المحاولات الأولى
ظهرت ثمرة التعليم الموسيقي المنظم عند ڤاجنر بسرعة تدعو إلى الدهشة، فلم تمضِ فترة قصيرة حتى توالت الافتتاحيات البسيطة المقبولة التي لا تنفر منها الآذان، وعُزفت إحداها في حفل عام فقوبلت من الجمهور بالاستحسان، وبدأت أمه اليائسة من مستقبله تبتسم ابتسامة أمل. وفي سن التاسعة عشرة، ألَّف سيمفونيته الوحيدة، التي أَوْدعها كل ما لصق بذهنه من القواعد المدروسة والتقاليد الموروثة عن كبار الموسيقيين؛ ومن هنا كان نصيب التقليد فيها أكبر من نصيب الابتكار. لكنها مع ذلك كانت قطعة جميلة يسمعها المرء فلا يتصور أنها من تأليف فتًى لم يبلغ العشرين، ولم تمضِ سنوات قلائل على اقتحامه عالم الموسيقى؛ وأذكر منها بوجه خاص، الجزء الثاني البطيء الذي ينساب في هدوء ورشاقة تذكِّرنا بالجزء الثاني من سيمفونية بيتهوفن السابعة.
وكانت أولى محاولات ڤاجنر في التأليف للأوبرا هي تلحين قصة ألَّفها هو بعنوان «الجنِّيات»، ولكن هذه الأوبرا لقيت فشلًا ذريعًا. واضطر ڤاجنر إلى الاستدانة لسداد ديونه المتراكمة.
والحق أن ظاهرة الاستدانة من الظواهر المألوفة في حياة ڤاجنر؛ فقد لازمته خلال الجزء الأكبر من حياته، ولم يتخلَّ شبحها عنه حتى في فترة ازدهاره الأخيرة. بل لقى رُوي عنه في عهد صباه، أنه توجه في رحلة طويلة مع واحد من رفاقه، وفي خلال الطريق أعوزتهما النقود، وكان لا بد من الاهتداء إلى وسيلة للحصول على أي مبلغ، فوقف رفيقه مبهوتًا يفكر في حيلة تُعِين على كسب بعض المال. ولكن ڤاجنر لم يطل به التفكير؛ إذ مرَّت بالطريق في تلك اللحظة عربة خاصة فاخرة، فتقدم منها بلا تردُّد وطلب من ركابها إحسانًا، بينما اختفى صديقه على جانب الطريق. وهكذا امتدت يد ڤاجنر تطلب المال وهو في عهد صباه، ولم تكن تلك هي المرة الوحيدة، فطالما امتدت تلك اليد تطلب المال بأي شكل وتستدين على أي نحو. ويبدو أن احتقار ڤاجنر للمال جعله ينظر إليه نظرة عدم اكتراث به وبمن يمتلكونه؛ فلا يرى لصاحب المال فضلًا عليه، ولا يرى في افتقاره إليه نقصًا يحط من قدره؛ وعلى ذلك فلا لوم عليه إن سعى إلى الحصول عليه بأية وسيلة. لقد كان لديه شعور «بأن العالم مدين له بما هو في حاجة إليه»، فليأخذ المال إذن من أي امرئٍ كان، ولا يضيره إن أخذ دون أن يعطي؛ لأنه يقدِّم إلى العالم ألحانًا جميلة، فلا أقلَّ من أن يتكفل العالم بحاجاته؛ هكذا كان تبريره العجيب لمسلكه!
والواقع أن خطأ ذلك الزواج لم يكن ينحصر في عدم الاستعداد المادي وحده، بل كان يرجع إلى ما هو أعمق من ذلك؛ فقد كانت «مينَّا» من أصل ريفي ساذج، وكان ذهنها سطحيًّا وثقافتها محدودة إلى أبعد حد. كانت امرأة جميلة فحسب، وربما كان في ذلك ما يكفيه في ذلك الحين؛ فقد تزوجها وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وفي فترة لم تكن للعوامل العقلية فيها القدرة على مقاومة جمالها.
ولكن «رينزي» كانت وقت تأليفها إنتاجًا ضخمًا يفوق جميع نظائره، فهي بالقياس إلى غيرها من الأوبرات الشائعة تمثِّل تقدمًا كبيرًا؛ لذا صمم ڤاجنر على أن يعرِضها في مدينة كبرى بالقياس إلى بلدة «ريجا» الصغيرة التي كان قد انتقل إليها في تلك الآونة.
وهكذا بارح ڤاجنر ريجا ساخطًا عليها، وكانت رحلته البحرية منها محفوفة بالمخاطر، حتى أوشكت السفينة الصغيرة التي كان يستقلها على الغرق مرارًا، ولم تقاوم العواصف الجبارة والصخور الضخمة التي اعترضتها إلا بمعجزة. ولكن ڤاجنر الذي يعرف كيف يستفيد من أسوأ ظروفه، استمد من أهوال سَفرته البحرية إلهامًا شعريًّا وموسيقيًّا تبدَّت آثاره واضحة في «الهولندي الطائر»؛ وهي إنتاجه الفني الأول بعد «رينزي».
•••
وبعد إقامة قصيرة في لندن، دخل ڤاجنر مدينة باريس وقلبه عامر بالأمل في الوصول إلى ما يشتهيه من شهرة ومجد. ولم يكن اليأس يعرف إلى روحه سبيلًا في مستهل عهده بمدينة النور، إذ كان واثقًا من مقدرته الفنية، وكان آملًا — من جهة أخرى — في تذوُّق أهل باريس لفنِّه وهم الذين يرفعون إلى الجوزاء فنانين أقل منه قدرًا وموهبة.
ولكن هوَّة الخلاف بينه وبين البيئة الباريسية سرعان ما اتسعت؛ فلم يَلقَ من أحد أُذنًا صاغية، بل كان الجواب التقليدي الذي يتلقاه ممن يتقدم إليهم بشيء من موسيقاه، هو إعجابهم بتلك الموسيقى الجديدة، مع أسفهم لاستحالة عزفها أو نشرها في الوقت الحالي! … ولكن كيف كان ڤاجنر يرتزق طوال هذه الفترة؟ كان من أهم موارد رزقه، سؤال أصحابه القدامى وأشقائه في ألمانيا! أما المورد الآخر، فهو القيام بأعمال تافهة ومرهقة في نفس الوقت، لبعض ناشري الموسيقى، كان ينال منها أجرًا زهيدًا بعد عناء كبير، نظير عمل مهين لم يكن ليقبله لولا الحاجة الماسة؛ ولذا لم يكن عجيبًا أن تبدأ شكواه من رئتيه في تلك الفترة، وهي شكوى لازمته طوال حياته.
ولقد بلغ به سوء الحال أن أوشك ذات مرة على الموت جوعًا، لولا أن أسعفته زوجته بشراء ما يلزم لوجبة طيبة، بعد أن تعهدت كتابيًّا بدفع المبلغ اللازم. ولم يُخلِّصه من تلك الأزمة الحادة سوى بيع تلك الرواية الشعرية التي ألَّفها في أشق الظروف وأصعبها، وهي «الهولندي الطائر». أما موسيقاها فقد فرغ منها بسرعة تبعث على الدهشة، ثم طوى الصحائف التي تضمنتها، وأضافها إلى مجموعة مؤلفاته المتراكمة.
وفي تلك الفترة عبَّر ڤاجنر عن مشاعره تعبيرًا صادقًا في سلسلة من المقالات ظهرت له في الصحف الفرنسية بعد أن كانت تُترجم من الألمانية. ولعل أبلغ هذه المقالات دلالة، مقال بعنوان «نهاية موسيقي في باريس» يصف فيه آلام فنان تنكَّرت له عاصمة الآمال، فأخذ يؤدي صلاة قصيرة يُثبت بها إيمانه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ويقول: «أومن بالله، وبموتسارت، وبيتهوفن، وبآلهم وأصحابهم، أومن بالروح القدس وبفن واحد لا شريك له، وأومن بأن هذا الفن إنما يأتينا من عند الله، ولا يعمر إلا القلوب التي أنارها الله … أومن بأن في وسع الكل أن يَصِلوا إلى السعادة بفضل هذا الفن، وأنه من المعقول لذلك أن يموت المرء جوعًا وهو يُشيد بعظمة ذلك الفن؛ وأومن أخيرًا بأني كنت في الدنيا مجموعة أنغام ناشزة ستجد في العالم الآخر حلَّها المنسجم المتناسق.»
وسرعان ما استجاب الوطن الذي كان يحيا فيه بكل قلبه إلى دعائه، فواتته في ربيع عام ١٨٤٢م أنباءٌ كان ينتظرها بصبر نافذ؛ فقد قَبِل مسرح درسدن أن يعرض الأوبرا الكبيرة «رينزي»، كما قبلت برلين «الهولندي الطائر». وفي السابع من أبريل سنة ١٨٤٢م غادر ڤاجنر المدينة التي تنكَّرت له. وهكذا انتهت فترة إقامته في باريس، وبدأت من حياته مرحلة جديدة حاسمة.
•••
كان هناك أمل قوي يداعب ڤاجنر في عودته إلى وطنه؛ فقد وجد أخيرًا من يستمعون إليه ويفهمونه، وأتيحت له الفرصة ليُذيع ثمرات عبقرية على الملأ، وفتح أمامه طريق الشهرة الذي طالما تاق إليه.
ولكَم كان العمل شاقًّا في إعداد «رينزي» ومراجعة أجزائها. على أن جمال ألحانها خفَّف من عنائه وعناء بقية الفنانين إلى حد بعيد. ومن أطرف ما رواه ڤاجنر في هذا الصدد أن المغني الأول في الفرقة كان أثناء فترات التمرين يتمايل طربًا كلما بلغ قطعة معينة في الفصل الثالث، فأخرج ذات يومٍ قطعةً صغيرة من النقود وقدَّمها إلى ڤاجنر مازحًا، على أنها هدية له على ذلك اللحن الرائع، ثم طلب من كل فرد في الفرقة أن يحذو حذوه، وتلقَّى ڤاجنر النقود ضاحكًا هو الآخر. واستمر هذا المزاح في كل يوم من أيام التمرين، حتى كان يقال: «حانت لحظة الدفع.» فيدفع الجميع! وكان المفروض أن ذلك العمل دعابة بريئة، وأن ڤاجنر يتلقَّى تلك الهدايا الصغيرة على سبيل الدعابة، ولكن ما من أحد كان يعلم أنهم كانوا يقدِّمون إلى ڤاجنر في عملهم هذا ثمن وجبة غذائه اليومية!
وأخيرًا حان اليوم الذي أحدث تغييرًا حاسمًا في حياة ڤاجنر، وهو يوم العرض الأول لأوبرا «رينزي» (٢٠ أكتوبر ١٨٤٢م)، في ذلك اليوم أحرزت الأوبرا نجاحًا هائلًا، وأعيدت بعد ذلك مرارًا، وأبدت أميرتان من البيت المالك إعجابهما الشديد بالفنان الناشئ، وأصبح انتصار «رينزي» حديث أهل درسدن لمدة طويلة. ووجد ڤاجنر الفرصة سانحة لعرض الأوبرا الأخرى «الهولندي الطائر» في درسدن، ولكنها لم تَلقَ نجاحًا يناظِر نجاح رينزي؛ وذلك لعدة أسباب، منها أن المغنِّين لم يطَّلعوا على أدوارهم اطلاعًا كافيًا، ولم يجيدوا أداءها — وأهم من ذلك، أن «الهولندي الطائر» كانت أول دراما غنائية يتقدم بها ڤاجنر إلى جمهور لم يكن على استعداد لتلقِّي نظريات فنية جديدة. أما رينزي فكانت أوبرا من النوع المألوف لديهم؛ ولذا اضطر ڤاجنر — ليحفظ سمعته من التدهور — إلى إعادة عرض رينزي، فعاد الإعجاب سائدًا.
وترامت أنباء نجاحه إلى فردريش، ملك ساكس، فأمر بتعيينه قائدًا للفرقة الملكية في درسدن. وهكذا ضمن ڤاجنر معاشًا معقولًا يكفيه للتفرغ لأعماله الفنية.
ولم يكن العرض الحاسم لتلك الدراما هو العرض الأول؛ إذ اتضحت ﻟﭭﺎجنر في خلال الأداء عيوب كثيرة وخاصة في توزيع الأدوار؛ ولذا أسرع إلى تعديلها إما بالحذف أو الزيادة أو التحوير. وهكذا أقبل على العرض الثاني وهو كامل الثقة بنجاحه. ورغم أن عدد المتفرجين في ذلك العرض لم يكن كبيرًا، فإن حماستهم كانت بالغة، وخرج ذلك الفوج من النظارة ليذيع في درسدن خبر إنتاج ناجح جديد لفنانهم العبقري. واستمر النجاح مرات عديدة، وكان من أهم الظواهر التي رفعت رأس ڤاجنر عندئذٍ أنه لاحظ وجود أناس بين النظارة لم يكونوا ممن يؤمُّون حفلات الأوبرا على الإطلاق؛ مما أثبت له أنهم يقدِّرون شعره في ذاته، وأن اتجاهه الجديد قد أثمر إذ اجتذب أناسًا يرغبون في مشاهدة «الدراما» فحسب.