شرح الرسالة
وزير شبل الدولة
وسيدانا الأستاذان — أذلَّ الله معاندهما أخرى المنون، إذا كان السلطان «شبل الدولة» أسد النجوم، كانا — لا محالة — ذراعيه، وإن أغلق باب الرأفة فتحا مصراعيه.
وقد كنت عزمت على الإمساك — الصمت — حتى أشار بالقول وليُّهما «أبو فلان»، وهو ممن يُوثق بعقله ودينه … إلخ.
عصر الشياطين
ومن يدري فلعل شاعرنا قد حذف الأسماء والألقاب من هذه الرسالة، بعد أن تغير العهد السياسي، فما كان أقصر عهود السلاطين والوزراء والولاة والأمراء في ذلك العصر المضطرب، المملوء بالمخاطر والأحداث والفتن والدسائس، التي أثارها شياطين العصر من السُّوَّاسِ الذين عناهم شاعرنا بقوله:
ودمغ ولاته وهداته بقوله:
وقوله:
المشيران
ولولا إشاراتٌ سريعةٌ بدرت من شاعرنا في هذه الرسالة لما عرفنا من شأن صاحبيه قليلًا ولا كثيرًا.
على أنها إشاراتٌ أشبه بالرموز لما يكتنفها من غموض وخفاء، فلم يصل إلينا من النسخة المخطوطة لهذه الرسالة أكثر من إطلاقه على من كتب إليه وعلى صديقه الذي حل ضيفًا عليه: أنهما «سيداه الأستاذان»، وأنهما — لعلو منزلتيهما عند شبل الدولة — مشيران.
وأن كنية الضيف هي «أبو علي». وقد حذفت كنية المضيف الذي هنَّأه شاعرنا بقدوم صاحبه عليه — عمدًا أو اضطرارًا — واستعيض منها بكنية «أبي فلان»، ثم راح يصف هذين الرجلين: «أبا علي» و«أبا فلانٍ» بما شاءت له مجاملته ومداراته أن يضفي عليهما من باهر المزايا، ونادر الخلال، ويقرر — على عادته في مصانعة معاصريه — أنهما علَمان، لم يَجُد بمثلهما الدهر إلا فيما سبق من الزمان، من أمثال «صاعد بن مخلدٍ» و«سهل بن هارون» و«عدي بن زيدٍ العبادي» ومن إليهم من قادة الفكر، وأعيان الدهر، وأساطين البيان، وأعلام الرأي والعرفان.
كنوز مفقودة
ومن يدري فلعل ناسخ الرسالة قد حذف الأسماء عمدًا أو اضطرارًا — كما أسلفنا — أو لعله حذفها سهوًا أو استغناء، فعلم ذلك عند علام الغيوب، ولعلنا لو ظفرنا بنسخةٍ أخرى لرأينا فيها ما نتوخاه، وعرفنا من الحقائق ما جهلناه، فقد ضاعت الكنوز العلائية، ولم يبق منها — على كثرتها — إلا آحادٌ من الكتب والكراريس، ولن تزيد الخسارة بجهل تلك الأسماء، شيئًا مذكورًا بالقياس إلى الكنوز العلائية المفقودة.
حذف الأسماء
على أن رائد الأدب العلائي ليرى ظاهرتين واضحتين في أثناء درسه، فهو يرى أكثر من كتب إليهم شاعرُنا — في «سِقْطِ الزَّنْدِ» وفي رسائله — قد حُذفت أسماؤهم وكُناهم وألقابهم، فلم يبق منها إلا القليل، كما حُذفت البواعث التي حفَزت شاعرنا إلى مساجلتهم أو مراسلتهم، فلا يكاد الباحث يظفر من ذلك بغير التَّفِه اليسير الذي لا يشفي غُلَّة، وأغلب الظن أن «المعري» قد آثر هذه الخطة حين عُني بتسجيل آثاره، وإثبات رسائله وأشعاره؛ ليكون في ذلك الحذف تكفيرٌ عن إفراطه في مجاملة من تورَّط في الثناء عليه من معاصريه، بعد أن أسرف في مصانعتهم، وغلا في التودُّد إليهم، اتقاءً لما يخشاه من أذيَّتِهم، وإيثارًا لسياسة التَّقِيَّة الذي أخذ بها نفسه، ولم يَحِدْ عنها طول حياته، وقد أوجزها في قوله:
ولقد طالما بكا مُتألِّمًا اضطراره للإسراف في مصانعة الناس ومداراتهم، فقال:
وإنما اضطر شاعرنا إلى المصانعة؛ لأن الناس — فيما يرى، ورأيه الحق — يبغضون الصراحة، ويمقتون الصدق، ويؤثرون — بطبعهم — باطل القول على الصحيح من الأخبار:
وما أسرعهم إلى تصديق ما يرفض العقل إثباته، وتكذيب ما يقرُّه المنطق من صحيح القضايا:
الصدق والكذب
وللمعري في تسويغ الكذب رأيان؛ أولهما: يبديه في الكذب الذي يدعوك إليه الاضطرار، والثاني في الكذب الذي يدعوك إليه الفن، فهو يوصيك أن تتوخَّى الصدق ما حييت، فإذا عرَّضك للهلاك أوصاك بمجانبته، ولم ير عليك بأسًا إذا أسرفت في الكذب — بكل ما في وسعك — لتنقذ حياتك من التلف، فإنما مثلُك في ذلك مثل من يضطره الجوع إلى أكل الميتة، فيقبل على المحظور كارهًا، أو يضطره المرض إلى مجانبة الماء؛ توقيًا للهلاك، فيكفُّ عنه توخِّيًا للشفاء، ودفعًا للسقم، وفي ذلك يقول:
ورُبَّما رسم لك خطته في مصانعة الظالمين، ومداراة الطغاة من الولاة الجائرين، في هذين البيتين:
أسد الدولة
وقد سار شاعرنا على هذا النهج الذي قرَّره، ولم يفته أن يداري الجانين، ويصانع الباغين، فراح يتربص الدوائر بأسد الدولة «صالح بن مرداس»؛ والد «شبل الدولة»، مترقبًا سقوط جداره، حتى إذا دالَتْ دولته، لم يَفُتْ شاعرنا أن يُندِّد بظلمه حين أمكنته الفرصة من ذلك. ومن غمزاته فيه قوله:
الكذب الفني
وهنا يقول: «وما وُجد لي من غلوٍّ، علق — في الظاهر — بآدميٍّ، وكان مما يحتمله صفات الله — عزَّ سلطانه — فهو مصروفٌ إليه.»
وقد أخذ نفسه — في قابل أيامه — بهذا العهد، فوقف تمجيده وإجلاله على خالقه وحده، كما ترى ذلك في «اللزوميات»، «ورسالة الغفران»، «والفصول والغايات».
المثل العليا
وقد أشار في تلك المقدمة النفيسة إلى مبدأ جليلٍ ما أجدر محبي الأدب العربي أن يتنبهوا إلى خطره ونفاسته، فآثر أن يوجِّه مدائحه إلى المُثُل العليا — حيثما وجدت — في أفذاذ الموهوبين، من سالف القدامى الغابرين، وقابل الذراري القادمين، فقال: «وما صلح لمخلوقٍ سلَف من قبلُ، أو لمْ يُخلق بُعد؛ فإنه ملحقٌ به.»
ثم أعلن براءته مما جمح به طبعه، فقال مستغفرًا نادمًا: «وما كان من محض المَيْن لا جهة له، فأستقبل الله العثرة فيه.»
ثم وصل إلى ذروة التوفيق في تعليل الكذب الفني وتسويغه، فقال: «والشعر للخَلَد — للنفس أو القلب — مثلُ الصورة لليد: يُمثِّل الصانع ما لا حقيقة له، ويقول: الخاطر — القلب — ما لو طولب به لأنكره.»
أسماء الممدوحين
ولو أخذنا برأي المعري واهتدينا بهديه في فهم قصائد الفحول الأفذاذ من الشعراء؛ «كالمتنبي»، و«ابن الرومي»، و«أبي تمام»، و«البحتري»، و«ابن زيدون»، و«مهيار» ومن إليهم، متغاضين عن كثيرٍ من أسماء مَن ظفر بمدائحهم أو مُني بأهاجيهم، لما خسرت ألواحهم الفنية شيئًا، بل لعل الفائدة منها تعظم إذا تمثلنا تلك الصور الرائعة موجهةً إلى أهداف أُخر، أسمى وأنبل من الأغراض التي قصد إليها مُنشِئوها، فما أكثر ما تغنى هؤلاء الفحول بالمثل العليا في أشعارهم، ثم وقفت أسماء الممدوحين غصةً في حلق المعجبين، ووصمةً في جبين تلك الآيات التي أبدعها الأفذاذ من فحولنا الموهوبين.
إسرافه في المجاملة
وقد أتبعت هذا الإطناب بتبيين ألفاظٍ فيه؛ ليكون الهذيان كاملًا، والمَرَضُ لفضوله شاملًا.
لطف الاعتذار
عنايته بالتوضيح
وقريبٌ من هذا قوله في مقدمة لزومياته حين عرض لأسماء القافية: «وسأذكر منها شيئًا مخافة أن يقع هذا الكتاب إلى قليل المعرفة بتلك الأسماء.»
وقوله في مكانٍ آخر منها:
أمثلةٌ من شروحه
وهو لا يكتفي بشرح منثوره — وقد قبسنا كثيرًا من شروحه في مواضعه من هذا الكتاب، وجعلناه بين الأقواس المربعة — بل يتعدى ذلك إلى شعره، فهو يتوخى إفهام السامع ما وسعه ذلك، فيقول مثلًا:
أو يقول:
أو يقول:
أو يقول:
أو يقول:
أو يقول:
أو يقول:
أو يقول:
أو يقول:
أو يقول:
أو يقول:
أو يقول:
أو يقول:
أو يقول:
وهذا البيت يذكرنا بقوله:
أو يقول:
على أنه قد يُطلق اللقب أو الكنية دون توضيحٍ أو تفسيرٍ، مكتفيًا بدلالة المقام على صاحبها، فيجتزئ بلقب «الكوفيِّ» مرة، وهو واثقٌ من أن القارئ لن يخطئ صاحبه، ولن يطيل تفكيره، وهو لا بد مهتدٍ باللمحة العاجلة إلى أن شاعرنا يعني به في البيت التالي الإمام «أبا حنيفة»، حين يقول:
ثم يُطلق هذا اللقب في بيتٍ آخر، فلا يحتاج إلى مَن يُخبرُك أنه لا يعني به غير الشاعر المعروف «أبي العتاهية»، الذي فاض شعره بالزهد، كما فاض شعر البصري «أبي نواس» بأوصاف الخمر. وإليك النص:
وقد يَشفَع الاسم بوصفٍ موجزٍ يُعيِّن مراده، فهو يصف «جريرًا» بأنه: «أخو القول»، فنعلم أنه يعني الشاعر الإسلامي المعروف «جرير بن عطية الثقفي»، فيقول:
هوامش
قال: «فتفرقوا عنه، وشغلت بخطابهم والنظر في حويرهم — مناقشتهم — فسقط مني الكتاب الذي فيه ذكر التوبة، فرجعت أطلبه فما وجدته، فأظهرت الوله والجزع، فقال أمير المؤمنين: «لا عليك! ألك شاهد بالتوبة؟» فقلت: «نعم، قاضي حلب وعدولها.» فقال: «بمن يعرف ذلك الرجل؟» فأقول: «بعبد المنعم بن عبد الكريم» قاضي «حلب» — حرسها الله — في أيام «شبل الدولة».»
قالوا: واشتد صالح في الحصار لأهلها، فجاء أهل المعرة إلى الشيخ «أبي العلاء» لعجزهم عن مقاومته؛ لأنه جاءهم بما لا قبل لهم به، وسألوا «أبا العلاء» أن يتداركهم بالخروج إلى «صالح» بنفسه، وتدبير الأمر برأيه؛ إما بأموال يبذلونها، أو طاعة يعطونها.
فخرج ويده في يد قائده، وفُتح له باب من أبواب المعرة وخرج منه شيخ قصير يقوده رجل، فقال صالح: هو «أبو العلاء»؛ فجيئوني به.
فلما مثل بين يديه سلم عليه ثم قال: «الأمير — أطال الله بقاءه — كالنهار الماتع (المرتفع قبل الزوال والضحى) قاظ وسطه، وطال أبْرَداه — وهما الغداة والعشي.
أو كالسيف القاطع؛ لان متنه، وخشن حدَّاه.
«خذ العفو، وأمر بالمعروف، وأعرض عن الجاهلين».»
فقال صالح: «لا تثريب عليكم اليوم، قد وهبت لك «المعرة» وأهلها.» وأمر بتقويض الخيام، فقُوِّضت ورحل، وشاعرنا يقول:
ولقد لخص «المعري» هذه القصة في لزومياته، وأشار إلى تلك الحامل بقوله:
والزند: العود الذي يقدح به النار، وجمعه زناد، وهو يقصد بهذه التسمية إلى تشبيه طبعه بالزند الذي يقدح به النار، وتشبيه أول ما قاله من الشعر بأول ما يسقط من الزند من الشرر الذي لا يبلغ أن يكون نارًا متقدة. قالوا: «وهذا الشعر أول ما سمح به طبعُه في مَيْعة شبابه، فسمَّاه «سِقط الزند» تجوُّزًا واستعارة.
إن الشعراء كأفراس تتابعن في مدًى: ما قصر منها لحق، وما وقف ذِيم وسُبق.
وقد كنت في رُبَّان الحداثة — أول الشباب — وجنِّ النشاط — شِدَّته — مائلًا في صفو القريض — خالصه وخياره — أعتده بعض مآثر الأديب، ومن أشرف مراتب البليغ.
وقد جرى «أبو العلاء» — في حداثته — مع الشعراء في هذه الحلبة، وحفَزه طبعه الموهوب إلى منازعتهم قصَبَ السَّبق، ثم لم يلبث حين نضجت مداركه أن كفَّ عن الجري في ذلك الميدان، بعد أن تكشف له أنه يجري معهم في باطلهم، وأنه لا سبيل إلى رجحانه عليهم إلا إذا فاقهم في الإفك والبهتان، فإذا تورع عن المغالاة تخلف وسُبق. ورأى شاعرنا — ورأيه الصواب — أن القليل ربما أغنى عن الكثير، وأن الظمآن قد يرتوي من غير حاجة إلى شرب كل ما يحتويه الإناء من ماء، وأن الإنسان يكتفي بالثمرة الواحدة ليعرف منها مدى جودة الشجرة من غير حاجة إلى تقصي ثمرها كله، كما أن النفحة العطرة تدلُّك على زهرتها الطيبة.
وثَمَّ أفصح عما قصد إليه فقال: «والغرض ما استُجيز فيه الكذب، واستعين على نظامه بالشبهات.»
وقد رُفع حميد بن ثور لأن الفعل معلق عن العمل بالاستفهام المحذوف، والتقدير: وما درى أحميد بن ثور المقصود للقائل أم حميد بن بحدل، كما في قوله تعالى: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ الآية.
يقول شاعرنا: إن المنايا كالأسود تفترس كل ما تلقاه ما عظُم وما حقُر؛ فهي مثل جرير الشاعر يصطاد كل ما يصادفه من المعاني جليلها وحقيرها. والمعري يشير بهذه النقدة الغامزة إلى رأي بعض نقاد العرب في «جرير»، فقد شبهوه بالأعشى، وقال فيهما الناقد المعروف «أبو عمرو بن العلاء»: «إنهما كانا بازيين يصيدان العندليب والكركي.»