الْفَصْلُ الثَّالِثُ
(١) أَغَارِيدُ السُّرُورِ
وَلَا تَسَلْ — أَيُّهَا الْقَارِئُ الْعَزِيزُ — عَنْ مِقْدَارِ سُرُورِ «أُمِّ سِنْدٍ» وَابْتِهَاجِ زَوْجِهَا «عُصْفُورِ الْأَمَانَةِ»، حِينَ أَنْجَزَا عَمَلَهُمَا الشَّاقَّ. وَقَدْ أَنْسَاهُمَا الْفَوْزُ وَالنَّجَاحُ مَا عَانَيَاهُ فِي بِنَاءِ الْعُشِّ؛ فَظَلَّا يَطِيرَانِ حَوْلَهُ هَاتِفَيْنِ، وَيُحَلِّقَانِ صَائِحَيْنِ. وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِمَا الْفَرَحُ؛ فَرَدَّدَا أَغَارِيدَ الْغِبْطَةِ وَالسُّرُورِ.
(٢) اسْتِحْمَامُ الْخُطَّافَيْنِ
ثُمَّ ذَكَرَا أَنَّهُمَا جَدِيرَانِ بِالنَّظَافَةِ وَالِاغْتِسَالِ؛ فَأَسْرَعَا — عَلَى عَادَتِهِمَا كُلَّ يَوْمٍ — إِلَى غَدِيرٍ صَافِي الْمَاءِ، فَاسْتَحَمَّا فِيهِ، وَغَمَرَا صَدْرَيْهِمَا فِي مَائِهِ فَرْحَانَيْنِ، وَظَلَّا يُرَفْرِفَانِ بِأَجْنِحَتِهِمَا مُبْتَهِجَيْنِ. ثُمَّ طَارَا إِلَى سِلْكٍ بَرْقِيٍّ، فَجَثَمَا عَلَيْهِ، لِيُجَفِّفَا جِسْمَيْهِمَا الْمُبَلَّلَيْنِ بِالْمَاءِ.
(٣) حُبُّ الْوَطَنِ
وَكَانَ «عُصْفُورُ الْأَمَانَةِ» يَشْعُرُ بِالرَّاحَةِ وَالسَّعَادَةِ، بَعْدَ أَنْ أَتَمَّ وَاجِبَهُ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ. وَدَارَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ «أُمِّ سِنْدٍ» شَتَّى الْأَحَادِيثِ وَالذِّكْرَيَاتِ، فَقَالَ لَهَا فِيمَا قَالَ: «أَتَذْكُرِينَ — يَا «أُمَّ سِنْدٍ» — كَيْفَ كَانَتْ حَيَاتُنَا مُوحِشَةً كَئِيبَةً فِي غُرْبَتِنَا عَنْ وَطَنِنَا الْمَحْبُوبِ؟ وَكَيْفَ اشْتَدَّ حَنِينُنَا — فِي تِلْكَ الْهِجْرَةِ الْبَعِيدَةِ — إِلَى رُؤْيَةِ هَذِهِ الْجِبَالِ الْعَالِيَةِ، وَالتَّمَتُّعِ بِالنَّظَرِ إِلَى هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ الزَّرْقَاءِ؟ لَقَدْ وُلِدْنَا هُنَا — يَا «أُمَّ سِنْدٍ» — وَتَعَارَفْنَا جَمِيعًا فِي جَنَبَاتِ هَذِهِ الرِّحَابِ، وَامْتَلَأَتْ نُفُوسُنَا بِذِكْرَيَاتِ هَذَا الْبَلَدِ الْحَبِيبِ إِلَيْنَا.
فَلَا عَجَبَ إِذَا اشْتَدَّ حَنِينُ قَلْبَيْنَا، وَهَفَتْ إِلَيْهِ خَوَاطِرُ كِلِيْنَا.»
فَقَالَتْ «أُمُّ سِنْدٍ»: «صَدَقْتَ — أَيُّهَا الزَّوْجُ الْعَزِيزُ — فَإِنَّ حُبَّ الْوَطَنِ يَمْلَأُ قَلْبِي حَنِينًا إِلَيْهِ، وَلَيْسَ أَرْوَحَ لِنَفْسِي مِنْ هَذَا الْبَلَدِ الَّذِي نَشَأْتُ فِيهِ. وَلَيْسَ يَعْدِلُهُ فِي حُسْنِهِ بَلَدٌ آخَرُ، بَالِغًا مَا بَلَغَ مِنَ الْحُسْنِ وَالرَّوْعَةِ وَالْبَهَاءِ. وَلَنْ تَسْتَطِيعَ بِلَادُ الدُّنْيَا قَاطِبَةً أَنْ تُسَلِيَنِي عَنْ هَذَا الْوَطَنِ الْحَبِيبِ، أَوْ تُذْهِلَنِي عَنْهُ (تُنْسِيَنِي إِيَّاهِ).»
(٤) ذِكْرَيَاتُ الْهِجْرَةِ
وَمَا أَتَمَّتْ «أُمُّ سِنْدٍ» قَوْلَهَا، حَتَّى هَاجَتْهَا (أَثَارَتْ نَفْسَهَا) ذِكْرَيَاتُ الْهِجْرَةِ؛ فَدَمَعَتْ عَيْنَاهَا، حُزْنًا عَلَى فِرَاقِ الْوَطَنِ فِي زَمَنِ الْخَرِيفِ الْقَادِمِ.
•••
وَلَا تَعْجَبْ — أَيُّهَا الْقَارِئُ الذَّكِيُّ — مِنْ حَنِينِ الطُّيُورِ إِلَى أَوْطَانِهَا؛ فَإِنَّ الْوَطَنَ حَبِيبٌ إِلَى نَفْسِ كُلِّ مَنْ يَعِيشُ فِيهِ مِنْ طَيْرٍ وَحَيَواَنٍ، كَمَا هُوَ حَبِيبٌ إِلَى نَفْسِكَ وَإِلَى نُفُوسِ غَيْرِكَ مِنْ بَنِي الْإِنْسَانِ. وَقَدِيمًا قَالَ «أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الرُّومِيِّ» الشَّاعِرُ الْمُبْدِعُ، مُنْذُ أَلْفٍ وَمِئَتَيْنِ مِنَ السِّنِينَ:
(٥) نَوْمُ الْخُطَّافَيْنِ
وَلَقَدْ بَذَلَ «عُصْفُورُ الْأَمَانَةِ» قُصَارَى جُهْدِهِ فِي تَسْلِيَةِ «أُمِّ سِنْدٍ»، وَتَهْوِينِ أَمْرِ الْهِجْرَةِ عَلَيْهَا، وَقَالَ لَهَا فِيمَا قَالَ: «إِنَّ أَمَامَنَا كَثِيرًا مِنَ الْمَبَاهِجِ وَجَالِبَاتِ السُّرُورِ، قَبْلَ أَنْ يَحُلَّ الشِّتَاءُ. وَلَا تَزَالُ عِنْدَنَا فُسْحَةٌ مِنَ الْوَقْتِ تُخَفِّفُ مِنْ آلَامِ الْهِجْرَةِ — يَا «أُمَّ سِنْدٍ» — فَلَا تَجْزَعِي، وَلَا يَشْغَلْ بَالَكِ شَيْءٌ الْآنَ، وَلْنَنْعَمْ بِالرُّقَادِ (لِنَسْتَمْتِعْ بِالنَّوْمِ) هَنِيئًا فِي عُشِّنَا الْجَدِيدِ.»
وَمَا زَالَ يُرَفِّهُ (يُخَفِّفُ) عَنْهَا، حَتَّى أَنْسَاهَا مَا شَعَرَتْ بِهِ مِنَ الْأَلَمِ، وَاسْتَسْلَمَتْ لِلرُّقَادِ، فَنَامَتْ، وَنَامَ «عُصْفُورُ الْأَمَانَةِ» إِلَى الصَّبَاحِ.
(٦) أَوْلَادُ «أُمِّ سِنْدٍ»
وَلَمَّا جَاءَ الْغَدُ، لَمْ تَبْرَحْ «أُمُّ سَنَدٍ» عُشَّهَا. وَمَرَّتْ أَيَّامٌ قَلِيلَةٌ، وَهِيَ شَدِيدَةُ الْفَرَحِ بِبَيْضَاتِهَا الْأَرْبَعِ الْأُولَى، الَّتِي وَضَعَتْهَا فِي عُشِّهَا، وَهِيَ بَيْضَاتٌ صَغِيرَةٌ، بِهَا نُقَطٌ شُقْرٌ وَسُمْرٌ. وَقَدْ بَاضَتْهَا «أُمُّ سِنْدٍ» فَوْقَ الرِّيَاشِ الَّتِي فِي عُشِّهَا. وَكَانَتْ «أُمُّ سِنْدٍ» تَرْقُدُ عَلَيْهَا حَانِيَةً، مُشْفِقَةً (خَائِفَةً) أَنْ يُصِيبَهَا أَقَلُّ سُوءٍ.
(٧) طَعَامُ الْخُطَّافِ
وَكَانَ «عُصْفُورُ الْأَمَانَةِ» يَذْهَبُ مُنْفَرِدًا إِلَى الْخَارِجِ، لِيَجِيئَهَا بِالْقُوتِ، وَلَا يَدَّخِرُ وُسْعًا فِي جَلْبِ الذُّبَابِ الصَّغِيرِ، وَالْحَشَرَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِشي تَسْتَطِيبُهَا زَوْجُهُ.
(٨) أَرْبَعَةُ مَنَاقِيرَ
وَمَا زَالَ يَتَعَهَّدُهَا، حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْعُشِّ أَرْبَعَةُ مَنَاقِيرَ كَبِيرَةٌ وَهَكَذَا امْتَلَأَتِ الْغُرْفَةُ بِهَذَا النَّسْلِ النَّجِيبِ.
وَفَرِحَ الْأَبَوَانِ بِصَيْحَاتِ أَوْلَادِهِمَا الْأَعِزَّاءِ، وَظَلَّا يَتَعَهَّدَانِهَا بِالتَّنْشِئَةِ (التَّرْبِيَةِ) حَتَّى تَمَّ لَهُمَا مَا أَرَادَاهُ.
(٩) حِوَارُ الْإِخْوَةِ
وَصَاحَ «زَوَّارُ الْهِنْدِ» — ذَاتَ يَوْمٍ — وَهُوَ أَكْبَرُ أَبْنَاءِ أَبِيهِ سِنًّا: «لَقَدْ مَشَيْتُ عَلَى رِجْلِي يَا أَخِي، وَسَأُحَدِّثُ أَبِي بِهَذَا النَّبَأِ حِينَ يَعُودُ إِلَيْنَا.»
فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ «زَوَّارُ السِّنْدِ»: «خَفِّضْ مِنْ صَوْتِكَ — يَا أَخِي — فَقَدْ كِدْتَ تَخْرِقُ آذَانَنَا بِصُرَاخِكَ!»
فَقَالَتْ «سُنُونِيَّةُ» لِإِخْوَتِهَا: «لَقَدْ غَابَ أَبِي، كَمَا غَابَتْ أُمِّي، فِي هَذَا النَّهَارِ. فَمَتَى يَعُودَانِ؟»
فَأَجَابَتْهَا «جُحَيْجِيَّةُ» وَهِيَ تَبْكِي: «صَدَقْتِ، يَا أُخْتِي. وَلَقَدِ اشْتَدَّ انْزِعَاجِي لِغَيْبَتِهِمَا، وَلَمْ نَتَعَوَّدْ مِنْهُمَا ذَلِكِ مِنْ قَبْلُ. وَأَخْشَى مَا أَخْشَاهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَهُمَا مَكْرُوهٌ، أَوْ يَكُونَا — لَا قَدَّرَ اللهُ — قَدْ مَاتَا.»
(١٠) قُدُومُ الْأَبَوَيْنِ
وَفِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ سَمِعَ الْأَطْفَالُ الصِّغَارُ حَرَكَةً خَفِيفَةً.
فَصَاحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: «أَبِي! أُمِّي! عَجِّلَا بِالْحُضُورِ؛ فَإِنِّي جَائِعٌ!»
ثُمَّ قَالَ «زَوَّارُ الْهِنْدِ»: «غَرِيبٌ أَنْ يَغِيبَ أَبَوَانَا عَنَّا، طُولَ هَذَا الْوَقْتِ!»
وَلَمْ يُتِمَّ كَلِمَتَهُ، حَتَّى صَاحَ «زَوَّارُ السِّنْدِ» وَ«سُنُونِيَّةُ» «وَجُحَيْجِيَّةُ»، مَسْرُورِينَ: «وَا فَرْحَتَاهُ! لَقَدْ جَاءَ أَبَوَانَا الْعَزِيزَانِ، فَمَا أَسْعَدَنَا بِمَقْدَمِهِمَا، (حُضُورِهِمَا)!»
(١١) زَادُ الْخَطَاطِيفِ
وَكَانَ «عُصْفُورُ الْأَمَانَةِ» وَ«أُمُّ سِنْدٍ» قَدْ أَحْضَرَا فِي مِنْقَارَيْهِمَا زَادَ أَوْلَادِهِمَا (طَعَامَهُمْ)، فَقَالَا: «لَبَّيْكُمْ — أَيُّهَا الْأَعِزَّاءُ — فَقَدْ جِئْنَا، وَمَعَنَا مَا تَشْتَهُونَ مِنْ لَذَائِذِ الْأَطْعِمَةِ.»
وَفَتَحَ الْأَوْلَادُ مَنَاقِيرَهُمْ، وَتَهَافَتُوا عَلَى الطَّعَامِ — فِي شَرَهٍ عَجِيبٍ — حَتَّى شَبِعُوا.
ثُمَّ أَغْمَضُوا أَعْيُنَهُمْ مُتَهَيِّئِينَ (مُسْتَعِدِّينَ) لِلنَّوْمِ مَسْرُورِينَ.