فترة الطفولة والشباب
كانت لحظة حاسمة من لحظات التاريخ العالمي، وتاريخ ألمانيا خاصةً، تلك التي وُلد فيها ريتشارد ڤاجنر؛ ففي عام ١٨١٣م كان نابوليون لا يزال يُحرز بعض الانتصارات العسكرية هنا وهناك، ولكنه كان يحس بأنها بداية النهاية؛ إذ أصبح يواجه أمامه، لأول مرة، أممًا وشعوبًا لا حكومات، وكان الشعب الألماني هو أول شعب أيقظته مدافع نابوليون من سُباته العميق.
وفي ٢٣ مايو من ذلك العام نفسه وُلد فلهلم ريتشارد في «ليبتسج»، وكانت تلك المنطقة ذاتها مسرح قتال عنيف بين نابوليون وبين الجيوش الألمانية في ذلك الحين، ولم يكن ذلك الموعد من قبيل المصادفة في نظر ڤاجنر عندما عاد بذاكرته فيما بعدُ إلى وقائع حياته؛ فقد اقترن مولده، في نظره، بمولد الأمة الألمانية التي طالما تغنَّى في أعماله وكتاباته بأمجادها.
ولقد أشرف جاير بنفسه على تعليم ريتشارد الصغير المراحل الأولى لحياته. وكان تأثيره الأكبر فيه راجعًا إلى ميوله المسرحية الواضحة؛ ذلك لأن جاير نفسه كان أحد ممثلي المسرح الملكي في درسدن، وقد حرص على أن يحيط ريتشارد بجوٍّ مسرحي صرف. ورُوي عن ڤاجنر أنه اشترك وهو لم يزل طفلًا، في أداء قطع تمثيلية وأجاد دوره فيها إلى حدٍّ كان يبعث على الإعجاب الشديد. ولقد وصف ڤاجنر ذاته فيما بعدُ تعلُّقه بالمسرح في طفولته المبكرة بهذه العبارات: «لم يكن ما يحبِّبني في المسرح … هو الحاجة إلى اللهو والتسلية التي يسعى إليها الناس عادةً؛ وإنما ذلك الجو الجديد الذي كان يُثيرني ويخلب لُبِّي بما فيه من أحداث تختلف تمامًا عن تلك التي تؤثِّر فيَّ في الأحوال العادية، وذلك العالم الخيالي الذي يَجذِب ويُرهِب في نفس الوقت … وهكذا فإن كل ما له صلة بالعرض المسرحي كان له في نفسي تأثير سحري غامض جذاب.»
ولقد أدت البيئة المسرحية التي عاش فيها ڤاجنر في هذه السنين الأولى من عمره إلى تنشيط مخيلته إلى حدٍّ غير مألوف. وهكذا فإنه عندما انتقل ليعيش في مسكن عمه أدولف — بعد أن تُوفِّي جاير بدوره — كان يضفي من خياله صورة غريبة على كل قطعة من أثاث ذلك المنزل، ويشعر بخوفٍ طاغٍ إذا انفرد بنفسه في الليل؛ فيبدو له كأن أشباحًا قد برزت من اللوحات الفنية المعلَّقة، وتتجسم قطع الأثاث العتيق في صورة تماثيل متحركة، ويقضي الطفل المسكين ليالي كاملةً بها لا يتوقف قلبه طوالها عن النبض بشدة. وهكذا غدا يفسِّر كل ما يحيط به تفسيرًا خياليًّا مسرحيًّا عنيفًا، ويجسم الصور في أشباح تلعب وتتراقص أمام عينيه الجاحظتين في ذهول، ويبني من كل هذا عالمًا خياليًّا كاملًا يتداخل في عالم الواقع ولا يعرف بينهما أي حد فاصل، ولعل أهمية هذا العامل تتضح من أن فكرة الأشباح هذه لم تكن مجرد فكرة صبيانية ابتدعها خيال طفل صغير، بل كانت تُعبِّر عن مَلَكة خاصة لديه، هي ملكة الخلق وإضفاء الحياة على كل ما هو جامد صامت. وليس أدل على ذلك من أن تلك الفكرة قد ظلت تلازمه حتى بعد سن نضوجه، بنفس القوة والحيوية التي كانت تتبدَّى له بها في طفولته. ولقد اعترف ڤاجنر بذلك حين قال: «كنت منذ طفولتي المبكرة أستشعر في نفسي حوادث مبهمة غامضة خلقت لديَّ مملكة خيالية فيها غلوٌّ ومبالغة. وإني لأذكر أنني حين كنت أظل بمفردي مدة طويلة في حجرتي، كان يُخيَّل إليَّ أن الحياة قد دبَّت في الأثاث والأدوات؛ وحينئذٍ يداهمني خوف كان من القوة بحيث كنت أصيح وأصرخ صرخات نفاذة. ولقد ظللت حتى عهد شبابي أستيقظ في كل ليلة مستغيثًا، ولا أهدأ حتى أستمع إلى صوت آدمي يطلب إليَّ أن ألتزم الصمت.»
وتلقَّى ريتشارد العاصفة في سكون: «وبينما كانت الأسرة تصب عليَّ لومها وتتحسر على وقتي الضائع ونفسي التي أَفسدها الغرور، كنت أشعر بعزاء مبهم وسط تلك المظاهر المؤلمة … كنت أعرف ما يجهله الجميع؛ وهو أن قطعتي لن تُقدَّر حق قدرها إلا إذا وُضعت لها موسيقى ملائمة؛ فاستقر عزمي حينئذٍ على أن أؤلف وأعزف بنفسي تلك الموسيقى.»
وهكذا كانت نظرة ڤاجنر إلى الدراما ممتزجة بالألحان منذ البداية، بحيث لم يرَ لأيَّة قطعة من مؤلفاته معنًى إلا بعد أن يعبِّر عنها بالموسيقى، ومن الغريب حقًّا أن تنضج تلك الفكرة الجامعة بين الشعر والموسيقى، والتي لم تتمثل لدى أي موسيقي أو شاعر آخر سواه — في وقت كانت محاولاته الشعرية لا تكاد تقوى فيه على الوقوف على قدميها، وكان تعليمه الموسيقي فيه هزيلًا قاصرًا إلى أبعد حد. وإنها لثقة عجيبة بالنفس تلك التي أوحت إليه هذه الفكرة الملازمة له طوال حياته، في ذلك العهد المبكر، والتعليم المحدود.
وهكذا يمكن القول إن عبقرية ڤاجنر الموسيقية لم تظهر متأخرة كما قد يبدو لأول وهلة؛ وإنما استيقظت تلك العبقرية فيه كغيره من الموسيقيين، وإن كانت لم تجد ما يعبِّر عنها في عالم الأصوات، بل في عالم الشعر والمسرح؛ فالمسرح الدرامي يشغل في نمو ڤاجنر الموسيقي تلك المكانة التي كان يشغلها البيانو وقواعد الهارموني عند موتسارت أو بيتهوفن، فلما تجاوز ڤاجنر مرحلة المراهقة واتضح أمامه العالم الجديد، عالم الصوت، أصبح التعبير يشتمل على المرئيات والمسموعات معًا.
وإذن فالعنصر الفني الأول في شخصية ڤاجنر هو العنصر التعبيري، وهو الذي تنبع الموسيقى والشعر فيه معًا من المجال العاطفي، فيصبحان مجرد وسائل لإخراج عاطفة أو إحساس باطن إلى حيز الوجود. ولم يكن ذلك الإخراج التعبيري بالأمر العسير على ذلك الذي نشأ منذ نعومة أظافره في جو مسرحي خالص.
•••
ومنذ ذلك الحين اتجه ڤاجنر نحو الموسيقى الألمانية بكل روحه. وكان فيبر هو أول مثل أعلى تعلقت به روحه. والواقع أن للدراما عند فيبر خصائص كثيرة تجمع بينها وبين دراما ڤاجنر كما سنرى فيما بعدُ؛ فوقائعها تدور في جوٍّ أسطوري، وشخصياتها جنِّيات مسحورة، والغموض يكتنفها، والصوفية الوثنية الكامنة في قلب كل ألماني تستيقظ على نداء أبواقها. بل إن تلك الدراما كانت في الواقع إنسانية، تنبض كل شخصية من شخصياتها بمشاعر عامة شاملة. وتلك كلها صفات أساسية في الدراما التالية عند ڤاجنر.
ولكن، كيف السبيل إلى كشف بقاع ذلك العالم الصوفي الغامض بدون دراسة؟ لا شك أن التأليف الموسيقي لا يماثل كتابة الشعر في تلقائيتها، بل هو يقتضي دراسة طويلة شاقة متدرجة. وهكذا بدأ ڤاجنر، رغم مصاعبه المالية، يدرس «الهارموني» سرًّا، فلما وصل النبأ إلى أسرته، كان نكبة جديدة أضيفت إلى بقية النكبات التي حلَّت عليهم من ذلك الابن الشاذ.
على أن دروسه في الهارموني لم تكن أسعد حظًّا من دروسه في اللغات الكلاسيكية؛ إذ كان يعدُّها حذلقة لا طائل تحتها، وتبدَّت له القواعد أمرًا سقيمًا ثقيلًا على النفس: «كانت الموسيقى في نظري شيئًا شيطانيًّا، فيه غرابة صوفية رفيعة؛ لذا كان من شأن كل ما يتصل بالقواعد أن يُفسد طبيعتها.»
غدت تلك السيمفونية النقطة الصوفية الجاذبة التي تُشِعُّ منها كل أفكاري الموسيقية. ولقد بدأ اهتمامي بها على شكل حب استطلاع؛ إذ كان الرأي الشائع هو أن بيتهوفن قد ألَّفها وهو على حافة الجنون؛ ولذا عُدَّت أقصى درجات الغرابة والشذوذ والغموض في الموسيقى. وكان هذا وحده سببًا كافيًا دفعني إلى دراستها بشغفٍ مستمَدٍّ من ذلك الإلهام الشيطاني الذي أثارته فيَّ، وما إن ألقيت عليها نظرة — بعد حصولي على تقسيمها بعد عناء كبير — حتى فتنني الشعور بالمصادفة للقدرة التي تمثلت لي فيها؛ إذ إن الأنغام الطويلة التي تعزفها الآلات الوترية في بدايتها قد ذكَّرتني بتلك الأصوات التي لعبت في طفولتي دورًا سحريًّا عجيبًا، وبدت لي كأنها الصوت الغامض الذي يمثِّل حياتي أصدق تمثيل. ولا ريب أن تلك السيمفونية تنطوي على سر الأسرار؛ ولذا اهتممت لتوِّي بحيازة نسخة منها عانيت ألمًا عظيمًا في تدوينها ونسخها.
وهنا تظهر ناحية فذَّة في عبقريته الموسيقية؛ فكثيرًا ما قيل إن ڤاجنر لم يُبدِ عبقرية مبكرة مثل موتسارت مثلًا. ولكن الواقع أن عبقرية ڤاجنر لم تكن براعة في العزف تحمل الألوف على التصفيق والتهليل، ولم تكن مهارة في سرعة انتقال اليد على أصابع البيانو أو على أوتار الكمان، بل كانت عبقريته أعمق وأصدق من تلك البراعة العملية الاستعراضية؛ فالمقدرة الموسيقية الأصيلة تتبدَّى أوضحَ ما تكون في ذلك الصبي الذي يعكف ليل نهار على مدونات القطع المشهورة يدرسها نغمة نغمة، وتتشرَّب بها روحه الفنية، وتتغلغل في ذهنه كل دقائقها، ويكشف أعمق أسرارها، ويحيا بها حياةً كاملة لها قوامها وكيانها الخاص — كل ذلك دون أن يجيد عزفها! ومعنى ذلك أن ڤاجنر قد توفَّرت له منذ صباه موهبة هي أعمق المواهب الموسيقية وأَلزمُها للفنان الخالق؛ وهي القدرة على «تصوُّر الألحان والأنغام نغمة نغمة بمجرد قراءتها»، وتذوُّق نواحي الجمال في اللحن وفي الهارموني على السواء بالعقل وحده، وتكوين فكرة صحيحة شاملة عن القطعة التي تُدوَّن أجزاؤها تبعًا لتقسيمها على فرقة موسيقية كاملة من مجرد النظر بالعينين إليها. وفي هذا يكون ڤاجنر هو «الصبي المعجِز» بحق.