ثالثًا: اليقين الخارجي واليقين الداخلي
ومنذ العصور الحديثة ظهر اليقين في الدين نوعين: يقين خارجي يعتمد على الكتاب المقدس وعلى حوادث التاريخ وعلى المؤسسات الدينية، ويقين داخلي يعتمد على العقل أو التجربة أو الفضيلة. وتعتمد الفلسفة والاتجاهات المحافظة بوجه عام على اليقين الخارجي، فيتم البرهنة على حقيقة الدين المسيحي بالكتاب المقدس وبآباء الكنيسة، وبوقائع التاريخ، مولد المسيح وحياته ومماته وبعثه، وبقواعد الإيمان كما وضعتْها الكنيسة. في حين تعتمد الفلسفة التحررية والاتجاهات التقدمية بوجه عام على اليقين الداخلي. فتتم البرهنة على حقيقة الدين المسيحي بالعقل والتجربة واتفاقها مع القيم الخلقية وتطابقها مع الطبيعة الإنسانية. فالنزعة المثالية في الدين تمثِّل تقدمًا على النزعة الشيئية فيه، والنزعة العلمية في الدين — كما حدث في القرن التاسع عشر — تمثِّل تقدمًا على النزعة المثالية فيه.
وقد ظل هذان اليقينان يتجاذبان الفكر المسيحي جذبًا وطردًا، يتغلب أحدهما على الآخر طبقًا للعصور. ففي العصور القديمة — باستثناء أوغسطين — كان اليقين الخارجي هو الغالب على اليقين الداخلي. وفي العصور الحديثة أصبح اليقين الداخلي هو الغالب على اليقين الخارجي، وهذا هو وجه الفرق بين العصرين.
- (١) تحقيق نبوءة العهد القديم في حياة المسيح، في حين أن الدراسات المعاصرة أثبتت أن هذا التحقيق قد تم بحركة تراجعية Retrespective عندما قرأ كتاب الأناجيل حوادث حياة المسيح، ورجعوا إلى الوراء ووجدوا تبريرًا لها في العهد القديم. فالواقعة هي التي أبرزت النص، ولم يتحقق النص في الواقعة، وهو ما يسمى في منهج التفسير باسم Stereotype.
- (٢)
المعجزات التي أجراها المسيح مع أن الدراسات المعاصرة تبيِّن اختلافها كيفًا وكمًّا من إنجيل لآخر، كما تُعطي تعريفات للمعجزة بدأها سبينوزا، وهي الواقعة التي نجهل قانونها الطبيعي. فالإيمان بالمعجزة جهلٌ بقوانين الطبيعة، وكلما ازداد علمُنا بقوانين الطبيعة قلَّ إيمانُنا بالمعجزات.
- (٣)
انتشار المسيحية بسرعة في العالم القديم مما يدل على تدخُّل خارجي بفعل الروح القدس، وهو تفسير غير طبيعي لحوادث التاريخ. فانتشار المسيحية ظاهرة تاريخية محضة يمكن تفسيرها بعللها المباشرة؛ مثل دخول قسطنطين إلى المسيحية، والرغبة في الحفاظ على مناصب الدولة، وعصر الشهداء، والقِيَم الخلقية الجديدة … إلخ.
- (٤) تماثل تعاليم المسيح مع الأخلاق الطبيعية، وهي الحجة التي تبدأ منها فلسفة التنوير دون الحجج الثلاث الأولى والتي يدافع من أجلها لسنج عن فيلسوف عصر النهضة؛ وذلك لأن فلسفة التنوير كما يمثِّلها لسنج ترفض إقامة اليقين الديني على أساس من التاريخ، فالتاريخ واهٍ، ظني، وخاضع للرواية، في حين أن الأخلاق الطبيعية ثابتة وشاملة ويمكن إدراكها بالعقل البسيط، وبنور الفطرة وبالإحساس الطبيعي.٣
لم يقبل القرن السابع عشر بسهولة لا عقلانية التاريخ وعدم ضبطه، ومن ثَم نشأت المناهج التاريخية لتحويل التاريخ إلى علم مضبوط، وبلغت أوجَها بعد قرنين من الزمان في القرن التاسع عشر، وقد قلل سبينوزا وليبنتز من شأن التاريخ كعماد للقضايا اللاهوتية، باحثين عن أسس أخرى بعد أن وضَّح ضعفَ الأساس التاريخي بعد تحويل التاريخ إلى علم مضبوط. كان لسنج يفضِّل هذين الفيلسوفين سبينوزا وليبنتز على غيرهما من الفلاسفة لهذا السبب؛ فالقانون الإلهي لا يعتمد على الروايات التاريخية عند سبينوزا إنما يعتمد على الطبيعة. القانون الإلهي قانون طبيعي له استقلاله عن روايات الكتاب المقدس التي تخضع لرؤية الراوي وأهوائه ومصالحه ورغباته.
- (١) كل يقين بصدد حوادث ماضية مستحيلٌ؛ لأن معرفتنا بها تعتمد على الشهادة وليست على تجربة من الدرجة الأولى. إن معرفة مثل هذه الحوادث لا تصل أكثر من درجة من الاحتمال، أو أقل، طبقًا لدرجة قيمة الشهادة. فاحتمال الخطأ في الشاهد العياني أقل بكثير من احتمال الخطأ في الراوي الثاني الذي لم يشاهد. بل إن هذه الشهادة العيانية كما وضح في علم النقد التاريخي للكتب المقدسة أيضًا لا تمثِّل يقينًا مطلقًا نظرًا لأنها مرتبطة بوجدان الشاهد ودرجة حياد شعوره. فإذا ما كان وجدانه منفعلًا أثَّر ذلك على عمل حواسه ورأى الطبيعة غاضبة إذا كان غاضبًا وسمع نواحًا وبكاءً في الطبيعة إذا كان حزينًا. كما قد يتدخل الشاهد العياني في رؤيته للوقائع بثقافته وعقائده، واهتماماته وتطلعاته، فيرى المسيح مخلصًا ينتظر المخلص، ويراه ابن الله لأنه يؤمن بالمعجزات، ويراه شافيًا لأنه مريض، ومحبًّا لأن أحدًا لم يحبَّه، ويتصوره وقد بعث بعد الموت تعبيرًا عن أمل ورفضه للأمر الواقع.٤
- (٢) كان من الأسهل الإيمان بالمسيح لو كان هناك شخص واحد معاصر له رآه. ولكن حتى في هذه الحالة، يظل الأمرُ خبرَ واحدٍ، كما يقول علماء أصول الفقه، وخبر الواحد لا يعطي إلا الظنَّ، فالتواتر وحده هو الذي يفيد اليقين. وروايات الأناجيل على أحسن تقدير أخبار آحاد لأنها لا تفي بشروط التواتر الأربعة وهي:
- أولًا: استقلال الرواة؛ فقد ثبت اتصال الأناجيل بعضها ببعض سواء في نظرية المصدرين «مرقص + الأقوال» أو في نظرية المصادر الثلاثة «مرقص + متى الآرامي + الأقوال» أو في نظرية المصادر الأربعة، والخمسة، والستة … إلى نظرية المصادر المتعددة.
- ثانيًا: العدد الكافي من الرواة الذي يفيد اليقين، والعدد أربعة «أربعة أناجيل» غير كافٍ لأنه لم يرفع بذورَ الشك حول صحة الأناجيل.
- ثالثًا: تجانس الرواية في الزمان، من حيث درجة انتشارها؛ وذلك لأن إنجيل يوحنا على الأقل لم يكن معروفًا في الجيل الأول والثاني، وبدأ في الظهور ابتداء من الجيل الثالث والرابع.
- رابعًا: الإخبار عن حسٍّ؛ وذلك لنقله روايات ميلاد المسيح ومعجزاته وبعثه وهي كلها تعارض الحسَّ والمشاهدة.
- (٣)
إن تصور أن إنسانًا اسمه يسوع المسيح كان وما زال ابن الله جوهر واحد مع الأب، معارض للعقل، وقد ظلت العقائد المسيحية في العقل الأوروبي بمثابة منبه له ومنشط حتى يفيق ويؤكد سلطانه، كانت تمثِّل تحديًا بالنسبة له؛ فإما أن يلين ويطيع ويعلن تخليه عن سلطته أمام السر الذي يفوق قدرته، وإما أن يثق بنفسه، ويُثبت قدرته. ويكشف هذا السر الذي اتخذتْه الكنيسة وسيلةً للسيطرة بها على مقدرات الإنسان، عقلًا وإرادة، وبهذا المعنى تعني فلسفة التنوير الاختيار الثاني أي انتصار العقل على السر.
- (٤)
إن الحوادث لا يمكنها أن تُبرهن على الحقائق؛ لأن حقائق الأخلاق والميتافيزيقا لا تدخل تحت مقولة الحوادث. فالحوادث عارضة والأخلاق جوهرية، ولا يمكن تأسيس الخالد على الزمني، والأساسي على الفرعي، والثابت على المتغير. فإذا كانت المسيحية قد فصلت الروحي والزمني فما بالها تخلط بينهما عند تأسيس المسيحية والبحث عن أسس لليقين. إن هذا الفصل لا يعني فقط الاجتماع والسياسة وحدهما، بل يعني أيضًا نظرية في الصدق المنطقي، وهو أن الروحي له أسسه الخاصة غير الزمني العارض.
- (٥) إن عالم التجربة التاريخية هو عالم الصيرورة والحركة والتغير وليس عالم الكون والسكون والثبات. وكلُّ شخص في هذه الصيرورة الدائبة للتاريخ نسبيٌّ ولا شيء مطلق. فإذا كان الله كما هو الحال في العقائد التقليدية مرتبطًا بالتاريخ بواقعة التجسد، فإن الله أيضًا يشير إلى المطلق وإلى الخالص المنزه، وإذا كانت حقائق الوحي تظهر في التاريخ فهي أيضًا حقائق أبدية تتجاوز حدود الزمان والمكان.٥
فإذا استحال إقامة اليقين في المسيحية على أساس الكتاب المقدس وهو النبوة المدونة، نظرًا لما وقع فيه من تبديل وتحريف وتغيير كما أثبت ذلك علمُ النقد التاريخي للكتب المقدسة، ونظرًا لأنه كان في ظهورها لاحقًا على العقيدة وتعبيرًا عنها وليس سابقًا عليها أو مصدرًا لها كان من الضروري البحث عن أسس أخرى لليقين وجدَها لسنج في العقل أو في القلب. فإذا غاب اليقين الخارجي القائم على شهادة التاريخ يبقى اليقين الداخلي القائم على شهادة الروح، وقد حاولت الكاثولوكية الرومانية المعاصرة أخْذَ هذه النتيجة والاعتماد عليها في إعادة بناء العقائد المسيحية بعد أن هوى الأساس التاريخي، وأعادت تصورها للوحي على أنه شهادة الروح وليس شهادةً التاريخ. فما وصل إليه التنوير بعد جهد ويُستغل من جديد لإثبات مضادات التنوير أعني تبرير القديم.
أما دين المسيح فهو ما أتى به المسيح وما عبر عنه في كلامه، دين بسيط واضح لم تتدخل في صياغته أهواءُ الناس أو مصالح الجماعات، لا يحتاج إلى عقائد أو طقوس أو مؤسسات، بل لا يحتاج إلا إلى العقل البسيط، أو القلب السليم — كما يقول القرآن — وهو دين يقيني يعتمد على أسس اليقين الداخلي لا الخارجي، وهو الدين الحقيقي وكل ما عداه زيفٌ وبطلان.
لم يرفض فلاسفة التنوير الكتاب المقدس بل وجدوا فيه أسسَ الدين الطبيعي، ولم يعتمدوا في تأسيس الدين على النبوات أو المعجزات ولكنهم جعلوا «مقولة ما بعد الطبيعة» مقولة التنزيه، والتنزيه دينٌ طبيعي يقوم على ما هو دائم في الطبيعة، ومن ثَم يكون ليبنتز هو أول المؤسسين للدين الطبيعي، ليبنتز الفيلسوف الديكارتي وليس اللاهوتي البروتستانتي؛ فالتعالي لديه ليس خارج الطبيعة بل هو الطبيعية في هدوئها واتساعها. لذلك أسَّس ليبنتز السيكولوجيا على الأنطولوجيا في «المونادولوجيا». كتاب الطبيعة هو مصدر دين الطبيعة، ومن ثَم فالله افتراض غير ضروري لإعطاء وحي أو لإجراء معجزة أو كما يقول المحدثون على لسان نيتشه — إن الله قد مات — لا لزوم له في العالم ولا يكشف عن ذاته، لا عمل له في الدين، ومع ذلك فهو موجود في الطبيعة والتاريخ، يظهر كقوة وحركة ونشاط ويثبت بالتقدم والرقي والارتقاء.
ويعتمد الدفاع عن الدين التقليدي بالإضافة إلى النبوة والمعجزة على حجة ثالثة لها جذورها في الكنيسة القديمة وهو الانتشار السريع الهائل للمسيحية في العالم القديم، وتطور الكنيسة من فرقة صغيرة في فلسطين يقودها بعض الصيادين كي تصبح في أقل من ثلاثمائة عام دينَ الإمبراطورية الرومانية ودين الإمبراطور نفسه، وهذا الانتشار لا يكون إلا من صنْع الله.
هذه الحجج التاريخية الثلاث: النبوة، والمعجزة، وسرعة انتشار المسيحية، قد رفضها المؤلهة الإنجليز كما رفضها فلاسفة التنوير، وقد تناول سبينوزا نفس الموضوع في «رسالة في اللاهوت والسياسة». المعجزة مسألة فلسفية وليس موضوعًا ميتافيزيقيًّا، فهي ظاهرة طبيعية نجهل قانونها، أي أنها مسألة تتعلق بالمعرفة ولا تتعلق بالوجود، والنبوة ممكنة ولكن التنبؤ بالمستقبل مستعبد ولا تتجاوز رؤية مباشرة لدلالات حوادث العصر، وفي عصر العقل يتم قبول المسيحية بناء على تعاليمها الخلقية وليس بناء على سرعة انتشارها في التاريخ، فهذا الانتشار الكمي قد يكون انحرافًا عن مسارها الكيفي، مهمة العقل إعادة اليقين للمسيحية عن طريق تفسيرها، فالمسيح ابن الله تعني أنه يجسد مُثُل الإنسان وتطلعاته العليا وأنه مؤشر على أهدافه ومشير إلى رسالته. قد يحاول المدافع عن الدين إثبات اليقين للمسيحية عن طريق أنه لو كان الله حقيقية في المسيح لأمكن قبول المعجزة ولأمكن تحقيق النبوة. أو يقول على الأقل أن الإيمان بالمعجزة يمثل اتجاهًا نحو المسيح، وهو الاتجاه الصحيح. والحقيقة أن المعجزة والنبوة لم تَعُد براهين في ذاتها على صحة الإيمان، وبدلًا من أن يكونَا معًا أكبر دعامتين للدين أصبحَا أكبر نقطتين ضعف فيه وأكثرهما تعريضًا للتجريح.
يمكن تفسير الدين من داخله وتأسيسه على يقينه الذاتي كنظام مستقل، وبالتالي يصبح اللجوء إلى ما هو خارج الطبيعة لا لزوم له بل يصبح فرضًا خطيرًا. لقد تحدث المدافعون عن المسيحية مدة طويلة وكأن الله كان ضمنيًّا اسمًا آخر لمجموعة من المعارف المجهولة في ذلك الوقت، وكأن الدين كان مجرد أمور مهمتها ملء الفراغات المنطقية في الذهن بمادة من التقوى والإيمان، وكأنها كانت بعض العزاء للمؤمنين.
إن «زملاء الجمعية الملكية» لم يفسروا بعد كل شيء ولم يَصِل العلماء إلى فهْم كلِّ شيء في الطبيعة وبالتالي ما زال هناك مكان شاغر لله في تصور العالم، وكأن النبوة والمعجزة تشيران إلى الحوادث التي استعصى فهمها على الإنسان العاقل فيكمل نقصه ويستعيض عن جهله بتدخل الله الحاسم في الطبيعة والتاريخ، وبالتالي يتصور أنه قد تم له إثبات حقيقة الدين المسيحي.
وبالنسبة للمدافعين البروتستانت عن الدين فإنهم يتحدثون عن ضمان مطلق للوحي وهو الكتاب المقدس المعصوم من الخطأ وكأنهم كانوا مرة يعبثون في مكتبه وأتوا إلى مجموعة من الكتب القديمة مجلدة في كتاب واحد وبدءوا في قراءتها ووجدوا لدهشتهم أنها خالية من الأخطاء سواء في الإيمان، أو في الأخلاق، أو في التاريخ، أو في العلم، حتى انتهوا إلى أن هذا الكتاب بالضرورة كتابٌ واحد من عمل عقل إلهي دوَّنه بإرشاد من الروح القدس! وهنا ينقد لسنج فكرة وحدة الكتاب المقدس ونظرية المصدر الإلهي، وعصمة الكتاب من الخطأ، مما سبب فيما بعد نشأة النقد التاريخي للكتب المقدسة حتى سبق البروتستانت في ذلك الكاثوليك.
أما بالنسبة للمدافعين الكاثوليك الرومان عن الدين فإنهم يتحدثون وكأنهم قضوا عدة سنوات في دراسة قضايا أساقفة روما واكتشفوا أن البابوات لم يخطئوا أبدًا، وانتهوا إلى أنهم لا بد وأن يكونوا بالضرورة معصومين من الخطأ، وبالتالي فإن أقوالهم تكون هي الضامن الخارجي الإلهي على حقائق العقائد المسيحية. فالعصمة التي يتصورها البروتستانت في الكتاب المقدس يضعها الكاثوليك الرومان في البابوات. وكلاهما يقيم دعواه على أسس قبلية وكأنهم وصلوا إليها بمناهج تجريبية. كلاهما يقيم دعواه على أن الخارق للطبيعة ضروري وإلا لاستحال فهمُ ظاهرة خرق النظام الطبيعي الموجود في الكتاب المقدس وفي الكنيسة.
لقد كانت مشكلة لسنج الأساسية هي صراعه مع الأرثوذكسية في ثقتها المطلقة بالأسس التاريخية، ويعترض على تأسيس المسيحية على مجرد احتمالات وافتراضات ظنية يقدمها التاريخ، كما يعترض أيضًا على أن يكون هذا اليقين التاريخي الغائب حجة على ضعف المسيحية. فالمسيحية لها يقينها الداخلي، لذلك يعترض لسنج أيضًا على النبوءات والتنجيم بأن الإنسان لا يمكنه معرفة المستقبل، فكلما كانت دعاوى دين الوحي متجاوزة حدود العقل ومتعالية على الطبيعة كانت أقلَّ يقينًا.