مسيحية العقل (١٧٥٢–١٧٥٣م)
١
إن أعظم موجود كامل استطاع منذ الأزل أن يعتنيَ فقط بأمر أعظم شيء كامل.
في هذا النص «مسيحية العقل»، يحاول لسنج أن يضع مبادئ عامة للدين الشامل كما فعل سبينوزا ولكنه ظل نظريًّا خالصًا يتناول الموضوعَين الأساسيَّين في الدين وهي الله والعالم أو الإلهيات والطبيعيات دون أن يظهر الموضوع الثالث وهو النفس أو الإنسان على نحو بارز. ويبدو أن لسنج صاغ مبادئ الدين الشامل على طريقة الفلاسفة العقليِّين المسلمين والمسيحيِّين كما فعل ليبنتز في «المونادولوجيا» التي يتوعَّد فيها الفكر والوجود ويظهر فيها التصور الأفلوطيني للعالم دون إشراقياته، فإذا كان فلاسفة التنوير وعلى رأسهم لسنج قد أخذوا بنظرية الوجود عند أفلوطين دون نظرية المعرفة إلا أنهم أقاموا نظرية الوجود على العقل فخرج الوجود البارمينيدي القديم. وتبدو حدود فلسفة التنوير في هذا الإغراق في النظريات الصورية وتناول الموضوعات الميتافيزيقية مما جعلها هدفًا سهلًا لفلسفات العلم وفلسفات التاريخ فيما بعد.
وفي هذه الفقرة الأولى يتحدث لسنج عن الله على طريقة الفلاسفة العقليِّين سواء عند اليونان، أرسطو مثلًا، أو في العصر الوسيط، أبيلار وأنسليم وتوما الأكويني، أو في العصور الحديثة ديكارت والديكارتيين بوجه عام. فالله أعظم موجود كامل ولا يفكر إلا في أعظم الموضوعات كمالًا. ولم يبالِ لسنج باعتراض اللاهوتيين التقليديين، وهو إنكار العناية الإلهية لأن أعظم الموضوعات كمالًا هو الله، وبالتالي يكون الله هو الذات والموضوع في آنٍ واحد. ولكن يبدو أن التنزيه العقلي وصل إلى درجة اكتشاف الحقائق الإنسانية العامة، مثل وحدة الذات والموضوع وتركها على مستوى التأليه، مما دفع فيورباخ فيما بعدُ إلى إنزال حقائق المثالية إلى عالم الواقع، وتحويلها إلى حقائق إنسانية خالصة بها دمٌ ولحم وتنفُّس وحياة.
٢
إن أعظم شيء كامل هو ذاته. وعلى هذا استطاع الله منذ الأزل أن يتأمل ذاته فقط.
هذا هو التصور الأرسطي لله الذي أعجب به الفلاسفة المسلمون خاصة الفارابي وابن سينا وهو أن الله هو الموجود الكامل وأنه لا يفكر إلا في الموضوعات الكاملة، وأولاها وجوده نفسه. فالله كامل يفكر في كماله وليس ناقصًا يفكر فيما هو ناقص. وهو التصور الذي إذا ما تُرجم على المستوى السياسي والاقتصادي أصبح نظام النبلاء؛ فالنبيل لا يفكر إلا في ذاته، وهو النظام الإقطاعي وبدايات تأسيس النظم الرأسمالية؛ فالإقطاعي لا يفكر إلا في إقطاعه، والرأسمالي أيضًا لا يفكر إلا في رأسماله. لهذا كانت الليبرالية، وريثة فلسفة التنوير، دعامة النظم الرأسمالية في الغرب.
٣
التصور، والإرادة، والخلق شيء واحد بالنسبة لله. وعلى هذا يمكننا القول بأن ما يتصوره الله فإنه يخلقه.
يوحِّد لسنج هنا مثل باقي المنزهة بين العقل والإرادة في الله. فالله يخلق بإرادته ويريد بعقله، أو كما يقول المسلمون، يعلم الله ما يريد، ويريد ما يعلم حتى يمكن إبعاد الإرادة الشخصية عن الله وحتى لا يحدث تعارض بين العقل والإرادة. وهذا التوحيد في النهاية يلحق الإرادة بالعقل ويجعلها إحدى حالاته؛ فالعقل هو إحدى ركائز فلسفة التنوير إن لم يكن ركيزتها الأولى.
٤
يستطيع الله أن يفكر بطريقتين فقط: إما أن يفكر في كل كمالاته مرة واحدة، وفي نفسه التي تحتوي على كل هذه الكمالات، أو أن يفكر في كمالاته على انفراد كلٌّ على حدة وكلُّ واحد بنفسه في درجته الخاصة.
يُحدِّد لسنج هنا منهجَين للتفكير الإلهي الأوَّلي: المنهج الكلي أو العام عندما يفكر الله في كمالاته كلها مرة واحدة، والثاني: المنهج الجزئي أو الخاص عندما يفكر الله في كل كمال على حدة، كلٌّ طبقًا لمرتبته الخاصة. ويبدو أن لسنج هنا لم يستطع أن يتخلص من بقايا الفيض الأفلوطيني عندما يفيض كلُّ كمال من الكمال الذي قبله، والله هو كل هذه الكمالات، وقد استطاع التنوير الفرنسي والإنجليزي التخلص من هذه الأفلوطينة التي ما زالت عالقة بالتنوير الألماني نظرًا لارتباطه بمذهب التقوى أو القنوط ذي النزعة الصوفية. ويرمي لسنج من هذه الفقرة الرابعة الانتقال بعد ذلك من الله موضوع الفقرات الثلاث الأولى إلى طبيعة الله: الآب والابن والروح القدس.
٥
وقد تأمل الله ذاته منذ الأزل في كل كمالاته، أي أن الله خلق منذ الأزل موجودًا لا ينقصه كمال يتصف به الله ذاته.
وهنا تبدأ نظرية الفيض. تأمل الله ذاته، ومن هذا التأمل فاض موجود كامل آخر متصف بجميع صفات الكمال التي يتصف بها الله. وهنا تبدأ الأفلاطونية المسيحية التقليدية؛ حيث تعتمد فيها المسيحية على نظرية الفيض لإثبات مشاركة موجود آخر غير الله، وهو الابن، في كمالات الله. كما فعل أفلوطين من قبل بإثباته فيض النفس والعقل من الواحد والكل يشارك في نفس الكمال الصوري.
٦
ويسمَّى هذا الموجود في الكتاب ابن الله أو بتعبير أفضل الابن-الإله، إله لأنه لا ينقصه شيء من صفات الله، وابن لأنه طبقًا لأفكارنا من يتصور شيئًا يكون له أولوية على ما يتصور.
هذا الموجود الأول الذي فاض عن الله بتأمله لذاته هو المسيح ابن الله فهو إله لأنه يشارك الله في جميع كمالاته، وهو الابن لأنه هو موضوع تأمل ذات الله، والله سابق عليه كما تسبق الذات تصوراتها عن الأشياء. وهنا تبدو حدود فلسفة التنوير في تصورها لوظيفة العقل وكيف أنه كان ما زال مبررًا للإيمان ومدافعًا عن العقائد، ولا يوجد تبرير أو دفاع لا يمكن نقضه بالعقل. فاعتبار الابن الإله ابنًا لأن الذات تسبق تصوراتها للأشياء نظرة تجريبية للمعرفة كما هو الحال في فلسفة التنوير كما عرضتها «دائرة المعارف الفلسفية» عند فولتير ودالمبير وديدرو ولكن في الفلسفة النقدية التي تعبر عن التنوير في ألمانيا التصورات قبلية وتوجد بوجود الذات وليس بعدها.
٧
هذا الموجود هو الله ذاته، ولا يجب التمييز بينه وبين الله لأننا نفكر فيه بمجرد تفكيرنا في الله، ولأننا لا نستطيع أن نفكر فيه بدون الله؛ وذلك لأننا لا نستطيع التفكير في الله بدون الله أو لأن الله ما كان يوجد بالمرة لو أننا انتزعنا من أنفسنا تصورنا له.
يبدو هنا أهمية الدليل الأنطولوجي عند أنسليم وديكارت، وهو حجر الزاوية في المثالية الحديثة التي تقوم على استنباط الوجود من الفكر، من أجل إثبات مشاركة الابن للآب في جميع مظاهر الكمال؛ فالتفكير في الله يقتضي التفكير في الابن، كما أن التصور يقتضي الوجود، والتفكير في الابن يقتضي التفكير في الله كما أن الوجود يقتضي التصور. فما كان يمكن التفكير في الله دون أن يكون موجودًا وما كان يمكن أن يوجد الله إن لم يكن لدينا تصور عنه.
٨
يمكن تسمية هذا الوجود صورة الله، وهي في الحقيقة صورة مماثلة.
يصف لسنج هنا المسيح بأنه صورة الله، بل وصورة مماثلة له ليبين الصلة بين الآب والابن، صلة الشيء بصورته المماثلة له.
٩
كلما ازداد اشتراكُ شيئَين معًا ازداد التآلف بينهما. لذلك فإن أعظم تآلف يجب أن يوجد بين شيئين يشتركان معًا في كل شيء؛ أي بين شيئَين يكونان معًا شيئًا واحدًا فقط.
يحاول لسنج هنا بيان مدى الوحدة الداخلية بين الأب والابن، بين التصور والوجود، بين الشيء والصورة، ويستعمل هذه المرة لغة التآلف والانسجام. فكلما زاد التشابه بين شيئين زاد التآلف بينهما، فإذا ما كان الشيئان شيئًا واحدًا كان التآلف بينهما تامًّا. يحاول لسنج هنا بشتى الوسائل بيان الفرق والوحدة بين الأب والابن.
١٠
مثل هذين الشيئين الله والابن الإله أو الصورة المماثلة لله. وفي الكتاب سُمِّي هذا التآلف الموجود بينهما الروح التي تصدر من الآب والابن.
هنا يُفسح لسنج المجال لإثبات الروح القدس، وهي هذا التآلف بين الأب والابن المتماثلَين في الصورة.
١١
في هذا التآلف يوجد كلُّ شيء في الآب كما يوجد كل شيء في الابن. هذا التآلف إذن هو «الله».
لما كان التآلف بين الآب والابن، وكان الآب والابن متماثلَين في الصورة كان هذا التآلف موجودًا كلية في الآب وكلية في الابن. وحتى لا تبدوَ الروح القدس أقل ألوهية من الابن، يصرح لسنج بأن الروح القدس هي أيضًا الله.
١٢
ولكن هذا التآلف هو الله على نحو لا يكون معه إلهٌ، إن لم يكن الآب إلهًا، وإن لم يكن الابن إلهًا، وأن كليهما لا يكونان إلهًا إلا إذا وجد هذا التآلف، هذا يعني: كل الثلاثة واحد.
يركز لسنج هنا على الوحدة بين الأقانيم الثلاثة في الله. الآب والابن والروح القدس؛ فألوهية التآلف تقتضي أن يكون الله إلهًا وأن يكون الابن إلهًا، وألوهية الله وألوهية الابن يقتضيان أن يكون التآلف أيضًا إلهًا وبالتالي تكون هناك ثلاثة آلهة وإله واحد في نفس الوقت.
١٣
لقد تأمل الله كمالاته، كلًّا على حدة، أي أنه خلق موجودات كلُّ واحد منها فيه شيء من كمالاته. من جديد؛ لأن كلَّ فكر خُلق مع الله.
بعد أن تحدَّث لسنج عن الله (الفقرات ١–٤) ثم عن طبيعة الله: الآب والابن والروح القدس (الفقرات ٥–١٢) يتحدث الآن عن العالم وصدوره عن الله (الفقرات ١٣–٢١). فكما تأمل الله في ذاته فصدر عنه الابن مشابهًا له في الصورة، تأمل ذاته مرة ثانية فصدرت المخلوقات كلها، كلٌّ منها فيها شيء من كمالات الله حسب درجة كلِّ مخلوق في مراتب الموجودات؛ فالله يخلق بتأمل ذاته وليس بإرادة مستقلة عن الذهن الإلهي كما هو الحال عند أفلوطين.
١٤
وتسمَّى كلُّ هذه الموجودات معًا العالم.
هذه الموجودات التي فاضت عن الله بتأمله لكمالاته هي التي نسميها العالم.
١٥
كان يمكن لله أن يفكر في كمالاته مقسمة إلى ضروب مختلفة لا متناهية. وبالتالي كان يمكن أن يوجد عدد لا متناهٍ من العوالم الممكنة إن لم يفكر الله دائمًا في أعظمها كمالًا. وعلى هذا فإنه فكَّر من بينها في أعظم العوالم كمالًا وجعله واقعًا.
يبيِّن لسنج هنا أن الله بتأمله في كمالاته قادرٌ على إيجاد عدد لا نهائي من العالم طبقًا على طريقة تقسيمه لكمالاته وتأمله فيها. فمن حيث المبدأ هناك عوالم لا نهائية، ولكن الله فكر في أعظمها كمالًا وجعله واقعًا بالفعل.
١٦
إن أكمل طريقة للتفكير في كمالاته، كلٌّ على حدة، هي التفكير فيها، كلٌّ على حدة في مراتب لا متناهية من الأعلى والأدنى متتالية وراء بعضها البعض بحيث لا توجد قفزة أو مسافة بينهما.
وتفيض درجات الوجود من الأعلى إلى الأدنى، درجة درجة بلا قفزات ولا فجوات وكأن الله لم يفكر في كمالاته دفعة واحدة، بل في كلٍّ منها بمفردها وفي كل مرة يتأمل إحداها تصدر الأخرى منها.
١٧
وعلى هذا يجب تنظيم الموجودات في هذا العالم في مراتب مماثلة. فيجب أن تكون درجات، تحتوي كلُّ درجة عليا فيها على كل شيء تحتويه الدرجات الدنيا وأكثر، ولن يصل هذا الأكثر أبدًا إلى الحد الأقصى.
يُفصح لسنج هنا عن نظرية الفيض ويبيِّن مراتب الوجود، وكيف أن كل مرتبة عليا تحتوي على جميع ما تحتويه الدرجات الدنيا وتزيد عليها كمالًا، ولكن لن تصل هذه الزيادة إلى الكمال الأقصى الذي هو الله.
١٨
ومثل هذه الدرجات يجب أن تكون درجات لا متناهية. وبهذا المعنى فإنه لا نزاع في وجود عوالم لا متناهية.
لما كانت درجات الوجود لا متناهية فإن العوالم أيضًا لا متناهية، ومن ثَم يُفسح لسنج المجال أيضًا لعوالم مفارقة بجوار العالم الذي نعيش فيه.
١٩
يخلق الله أشياء بسيطة فقط، أما المركَّب فهو نتيجة ثانية لخلقه.
لما كان الله بسيطًا فإنه لا يفكر إلا في البسيط، ولما كان فكره هو خلقه فإنه لا يخلق أيضًا إلا البسيط. أما المركَّب فإنه يفيض عن البسيط ولا يكون مخلوقًا خلقًا مباشرًا من الله؛ فالله بسيط ولا يخلق البسيط إلا البسيط.
٢٠
لما كان شيء من هذه الموجودات البسيطة يحتوي على شيء تحتوي عليه الأشياء الأخرى، ولا يستطيع أيُّ شيء منها أن يحتويَ على شيء لا تحتوي عليه الأشياء الأخرى كان لا بد من وجود تآلف بين هذه الموجودات البسيطة، وبهذا التآلف يمكن تفسيرُ كلِّ شيء يقع بينها أي في العالم.
لما كانت الموجودات البسيطة تحتوي على كل ما تحتوي عليه الموجودات المركبة، وكانت الموجودات المركبة لا تحتوي على شيء لا تحتوي عليه الموجودات البسيطة فإن التآلف بين الموجودات البسيطة هو الذي يتحكم في كل ما يحدث بين الموجودات المركبة التي تكون العالم. فكل ما يحدث في العالم إنما يحدث بفعل التآلف بين الموجودات البسيطة. وهنا يُسلِّم لسنج بهذا التصور السائد في العصر الوسيط وعند الفلاسفة المسلمين من أن كلَّ ما يحدث تحت فلك القمر، أي في الأرض المركبة من العناصر الأربعة إنما يحدث طبقًا لحركة عالم الأفلاك، عالم ما فوق العمر وهو عالم العناصر البسيطة مما يدل على أن العقل لم يستطع القضاء على كل التصورات الدينية الأسطورية القديمة؛ ولذلك ظل التنوير عند لسنج نسبيًّا.
٢١
فإذا ما أتى مسيحي محظوظ في المستقبل إلى هذا الحد وأوسع نطاق الفلسفة الطبيعية فإنه لا يمكن العثور على تفسيرات لكل ظواهر الطبيعة إلا بعد قرون طويلة؛ حيث لا يبقى شيء يمكن عمله سوى تتبُّعِها حتى مصدرها الحقيقي.
يبيِّن لسنج هنا أن إمكانية إقامة علم طبيعي في المستقبل لفهم الظواهر الطبيعية لن تتمَّ إلا بعد قرون طويلة. حينئذٍ يكتشف العالم الطبيعي أن خيرَ وسيلة لذلك هو الرجوع بالظواهر إلى مصدرها الأول الذي منه نشأت. وهو ما تقوله الصوفية تمامًا في الطبيعة وإمكانية فهمها بتأويلها، أي إرجاعها إلى مصدرها الأول. وكأن عالم الطبيعة مهما حاول تفسير الظواهر لا يمكنه إلا إذا وضعها في مراتب الوجود ورتَّبها بين الأدنى والأعلى ترتيبًا تصاعديًّا حتى يُرجعَها كلها إلى مصدرها الأول. وبالتالي يعجز العلم عن التفسير ويتقدم الدين مكملًا للعلم! وهذا أيضًا من حدود فلسفة التنوير.
٢٢
ولما كانت هذه الموجودات البسيطة كما هي عليه آلهة محدودة فإن كمالاتها أيضًا يجب أن تكون مشابهة لكمالات الله ومتصلة بها اتصالَ الأجزاء بالكل.
كل ما هو بسيط فهو إله. ولما كانت هناك موجودات بسيطة فإنها تكون أيضًا آلهة تشارك الله في كمالاته وتكون علاقتها بالله علاقة الأجزاء بالكل.
٢٣
ويشمل كمال الله أيضًا الوعي بكماله والقدرة على الفعل طبقًا لكمالاته، وكلاهما على هذا النحو نهاية كمالاته.
بدأ لسنج كتيبه بالحديث عن الله (الفقرات ١–٤) ثم بالحديث عن طبيعة الله (الفقرات ٥–١٢) ثم بالحديث عن العالم (الفقرات ١٣–٢٢)، ويُنهي كتيبه بالحديث عن الإنسان (الفقرات ٢٣–٢٧) مشيرًا إلى حياة الوعي بالكمال، وإلى القدرة على الفعل كآخر كمالات الله. والحقيقة أن هذه الإشارة مقدمة لإثبات وجود وعي الإنسان وقدرته على الفعل أي إثبات الإنسان بقدرتَيه النظرية والعملية.
٢٤
وعلى هذا، يجب ربط درجات الوعي المختلفة لهذه الكمالات والقدرة على الفعل طبقًا لها مع الدرجات المختلفة لكمالات الله.
ترتبط درجات الوعي بالكمال والقدرة على الفعل بدرجات كمالات الله؛ وذلك أن درجات الوعي الإنساني صورة أخرى لدرجات الكمال الإلهي.
٢٥
تُسمَّى الموجودات المتصفة بالكمالات والواعية بكمالاتها والتي لها القدرة على الفعل طبقًا لها موجودات خلقية، أي موجودات يمكنها أن تتبع قانونًا.
هذه الموجودات الواعية هي الموجودات الخلقية، وتعني الموجودات التي يمكن أن تسلك وفقًا لقانون. ولم تتمَّ الإشارة فقط إلى الإنسان؛ وذلك لأنه طبقًا للعصر الوسيط تشمل الموجودات الخلقية الإنسان وغيره، مثل الملائكة. فالإنسان موجود يتصف بالوعي، والوعي هو الأخلاق، والأخلاق هي السلوك طبقًا للقانون. وهنا يتضح أن القانون الخلقي الذي هو في نفس الوقت قانون طبيعي هو أيضًا من ركائز فلسفة التنوير مع العقل والطبيعة والحرية والتقدم والإنسان.
٢٦
ويتم استنباط هذا القانون من طبيعتها الخاصة. وليس هذا القانون سوى «افعل طبقًا لكمالاتك الفردية الخاصة».
هذا القانون الخلقي مستمدٌّ من طبيعة الموجودات الخلقية الواعية كما يقول «كانط» وليس من خارجها من الحس أو التجربة أو الأمثال. ويصيغ لسنج القانون كما يفعل كانط في «أسس ميتافيزيقا الأخلاق».
٢٧
ولما استحال وجود قفزة في مراتب الموجودات، فإنه يجب أيضًا أن توجد موجودات ليست على وعيٍ كافٍ وواضح بكمالاتها الخاصة.
في هذه الفقرة الأخيرة يتحدث لسنج عن مراتب الموجودات التي هي أدنى من الإنسان، والحيوان، والنبات حتى تكون مراتب الوجود متصلة الحلقات لا انقطاع فيها. هذه المراتب أقل وعيًا وكمالًا من الإنسان.
ويبدو أن هذا الكتيب ظل ناقصًا؛ لأن لسنج لا بد وأن يتحدث بعد ذلك عن الجمادات باعتبارها آخر مرتبة في الوجود، وبالتالي يكون لسنج قد ضحى بفلسفة التنوير من أجل نظرية الفيض، وتكون «مسيحية العقل» هنا مماثلة تمامًا للاهوت العقلي عند فولف وليبنتز في بدايات فلسفة التنوير.