فترة النضوج
ففي فبراير من ذلك العام جاءت الأنباء بفرار «لوي فيليب» وإعلان الجمهورية في فرنسا، وبدأ الشعور العام يتوتر في ألمانيا، حتى وصل تيار الثورة إلى مدينة درسدن، تلك المدينة الهادئة الخاملة في ساكس. وكان اتجاه ڤاجنر السياسي واضحًا في ذلك الحين؛ إذ كان ميالًا إلى جانب الأحرار والثائرين على التقاليد الرجعية، وكان يدعو بحماسة إلى الإصلاح الاجتماعي، ويطالب أمراء ألمانيا بمراعاة مصالح شعوبهم والانصراف عن مشاغلهم التافهة. واتخذ نشاطه مظهرًا عمليًّا منذ البداية؛ فكان يُرسِل المقالات الثورية إلى الصحف معبِّرًا فيها عن رأيه في وسائل الإصلاح، ويخطب بحماسة في المنتديات السياسية، حتى تعرَّض لغضب الملك حين نقده في إحدى مقالاته نقدًا عنيفًا.
وفي ٣ مايو ١٨٤٩م اندلعت نيران الثورة في درسدن، وقام سكان المدينة الهادئة يحملون السلاح في وجه الحكومة، وأصبحت شوارعها مسرحًا لكل أنواع الفوضى والدمار. وشهد ڤاجنر تلك الروح الجديدة فطَرِب لها كل الطرب، وسايرها بحماسة، ومشى في تيَّار الثورة بقدر ما وسعه ذلك، وإن لم يكن عنيفًا هدامًا في ميوله. وأخذ يرقب بشغفٍ بالغٍ مناظر القتال في الشوارع، ويتملَّكه الابتهاج الساذج وهو يستمع إلى قصص الشجاعة في تلك الحرب المحلية الصغيرة.
غير أن الثورة لم يُقدَّر لها أن تُعَمِّر طويلًا، فلم يمضِ وقت قصير حتى قضت القوات النظامية على أحلام الثائرين وأسقطت حكومتهم المؤقتة، وقُبِض على باكونين بعد أن نُصِب له فخٌّ بارع، نجا منه ڤاجنر بأعجوبة. وتبيَّن ﻟﭭﺎجنر أن الإقامة في درسدن — وخاصةً في منصب قائد الفرقة الموسيقية الملكية بها — لن تطيب له يومًا واحدًا بعد ذلك؛ نتيجةً لما عُرِف من أمر مشاطرته الثوار مشاعرهم، ومعاونته لهم بقدر استطاعته، فالتجأ إلى فيمار، وأقام عند صديقه «لِيست»، وهناك تأكد من أن عودته إلى درسدن في أعقابها خطر جسيم عليه؛ إذ صدر أمر بالقبض عليه. وهنا أظهر «لِيست» عطفًا كريمًا عليه، وأصبح شغله الشاغل هو التفكير في وسيلة لإبعاد ڤاجنر من خطر الاعتقال، لا سيما وأن بقاءه في فيمار ذاتها قد أصبح أمرًا غير مأمون. وهكذا استقر عزم ڤاجنر نهائيًّا على مغادرة ألمانيا كلها، والرحيل عن طريق باﭬاريا إلى سويسرا، ومنها إلى باريس؛ معقل الحرية والثورة كما خُيِّل إليه في بادئ الأمر.
ولم يكن هدف ڤاجنر من باريس في هذه المرة هو البحث عن فرص وآفاق جديدة في عالم الموسيقى، بل كان لاجئًا سياسيًّا فحسب. ولكنه لم يكد يقضي بها فترة قصيرة حتى علم أن قوى الرجعية قد غلبت الحرية؛ وأتته صدمة أخرى أعنف من السابقة، في صورة رسالة من زوجته تُنبئه فيها بيأسها من مغامراته وروحه المتقلبة، وتؤكد له عدم احتمالها لتلك المتاعب التي يُرغمها عليها، أو لذلك البؤس الذي طال أمده بلا أمل في زواله؛ فكان رد ڤاجنر هو أنه لن يُرغمها على تحمُّل ظروفه الشاقة ومشاطرته مستقبله المظلم، وترك لها مطلق الحرِّية في الانفصال عنه. وهكذا تم الفراق الذي ارتاح له ڤاجنر فيما بعدُ، وإن لم يكن فراقًا نهائيًّا حاسمًا.
وآثر ڤاجنر في نهاية الأمر الإقامة في تسوريخ، حيث كان مورد رزقه الوحيد — في ذلك البلد الذي لا يعرف عنه ولا عن الموسيقى عامةً الشيء الكثير — هو كتابة بعض المقالات الأدبية، ومن هنا اتصفت مجهودات ڤاجنر في تلك الفترة بالطابع الأدبي، وحاول خلالها أن يعوِّض ما فاته من الثقافة الأدبية، وخاصةً الفلسفة التي طالما تشوَّق إلى الاستزادة منها.
أما مؤلفات ڤاجنر الخاصة في تلك الفترة، فكانت منها رسالتان عن «لوهنجرين» و«تانهويزر» قصد بهما إلى شرح إنتاجه الفني الخاص ونقْل آرائه الجديدة إلى الجمهور، فكانت لهما قيمة كبيرة في توضيح نظريته الفنية وتبريرها، كما نشر كتيبات على جانب كبير من الأهمية، تجلَّى فيها الامتزاج واضحًا بين ثورته الفنية والثورة السياسية التي كان من أقطابها؛ ففي رسالة بعنوان «الفن والثورة» نظر ڤاجنر إلى تاريخ الفن بأَسْره نظرة نقدية؛ فبعد إبداء إعجابه باليونان ودراماتهم، حمل حملة شعواء على الرومان؛ إذ كانوا جحافل صارمة لا تفهم الفن ولا تقدِّره، وهم الذين مهدوا الطريق لظهور المسيحية التي دعت المرء إلى ألا يفعل شيئًا سوى الإقرار ببؤسه وشقائه، والانصراف عن كل مجهود يرمي إلى انتزاعه من قبضة هذا البؤس. ولكن الدم الجديد الذي يجري في عروق العناصر الجرمانية يعمل على محاربة الروح المسيحية، ويفتتح عهد الثورة، ويقضي كذلك على الفن الحديث السائد؛ إذ إنه فن تتحكم فيه الصناعة، وهدفه الأقصى هو جمع المال، ووظيفته الكبرى هي دفع الملل والسأم، وهي وظيفة لا تصلُح إلا للبيئات الصناعية المتعبة المكدودة.
فليتحرر الفن إذن من تلك القيود المسيحية والصناعية التي شوَّهت الطبيعة البشرية وأفسدت نزعاتها، وليَعُد الفن إلى المسرح، مهد الفن القديم، وإلى الدراما اليونانية الخالدة، ولنكتفِ من المسيح بما نال من عذاب في سبيل البشر، ولنختر إلهًا يونانيًّا يعرف كيف يقودنا إلى الحياة الحافلة بالخيال السعيد.
وفي كتاب آخر عن «الأوبرا والدراما» يستعرض ڤاجنر تاريخ الأوبرا، وينتهي من ذلك إلى رأي صريح هو أن هدف كل أوبرا سابقة — باستثناء أوبرات موتسارت — كان إيجاد ألحان مقبولة للآذان، يمكن أن تُستبدل بكلماتها أية كلمات، وليس لها من هدف سوى الترويح عن النفس؛ غير أن هذه الأغراض قد استُنفِدت، ولا بد من انقلاب حتى تُحفظ الأوبرا من الضياع. وعلى الرغم من جهود فيبر، فإن الأوبرا الإيطالية التي تزعَّمها اليهودي «مايربير» — الذي أنكر جنسيته وقوميته — قد أفسدت كل اتجاه إصلاحي. وهكذا لم تعُد الأوبرا فنًّا؛ وإنما ظاهرة تتغير تبعًا لمقتضيات الذوق العابر، ولم يعد الشاعر إلا تابعًا ذليلًا للملحن الموسيقي، ولا يمكن أن تغدو الأوبرا فنًّا صحيحًا إلا باستخدام كل الوسائل الممكنة لإذكاء الخيال، ومعنى ذلك أن تتحول الأوبرا إلى الدراما؛ أي تصبح فنًّا جامعًا شاملًا، ينطوي على الشعر والموسيقى والتمثيل والفن التصويري المسرحي معًا في مُركَّب واحد.
ولقد وجد ذلك الكتاب الأخير من المعجبين بقدر ما وجد من الأعداء الذين كانوا يدركون جيدًا أن اتجاه ڤاجنر الجديد لو نجح لكان فيه القضاء المبرم عليهم، ومنذ ذلك الحين بدأت حملة أنصار الأوبرا الخفيفة، من فرنسية وإيطالية، على ڤاجنر، يحمل لواءها مايربير. أما أنصار ڤاجنر فقد أخذوا ينشرون في الصحف الصادرة في ألمانيا خاصةً، مقالات تُشيد بفنه وبآرائه الجديدة، وكان لتلك الدعاية الطيبة التي تزعَّمها «لِيست» أكبر الأثر في نشر اسم ڤاجنر وإذاعة شهرته في القارة بأكملها.
وبعد رحلة استشفاء قصيرة طاف فيها ڤاجنر أنحاء سويسرا وشمال إيطاليا، عاد إلى مقرِّه في تسوريخ ليجد أن تلك الدعاية قد أثمرت، وأن العروض أخذت تنهال عليه في طلب «تانهويزر» من برسلاو، وبراج، وفيزدبان، وغيرها من المدن. وهكذا انتشرت تانهويزر في ألمانيا بأسرها، وذاعت معها شهرة مؤلِّفها.
أما الموسيقى فقد بدأها في عام ١٨٥٣م، خلال فترة اعتزل فيها الجميع في تسوريخ، وصمم على أن ينتهي من عمله الجبار دفعة واحدة، وقد بدأ ڤاجنر «بذهب الرين»، واتَّبع في تأليفها خطة جديدة، إذ كان يسطر بقلمه رموزًا معينة سريعة هي التي ستُبنى عليها ألحان الدراما بأكملها؛ ولذا كان عليه أن يؤلفها كلها دفعةً واحدة دون أن ينقطع عن العمل؛ حتى لا تغيب عن ذاكرته تلك الخطة التي رسمها منذ البداية. وبفضل تلك الطريقة تمكَّن من الانتهاء منها تمامًا في مارس ١٨٥٤م.
وحدث ما جعل ڤاجنر ينقطع بعد تأليف الدراما الأولى مدة معينة، وعاد خلالها إلى القراءة الفلسفية، فكان لتلك القراءة في هذه المرة أكبر الأثر في تحويل مجرى الدراما الرباعية إلى اتجاه جديد، هو الاتجاه التشاؤمي، بعد أن كانت الآراء الثورية هي المسيطرة تمامًا على خطته الأولى في تأليف تلك الدراما — ذلك بأن ڤاجنر قرأ في تلك الفترة كتاب «العالم إرادة وتمثُّلًا» لشوبنهور، فكان له فضل تخليصه من قبضة مذهب فويرباخ المادي، وتوجيهه وجهة جديدة تلائم نزعته الخيالية الخالقة في الفن والشعر، وكان أول ما لفت نظره آراء شوبنهور في علم الجمال، وخاصةً تلك المكانة الرفيعة التي احتلتها الموسيقى في مذهبه الجمالي. ولكنه في أول الأمر أحس بشيء من الرهبة والقلق إزاء النتائج الأخلاقية التي انتهى إليها شوبنهور؛ ففي رأيه أن إماتة الإرادة والاستسلام التام يخلِّصان الفرد من عجزه عن فهم العالم والاندماج فيه اندماجًا كليًّا شاملًا — وتلك نتيجة كانت تتعارض بشدة مع نزعة ڤاجنر في الحرية الفردية، وهي نزعة تُكبِّد أكبر العناء، وقاسى مرارة النفي والتشريد من أجل الدفاع عنها والدعوة إليها، غير أن واحدًا من أصدقائه نبَّهه ذات مرة إلى أن المغزى الحقيقي لمذهب شوبنهور إنما ينحصر في عدم اعترافه بالعالم الخارجي كما يتبدى لنا، وذكر له أن كل شاعر كبير، وكل رجل عظيم بوجه عام، كان يحس في قرارة نفسه بهوَّة عميقة تفصل بينه وبين العالم الخارجي. ولكَم عجب ڤاجنر حين استمع إلى هذا التفسير؛ إذ إنه في درامته الرباعية قد عبَّر عن مثل هذا الرأي دون أن يشعر. وهنا قرر أن يعود إلى دراسة الكتاب دراسة عميقة؛ وذلك حتى يستوعب بخاصة الجزء الأول منه، وهو الذي يتعرض للجانب المثالي في فلسفة كانْت، والذي عانى ڤاجنر الكثير من أجل تفهُّمه؛ إذ إن رأسه لم يُخلق لفهم مشكلات المنطق. وهكذا عاود ڤاجنر قراءة الكتاب مرات عديدة، وكان تأثيره على تفكيره حاسمًا حتى لَيمكننا أن نؤكد أن كل كتابات ڤاجنر — وخاصةً كتابه عن «بيتهوفن» — وكل دراماته، بل كل نظرته إلى الحياة قد اصطبغت باللون الخاص الذي يتميز به تفكير شوبنهور، وذلك إذا استثنينا الجانب الاجتماعي والسياسي من آرائه؛ إذ إن ذلك الجانب قد ظل يدعو إلى الحرية الفردية حتى النهاية.
وما إن انتهى ڤاجنر من القسم الثاني من الدراما الرباعية، حتى تلقَّى دعوة من الجمعية الفيلهارمونية بلندن، ليقيم بعض الحفلات لقاء مبلغ لا بأس به، وعاد ڤاجنر إلى لندن مرة ثانية، ولكنه لم يكن حينئذٍ ذلك الفنان المشرَّد الذي التجأ إلى لندن في المرة الأولى، بل كان موسيقيًّا مشهورًا دعته بلاد غريبة من مقره في وسط القارة لتستمع إلى إنتاجه الجديد. وبلغ من نجاحه أن دعته الملكة فكتوريا وزوجها الأمير ألبرت في إحدى الحفلات ودارت بينه وبينهما محادثات ودية.
وأحس ڤاجنر بالحاجة إلى الراحة بعد الانتهاء من عمله الضخم المرهِق، وتاقت نفسه إلى زيارة باريس، حيث يمكنه على الأقل أن يستمع إلى فرق موسيقية ضخمة حسنة التدريب، وهي في نظره نعمة حُرِم منها طوال فترة إقامته بسويسرا. وهكذا لم تغرب شمس يوم ١٥ سبتمبر سنة ١٨٥٩م حتى عاد ڤاجنر إلى باريس مرة أخرى.
ورغم أن تلك الفترة من إقامته في باريس لم تزِده إلا يقينًا من استحالة فهم الفرنسيين له، ووثوقًا من أن نجاحه الحقيقي لن يكون إلا بين عشيرته وبني جنسه، فإن هناك عوامل أخرى إلى جانب قصور الفهم، ساعدت على التعجيل بذلك الفشل الذريع؛ كان أهمها تلك الحملة الشعواء التي شنَّها عليه نفر من النُّقَّاد الذين دفعهم أعداء ڤاجنر من الموسيقيين وعلى رأسهم مايربير وبرليوز.
على أن ڤاجنر لم يعدم صديقًا مخلصًا يقدِّره حق قدره في باريس؛ فقد أبدى الشاعر «بودلير» إعجابه به منذ البداية، وأرسل إليه خطابًا يعبِّر فيه عن مقدار تأثير موسيقاه في نفسه، وهو الذي كان يظن أنه لا يملك إلا حاسة الألوان لا حاسة الأنغام، فكان مما قاله: «لقد بلغت سنًّا لم أعد أطرب فيها بالكتابة إلى عظماء الرجال. ولقد ترددت مدة طويلة في أن أكتب إليك معبِّرًا عن إعجابي، لولا أن استبانت لعيني يومًا بعد يوم تلك المقالات الحمقاء المخزية التي بذل فيها كل جهد للحط من قدر عبقريتك. إنك يا سيدي لست الشخص الوحيد الذي اضطررت أمامه إلى أن أتعذَّب وأحمرَّ خجلًا من أفعال وطني. وأخيرًا دفعني احتقاري لنقَّادك إلى أن أشهد لك بالفضل، قائلًا لنفسي: لا بد أن أبرئ ذمتي من هؤلاء المعتوهين!» والغريب في الأمر أن بودلير لم يذكر في هذا الخطاب عنوانه؛ حتى لا يظن ڤاجنر أنه يقصد تملقه؛ غير أن ڤاجنر اهتدى سريعًا إلى مقرِّه، وسرعان ما أصبح بودلير عضوًا بارزًا في دائرة أصدقاء ڤاجنر، وشخصية بارزة في «صالونه» الخاص.
ولو صرفنا النظر عن حالات الإعجاب القليلة هذه، فإن الطريقة العامة التي عومل بها ڤاجنر في باريس، كانت سوء الفهم التام، حتى إن المرء لا يرى مفرًّا من الاعتراف مع ڤاجنر بأن أهل باريس كانوا يريدون اللهو فحسب؛ أما ڤاجنر فلم يكن يقبل أن ينحدر إلى مستوى اللهو هذا؛ ولذا لم يُفهم في باريس. ولقد كان مدار سخريتهم هو الاعتقاد بأن ﻟﭭﺎجنر مذهبًا عقليًّا هو وحده المتحكم فيما أنتجه من موسيقى. ولا شك في أنه ما من شيء يخيف الجمهور اللاهي — الذي هو عبدٌ للعُرف والتقاليد — أكثر من محاولة شخص أن يفرض عليه أفكارًا جديدة، وخاصةً إذا كانت على صورة «مذهب». ومهما بلغت درجة الجمال الفني الذي حققه ڤاجنر في موسيقاه، فسيظل الحمقى يؤمنون بأنهم إنما يستمعون إلى شخص يدافع عن مذهبه، لا إلى إنتاج فني رائع.
وهكذا غادر ڤاجنر باريس بعد أن خابت آماله، ولم يستغرق وقتًا طويلًا في وداع أصدقائه القليلين، مثل بودلير ولا مارتين ولِيست. وعاد كل فرد في هذه الجماعة إلى مقرِّه؛ إذ كان على كلٍّ منهم أن يشق طريقه إلى المجد مستقلًّا.
•••
كانت أخطر نتائج كارثة باريس، هي أثرها الفادح في مركز ڤاجنر المالي؛ فقد ظل بعدها ثلاث سنوات كاملة يهيم على وجهه دون أن يكون له هدف سوى تصيُّد المال من أي مخلوق وبأية وسيلة، ومهما تكلَّف في سبيل ذلك من امتهان لكرامته وجرح لكبريائه، والغريب في الأمر أن ڤاجنر كان خلال تلك السنوات واقعًا تحت تأثير موجة من المرح اليائس كان يدهش لها كلُّ من عرفه. ويبدو أن الطبيعة قد حَبَته منذ حداثته قدرة هائلة على التعويض مكَّنته من أن يتحمل أعظم المشاقِّ، ويخلق من متاعبه معبرًا ينتقل به إلى عالمه الذاتي الذي يسوده المرح، ولا يأبه كثيرًا للواقع المحيط به.
وفي هذه الأثناء أتاه نبأ كان ينتظره بصبرٍ نافد؛ فقد فتحت عواصم الموسيقى في العالم أبوابها لدراماته، وتوالت عليه العروض من كبريات مدن ألمانيا وأوروبا عامة، فانصرف مؤقتًا عن إتمام «أساطين الطرب» ليتفرغ إلى هذه المهام الجديدة الناجحة. وهكذا استقبلته فرنكفورت وليبتسج استقبالًا لم يحلم به، وعرفت ﭬيينا كيف تتذوق موسيقاه، واستدعته «براج» في أوائل سنة ١٨٦٣م، وكان ترحيبها به موضع دهشته. وفي «سان بيترزبرج» عاصمة روسيا امتدت موجة النجاح الهائلة التي أصبحت تصادف ڤاجنر أينما حل، وحازت مقطوعاته إعجاب الجماهير وتقدير النقاد وأثارت حماس الفنانين العازفين.
وانتقلت الحماسة إلى موسكو التي مجَّدت الفن الجديد في شخص مبدعه، وتنافس أعيانها على شرف تكريمه. ورحبت المجر ﺑﭭﺎجنر حين استمعت عاصمتها «بشت» إلى روائعه، واستقبله شعبها بحماس شديد.