في مصدر دين الوحي (١٧٥٥م)
١
إن الاعتراف بإله واحد، والبحث عن تكوين أكثر الأفكار جدارة به، واعتبار هذه الأفكار الأكثر جدارة في كل أفعالنا وأفكارنا، هو أكمل تلخيص لكل الدين الطبيعي.
في مقابل الدين المسيحي القائم على قواعد الإيمان والكتاب المقدس والكنيسة والمعجزات يضع لسنج دين المسيح القائم على العقل والطبيعة والتجربة الداخلية. فمصدر الوحي هو الطبيعة التي لا تخطئ أما المصدر الإلهي فهو خاضع للرواية ولضبط التفسير وهو ما لم يحدث في العهد القديم ولا في الجديد. وإذا كانت الرواية صحيحة في حالة القرآن إلا أنه ما زال يخضع أيضًا لاتجاهات مختلفة في التفسير كما حدث في تاريخ الفرق الإسلامية. أما الطبيعة فواحدة لا خلاف عليها وهي الفطرة التي يأتي الوحي تأكيدًا لها. فالطبيعة هي أفضل مصدر لدين الوحي فما يتفق مع الطبيعة يكون وحيًا وما يختلف مع الطبيعة لا يكون وحيًا صحيحًا، وبالتالي تجاوز لسنج وفلاسفة التنوير معه إدانة الطبيعة، واختارها كما هو الحال في اللاهوت التقليدي في إثبات عقيدة الخطيئة الأولى، وأعلن براءة الطبيعة من الآثام، وخلوَّها من الشرور، وقدرتها على الإدراك والفعل. ويتلخص الدين الطبيعي في تمثل إله واحد منزه وظهور هذا التمثل والتنزيه في السلوك، أي في عمل الخير، وهو ما اتفق عليه جميع فلاسفة التنوير وما سماه سبينوزا الدين الشامل.
وسماه كانط «الدين في حدود العقل وحده»، وهو أيضًا ما ذكره القرآن بدعوته باستمرار إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ….
٢
وكل إنسان ملتزم بهذا الدين الطبيعي، ومرتبط به طبقًا لقدراته.
ولا يحتاج الدين الطبيعي إلى نبوة أو إلى وحي أو إلى تبليغ، بل يعلمه كلُّ إنسان بفطرته، ويعمل على تحقيق مقتضياته طبقًا لقدراته دون خوف أو خشية ودون نفاق أو تجارة، ودون إعلان أو شهرة أو مزايدة. لا يحتاج إلى رجال دين ولا إلى مؤسسات دينية. فكل إنسان مطبوع على التوحيد ومفطور على حب الخير.
٣
ولكن لما كانت هذه القدرة تختلف من إنسان لآخر وبالتالي سيختلف الدين الطبيعي لكل إنسان، كان من الضروري درْءُ المخاطر التي تنشأ من هذا الاختلاف الذي لا يحدث في الحرية الطبيعية للإنسان بل في علاقته الاجتماعية بالآخرين.
ولما كانت قدرات الإنسان متفاوتة من فرد لآخر أمكن وقوع الاختلاف أيضًا في تصور الدين الطبيعي وفي ممارسته. ولا يقع هذا الاختلاف في الحرية بالطعن في شرعيتها ولكنه يقع في آثار الحرية الفردية على حرية الآخرين. فكلُّ فردٍ حرٌّ، ومن هنا وجب درء مخاطر هذا التعارض بين حرية الفرد وحرية الآخرين. وهنا يبدو أن الدين الطبيعي يقوم على الطبيعة والحرية في مقابل الطبيعة أي الخطيئة الأولى والفضل الإلهي في الدين اللاهوتي.
٤
وهذا يعني أنه بمجرد الاعتراف بأن اهتمام الجماعة بالدين شيء طيب يجب أن يتفق الناس على أشياء وأفكار معينة وإعطاء هذه الأشياء والأفكار المتفق عليها نفس الأهمية والضرورة التي للحقائق المعترف بها في الدين الطبيعي بناء على يقينها الخاص.
لما كان الدين الطبيعي هو مصدر دين الوحي، وكانت حقائقه يقينية مثل الطبيعة والحرية والعقل وشهادة الوجدان، ولما كان دين الوحي عرضة للخطأ، وكانت حقائقه باطلة، مثل العقائد والمعجزات والطقوس، كان لا بد من تأسيس دين الوحي على الدين الطبيعي، وقياس حقائق دين الوحي وتقييمها على حقائق الدين الطبيعي، وما دام الناس لا تزال مقتنعة بأهمية دين الوحي وضرورته، فإنه على الأقل لا بد من التسليم بأهمية الدين الطبيعي وضرورته؛ فالذي يعطي الأهمية للفرع كيف لا يعطي نفس الأهمية للأصل؟ والذي يرى أن الظن ضرورة فكيف لا يرى أن اليقين أكثر ضرورة؟
٥
وهذا يعني أنه يجب تأسيس دين وضعي من دين الطبيعة الذي لم يستطع كلُّ الناس أن تمارسه على وجه الشمول، تمامًا كما أمكن لنفس السبب استخراج قانون وضعي من قانون الطبيعة.
ولما أمكن استنباط قانون وضعي من قانون الطبيعة كما فعل سبينوزا فلماذا لا يمكن أيضًا وبنفس الطريقة تأسيس دين وضعي من دين الطبيعة حتى يمكن أن يمارسه كلُّ الناس على نحو شامل؟ فالطبيعة هي مصدر القانون والدين على حدٍّ سواء. وهي أيضًا مصدر الأخلاق والسياسة، وهي في النهاية محررة الفن والأدب.
٦
ويستمد هذا الدين الوضعي سلطتَه من عظمة مؤسِّسِه الذي أعلن أن العناصر الاتفاقية أتت من الله ولكن من خلاله فقط. أما العناصر الجوهرية فيه فقد تم استنباطها مباشرة من الله من خلال كل عقل بمفرده.
إذا كان الدين الوضعي قد أتى من الله على ما يقول علماء الدين، فإن ذلك صحيح بالنسبة للشعائر والطقوس والصور والأشكال وعدد الصلوات، ومقدار الزكاة وكيفية الحج، وطريقة الصوم، وهي كلها اتفاقات ومواضعات لا تمس الجوهر. أما الجوهر فإنه يمكن لكل عقل بمفرده أن يُدركَه مباشرة من الله دون حاجة إلى واسطة من وسائط الدين الوضعي. وبالتالي قام الدين الطبيعي حتى الآن على دعائم ثلاث: الطبيعية، والحرية، والعقل.
٧
وأسمِّي لزوم الدين الوضعي الذي بسببه يتغير الدين الطبيعي في كل دولة طبقًا لظروفها الطبيعية والعرضية، أسمِّيه حقيقته الداخلية، وهذه الحقيقة الداخلية توجد بنفس القدر في كلٍّ من الدينَين.
إن الحاجة الملحَّة للدين الوضعي الذي يتكيف الدين الطبيعي طبقًا له نظرًا لوجوده في دول وشعوب مختلفة، هذه الحاجة الملحَّة هي حقيقة الدين الوضعي وهي متماثلة مع حقيقة الدين الطبيعي. فأساس الدينَين، الوضعي والطبيعي واحد، وهو هذا المطلب الذي يشعر به كلُّ إنسان، ولكن الدين الوضعي يغلب جانب المظاهر الخارجية على الحقيقة الداخلية في حين أن الدين الطبيعي يبقى على الحقيقة الداخلية بكل إشراقها ولمعانها بلا مظهرية أو اصطناع.
٨
وبناء على ذلك، كل الديانات الوضعية وديانات الوحي صحيحة وباطلة على حدٍّ سواء.
كل دين وضعي أو طبيعي صحيح وباطل في آنٍ واحد. يكون الدين الوضعي صحيحًا إذا ما كانت مظاهره وأشكاله ورسومه متفقة مع حقيقته الداخلية التي تتفق مع الدين الطبيعي، ويكون باطلًا إذا ما اختلفت هذه المظاهر والرسوم مع حقيقته الداخلية أي مع الدين الطبيعي. ويكون الدين الطبيعي باطلًا إذا ما وقع في المظهرية والاصطناع متفقًا في ذلك مع الدين الوضعي، ويكون صحيحًا إذا ما حرص على حقيقته الداخلية وهي العقل والطبيعة والحرية، والفردية.
٩
ويكون كلاهما صحيحًا طالما أنه كان من الضروري دائمًا أن يحدث اتفاق على أشياء متعددة من أجل الحصول على دين عام (شعبي) واحد ومطرد.
يصح الدين الوضعي والدين الطبيعي إذا ما حدث بينهما اتفاق على دين عام يمارسه الجميع بطريقة واحدة ومطردة، حرصًا على الصالح العام، وتسيير الحياة وفقًا لقانون واحد ومطرد.
١٠
ويكون كلاهما باطلًا لما كانت هذه الأمور المتفق عليها مجانبة لما هو جوهري، بل ومضعفة له وطاغية عليه.
ويبطل الدينان معًا إذا كانت الشعائر والطقوس، والرسوم والأشكال مجانبة للحقيقة الداخلية الجوهرية بل ومضعفة لها، وطاغية عليها، هذه الحقيقة التي هي الدين الطبيعي.
١١
إن أفضل دين وحي أو دين وضعي هو الذي يحتوي على أقل اتفاقات على الدين الطبيعي والذي هو أقل إعاقة للآثار الطيبة للدين الطبيعي.
إن الأمل الوحيد في الإبقاء على أي دين يقوم على الوحي أو أي دين وضعي هو في الإقلال قدر الإمكان من الاتفاقات في الدين الطبيعي حتى لا يتحول إلى دين أشكال ورسوم وشعائر وطقوس وحتى لا يقضيَ كلية على الآثار الطيبة للدين الطبيعي التي يمكن أن يؤديَها في كل عصر ولدى كل شعب يودُّ أن يطور نفسه وأن ينقل حضارته من عصر الإصلاح إلى عصر النهضة.