في برهان الروح والقدرة (١٧٧٧م)
إلى السيد المدير شومان في هانوفر برنشفيج ١٧٧٧
يتحدث لسنج في هذا الكتيب عن المعجزات والنبوات وكيف أن كليهما لا يبرهنان على حقيقة الإيمان لأنهما برهانان خارجيان يعتمدان على الروايات التاريخية القائمة على شهادة الرواة والتي قد تُصيب وقد تُخطئ. برهان الإيمان داخلي حرف يقوم على العقل والطبيعة وليس على المعجزة والنبوة.
إن النبوات التي تحققت، والتي اختبرتُها بنفسي شيء، والنبوات التي تحققت، والتي أعلم فقط من التاريخ أن آخرين يقولون إنهم قد اختبروها شيء آخر.
إن المعجزات التي أراها بعينَي رأسي، والتي يتاح لي أن أتحقق منها بنفسي شيء، والمعجزات التي أعلم فقط من التاريخ أن آخرين يقولون إنهم قد رأوها وتحققوا منها شيء آخر.
وهذا يقينًا لا نزاع فيه. ويقينًا لا يمكن توجيه اعتراض على ذلك.
لو أني عشتُ في زمن المسيح لكان من الطبيعي أن تدفعني النبوات التي تحققت في شخصه إلى الاهتمام به اهتمامًا كبيرًا. ولو أني رأيتُه يُجري المعجزات بالفعل، ولو لم يكن لديَّ أيُّ سبب يدفعني إلى الشك في أنها معجزات حقيقية، لكنت قد اكتسبت قدرًا كبيرًا من الثقة في صانع معجزات تم الاعتراف به منذ مدة طويلة.
وقد اعتمد لسنج في تحليله لهذه القضية على عبارة يوحنا «برهان الروح والقدرة»؛ فالروح مصدر النبوات، والقدرة مصدر المعجزات. كما اعتمد أيضًا على شرح أوريجين لهذه العبارة من أجل التمييز بين حقائق التاريخ العرضية التي تتضمنها الروايات، وحقائق العقل الجوهرية؛ فالإيمان لا يثبت بالأولى وإلا كان هشًّا ظنيًّا عُرضةً للخطأ، ولكنه يثبت بالثانية حتى يكون مؤسسًا يقينيًّا لا يحتوي إلا على الصواب.
ولكنت قد أخضعتُ له عقلي عن طيب خاطر وصدَّقتُه في كل ما لم تشهد ضده تجاربي التي لا نزاع على صحتها.
أو (بعبارة أخرى): حتى لو أني الآن اختبرت أن النبوات التي تُشير إلى المسيح أو إلى الدين المسيحي الذي أنا على ثقة منذ مدة طويلة بقِدَمه في الزمان قد تحققت على نحو يقبله الجميع بلا منازع، حتى ولو أجرى المسيحيون المؤمنون المعجزات الآن التي عليَّ أن أعترف بها كمعجزات حقيقية، ما الذي يمنعني من قبول هذا البرهان للروح وللقدرة كما يسميه الحواري؟
وفي نهاية الأمر، كان أوريجين على حقٍّ تمامًا بقوله إن الدين المسيحي في هذا البرهان للروح وللقدرة كان قادرًا على أن يُعطيَ برهانًا خاصًّا به أكثر ألوهية من الجدل اليوناني كله. ففي عصره كانت القدرة على إجراء أشياء معجزة التي ما زالت مستمرة ما زالت موجودة بين هؤلاء الذين عاشوا بعد تعاليم المسيح. ولو كان لديه أمثلة يقينية منها، ولو لم يُكذِّب حواسه الخاصة لكان من الضروري الاعتراف بهذا البرهان للروح وللقدرة.
ولكني لم أَعُد في نفس الموقف الذي كان فيه أوريجين. فإني أعيش في القرن الثامن عشر الذي لم تَعُد فيه معجزات. حتى لو أني ترددتُ في الاعتقاد بأي شيء يتعلق ببرهان الروح والقدرة فإنه يمكنني الاعتقاد به بواسطة حجج أخرى أكثر ملاءَمة لعصري. فما المشكلة؟
إن المشكلة هي أن هذا البرهان للروح وللقدرة لم يَعُد له أيُّ روح أو قدرة بل غرق في خضمِّ الشهادات البشرية للروح وللقدرة. إن المشكلة هي أن روايات النبوات التي تحققت ليست نبوات متحققة، وأن روايات المعجزات ليست معجزات. هذه النبوات التي تحققت أمام عيني، وهذه المعجزات الحادثة أمام عيني لها أثرٌ مباشر. أما الروايات الأخرى عن النبوات والمعجزات فإنها تعمل من خلال واسطة تسلبها قوَّتَها.
بل إن الخطورة في برهان الروح والقدرة، أي في الاعتماد على النبوات والمعجزات هو في استمرارها حتى الآن؛ إذ تظن الأرثوذكسية أن فعل الروح القدس ما زال مستمرًّا وأنها ما زالت تُفعل من خلال الإلهام أي في النفس البشرية، ومن خلال العمل أي في الطبيعة. وهو ضد ما يُثبته لسنج من اكتمال النبوة في فلسفة التنوير نظرًا لاكتمال العقل وعدم حاجته إلى أنبياء، واكتمال الروح في حرية الإنسان وقدرته على الفعل وعدم حاجته إلى عون خارجي تُحدث اضطرابًا في قوانين الطبيعة.
ويعتمد لسنج على الجدل والحوار المفتوح والبحث عن أقل حدٍّ أدنى من الاتفاق بينه وبين خصمه الأرثوذكسي حتى لو سلَّم به فإن هذا القليل يُثبت وجهة نظر لسنج ويُسلِّم له خصمُه بها. فلسنج يبحث عن الحد الأدنى الذي يُسلِّم به الخصم.
فإذا ما غاب كلية هذا البرهان على البرهان، وإذا كان اليقين التاريخي كله أضعف من أن يحلَّ محلَّ هذا البرهان الظاهري على البرهان الذي غاب، فكيف يتوقع أحد مني أن أصدِّق نفس الحقائق التي لا يمكن إدراكها والتي آمن بها الناس منذ ستة عشر أو ثمانية عشر قرنًا معتمدين على أقوى الدوافع وأن أصدِّقها بنفس الدرجة من الصحة وبأقل قدر ممكن من الدوافع؟
أو أن ما أقرأه لدى مشاهير المؤرخين له نفس درجة اليقين لما أختبره بنفسي وأكون في نفس الحالة تمامًا.
لا أعلم أحدًا على الإطلاق قد أقرَّ بذلك. بل إن ما قرره الجميع فقط هو أن الروايات التي لدينا عن هذه النبوات والمعجزات يمكن الوثوق بها كما نثق بالحقائق التاريخية. يضاف على ذلك أن الحقائق التاريخية لا يمكن البرهنة عليها، ومع ذلك يجب أن نؤمن بها تمامًا كما نؤمن بحقائق قد تمت البرهنة عليها.
وليس عن الحد الأقصى وبهذا الأدنى يثبت لسنج أن رأيه هو الصواب ولا يكون أمام خصمه إلا الإذعان.
- أولًا: مَن الذي يُنكر (لست أنا) أن الروايات عن هذه المعجزات والنبوات يمكن الثقة بها
تمامًا كثقتِنا بالحقائق التاريخية؟ فلماذا نتعامل معها وكأنها أكثر مدعاة للثقة
على الإطلاق؟
وعلى أي نحو «يحدث ذلك»؟ «يحدث» أن شيئًا مختلفًا تمامًا عنها، وأعظم منها، يتأسس عليها وذلك أكثر من شرعية تأسيسها على حقائق مبرهن عليها تاريخيًّا.
فإذا استحالت البرهنة على حقيقة تاريخية فإنه يستحيل البرهنة على شيء اعتمادًا على حقائق تاريخية.
وهذا يعني: أن حقائق التاريخ العرضية لا يمكن أن تصبح برهانًا على حقائق العقل الضرورية.
إني لا أُنكر لحظة واحدة أن نبوات المسيح قد تحققت. وإني لا أُنكر في أية لحظة أن المسيح قد أجرى معجزات. ولكن طالما أن حقيقة هذه المعجزات قد استحالت البرهنة عليها بواسطة معجزات لم تتوقف عن الحدوث في الوقت الحاضر، وطالما أنها ليست أكثر من روايات عن معجزات (مهما كانت صحيحة أو أمكن إثبات ذلك) فإني أنكر تماما أن بإمكانها إلزامي بالإيمان بتعاليم المسيح الأخرى، أو أن تفرض على ذلك فإني أقبل هذه التعاليم على أسس أخرى.
- ثانيًا: ماذا يعني قبول قضية تاريخية على أنها حقيقة؟ ماذا يعني التصديق بحقيقة
تاريخية؟ هل يعني ذلك أكثر من أن قبول هذه القضية يقتضي أن تكون هذه الحقيقة صحيحة؟
وأن نُسلِّم بعدم وجود اعتراض ضدها، وأن نسلِّم بأن قضية تاريخية تنتج عن حقيقة
تاريخية أخرى؟ وأن يحتفظ الإنسان لنفسه الحق في أن يُقيم أشياء تاريخية أخرى طبقًا
لها؟ هل يعني ذلك شيئًا خلاف ذلك؟ وأكثر من ذلك؟ دقِّق النظر جيدًا.
كلُّنا يعتقد بأن شخصًا ما يُدعَى الإسكندر قد عاش، وأنه قد استولى على معظم آسيا في وقت قصير. ولكن مَن منَّا بناءً على هذا الاعتقاد على استعداد لأن يُخاطرَ بشيء عظيم أو بقيمة دائمة لا يمكن تعويضه إذا ما فقدناه؟ مَن يريد نتيجة لهذا الاعتقاد أن يلفظ إلى الأبد كلَّ معرفة تتعارض مع هذا الاعتقاد؟ يقينًا لست أنا. ليس لديَّ أيُّ اعتراض أو جهة ضد الإسكندر وانتصاره، ولكن …
إن لم يكن لديَّ اعتراض على أسس تاريخية ضد القول بأن المسيح قد بعث رجلًا ميتًا، فإنه يجب عليَّ بناءً على هذا أن أُسلِّم كحقيقة بأن الله له ابن مشارك له في الماهية. ما هي العلاقة بين عدم مقدرتي على توجيه اعتراض جوهري ضد البرهان على الواقعة الأولى والتزامي بأن أعتقد شيئًا يثور عقلي ضده؟
إن لم يكن لديَّ اعتراضٌ على أسس تاريخية ضد القول بأن هذا المسيح نفسه قد بُعث بعد الموت، هل يجب عليَّ تبعًا لذلك أن أُسلِّم على أنه حقٌّ بأن هذا المسيح الذي بُعث هو ابن الله؟
إذا كان المسيح الذي لا أستطيع أن أوجِّهَ أيَّ اعتراض تاريخي أساسي ضد بعثه، لذلك على نفسه أنه ابن الله، وإذا اعتقد تلاميذه بناء عليه كذلك، فإني أعتقد ذلك بكل سرور، ومن كل قلبي. فإن هذه الحقائق باعتبارها حقائق واحدة ومن نفس النوع تنتج عن بعضها البعض على نحو طبيعي.
وقد قيل إن المسيح الذي يجب عليك أن تعترف، على أسس تاريخية، أنه قد بُعث من الموت وأنه قد قال بنفسه إن الله له ابن يشاركه في الماهية، وأنه هو هذا الابن، فإن ذلك يكون رائعًا حقًّا، لولا أنه لم يحدث شيء من ذلك؛ لأننا لسنا على يقينٍ تامٍّ من أن المسيح قد قال ذلك.
فإذا ما دفعني أبعد من ذلك وقلت: آه، نعم، هناك أكثر من أكثر من يقين تاريخي لأن الذي قرر ذلك هم مؤرخون ملهمون معصومون من الخطأ.
ولكن أن يكون هؤلاء المؤرخون ملهمين لا يخطئون، ذلك أيضًا لسوء الحظ يقينٌ تاريخي محض.
هذه هي إذن الهوَّة السحيقة التي لا يمكن عبورها، مهما حاولت ذلك مرارًا ومهما كنت جادًّا في محاولتي للعبور. فلو أن أحدًا يريد مساعدتي لاجتيازها فإني أرجوه أن يفعل، فإنه يستحق جزاءً إلهيًّا من أجلي.
وعلى هذا، أكرِّر ما قلتُه آنفًا بنفس الكلمات. إني لا أُنكر لحظة واحدة أن نبوات قد تحققت في المسيح. إني لا أنكر لحظة واحدة أن المسيح قد أجرى معجزات، ولكن لما لم يَعُد بالإمكان البرهنة على حقيقة هذه المعجزات بالمعجزات التي ما زالت تجري حتى الآن، وطالما أنها لا تتعدَّى كونها روايات معجزات (حتى ولو كانت روايات غير مطعون فيها ولا يمكن الطعن فيها) فإني أُنكر أنها يمكن أن تُلزمني على الإطلاق بالإيمان بتعاليم المسيح الأخرى أو أن تفرض على ذلك.
ما الذي يلزمني إذن؟ لا شيء سوى هذه التعاليم نفسها. فقد كانت منذ ثمانية عشر قرنًا جديدة، وشاذة، وغريبة عن مجموعة الحقائق المتعارف عليها في ذلك العصر، لدرجة أنه لم يكن بالإمكان اللجوء إلى شيء أقل من معجزات ونبوات متحققة وعلى افتراض حدوثها أمام الجمع الغفير.
وانتباه الجمع الغفير لشيء يعني استعمال الحس المشترك استعمالًا سليمًا. وعلى هذا النحو حدث كلُّ شيء، وعلى هذا النحو يحدث الآن. وما يتم البحث عنه على يمين هذا النهج أو على يساره هو ثمار هذه المعجزات والنبوات المتحققة.
قد أرى أمامي هذه الثمار ناضجة آنَ اقتطافها، ألَا أكون راضيًا عن ذلك؟ إني لا أشك في الأسطورة الدينية القديمة القائلة بأن اليد التي تقذف بالبذور يجب أن تغتسل في دم «كابوريا» سبع مرات قبل كل قذف، ولكني أجهلها. ماذا يهمني إذا كانت الأسطورة حقيقية أم مزيفة؟ إن الثمار رائعة.
فلنفترض أن مكتشفًا قد توصَّل إلى حقيقة رياضية ناقصة للغاية بفضل مغالطة واضحة (حتى على فرض أن واقعة كهذا لا تحدث فإنها قد تحدث) هل يجب أن أُنكر هذه الحقيقة؟ هل يجب أن أرفض استعمال هذه الحقيقة؟ هل أكون لذلك قد أهنتُ المكتشف وأنكرتُ فضله إن لم أكن راغبًا في البرهنة من خلال حدْسه بطرق أخرى ولم أعتبره في الحقيقة قادرًا على البرهنة، وأن المغالطة التي وقع فيها للوصول بها إلى الحقيقة ليست مغالطة؟
وختامًا أُعلن عن رغبتي: أرجو لكل الذين فرَّقهم إنجيل يوحنا أن توحِّدهم وصية يوحنا. إني أعترف بأن هذه الوصية مزيفة، ولكنها ليست لهذا السبب أقلَّ ألوهية.
والحجة الأساسية التي يقدمها لسنج هي الفرق بين التسليم بالنبوات والمعجزات عن طريق الروايات التاريخية والتسليم بها عن طريق التجربة الشخصية. فالروايات تخضع لخطأ الرواة المقصود وغير المقصود في حين أن التجربة الشخصية لا نزاع على صدْقها. الأولى برهان خارجي ظني، والثاني داخلي يقيني. فلا إشكال إذن في الإيمان بنبوة المسيح وبمعجزاته عند مَن عاصروه من الحواريين والتلاميذ؛ لأنهم رأوه وسمعوه ولديهم تجربة مباشرة منه. أما الإشكال فلدينا نحن الذين لم نرَ المسيح ولم نسمعه بل علمناه عن طريق الروايات ونقْل التاريخ. وهي التفرقة التي تبناها كيركجارد أيضًا بين التلميذ من الدرجة الأولى والتلميذ من الدرجة الثانية وفضل معاصرة الأول على تبعية الثاني. وهي نفس التفرقة في تراثنا القديم بين الصحابي والتابعي.
إن المشكلة الآن في جيلنا نحن. فبعد اكتمال الإنسانية واستقلالها في فلسفة التنوير لم تَعُد النبوات ولا المعجزات ممكنة. فما الدليل على صدْق الإيمان وما البرهان على صحة مضمونه؟ إن «برهان الروح والقدرة» لم يَعُد برهانًا يلائم العصر الحاضر الذي لا يعتمد إلا على العقل البديهي أو على الطبيعة ووصف مسارها. بل إن برهان الروح والقدرة معارض تمامًا للعصر؛ فالروح هدمٌ للعقل، والقدرة خرق لقوانين الطبيعة. إن ما صدَّق به القدماء لا يمكنني أن أصدِّق به الآن لا من حيث المنهج ولا من حيث الموضوع. فقد اعتمد القدماء على الروح ونحن نعتمد على الحس السليم، وفكَّر القدماء في قلب نظام الطبيعة ونحن نفكر في اطراد قوانين الطبيعة.
لا يمكن إذن تأسيس الإيمان على براهين لم يَعُد العصر يؤمن بها. بل لا بد من البحث على براهين أخرى ملائمة لعصرنا الحاضر: أن غاية ما توصل إليه القدماء هو الاعتماد على الرواية وحقائق التاريخ، أما بالنسبة لنا فالرواية هشة لا تثبت أمام النقد، وحقائق التاريخ ظنية تقوم على التمني وكثير منها إسقاط من شعور المنفعل ألمًا أو فرحًا، نصرًا أو هزيمة. وهنا يُثبت لسنج جوهر قصده في عبارة مركزة، وهي «إن حقائق التاريخ العرضية لا يمكن أن تصبح برهانًا على حقائق العقل الضرورية».
إن الإيمان بتعاليم المسيح والتسليم بقيمة مثل التواضع، وحب الجار، والتقوى، والإيمان، لا يحتاج إلى نبوات أو معجزات بل هذه التعاليم تقوم على العقل الخالص وتتأسس في الطبيعة؛ فالعقل والطبيعة أساسان أبديان لحقائق الوحي. إن حقائق الوحي من الأهمية بمكان بحيث لا يمكنها أن تقوم على الروايات التاريخية، فبالأولى يتحدد مصير الإنسان في حين أن الثانية ليس بها هذا القرار المصيري. فسواء كان الإسكندر الأكبر موجودًا أو غير موجود، أو كان قد انتصر أو انهزم فإن ذلك لن يغير من مصير الإنسان في شيء. أما وجود الله، وخلود النفس، وعمل الخير، فكل ذلك يتعلق مصير الإنسان به، حياة ومعادًا.
لا يمكن إذن استخراج الحقائق الدينية من النصوص؛ فالنصوص لا تزيد عن كونها روايات تاريخية عرضة للخطأ والتحريف، والزيادة والنقصان والتبديل والتغيير، بل يمكن استنباطها من العقل الخالص ومن الطبيعة الخيرة.
لا يمكن العبور من التاريخ إلى الإيمان على الإطلاق؛ فهناك هُوَّة سحيقة بين العرضي والجوهري لا يمكن عبورها. فالعَرَضي عرضة للخطأ أما الجوهري فيقينه مطلق.
لا يضير المسيحية إذن أن تكون رواياتها مضطربة ومختلة، وأن تكون نصوصها محرَّفة ومبدَّلة، وأن يكون كتابها من وضع مؤرخين بشر؛ لأن حقائق المسيحية تقوم على أسس أخرى أكثر يقينًا، ومنها مقدار ما تحققه من خير للناس. وما أجمل الثمار وأحلاها طعمًا حتى ولو لم أرضَ بالساق الغليظ. وما أصدق المكتشفات الرياضية حتى ولو توصَّل إليها صاحبها بعد الوقوع في مغالطات.
إن البرهان على حقيقة المسيحية برهانٌ بعدي وليس برهانًا قبليًّا. فالنتائج تُثبت المقدمات ولا تُثبت المقدمات النتائج. والرجوع من الإيمان إلى التاريخ أفضل من الذهاب من التاريخ إلى الإيمان؛ فالرجوع إلى الوراء أضمن من التقدم إلى الأمام. والبرهان الداخلي أصدق من البرهان الخارجي.
فإذا كان النقاد قد اختلفوا على صحة إنجيل يوحنا فإن «وصية يوحنا» التي يذكرها لسنج تُوحِّدهم من جديد على شهادة الروح الباطنية. ولا يضير الوصية أن تكون مزيفة ما دام خير عميم سينتج منها.
أراد لسنج إذن بعد تقويض الروايات وإثبات تحريفها وعدم مطابقتها لما ترويه، إعادة بناء حقائق الوحي على أسس أفضل هي التي قدَّمتها فلسفة التنوير. فما قوضته فلسفة التنوير باليسار أعادت بناءَه من جديد باليمين.