكيم» يعيش الأحداث خلال فنه، فساهم في الجهاد الوطني والسياسي والاجتماعي، متكلمًا بألسنة شخصيات تصيح من وراء قناع الفن المجسَّم، كما كان يحدث أيام الإغريق، وهي طريقة تضخم صوت الإنسان — كما هو معروف — كي يصل إلى أسماع الحشد الذي لا حصر له.
وحتى كتابه «من البرج العاجي» إن هو إلا صيحة المؤلف بخيبة أمله في سلطان رجل الفكر أمام رجال السياسة، وبالعزلة التي يصادفها الكاتب في أداء رسالته وهو يصف الحياة ويكشف عما فيها من قوًى مسيطِرة، وهي مهمة أشبه بمهمة الكورس في «التراجيديات» القديمة. هذه الخواطر ذات الطابع الفردي تحمل في الواقع دليلًا على موقف الكاتب في مجتمع لا يأخذ رسالته مأخذ الجِد … مجتمع يبلغ فيه عدمُ فهم الفن درجةً تسيء أبلغ إساءة إلى سلامة ضميره.
•••
وبعد … فما هي الفكرة التي تساند وتوضح حقائق الحياة التي يعرضها «الحكيم» في مسرحياته الكبرى المستمدة من الأساطير والقصص الديني؟! … إن «أهل الكهف» و«شهرزاد» و«سليمان الحكيم» و«بجماليون» و«أوديب ملكًا» تكشف لنا عن أصول هذه الفلسفة.
لقد حاول «الحكيم» — كمُعارِض لمذهب «الإرادة» بطبعه — أن ينقُضَ فلسفة أوروبية معينة، لا سيما مذهب «نيتشه» بالذات. فالمرء في نظر نيتشه — وكذلك في نظر «أندريه جيد» وغيرهما حرٌّ مطلق الحرية ومنفردٌ تمامَ التفرد في الكون. وقد أراد الحكيم أن يُبين في تمثيلياته أن الإنسان ليس صاحب السلطان الأوحد، ولا هو حر مطلق الحرية. «وإنما تنبع عظمته من نضاله الباسل في سبيل الانتصار في حرب مستحيلة ضد القوى غير المرئية المسيطرة على مصيره»، فنرى الكاتب يعيد ذكرى الحكمة الإغريقية القديمة التي تتجلى بأقوى تعبير في التمثيليات التراجيدية الإغريقية، ولكنه يصوغ هذا الفكر العميق في قالب حديث. وهذه القوى الخفية التي توجه مصيره، والتي يناضلها؛ هي قوى لم تَعُد تتمثل في آلهة العصور الغابرة، ولا «القدر»، بمفهومه القديم، وإنما هي — لدى توفيق الحكيم — قوًى طبيعية تنبع من وجود الإنسان نفسه، فهي قوى توجد فيه هو الآخر كذلك، في داخله وليست خارجه.
ففكرة الزمن — مثلًا — لم تعد تتمثل في الإله «كرنووس» أبي الآلهة عند الإغريق، وإنما هي قانون طبيعي من قوانين الإنسان … حقيقة واقعة تؤلف جزءًا من نسيجه ذاته، وتُمكِّنه من أن يعيش، وهي تأسِره في الوقت ذاته … فالكهف — في «أهل الكهف» — هو سجن الزمن، وهو سجن غير مادي، ولكنه في الوقت ذاته جزء من وجودنا؛ بحيث إن الاتصال بين أهل العصر الذي نوجد فيه، وبين من هم ليسوا معاصرين لنا؛ يصبح مستحيلًا؛ أي: إن الإنسان ليس حرًّا في التحرك داخل الزمن، أو الحياة في أفكار غابرة حتى لو أراد ذلك، إنها دعوة إلى مقاومة الرجوع إلى الوراء؛ لأن كل عصر له حياته وأفكاره، وقد ظهر فيها «إفلاس البعث» إلى نفس الحياة السابقة.
والقوة الأخرى التي تمنع الإنسان من أن يكون حرًّا: هي إنسانيته، وكونه مخلوقًا بين الحيوانية والروحية، وهذا هو الطابع الذي يتجلى بقوة في «شهرزاد»، فقد أراد «شهريار» أن يتخلص من كل ما كان يجعله إنسانًا ضعيفًا كغيره من البشر، وبعد أن أطلق العِنان لشهواته في كل اتجاه، وبعد أن اغترف من كل الملذات والمباهج، أراد أن يتجرد، لا من الجسد وحده، بل كذلك من الأحاسيس والعواطف … من الحب أو الغيرة … أراد أن يصبح معرفة خالصة، أراد أن يجعل «المعرفة» فوق «الإنسانية» … أراد على كل حال أن يتجاوز نطاق الجاذبية الإنسانية في أي اتجاه. على أن شهريار — في رأي «توفيق الحكيم» — رغب في أن يهجر الأرض بحثًا عن سماءٍ عليا مستحيلة، فكان مُقدرًا عليه أن يبقى معلقًا بين السماء والأرض، نهبًا للقلق. وما شهريار سوى مثال لذلك الإنسان الأعلى الذي يرقى فوق مَصافِّ البشر … الإنسان الذي كان «نيتشه» يُبشر به … وهو — في رأي توفيق الحكيم — لم يصل في سعيه إلى شيء؛ إنه أيضًا قد أفلس.
ومثال آخر ضد نظريات «نيتشه» و«أندريه جيد» … ذلك هو «أوديب ملكًا» كما صوَّره «توفيق الحكيم»، فقد استعرض الكاتب المصري دور «تيريسياس» — الكاهن الأكبر — على ضوء جديد مبتكَر، فإن هذا الكاهن الأكبر الذي لم يكن يؤمن قط بالآلهة التي تمارس طقوس عبادتها؛ لَمِن أروع الشخصيات «الحكيمية» التي تُصور نظريات «نيتشه»؛ لتسخر منها في النهاية. فقد كان «تيريسياس» — في الواقع — على ثقة لا حدَّ لها بنفسه، حتى لقد رغب في أن يقوم بدور الآلهة، وأن يصنع للغير قدرهم ومصائرهم، وكان يعتمد — في تحويل المستقبل — على إرادته وحده. وقد أراد أن يغير نظام الوراثة في البيت الملكي لمجرد إرضاء غروره بالعبث بمصائر البشر. ومن أجل هذه الغاية أقنع «لايورس» بأن ابنه مصدر خطر على حياته؛ لأنه لن يلبث أن يقتله بمجرد أن يبلغ سن الرشد؛ ومن ثم أشار على «لايورس» بالإيعاز بقتل ابنه، ثم كان هو نفسه — «تيريسياس» — الذي ابتكر فيما بعد كلَّ الشائعات عن خرافة الوحش الرهيب، مستغلًّا في ذلك الخوفَ الذي نشأ عن وجود حيوان كاسرٍ هاجَم بعض المارة، ثم كان هو نفسه الذي أعلن أن الذي يُخلِّص البلاد من الوحش الرهيب؛ سيتزوج الملكة ويتولى الحكم، وقد رغب في أن يضع بذلك نهايةً لنظام توارث الملك؛ بأن يرفع إلى العرش أول قادم … وكانت هذه مؤامرة لا تستغرب من «الإنسان»، وقد رد عليها «القدر» بسخريته المعهودة، فأنقذ «أوديب» وأرسله هو نفسه إلى البقعة التي يقوم فيها بالدور الذي دبره «تيريسياس».
هكذا صوَّر الحكيم إرادة الإنسان الأعلى كما كان يرجوها «نيتشه»؛ صوَّرها وهي تتحرك في نطاق أوسع من نطاقها … في نطاق إرادة أخرى غير منظورة … ولم يَعُد يُهم بعد ذلك أن يسمي الإنسان هذه الإرادة ربًّا، أو قدرًا، أو مصادفة. إن عظمة الإنسان ليست في أن يرى نفسه الكائن الأعلى الحر الأوحد، ولا في أن يرى نفسه صِنوًا للآلهة، وإنما في أن يعترف بوجود هذه القوى غير المنظورة، التي تعترض طريقه، والتي لا بد له من أن يناضلها دون هوادة.
•••
ومع ذلك، فإن هذا النضال لا يهدف إلى قهر هذه القوى، وإنما هذا النضال ضروري من أجل الحياة ذاتها … ضروري لكي يستطيع المرء أن يعيش؛ إذ إن الحياة لا توهب جامدة، وإنما هي تُصنع من صراع دائب بين القوى المتعارضة في أعماق نفوسنا. وإن «بجماليون» لَمِثال يبين الكفاح الدائر أبدًا بين الواقع والمثالية. فالإنسان لا يقنع إذا ما حظي بالواقع، ولا هو يقنع إذا ظفِر بالمثل الأعلى؛ ذلك لأن الإنسان يشترك في نظامين يتصارعان باستمرار في أعماقه، ولا ينبغي لأحدهما أن يتغلب.
وأخيرًا يبين «توفيق الحكيم» في «سليمان الحكيم» أن الإنسان يقع كذلك ضحيةً لقوته الذاتية التي تستطيع أن تُفقده الحكمة.
إن القوى الداخلية والقوى الخارجية سواءٌ بالنسبة للإنسان؛ فكل منهما جزء من الطبيعة، والحرب بينهما — دونما أملٍ في سلام حاسم — هي قاعدة الحالة الإنسانية وقانونها؛ لأن أي انتصار حاسم ونهائي لعنصر منهما فيه ضياع للإنسان.
•••
ولقد اتُّهم «الحكيم» بأنه متشائم في فلسفته عن الإنسان ومصيره، ولكن … هل رسالة الكاتب هي أن يصطنع دنيا كاذبةً وإنسانًا زائفًا ليصور الإنسان حرًّا كأنه إله … حرية مصطنعة ترضي غروره وتعميه عن الحقيقة؟
لقد رأينا إلى أي مدًى كان الفن جزءًا من حياة «توفيق الحكيم» ذاتها، أو — بالأحرى — كيف كانت حياته جزءًا من الفن، فمن المستحيل عليه أن يُحرِّف ما يؤمن بأنه حقيقي، دون أن يشوِّه الصورة التي يرسُمها لنفسه وللدنيا. إن ممارسة أي لون من الواقعية الحقيقية في دنيا الفكر، وفي النظرة إلى العالم؛ ليست تشاؤمًا ولا تفاؤلًا، لا سيما عند «الحكيم» بالذات، فإن رسالة الكاتب عنده هي في تصوير الإنسان بحجمه الحقيقي بالنسبة للكون، وأن يكشف ويبين الأخطار الداخلية والخارجية التي تهدده، وأن يحدد بدقة مجالَ ووسائل الصراع اللازمة في سبيل الحياة، وفي سبيل التقدم نحو الحرية ونحو الأماني السامية.
كذلك يقف «توفيق الحكيم» على مسافة بعيدة من الطرف الأقصى الآخر؛ «الوجودية الحديثة» التي ترى الحياة عقيمة، ووجود الإنسان لا معنَى له. فحياة الإنسان توفيق الحكيم لها معنًى: هو سعي الإنسان الدائم إلى التوازن أو التعادل — شأنُه شأنُ الكواكب — بين قواه هو فيما بينها؛ ثم بالنسبة إلى قوى الكون الأخرى الظاهرة والخفية التي تحيط بها من كل جانب، وهو يناضل حتى لا تجذبه قوى العدم كما جذبت كواكب ضخمة. ووسيلة نضاله هي اكتشافاته الدائمة لمنابع قوًى جديدة في أعماقه، يناهض بها ويوازن ويعادل قوى الكون التي تُهدده. هذه الاكتشافات الدائمة لنفسه ولقواه؛ هي في ذاتها غاية للوجود الإنساني. أنبل غاية لحياة الإنسان هي اكتشافه الدائم لقواه؛ لأن عملية الاكتشاف عنده تولد حركة خلق متجددة فيها كلُّ معنى الحياة المثمرة؛ لهذا كان لا بد من أن يكون الإنسان صادقًا مع نفسه في اكتشافه لها. وتلك رسالة الأدب الحقيقي في نظر الحكيم.
على أن توفيق الحكيم متفائل صراحةً في قصصه وتمثيلياته الوطنية والاجتماعية؛ التي يكشف فيها — هي الأخرى — الأخطار التي تُهدد الفرد الاجتماعي. لقد رُدَّت الروح وبُعثت في مصر بفضل الجهاد والثورة الوطنية. وهذا موضوع عاد يعالجه ويصوِّره بصورة أخرى في «إيزيس». وإذا كانت «يوميات نائب في الأرياف» قد عمدت إلى كشف بؤس الفلاح دون الإيحاء بعدُ بأي أمل؛ لأن الكفاح العملي ضد الشقاء والفقر لم يكن قد بدأ بعدُ — نشْرُ الكتاب ذاته كان من أسباب البدء — فإن «الصفقة» على النقيض؛ إذ إنها تبين الفلاحين وهم يصارعون حالتهم الاجتماعية، وتُبشر بالانتصار. وهنا نجد القوى المصطرعة داخل نفس الإنسان تتمثل في الأنانية والغش والنفاق في جانب، والتضامن والتعاون في جانب آخر. أما القوة غير المنظورة فتتجلى في غريزة سيطرة المال. ويبين المؤلف هنا أن من الممكن خوضَ هذا الصراع والفوز فيه.
ومن ثم، فمِن رأي «الحكيم» في مضمار النضال القومي، أو الاجتماعي، أو السياسي؛ أن حرية الإنسان تعمل على تحسين مصيره.
وكما أنه كان من الخطأ القول بأن «الحكيم» متشائم — في المثل الأول — فمن الخطأ أيضًا القول بأنه متفائل، في هذا المثل الأخير. ذلك أن «توفيق الحكيم» إنما يسعى إلى إبراز ما يعتقد في الواقع، ولكن واقعيته لا تقتصر على رسم كل دقائق الأحوال المادية؛ لأن هذا في نظره بترٌ لحقيقة الحياة، وإنما واقعيته هي أيضًا واقعية الفكر والمتضادات النفسية والخلقية، التي تنطوي عليها طبيعة الإنسان، وطبيعة الوسط الفكري الذي يعيش فيه.
•••
على أننا نجد وراء كل هذا أن مجال الفن هو الذي يُنقذ الإنسان، في خِضَمِّ المتناقضات وألوان الصراع التي لا تنتهي، والتي يفرضها عليه واقعُ الدنيا وطبيعتها الحقيقية. وهذا ما لم يدخل صراحةً في الفلسفة التي عبَّر عنها توفيق الحكيم، بل إن من الممكن القولَ بأنه ذهب في «بجماليون» إلى العكس؛ إذ بيَّن أن الفن وحده لا يكفي، وراح هو — في محاولة طويلة — يسعى إلى إعادة تشكيل الدنيا والإنسان، دون أن يموِّه على نفسه أو يخدعها.