رابعًا: فلسفة التاريخ قبل لسنج
قد لا نبعد كثيرًا عن الصواب إذا قلنا إن فلسفة التاريخ من اكتشافات العصور الحديثة
ابتداء
من عصر التنوير. فقد كانت فلسفات التاريخ عند القدماء أقرب إلى تفسير لنشأة الكون وخلق
العالم
معتمدة على الأساطير القديمة في غياب التحليل الفلسفي، تعتمد كلها على التصور الدائري
للتاريخ
وتجهل مفهوم «التقدم»، وقد صور أفلاطون أيضًا تاريخ الناس بأنه بحرٌ خضمٌّ تتنازعه حركتان:
المد
والجزر، الفعل ورد الفعل، وهما في الحقيقة حالتان للسعادة وللشقاء طبقًا لمظاهر الطبيعة
وما
ينتاب العالم من كوارث وما يقع في الحياة الإنسانية من مآسٍ؛ ولذلك كان التصور الدائري
لمسار
التاريخ أقرب إلى التفاؤل منه إلى التشاؤم، فالتاريخ لا ينهض إلا ليكبوَ من جديد، ومهما
نهض فإن
مساره بالضرورة إلى الانهيار. ويتخيل أفلاطون أن لكل دورة عشرة آلاف سنة شمسية كي تبدأ
وتنتهي،
ثم تبدأ دورة أخرى وتنتهي من قبل هذه الحقبة من الزمان، ولا تحدث دورات التاريخ من ذاتها
بل
تتدخل إرادة الله فيها فهو الذي يبدؤها ويُعيدها.
في الدورة الأولى يكون الإنسان سعيدًا أقرب إلى الحالة البدائية Etat
Primitif أو حالة التوحش Etat Sauvage ويعيش
المجتمع في سلام نظرًا لغياب التنافس والبغضاء. فالمراعي متوافرة للجميع، ويسكن الناس
في أعالي
الجبال ويعيشون في أُسَر صغيرة منعزلة تكون الرئاسة فيها للرجل، ويجهلون القراءة والكتابة،
ولا
يعرفون القوانين الوضعية وإنما تحكمهم العادات والتقاليد ولا يعرفون الفنون أو العلوم
ما عدا
مبادئ الغزل والنسيج وهي أولى الصناعات الحِرَفية، ويستعملون آلات من الحجر أو الخشب
وأوعية من
الفخار، ولا يعرفون التجارة أو العملة، ويجهلون الذهب والفضة، ومع ذلك يعيش الناس سعداء
لا توجد
في حياتهم كوارث طبيعية أو أحقاد إنسانية.
ثم يبدأ القوس الثاني من الدورة بنزول الناس من قمم الجبال على مراحل أربع، الأولي:
مرحلة
الزراعة نظرًا لازدياد عدد أفراد الأُسَر، وتنشأ بعض مظاهر المدنية مثل بناء المنازل،
وتقوى
الأواصر الاجتماعية، وتظهر بدايات السلطة الاجتماعية والمدنية. ثانيًا: مرحلة المدنية
حيث
تتمركز الأُسَر في مواطن على سفوح الجبال وليس في الوديان والسهول حتى تحمي نفسها من
مخاطر
الفيضانات، وفي هذه المرحلة تزداد الحياة الاجتماعية والمدنية تشابكًا. ثالثًا: مرحلة
المدن
وفيها تُبنى المدن في الوديان والسهول ويقيمون الحضارات المستقرة، وتكثر مظاهر الحياة
المدنية
«كورنشة». رابعًا: مرحلة المدن الساحلية حيث يتعود الناس على الحياة المستقرة ويتحررون
من الخوف
من الكوارث الطبيعية ويركبون البحر، ويمارسون التجارة «أثينا»، وتبدأ الحياة الديمقراطية
في
الظهور. وهنا تبلغ الدورة قمتها، وتؤذن بالزوال، فيحل الاستبداد وتختل النظم، وتُعصى
القوانين
والعادات، وتسود الرذائل، ويعمُّ الفساد في البر والبحر: وهنا يظهر الطوفان ليطهر الأرض
ومَن
عليها كي تبدأ الإنسانية دورتها الثانية من جديد. ويتصور أفلاطون نفس المراحل الأربعة
في تطور
النظم السياسية: الحكم السعيد
Timocracy، حكم الأقلية
Oligarchy، الحكم
الديمقراطي
Democracy والحكم التسلطي
Despotism. ويسبب
هذا الانهيار تدهور الجنس البشري الناشئ من أخطاء نظم الدولة وميوعتها الخاصة بالزواج.
وبداية
ظهور نسل أقل بيولوجيًّا من نسل الآباء.
١
ويعتبر أفلاطون ممثل هذا التصور الدائري عند اليونان الذي يشارك فيه أدباؤهم وشعراؤهم
ومفكروهم بصرف النظر عن مدارسهم. ولكن أحيانًا يكون هذا التصور الدائري بفعل قوًى خارج
الطبيعة
كما هو الحال عند الشعراء وأفلاطون أو بقوًى طبيعية كما هو الحال عند الأبيقوريين وعلى
رأسهم
لوكريسبوس
Lucretius؛ فالتطور لديه مادي لا تدخل فيه لأي
قوًى إلهية بل يتم بفعل المادة من داخل الطبيعة، ويمر بثلاث مراحل:
- الأول: العهد الحجري حيث كان الإنسان يعيش سعيدًا في أحضان الطبيعة.
- الثاني: العهد البرونزي حيث تقل سعادة الإنسان بازدياد مظاهر الحضارة واختراع أساليب
الحروب.
- الثالث: العهد الحديدي حيث يتميز ببداية ظهور الحديد، وبداية تطور الأسلحة التي تؤدي إلى
الحروب ثم إلى الفناء التام.
ولا يختلف الراوقيون وعلى رأسهم سنيكا Seneca وماركوس أورليوس Marcus Aurelius في هذا التصور الذي يقوم على انهيار
التاريخ، وتدهور العصر الذهبي، والقضاء على حالة السعادة الأولى التي كان ينعم فيها الإنسان
كموجود طبيعي.
ولكن يأتي ديموقريطس
Democrites ويشذ على القاعدة، ويرفض
التصور الدائري التاريخي، ومفهوم العصر الذهبي الذي ينهار بفعل الزمان بل ويفضل تصور
الطبيعة
الذي يتركب آليًّا من ذرات على أنها تحتوي في داخلها على عناصر تقدم، وبالتالي تنتقل
الحياة
الإنسانية من الحالة البدائية إلى الحالة المتحضرة، وتظهر المدنية باستعمال المعادن واختراع
اللغة وإقامة النظم الاجتماعية. ومع ذلك يظل التصور العام للقدماء للتاريخ تصورًا عارضًا
وهم
بصدد وصفِ الطبيعة المادية أو النظم الاجتماعية — القوانين عند أفلاطون — أو وهم بصدد
نقدِ
الآلهة وتدخلها في سير الطبيعة — لوكريسبوس — أو وهم بصدد وصفِ تاريخ مدينة بعينها —
بوليبيوس
Polybius أو تاريخ روما
٢ — ولم تخرج «مدينة الله»
De Civitate Dei لأوغسطين
(٣٥٤–٤٣٠) عن التصور الدائري القديم للتاريخ القائم على الانهيار والسقوط. فكانت مدينة
الله
أولًا كاملة، مدينة الأنبياء منذ إبراهيم حتى عيسى، ولكن هذه المملكة انهارت وسقطت بظهور
مدينة
الأرض، الإمبراطورية الرومانية، وقد كانت عقيدة الخطيئة الأولى هي الباعث الديني الذي
قوَّى هذا
التصور المنهار للتاريخ؛ فقد عاش الإنسان أولًا في حالة من البراءة والطهارة سعيدًا منعمًا،
ثم
سقط وانهار بعصيانه وخطيئته، فطرد وحرم فسقط وانهار. لذلك يأتي المخلص حتى يلغيَ هذا
السقوط
ويُعيد للإنسان براءَته الأولى عن طريق الإيمان به. ولولا السقوط لما كان الرفع، ولولا
الخطيئة
لما كان الخلاص. فالباعثُ على التاريخ ومحرِّكُه هو الشيطان، وما المسيح إلا سائر في
أعقاب
الشيطان! ويركز التصور المسيحي في الدائرة على قطبها الأعلى والأدنى حتى إن التاريخ ليبدو
في
هذه الحركة المزدوجة من الأعلى إلى الأدنى ثم من الأدنى إلى الأعلى في خطَّين متوازيَين
ولكن في
اتجاهَين متضادَّين ويكون التركيز على السقوط والرفع أكثر من التركيز على فعل التاريخ
والزمان،
خاصة وأن الخلاص لا يتم بعمل تاريخي ممتد في الزمان بل يتم في الإيمان اللحظي بالمخلص
أو في
امتداد مكاني في التاريخ في صورة مؤسسة، وهي «الكنيسة». وتكون النتيجة هي أن الإنسان
غير قادر
بنفسه على التقدم والرقي التدريجي ولكن لا بد من تدخُّل إرادة خارجية في صورة إنقاذ
وخلاص.
وتتم الدورة التاريخية في التصور المسيحي مرة واحدة وليس على فترات كما هو الحال
في التصور
اليوناني القديم، فليس هناك إلا سقوط واحد وخلاص واحد. كما أن التصور المسيحي أخذ في
الاعتبار
إنسانية أوسع شمولًا من الإنسانية اليونانية التي لم تتعدَّ التاريخ اليوناني وكأن فتوح
الإسكندر الأكبر قد كسرت حدود العزلة اليونانية حتى انفتح التاريخ على حضارات الشرق القديم
وعلى
تاريخ العبرانيين بالإضافة إلى تاريخ اليونان والرومان مما كان تمهيدًا لظهور فكرة الدولة
الشاملة عند الرومان والجنس البشري الواحد في العصر الوسيط.
٣
ويمكننا إذن وصف فلسفات التاريخ قبل عصر التنوير بالصفات الآتية:
- (١)
كان التقدم البشري لدى القدماء محاصرًا بين الإلهيات والطبيعيات في معظمه دون أن يكون
موضوعًا مستقلًّا يعبر عن وجود التاريخ والمجتمعات الذي يحركه الفعل الإنساني الفردي
والجماعي. وكأن فلسفة التاريخ كما تبدو في العصور الحديثة قد ظهرت بظهور الإنسان وتحرره
من النظم الاستبدادية واستعباد رجال الدين، ورفع كلِّ الوصايا السياسية والدينية من على
أكتافه. لذلك أصبحت فلسفة التاريخ تعبيرًا عن تحرُّر الإنسان ومقاومته للاستبداد
والاحتكار والطبقات والامتيازات وكل مظاهر التسلط والطغيان، وتدعو إلى الحرية والمساواة
والتقدم الإنساني العام. فلسفة التاريخ إذن هي المعبر عن روح الثورة الحديثة، وقوة الرفض
الجديدة التي تميز الشعور الأوروبي في بداياته.
- (٢)
كان التقدم البشري يسير إلى الوراء من أجل اللحاق بالفردوس المفقود في هذه الأرض
الخراب؛ فالماضي كان أكثر ازدهارًا من الحاضر وكأن مستقبل الحاضر هو في الماضي، وهو
الطابع العام للفكر الديني المحافظ، وما تحاول الأنظمة السياسية الرجعية تثبيته في
الأذهان وفي وجدان الشعوب؛ فالنبوة تمثِّل العصر الذهبي للتاريخ يتلوها الخلافة، تتلوها
الإمارة، فالنبي خير من الصحابي، والصحابي أفضل من التابعي، والتابعي أقيم من تابع
التابعي حتى نصلَ إلى جيلنا الذي يغلب عليه الفساد فالخلف يُضيعون تراث السلف بالضرورة،
وكما يقال في الخبر «خير القرون قرني …»
٤
- (٣)
كان التشاؤم هو الغالب على التفاؤل، وعدم الثقة بالنفس هي السائدة على الثقة بقدرات
الإنسان على التحرر. فالتاريخ يعني السقوط والانهيار ولا يعني التقدم والازدهار، وإذا
ما
رجع الإنسان إلى حالته الأولى، حالة البراءة والصفاء فإنه يعود من جديد إلى الانهيار
ويرجع إلى نفس النقطة التي بدأها، عودٌ على بدأ، دون أن يكتسب تجربة أو يعيَ درسًا. فهو
يبدأ حيث انتهى وينتهي حيث يبدأ، وتعود الدورات دائمًا وتبدأ من نفس المكان وكأن التاريخ
يدور في «محلك سر»؛ فالزمان مخنوق، يدور على نفسه، والتاريخ محاصر لا يرى إلا تحت قدمَيه،
والدائرة لا تكون خطًّا، ولا تسير على محور أو تدور على مماس لها.
- (٤)
يتم هذا التطور الدائري بفعل إرادة خارجية، قوى طبيعية أو إلهية وليس بفعل الطبيعة
الذاتي أو بإرادة الإنسان الحرة وبفعله في التاريخ. وما الإنسان إلا نقطة في بحرٍ خضمٍّ
تُسيِّره رياحٌ خفية لا يستطيع لها دفعًا؛ فالتاريخ ميدان لنشاط قوى خارقة للطبيعة وليس
تراكمًا لفعل الإنسان والجماعات البشرية.
٥
وقد بدأت فلسفات التاريخ في العصور الحديثة ابتداء من العصر الوسيط المتأخر. فقد
حاول الأخ
الفرنسيسكاني روجر بيكون Roger Bacon (١٢١٤–١٢٩٤م) إصلاحَ
التعليم العالي وأن يُعيدَ بناء الجامعات على أساس ليبرالي معتمدًا على المواد العلمية
والدراسات العلمانية. وذلك في كتابه المشهور «الكتاب
الكبير» Opus Majus فالعلوم الإنسانية وفروع المعرفة كلها ترتبط فيما بينها وكلها من أجل
تحقيق الرقيِّ الإنساني. ثم حاول في كتابه الأخير الذي لم يكتمل «الكتاب الرئيسي» Scriptum Principale أن يبيِّن أهمية المنهج التجريبي
في استقصاء أسرار الطبيعة. ومع ذلك فقد ظل أسيرَ التصور الديني القديم لبعض العلوم مثل:
التنجيم Astrology (نبوءة القضاء على الإسلام في نهاية القرن
الثالث عشر).
كما أن التاريخ لديه يبدأ بالخليقة وينتهي بنهاية الزمان في الحياة الأخرى التي تبدأ
بعلامات الساعة وعلى رأسها ظهور المسيح الدجال، وفي الحياة الأخرى تسود الحقيقة وينعم
الإنسان.
وبالتالي يصبح الخلاص لديه نوعًا من التقدم في التاريخ وقضاء على مظاهر الفساد والطغيان.
وكأن
الأخرويات
Eschatology هي الوريث لوظائف المسيح
Christology فإن لم يتمَّ الخلاص الآن بظهور المخلص فإنه يتم
في المستقبل بظهور المسيح
Messia.
٦
ولكن بدأت الإرهاصات الحقيقية لفلسفة التاريخ في العصور الحديثة ابتداء من عصر النهضة
بمعناه الواسع، أي الذي يبدأ من عصر الإحياء في القرن الرابع عشر إلى الإصلاح الديني
في القرن
الخامس عشر، إلى عصر النهضة بمعناه الضيق في القرن السادس عشر. بل يُضيف البعض أيضًا
القرن
السابع عشر عصر العقل كحلقة اتصال بين عصر النهضة وعصر التنوير. بدأ توجيه الضربات نحو
الخرافة
وضد القوى المجهولة التي تُسيِّر التاريخ، وبدأ الاعتماد على البحث الحر المستقل بعيدًا
عن
السلطات الدينية والسياسية، وبدأت الجرأة على نقد الموروث، وعلى التسليم بالقديم، وظهرت
بدايات
النظرة الإنسانية وانبثاق الإنسان المحاصر بين الإلهيات والطبيعيات، وبدأ التاريخ على
أنه مسار
في الزمان، وانتقال من الماضي إلى المستقبل، وتحدد بعداه بين الماضي والمستقبل وليس بين
الأعلى
والأدنى، وبالتالي انتقل المحور الرأسي الديني إلى المحور الأفقي الإنساني، وورث الإنسان
الله
واستعاد عرشه في الكون.
في هذا الجو الجديد ظهر مكيافيللي Machiavelli
(١٤٦٩–١٥٢٧م) مبشرًا بنظرة جديدة للتاريخ الإنساني يعتمد أولًا على وحدة الطبيعة البشرية
واطرادها في كل العصور والأزمنة، تاريخها واحد وهو التقدم المستمر نحو مزيد من الرخاء
أو التأخر
نحو مزيد من الشقاء، وتظل الحياة الإنسانية توترًا بين التقدم والتأخر. إذا ما بلغ التقدم
مداه
تلاه التأخر وإذا ما بلغ التأخر مداه ظهرت بوادر التقدم. ودراسة التاريخ القديم تُثبت
هاتين
الحركتين اللتين تُحددان تاريخ البشرية، ثانيًا يظهر التقدم إذا ما استطاع ذهنٌ عبقري
واحد، وهو
الأمير، وضْعَ نظام واحد يخضع له الجميع والحرص عليه دون ما انحراف أو تحريف. ويكون هذا
النظام
قائمًا على الطبيعة البشرية الثابتة ومعبِّرًا عنها؛ فالثبات فضيلة والتغير رذيلة! هذان
الاقتراحان: ثبات الطبيعة البشرية وقوة المشرع في الحقيقة وإن كانَا عاملَين للتقدم إلا
أنهما
في النهاية يمنعان من كل تقدم، وبدل أن يصبح النظام وسيلةً لسعادة الإنسان يصبح الإنسان
ضحية
للنظام، ويصبح النظام معوقًا لتقدمه.
ومع ذلك ظل القرن السادس عشر في ثورته على القديم. فرفض كوبرنيق (١٤٧٣–١٥٤٣م) سلطة
بطليموس
وخلفائه، كما رفض فساليوس
Vesalius (١٥١٤–١٥٦٤م) سلطة جالينوس
في التشريع، وهاجمتليزيو
Telesio وكاردان
Cardan (١٥٠١–١٥٧٦م) وراموس
Ramus
(١٥١٥–١٥٧٢م) وبرونو
Bruno (١٥٤٨–١٦٠٠م) سلطة أرسطو في شتى
العلوم والمعارف الإنسانية. وانفصم القرن السادس عشر بين تيارَين الأول «صوفي» يمثله
برونو و
كامبانلا
Campanella، (١٥٦٨–١٦٣٩م) والثاني «شاك» يمثله
مونتاني
Montaigne (١٥٣٣–١٥٩٢م) وشارون
Charron (١٥٤١–١٦٠٣م) وسانشز
Sanchez
(١٥٥٠–١٦١٠م) ومن هذا الانفصام خرج فرنسيس بيكون
F. Bacon
(١٥٦١–١٦٢٦م) مؤكدًا المنهج التجريبي، ودراسة الطبيعة، والقضاء على الأوهام مبينًا أن
ذلك هو
السبيل لتقدم المعرفة
The Advancement of Learning بعد أن
ألَّه برونو الطبيعة والإنسان، محررًا الإنسانية من كل مظاهر التسلط الخارجي. هذه الثقة
في
التقدم والتفاؤل في مستقبل الإنسانية قد عبر عنه رابليه
Rabelais (١٤٩٤–١٥٥٣م).
٧
ولكن ظهرت فلسفة التاريخ في القرن السادس عشر بصورة واضحة عند المؤرخ الفرنسي جان
بودان
J. Bodin (١٥٣٠–١٥٩٦م) في مقدمة له عن الدراسات التاريخية.
٨
فقد رفض تصور العصر الوسيط للعصر الذهبي ثم انهيار ذلك العصر وسقوط الإنسانية، كما
رفض
تقسيم تطور الإنسانية إلى أربع مراحل. هذا التقسيم الذي قَبِله اللاهوتيون بناء على نصوص
العهد
القديم ونبوة دانيال: البابلي، والفارسي، والمقدوني، والروماني الملكي الذي يستمر حتى
يوم
الحساب.
ويقترح تقسيمًا آخر للإنسانية وتطورها إلى ثلاث مراحل: الأولى، مرحلة سيادة شعوب
جنوب الشرق
— حوالي ألفَي سنة — والثانية: مرحلة سيادة شعوب الوسط — البحر الأبيض المتوسط — لنفس
المدة
الزمنية، والثالثة: مرحلة سيادة شعوب الشمال التي هزمت روما وأصبحت قائدة المدنية وصانعة
الحضارة. يؤرخ بودان للإنسانية طبقًا للمناطق الجغرافية، من جنوب الشرق إلى الوسط إلى
الشمال
وكأن الحضارة تنتقل من الشرق إلى الغرب — من آسيا إلى أوروبا — ثم من الجنوب إلى الشمال
— من
جنوب أوروبا إلى شمالها — وتمتاز كلُّ مرحلة بصفة تميز ثلاثة أجناس بشرية مختلفة، الدين
للمرحلة
الأولى، والحكمة العملية للمرحلة الثانية، وفنون الحرب والمهارة اليدوية
الخالقة
Warfare and Inventive
Skill وبالتالي يكون بودان أول فلاسفة التاريخ الذي يميز بين مراحل ثلاث في
تطور البشرية قبل فيكو
Vico وترجو
Turgo في القرن الثامن عشر وهيجل وكونت في القرن التاسع عشر. ومع ذلك فقد ظل
التنجيم سائدًا على تحليل الطبيعة، والنظريات الإنسانية على وصف التاريخ. ومع أن بودان
يرفض
نظرية السقوط والانهيار والرجوع إلى الوراء
Degeneration إلا أن
التطور لديه ما زال يحكمه قانون مزدوج للنهوض والسقوط. ولكن النهوض أكثر فاعلية من السقوط،
والتقدم أكثر وضوحًا من التخلف؛ فالتاريخ الماضي حامل التقدم، ويحدث التقدم في المعرفة
الإنسانية، أي على مستوى الذهن والوعي والشعور وليس مجرد تطور مادي أو اجتماعي. فالتطور
شامل
لمظاهر الحياة الإنسانية ويحدث طبقًا لخطة إلهية دون أن يقع بالضرورة في نظرة جبرية للتاريخ
نظرًا لحرصه على تأكيد حرية الإنسان في صنع التقدم ومسار التاريخ، وإذا نحن استبعدنا
بعض
الجوانب التنجيمية والفيثاغورية في تصوره للتاريخ لبدت لنا فلسفته متفائلة إنسانية وأن
المستقبل
يحتوي بالضرورة على ازدهار وتقدُّم أكثر مما احتوى الماضي، وأن التاريخ يمثِّل مصلحة
الشعوب
جميعًا، وأن التطور يحدث في وعي الإنسانية كلها، وليس في حياة شعب دون شعب آخر.
٩
وقد قام مفكر فرنسي آخر هو لوي لوروا
L. Le. Roy بنفس
المحاولة في كتابه «في تقلبات أو تغيرات الأشياء في العالم»
١٠ سنة ١٥٧٧م يتتبع فيه تطور الإنسانية وارتقاء الشعوب إلى أعلى درجات الحضارة مارًّا
بالمصريين، والآشوريين، والفرس، واليونان والرومان، والمسلمين
Saracens حتى العصر الحاضر.
وتتمثل مظاهر الرقي في فنون الحروب وعلوم البلاغة والفلسفة والرياضيات والفنون الجميلة،
وكلها تزدهر معًا أو تخبو معًا، ولكن كل ذلك يبدأ كي ينتهيَ طبقًا لقانون البشر … بداية،
فتقدم،
فكمال، ففساد، فنهاية. ويتم ذلك طبقًا لقصدٍ إلهي ترعاه العناية الإلهية. وهنا تبدو العناية
الإلهية وريثة التدخل المباشر للإرادة الإلهية في العصر الوسيط؛ فالعناية الإلهية حالة
في
التاريخ، ومباطنة له، وتمثِّل غائيته. ولكن يبدو أن لوروا قد انتهى أكثر تشاؤمًا من بودان،
وأقل
تفاؤلًا منه، نظرًا لتركيزه على الكوارث المحتملة في الحروب والفتن والمجاعات والفيضانات
والأمراض المعدية.
١١
ومنذ بداية القرن السابع عشر ظهر التقدم على أنه أساسًا تقدُّمٌ في المعرفة الإنسانية
وارتقاءٌ للذهن البشري، وقد أعلن ذلك فرانسيس بيكون F. Bacon
(١٥٦١–١٦٢٦م) صراحة بأن تقدم الإنسانية مرهون بتقدم العلوم والمعارف. ويحدث هذا التقدم
بإقامتها
على أسس يقينية بعد التخلص عن التأملات الفلسفية والنظرات الميتافيزيقية والتأويلات الأسطورية
—
علم التنجيم — لمظاهر الطبيعة. وستظل محاولات كوبرينق، وجاليليو، وكمبلر خارجية محضة
لأنها
مركزة كلها على الطبيعة في حين أن مناط التقدم وموطنه هو الذهن الإنساني كما تم ذلك بالفعل
في
فلسفة التنوير. يرى بيكون أن الغاية من المعرفة هي النفع العام وأن غايتها القصوى هي
في تقدم
الحياة الإنسانية، وزيادة سعادة الإنسان، والتخفيف من حدة بؤسه وشقائه. ولم يميز بيكون
في تصوره
للتقدم بين شعب وشعب، بل كان التقدم لديه تقدمًا للجنس البشري كله، وقد ميز ثلاثة عصور
مثل
بودان في تطور البشرية: أولًا: العصور القديمة، ثانيًا: العصور الحديثة التي تشمل اليونان
والرومان، ثالثًا: العصور الحديثة ابتداء من العصور الوسطى حتى الآن. ولا يرجع التطور
إلى
الوراء ولا تنهار المدنية. وأن هذه العقيدة، عقيدة العود إلى الوراء
Ricorsi هي أخطر ما يهدد تقدُّمَ البشرية وأول ما يقضي على
مستقبلها ومن ثَم تصبح فلسفة التاريخ عند بيكون تفاؤلية خالصة تؤمن بمستقبل مطرد للإنسانية
دونما رجوع إلى الوراء.
وقد تصور بيكون هذه الحالة المثلى للإنسانية المتقدمة في مدينته الفاضلة «أطلانطا
الجديدة»
New Atlantis والتي نُشر منها أجزاء بعد موته، وقد بدأ
في كتابتها منذ ١٦٢٣م، ويترأسها العلماء كما ترأس الفلاسفة جمهورية أفلاطون. هذا العالم
الجديد
هو الذي عبرت عنه عدة مدن فاضلة سواء «أتوبيا مور»
Th. More
(١٤٧٨–١٥٣٥م)، و«مدينة الشمس»
Civitas Soli لكامبانللا
(١٥٦٨–١٦٣٩م)، لهارنجتون وأوسيانا
Oceana.
١٢
وإن كان ديكارت بالفعل هو مؤسس العصور الحديثة فإن التقدم الإنساني من حيث هو تقدم
في
المعرفة والعقل قد ظهر بتأسيس منهجه وبتطبيق الديكارتيين له. ولا غرو فإن ليبنتز يعتبر
حلقةَ
الوصل بين الديكارتية وعقلانية القرن السابع عشر وفلسفة التنوير في القرن الثامن عشر،
فقد أكدت
الديكارتية على أولوية العقل وعلى حتمية القوانين الطبيعية. ولكن سرعان ما حدث ردُّ الفعل
على
يد بسكال و(١٦٢٣–١٦٦٢م) بوسويه
Bossuet (١٦٢٣–١٧٠٤م) معطين
الأولوية من جديد للعناية الإلهية بل أيضًا تتم العودة إلى أوغسطين في مدينة الله. وفي
كتاب
بوسويه المشهور «مقال في التاريخ الشامل»
١٣ يجعل الكنيسة جزءًا من التاريخ تظهر فيها العناية الإلهية. ومع أن مالبرانش
(١٦٣٨–١٧١٥م) من الديكارتيين إلا أنه كان أقرب إلى بوسويه وبسكال منه إلى ليبنتز وسبينوزا
اللذَين بدَآ فلسفة التنوير من قبل القرن السابع عشر.
١٤
ولم يبدأ التنوير في الفلسفة أو العلم وحدهما بل بدأ أيضًا في الأدب في المعركة المشهورة
التي بدأت في أواخر القرن السادس عشر وأوائل السابع عشر المسماة بمعركة القدماء المحدثين
في
فرنسا وإنجلترا خاصة في الأدب بوجه عام وفي الشِّعر بوجه خاص، وهي معركة وإن بدَتْ أدبية
إلا أن
لها دلالة في فلسفة التاريخ فيما يتعلق بالتقدم كما أشار إلى ذلك أوجست كونت. كان المحدثون
يهدفون إلى تحرير قواعد النقد الأدبي من قواعد عصر النهضة أي من رقبة الموتى، وكانوا
يؤكدون على
قوى الطبيعة المستمرة التي لا تنهار في مقابل نظرية القهقرَى في فلسفة التاريخ القديمة.
كان
المحدثون من أنصار التقدم المستمر للجنس البشري وعلى ثقة من قدرته على الخلق والإبداع
بصرف
النظر عن التزامه بقواعد القدماء ومقاييسهم الجمالية. وبالرغم من أن المعركة بدأت في
فرنسا إلا
أن الذي أشعلها هو الشاعر الإيطالي (١٥٦٥–١٦٣٥م)
تاسوني
A. Tassoni١٥ وحجته في ذلك أنه ما دام الفن يعتمد أساسًا على التجربة فإن المحدثين يكونون لهم
الأولوية على القدماء لأنهم أصحاب التجربة الفنية الحية التي تمنع من التقليد والتبعية
ثم تبعه
في ذلك ديماريه دي سان سورلان
Demarets de Saint Sorlin، وكان
مسيحيًّا متعصبًا يكره القدماء الوثنيين وشاعرًا رديئًا يظن أن المسيحية يمكنها أن تُلهم
الشعراء أكثر مما يستطيعه الشعر الوثني الطبيعي القديم، ويرى أن القدماء كانوا أقل سعادةً
وعلمًا وغنًى واستقرارًا من المحدثين، ومن ثَم كان للمحدثين الأولوية على القدماء وكان
العصر
الحديث يمثِّل تقدمًا وعصرًا ذهبيًّا بالنسبة للعصر القديم وكأن الإنسانية قد انتقلت
من الطفولة
إلى الشباب وهي الصورة الشائعة في فلسفات التاريخ في عصر التنوير خاصة عند لسنج. وبالرغم
من
تصدِّي (١٦٣٦–١١٧١م) بوالو
Boileau للدفاع عن القدماء إلا أن
شارل بيرو
Ch. Perrault (١٦٢٨–١٧٠٣م) هذا الشاب اليافع أخذ
جانب الدفاع عن المحدثين وهو الذي عاش في عصر لويس الرابع عشر، هذا العصر العظيم الذي
لا يضارعه
إلا عصر بركليس عند اليونان، وأغسطس عند الرومان، عصر كورني
Corneille وراسين
Racine وموليير
Moliere مما يدل على أن الإحساس بروح العصر هو شرط التجديد
والدافع على التقدم. لقد كان ديكارت يقول باستمرار القدماء، إشارة إلى هذا العصر الذي
ولَّى
وانقضى كما كان موليير يقول: «القدماء هم القدماء، ونحن شعب اليوم».
وقد عبَّر بيرو عن موقفه هذا في قصيدته المشهورة «عصر لويس العظيم» يهاجم فيها القدماء
ويدافع عن المحدثين
١٦ ويثبت قدرة الطبيعة على خلق العباقرة في كل زمان ومكان وليس فقط في العصر القديم
الجليل
La Belle Antiquité ثم تلا ذلك بكتاب «مقارنة القدماء والمحدثين»
١٧ في أربعة أجزاء (١٦٨٨–١٦٩٦م) في الفن والبلاغة والشعر والعلوم وتطبيقاتها العملية.
ويقوم الدفاع على حجة أن المعرفة تتقدم مع الزمن وبالتجربة، وأن الكمال لا يرتبط بالضرورة
بالعصر القديم، فكل عصر يضيف من تجربته وخبراته على ما أضافه القدماء. وهذا لا يعني أن
اللاحق
يكون بالضرورة أكثر قيمة من السابق لأن الاستمرارية قد تحتوي على فترات انقطاع وانكسار
ينحسر
فيها التقدم حتى ينبثق من جديد كما يتسرب ماء النهر في الأعماق ثم ينبثق في مكان آخر
بصورة أكثر
غزارة؛ وذلك دفعًا للاعتراض بأن العصور الوسطى تكون بالضرورة أعلى من عصر اليونان والرومان.
ولكن لا يعني هذا الانكسار في التقدم أيَّ رجوع إلى الوراء أو أيَّ تصور دائري للتاريخ
كما كان
الحال في فلسفة التاريخ القديمة. ولقد استطاعت معركة القدماء والمحدثين إبراز مفهوم التقدم
ولكنه كان يقوم على عنصرَي الماضي والحاضر دون المستقبل، وهو ما ستحاول فلسفات التاريخ
في عصر
التنوير إكمالَه والتركيز عليه وجعل المستقبل هو غاية التقدم خاصة عند كوندرسيه.
١٨
وقد قامت معركة القدماء والمحدثين أيضًا في إنجلترا، كما ظهر الهجوم على نظرية القهقرَى
على
جورج هيكويل
G. Hakewill الذي نشر سنة ١٦٢٧م كتاب من ستمائة
صفحة لرفض الخطأ الشائع المتعلق بانهيار الطبيعة الدائم والشامل.
١٩ ويعتمد هيكويل على العناية الإلهية ورعايتها لنظام العالم وحراستها له ليس فقط
لتكوينه المادي الطبيعي بل أيضًا لتكوينه النفسي والخلقي وهي الحجة التي سيعتمد عليها
هردر فيما
بعد بتوحيده بين العناية الإلهية والتقدم في التاريخ. كما يعتمد هيكويل على حجة أخرى
عملية وهي
أن الرجوع إلى الوراء ضارٌّ بنشاط الإنسان؛ إذ إنه يولد فيه الكسل واليأس ويجعل عمله
لا أثر له
في العالم، ومن ثَم فإن الإيمان بالتقدم هو الوسيلة لإحداث التقدم. ولما كان اللاهوت
المسيحي لا
يقبل فكرة التقدم إلى ما لا نهاية باعتبار نهاية الزمان فقد آثر هيكويل إيقاف التقدم
في النهاية
والتنبؤ بعلاماتها التي وجدها في انهيار روما وتحول اليهود إلى المسيحية. وفي هذه اللحظة
ينتهي
العالم بفضل نار هوجاء لا تُبقي ولا تذَر! والحقيقة أن التقدم المستمر للإنسانية هذا
الذي آمنتْ
به فلسفةُ التنوير لم يكن واضحًا تمامًا عند هيكويل؛ وذلك لأن التقدم لديه يحدث طبقًا
للتصور
الدائري لحياة الشعوب التي تكون في مجموعها التقدم العام للبشرية؛ فكل شعب يبدأ وينهض
ويبلغ
الذروة ثم يعود ويتخلف ويتقهقر وينتهي، وعلى هذا النحو ينتقل نورُ المعرفة من شعب إلى
شعب، وهو
ما حدث بالفعل عندما انتقلت الحضارة من الشرقيين — الكلدانيون والمصريون — إلى اليونان.
وعندما
بدأت تخبو نهضت من جديد عند الرومان وعندما بدأت تخبو بفعل الغزاة البرابرة من الشمال
نهضت من
جديد على يد بترارك
Petrarch ومعاصريه، وبالتالي يعود هيكويل
إلى قانون القهقرَى الذي هاجمه بيكون من قبل. ولكن يُحمد لهيكويل أن التقدم لديه لا يحدث
في
المعرفة فحسب، وليس تقدمًا عقليًّا فقط، بل يحدث أيضًا في العادات والأخلاق وبذلك يمهِّد
الطريق
للتقدم الاجتماعي الذي بلغ ذروتَه في فلسفة التنوير.
ثم ظهر بعد هيكويل بأربعين عامًا كتابُ جلينفيل
Glanville
«إلى الأمام أكثر أو تقدم المعرفة ورقيها منذ أيام أرسطو»
٢٠ سنة ١٦٦٨م دفاعًا عن الجمعية
الملكية
The Royal Society بعد أن هوجمت نظرًا لعدائها للتقاليد الموروثة وللعقائد الدينية، وقد
قامت الجمعية الملكية من أجل تحقيق هدف بيكون وهو تقدُّم العلم والمعرفة وتأسيسها على
التجربة
البشرية وهو ما كان يظن في ذلك الوقت أنه هدفٌ رومانسي. وكان جلينفيل على اقتناع بأن
الإيمان لا
يعارض العقل، بل يقوم عليه ويتأسس على مبادئه الأولية متبعًا في ذلك ديكارت وأفلاطونيِّي
كمبردج. ولكن في نفس الوقت آمنَ جلينفيل بالسحر والقوى الخفية مما جعل إيمانه بالعقل
أقل أثرًا
على عصره من إيمانه بالسحر، بالإضافة إلى أن تقدُّم المعرفة كما يتصوره في الطبيعيات
والرياضيات
يحدث ببطء وبدرجة محدودة لا يلاحظها الجميع. وقد أخذ في الاعتبار لأول مرة العالم الجديد
فيما
وراء الأطلنطي باعتباره امتدادًا للحضارة الغربية المسيحية وموطنًا خصبًا لتجارب إنسانية
جديدة.
ومع ذلك فإن تأسيس الجمعية الملكية سنة ١٦٦٠م وتكوين أكاديمية العلوم
Academy of Science سنة ١٦٦٦م جعل العلوم الطبيعية وسيلةً لتحرير الإنسان من سلطة
الموروث دون أن تجعل الإنسانية تفكر في مستقبلها؛ فقد كان الحاضر في مواجهة مباشرة مع
الماضي،
ولم يظهر المستقبل إلا في فلسفة التنوير بعد أن انتهت المعركة لصالح الحاضر ضد الماضي،
وفي صفِّ
المحدثين ضد القدماء، وتأسيسًا للعلم ضد الخرافة، ومن أجل الجديد ضد القديم.
٢١
وقد استمرت المعركة بين القدماء والمحدثين كما قويَ التأكيد على تقدم المعرفة حتى
أواخر
القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر عند (١٦٥٧–١٧٥٧م) فونتنل
Fontonelle الذي بدأ حياته في شبابه كأكبر مدافع عن المحدثين؛ فقد قام
Anima Naturalite Moderna بتطبيق المنهج الديكارتي
والروح الهندسية
L’Espritgéométrique في المعرفة الإنسانية
كما طبقه سبينوزا وهوبز في الاجتماع والسياسة. نشر كتابه حوار بين الأموات
Dialogues des Morts يُثير فيه معركة القدماء والمحدثين
في صورة حوار بين سقراط ومونتني
Montaigne يتوقع فيه سقراط
بسخرية أن يكون عصر مونتني أكثر ازدهارًا من عصره هو، ولكن مونتني يؤكد له خلافَ ظنِّه
وأن عصر
بركليس وسقراط لن يعود من جديد ولكن سقراط يعترض على ذلك ويؤكد نظرية استمرارية قُوَى
الطبيعة
ودوامها ويرفض نظرية التقهقر والانهيار.
٢٢ وعلى ذلك لا يعطي فونتنل للمعركة حججًا دفاعًا عن المحدثين مبينًا أهمية النظريات
العلمية الجديدة مثل الدورة الدموية وحركات الأرض، وإلا فما يعني تقدم العلم؟ لذلك نشر
فونتنل
ملحقًا صغيرًا بعنوان «استطراد على القدماء والمحدثين»
٢٣ في ١٦٨٨م معطيًا برهانًا ديكارتيًّا صريحًا على نظرية دوام القوى الطبيعية
واستمرارها بأن الطبيعة المادية لا تتغير، وبأن عناصرها الأولية ثابتة. ولكن تحدث التغيرات
طبقًا لأثر هذه العناصر الطبيعية على الأذهان والعقول (المخ) نظرًا لاختلاف الأحوال الجوية
والبيئات الجغرافية. ولما كانت الفنون والعلوم والنظريات أقوى أثرًا على الأذهان من أثرها
على
الأرض فإنه يمكن تجاوزها لحدود البيئة الجغرافية وتقلبات الأنواء. ويقوم التحليل كلُّه
على
برهان ديكارتي قبلي هو ثبات العمليات الطبيعية واطراد قوانينها يستعمله فونتنل بطريقته
الخاصة
فيُرجع الاختلافات بين القدماء والمحدثين إلى عنصرين: (١) الزمان، (٢) النظم السياسية
والأوضاع
العامة. ولما كان القدماء أسبق في الاختراع لأنهم كانوا أسبق في الزمان وليس لأنهم أكثر
عبقرية
من المحدثين يكون المحدثون أكثر علمًا واختراعًا من القدماء لأنهم ورثة العلم القديم
بقوانينه
وأخطائه بالإضافة إلى العلم الحديث. هذا من ناحية الكم. أما من ناحية الكيف فالمحدثون
أكثر
منهجية نظرًا لاكتشاف المنهج العقلي والمنهج التجريبي. ويستمر تقدُّم العلم إلى ما لا
نهاية،
وسيكون الجيل القادم أكثرَ علمًا ومعرفة حتمًا من المحدثين كما كان المحدثون أكثرَ علمًا
ومعرفة
من القدماء، ولكن ما يحدث في العلم الطبيعي والرياضي قد لا يحدث بالضرورة في الفن، أي
في الشعر
والبلاغة؛ لأنهما لا يعتمدان على الاستدلال الصحيح والمنهج السليم، بل على الذوق والخيال،
فيمكن
للفن أن يصلَ إلى الكمال عند القدماء أو المحدثين على حدٍّ سواء وفي مدة قليلة. ومن ثَم
يكون
إعجابنا بالقدماء ليس إعجابًا بعبقريتهم ولكن إعجابًا بالفن الكامل الذي يمكن لكل عصر
أن يصل
إليه.
أما الأوضاع العامة التي تؤثر في التقدم أو التأخر فهي النظم السياسية والاجتماعية
والجو
الحضاري العام للشعب؛ فعندما سادت النظم البربرية بعد سقوط روما توقَّف التقدم. وعندما
عمَّ
الجهل والتقليد في العصر الوسيط توقَّفت المعرفة؛ فإذا ما عادت النظم السياسية المستقرة
وعمَّ
نورُ المعرفة تقدَّم العلم وازدهر الفنُّ من جديد.
وقد كانت مقارنة الإنسانية بتقدم الإنسان في العصر أمرًا شائعًا منذ بيكون وبسكال
وسان
سورلان وبيرو، وكما سيظهر عند لسنج فيما بعد. فالعقل المستنير يحتوي في ثناياه على تجربة
العصور
السابقة، ويعبر عن التاريخ كلِّه وتراكمه وعلومه ومعارفه وفنونه، كان الإنسان أولًا في
طفولته Infancy عندما كان مشغولًا باتباع رغباته الأولى
وحاجاته الضرورية، ثم أصبح شابًّا Youth عندما أصبح قادرًا على
تذوُّق الفنون وعلوم البلاغة والشعر وعلى الاستدلال المصاحب بالشجاعة وإن لم يصاحبه التضامن
الاجتماعي بعد، وقد وصل الإنسان الآن إلى سنِّ الرجولة Manhood
وأصبح قادرًا على الاستدلال والاستنارة، وكان يمكنه أن يكون أفضل من ذلك لولا أن منعتْه
الرغبة
في الحرب وأهواء القتال. وهي نفس المراحل الثلاث التي سيتحدث عنها لسنج فيما بعد من انتقال
الإنسانية من مرحلة الطفولة (اليهودية) إلى مرحلة الصبا (المسيحية)، ثم إلى مرحلة الرجولة
(التنوير). وبالرغم مما في هذا التصور من عيوب في الاستدلال لأنه قائم على التمثيل إلا
أنه يرفض
فكرة الرجوع إلى الوراء كما يرفض نظرية «العصر الذهبي»، ويجعل الطبيعة وقواها مستمرة
وثابتة، بل
إن الإنسان قادر على أن يصل إلى مرحلة رابعة في المستقبل وهي مرحلة النضج الأخيرة، مرحلة
عنفوان
المذكورة Virility، وهي مرحلة مستقبلية تتحدث عن مستقبل
الإنسانية مثل مرحلة كوندرسيه العاشرة؛ ففي المرحلة المستقبلية قد يتصور الناس أننا بلغنا
قمةَ
التقدم والرقي، ويكون ذلك نقصًا في تصورهم للتاريخ على أنه رجوع إلى الوراء وليس وصفًا
لعملية
التقدم ذاتها. فالإعجاب الذي لا حدود له للقدماء هو إحدى عقبات التقدم. ومنذ فونتنل والمستقبل
قد أصبح جزءًا لا يتجزَّأ من فلسفة التاريخ الذي كان يدور حتى الآن بين محورَين فقط؛
الماضي
والحاضر، أو القديم والجديد، وقد مهَّد ذلك بودان، وبيكون، وديكارت، والمدافعون عن المحدثين،
كما ساعد على ذلك ردُّ الفعل على النهضة والإعجاب المتزايد به وأيضًا اكتشافات العلوم.
ولقد رفض
بيكون من قبل تصور المستقبل الذي لا حدود له مفضِّلًا عليه تصور العصر القديم الذي رفضه
فونتنل.
لن يكون للإنسان عصرٌ قديم؛ فعقله لن يرجع إلى الوراء والإنسانية العاقلة ستستمر في التقدم
والرقي بتعاقب الأجيال. وهذا التطور نحو المستقبل ضروري ويقيني لا يخضع للاحتمال أو المصادفة
ولا يحدث ظنًّا أو وهمًا. وبالتالي يكون فونتنل قد أقام فلسفته في التاريخ على فكرتَين
أساسيتَين: الأولى التقدم اللامحدود في المستقبل، والثانية حتمية هذا التقدم وضرورته.
يحدث
التقدم بصرف النظر عن الأفراد، فلو لم يولد ديكارت لولد إنسان آخر قام بنفس المهمة التي
قام بها
ديكارت فتلك ضرورة التاريخ. وما كان يمكن لديكارت أن يظهر قبل القرن السابع عشر؛ وذلك
لأنه
يمثِّل تراكمات عدة للتاريخ في مراحله السابقة في عصر النهضة وعصر الإصلاح الديني من
قبله وعصر
الإحياء من قبلهما معًا؛ فالتقدم يحدث طبقًا لقانون تاريخي وطبقًا لنظام. ومن ثَم يكون
فونتنل
هو الفيلسوف الذي اكتملتْ على يدَيه فلسفةُ التاريخ باعتبارها علم التقدم المستمر والحتمي
الذي
يخضع لقانون، وبالتالي كان من السهل على فلسفة التنوير البحث عن هذا القانون، وكان من
السهل
أيضًا على فلسفات التاريخ في القرن التاسع عشر أن تتحقق من صدْق هذا القانون.
وقد بدأ على يد فونتنل أيضًا الانتقال من التقدم في العلوم والمعارف إلى التقدم في
المجتمع؛
فاطراد قوى الطبيعة واحد في العلم وفي الاجتماع على السواء، أي في العقل والأهواء والانفعالات
والإرادات. وهذا يتضمن أن الإنسان من حيث هو كائن نفسي اجتماعي، وليس فقط من حيث هو كائن
عاقل
أيضًا ثابت لا يتغير، والإنسانية تحتوي على حفنة قليلة من العقلاء وجمٍّ غفير من المتحمسين
الخاضعين للأهواء والانفعالات. ومع ذلك لم يطوِّر فونتنل تحليلَه للتقدم الاجتماعي؛ فقد
كان
أبيقوريًّا فرديًّا، يريد الحياة الهادئة، وينعم بها، ولم يُشغل بالَه بالمشكلات الواقعية
خاصة
بعد أن تمَّ تعيينُه كسكرتير دائم لأكاديمية العلوم. فلم يكن من هذا النوع من الرجال،
مثل ماركس
مثلًا الذي يضع نفسه داخل مآسي العالم ومظاهر شقائه؛ فقد كان أقصى ما فعله هو إحساسه
بأنه أوجد
نوعًا من التضامن بين العلماء، وترويجه لنتائج العلم لدى عامة الناس وإخراجها من داخل
الأكاديمية إلى خارجها، ومن المعمل إلى الطريق العام. فقد بدأ فونتنل هذا الترويج للعلم
الذي
أصبح سُنة القرن التاسع عشر فيما بعد حتى تشيع فكرة التقدم وتصبح جزءًا من ثقافة الناس
اليومية؛
ففي عام ١٦٨٦ نشر «مناقشات حول تعدد العوالم»
٢٤ يروِّج فيها لنظريات العلم الحديث في الطبيعة والفلك، وأصبح الناس يعرفون أسماء
كوبرنيق وجاليليو وكبلر وبيكون، وأصبحوا على علم بالصراع بين العلماء ورجال الدين، وبين
مراكز
العلم والكنائس، بذلك يستنير الناس، ويأخذون صف العلم والعلماء ضد الكنيسة ورجال الدين.
كانت
مهمة فونتنل بهذا الترويج لنتائج العلم، تغيير سُلَّم القيم في المجتمع، وذلك أيضًا مساهمة
منه
في صنْع التقدم الاجتماعي، وبالتالي يصبح فونتنل هو حلقة الاتصال بين القرن السابع عشر
والقرن
الثامن عشر، وبداية الانتقال من التقدم العلمي إلى التقدم الاجتماعي، ومن ثَم بداية انتشار
العقل في المجتمع وبداية عصر الأنوار، أي أولوية العقل على السلطة، اطِّراد قوانين الطبيعة،
البراهين المحكمة؛ وذلك بتفجير العقل الديكارتي في البناء الاجتماعي، وبالتالي يصبح مفكرو
عصر
الأنوار نوعًا من المناضلين الذين يعملون ضد الجهل والأفكار المسبقة الشائعة.
٢٥
ولكن فونتنل قد توَّج أعماله كلها بنشرِه «تاريخ المعجزات»
٢٦ وهو إعادة صياغة حرة لمقال لاتيني لمؤلف هولندي مغمور يجعله فونتنل مطيةً لتطبيق
المنهج الديكارتي في دراسة خوارق الطبيعة. وينتهي إلى أن الخوارق عند اليونان كانت خداعًا
من
رجال الدين وليست كما يقول رجال الدين المسيحي من أعمال الأرواح الشريرة التي أصمتَها
المسيح
بموته. وكان الهدف من ذلك هو زعزعة الثقة في آباء الكنيسة الأوائل وتقويض سلطانهم. ولكن
الجزويت
ثاروا عليه فآثرَ فونتنل توجيهَ اهتمامه إلى العلم؛ وذلك «لأن الأشياء التي تم التسليم
بها لا
يمكن نقدها إلا تدريجيًّا».
وقد أخذ بيبر بيل
P. Bayle (١٦٤٧–١٧٠٦م) نفسَ موقفِ فونتنل
بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، وهو تطبيق المنهج الديكارتي في التقاليد الاجتماعية
والنظم
السياسية والعقائد الموروثة بنفس الاحتياطيات، وقد سماه جوزيف دي مستر
Joséphe de Maistre «أبو الإلحاد الحديث» كان بيل أقلَّ تفاؤلًا من فلاسفة التنوير
ولم يكن ذا ثقة كبيرة بالطبيعة البشرية، ولم تهزَّ أعماله الاكتشافات العلمية الحديثة،
ولم
يهتمَّ بجاليليو أو نيوتين، ولكنه وجَّه همَّه الأول إلى نقدِ الموروث وقلب الأوضاع.
فقد ارتبطت
فكرة اطراد قوانين الطبيعة الثابتة مع نشأة التأليه
Deisme،
فكانت وظيفة الألوهية تنظيم الطبيعة. بدأ بيل بنقد اللاهوت التقليدي على مدى سبعين عامًا،
وقدَّم لفلاسفة التنوير في فرنسا وإنجلترا مجلة تحتوي على الحجج الهدامة للتقاليد، وساعد
على
تحرير الأخلاقية من اللاهوت والميتافيزيقا، كما انتشرت هذه الحجج في الصالونات الأدبية،
وذاعت
في مؤلفات عديدة مما أدى إلى زعزعة عقيدة بوسويه
Bossuet
الراسخة وإيمانه بالعناية الإلهية التي ترعى التاريخ.
٢٧
وقد انتقلت معركة القدماء والمحدثين في آخر القرن السابع عشر من فرنسا إلى إنجلترا
مما يدل
على أنها كانت تعبِّر عن رغبة العصر في تحرُّرِ الذهن الإنساني من سلطة القديم، وظهرت
عند
سير وليم تمبل
Sir William Temple في كتابه «محاولة في
المعرفة القديمة والحديثة»
٢٨ وعند وتون
Wotton في كتابه «تأملات»
٢٩ وعند سويفت
Swift في سخريته «معركة الكتب»
٣٠ وكان وتون أكثرَهم علمًا ووضوحًا وأقربهم إلى فونتنل في تأكيده على اطِّراد قوى
الطبيعة وإمكانية إبداعها في كل العصور، وهذا لا يمنع من تفوُّق عصرٍ قديم في إحدى فروع
المعارف
أو الفنون على عصر حديث، فلكلِّ عصرٍ فنُّه العبقري، وليس ذلك حكرًا على القدماء. وقد
يرجع ذلك
أيضًا إلى بعض الظروف الاجتماعية التي سبَّبت في ازدهار هذا الفنِّ أو ذاك في عصر بعينه.
ويقوم
تحليل وتون الأساسي على التمييز بين نوعَين من النشاط الذهني، لكلٍّ ميدانُه: الأول ميدان
الفن
الذي يشمل الشعر، والخطابة، والعمارة، والرسم، والنحت، والثاني: ميدان المعرفة ويشمل
الرياضيات،
والعلوم الطبيعية، وعلم وظائف الأعضاء، وكل ما يتعلق بهذه العلوم. ففي الميدان الأول
هناك
إمكانية تعدُّد المواهب، ويمكن لعصر قديم أن يسبق عصرًا حديثًا، وأن يتفوق عليه نظرًا
لطبيعة
اللغة وللظروف السياسية الخارجية. أما في ميدان العلم فهناك حقيقة واحدة لا تخضع للذوق،
وفيها
يتفوق المحدثون على القدماء. أما فيما يتعلق بالمستقبل فإن وتون كان أكثرَ حذرًا فلا
يوجد ضامنٌ
يؤكد أن المعرفة ستتقدم في المستقبل، كما تتقدم الآن نظرًا لسيادة بعض المعارف القديمة
على
عقلية المعاصرين. ولكن مَن يدري؟ ربما يتقدم شعب مجهول اليوم، وتتأسس لديه المعارف ويصبح
حاملَ
التقدم، وبالتالي يقدِّم وتون المنظور الإنساني العام دون الاقتصار على حضارة بعينها،
ويأخذ في
الاعتبار رقيَّ الشعوب. وربما يكون هذا الفصل بين التقدم في الفن والتقدم في المعرفة
غير حاصل؛
فقد بيَّن بيرو من قبل كما سيبين شيلي
Shelly (١٧٩٢–١٨٢٢م)
فيما بعد أن تقدم المعرفة تجعل الفنان أكثرَ إدراكًا للعالم وبالتالي أكثر قدرة على الإبداع.
٣١
وربما كان آخر ممثِّلي هذه المعركة بين القدماء والمحدثين دفاعًا عن المحدثين هو
الخوري تراسون
I’Abbé Terrasson الذي رفض التمييز بين التقدم
في الفن والتقدم في العلم؛ لأن الإنسان له روح واحدة وليس له روحان وهو الطريق الذي سار
فيه
القرن التاسع عشر فيما بعد عندما بيَّنت مدام دي
ستال
Madame de Staél أن الفنَّ ما هو إلا تعبير عن الأوضاع الاجتماعية. ومع ذلك فقد ظل هذا
التمييز قائمًا في القرن الثامن عشر، وأيَّده فولتير مخرجًا الفن والأدب من التقدم الإنساني
العام. والحقيقة أن معركة القدماء والمحدثين لم تتعرض للتقدم الإنساني إلا عرضًا؛ فقد
كانت
المعركة أساسًا بين التقليد والتجديد، وبين الإتْباع والإبداع، فظهر موضوع التقدم كنتيجة
ولكن
الخوري تراسون هو الذي أخذها وطوَّرها. والمعركة في آخر صورها قد حدثت بين لاموته
La Motte ومدام
داسييه
Madame Dacier، فقد قامت فلسفة في التاريخ على ثلاث مراحل تشبيهًا بالإنسان؛ فقد مرَّ
العقل الإنساني بمرحلة الطفولة والشباب، ووصل إلى مرحلة النضج في عصر الإمبراطور أوغسطس،
ثم
توقَّف التطور في عصر البرابرة حتى عصر النهضة. ولكن العقل الإنساني في القرن السابع
عشر بناء
على دفعة من ديكارت انتقل إلى مرحلة أعلى من عصر أوغسطس، وبالتالي يكون القرن الثامن
عشر
بالضرورة أكثر تقدمًا من القرن السابع عشر. فالديكارتية ليست نهايةَ المطاف فقد أتت فترات
طويلة
قبلها، وستتطور فيما بعد إلى غيرها. ولكن لا يجب أخذُ التشبيه، تشبيه تطور الإنسانية
بتطور
الإنسان في كل جوانبه، وتخيل مرحلة الشيخوخة في الإنسانية؛ لأن الإنسانية في تقدُّم مستمر
وتجني
ثمارَ تقدُّمها ولا تخسر مطلقًا، وستظل مرحلة النضج إلى ما لا نهاية؛ لأنه نضجٌ متحرك
دائب لا
يتوقف عند مرحلة. وستكون الأجيال القادمة أكثرَ تقدمًا بالضرورة من الأجيال السابقة،
الماضية
والحالية؛ لأن التقدم «نتيجة طبيعية وحتمية لتكوين العقل الإنساني». هذه المرحلة النهائية
التي
ستصبح فيما بعد عند كوندورسيه مستقبلَ الإنسانية.
٣٢
ولكن يبدو أن بدايات القرن الثامن عشر الفعلية كانت عندما انفجر العقل في المجتمع
وامتدَّ
التقدم العلمي إلى التقدم الاجتماعي قد ظهر في شخصِ خوري سان بيير
L’Abbé da Saint Pierre فتحوَّل التنوير العقلي إلى تنوير اجتماعي. فكما تم رفض التقاليد
القديمة والعقائد الموروثة في التنوير العقلي، فقد ظهرت المآسي الاجتماعية ومظاهر الطغيان
والقهر السياسي عندما حدث التنوير الاجتماعي، وأصبح تقدُّم الزمن البشري تقدمًا للإنسان
ذاته.
ظهر خوري سان بيير من خلال مناقشات صالونات مدام دي
لامبير
Madame de Lambert ومدام دي تنسان
Madame de Tencin،
ومدام ديبان
Madame Dupin وهي نفس الصالونات التي خرج منها
فونتنل، ووجه التقدم نحو الكمال الاجتماعي؛ نشأ ديكارتيًّا ولكنه لم يتذوق الفلسفة بل
آثرَ
العلم لأنه هو الذي حقق السعادة للناس. كما كان نفعيًّا طبيعيًّا جاعلًا المنفعة مقياسَ
صحة
الأفعال وصدْق الأفكار. وكان أخيرًا مؤلهًا أي رافضًا لدين المؤسسات. وتحتوي كتاباته
على هجوم
شديد ضد الاتجاهات التقليدية المحافظة على نحوٍ يحمي كاتبَه من ردود فعل السلطة، فمثلًا
في
كتابه عن «التفسير الطبيعي للظهور»
٣٣ يطالب بأن تعطيَ الحكومة جائزة من «أكاديمية العلوم» لأحسن تفسير لظهور القديسين
طبقًا لقوانين الطبيعة، ويتحدث عن الظهور في الديانات كلها إلا في الكاثوليكية الرومانية
ولكن
لسان حاله يقول: «الكلام لك واسمعي يا جارة.» كان أقرب إلى الإنساني الداعي للسلام على
ما هو
معروف في القرن التاسع عشر. ولكن في القرن الثامن عشر وُلد كمصلح اجتماعي، وكرَّس حياته
لإعادة
بناء الحياة من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من السعادة للناس. وكان أول مَن قدَّم كلمة «رفاهية»
Bienfaisance في القاموس الفرنسي، وهي في رأيه أسمى الفضائل.
كانت معظم كتاباته «مشروعات»
Projects لإصلاح الحكومة
والاقتصاد والمالية والتعليم من أجل زيادة اللذة والإقلال من الألم، ووصل تفاؤله إلى
حدِّ
السذاجة؛ إذ كتب مشروعًا إلى البابا بإلغاء الرهبنة باعتبارها نظامًا غير مقدس ومشروعًا
آخر
لإلغاء الحروب! ولم يكن أول مَن فكَّر في إقامة مشروع للسلام الدائم؛ فقد قام بذلك من
قبل
إميريك كروس
Emeric Cruce بمشروعه عن الجامعة العالمية
Universal League التي تجمع بين الشعوب المسيحية في
أوروبا والأتراك والفرس والتتار، من أجل حلِّ كلِّ مشاكل العالم بالوسائل السلمية عن
طريق محكمة
عليا تكون البندقية مقرها. لم تخدعه المظاهر البرَّاقة لعصر لويس الخامس عشر، بل رأى
فيه سياسة
الحرب والشقاء، وبالتالي يكون كتابه «الحوليات السياسية»
٣٤ أكبرَ ردِّ فعلٍ على كتاب فولتير «قرن لويس الرابع عشر».
٣٥ فالحرب شرٌّ يمكن الاستغناء عنه وتناقض يمكن التغلب عليه. وكان تفاؤله يدفعه إلى
الاعتقاد بإمكانية تحقيق السلام، وسمَّى مشروعه «مشروع هنري الكبير» لجعل السلام دائمًا
يشرحه
خوري سان بيير
٣٦ لجمع كل الدول الغربية في تنظيم عام لحلِّ كلِّ المسائل المتنازع عليها، ثم نشر
«مشروع حكومة لتحسين الدول» بيَّن فيه مسار الإنسانية وهي في تقدُّمها، فتصور الإنسانية
وهي
تنهار من العصر الذهبي، عندما كان الناس سعداء تمامًا، إلى العصور الفنية والبرونزية
والحديدية
تصورًا أسطوريًّا يقلب حقيقة التاريخ ومساره؛ فقد أتى العصر الحديدي أولًا والإنسانية
في
طفولتها عندما كان الناس فقراء وجهالًا بالفنون، وهو العصر الحالي الذي تعيشه أفريقيا
وأمريكا.
وبعد ذلك أتى العصر البرونزي حيث عاش الناس في أمان وتمت قوانين أفضل، وحيث بدأت أهم
الفنون في
التطور. ثم ظهر ثالثًا العصر الذهبي وهو العصر الذي لم تقطعه أوروبا بعد؛ حيث أدرك العقل
إمكانيةَ إلغاء الحروب وبذلك يقترب من العصر الذهبي الرابع عصر المستقبل. ولكن فن الحكم
وتنظيم
المجتمع ما زال كل ذلك في مرحلة الطفولة وكل ما تطلبه الآن هو أنظمة مستنيرة للحكم بها
يتحقق
ملكوت السموات على الأرض؛ فنظام الحكم هو السبيل لتحقيق السعادة. ويركز المشروع أيضًا
على إنشاء
«الأكاديمية السياسية» موضوعها السياسة، كما أن «أكاديمية العلوم» موضوعها العلوم. الأكاديمية
السياسية بمثابة الهيئة الاستشارية للوزراء في كل ما يتعلق بالصالح العام. فإذا ما تم
تطبيق هذا
المشروع أتى العصر الذهبي، ثم نشر في ١٧٣٧م «ملاحظات حول التقدم المستمر للعقل الشامل»
٣٧ يضع فيه تصوُّرَه لتاريخ الإنسانية على أنه تقدمٌ مستمرٌّ مشبهًا إياه بعمر
الإنسان. فألف سنة في تاريخ الإنسانية تعادل سنة واحدة من عمر إنسان يعيش مائة عام، ولكن
الفرق
أن الإنسان في شيخوخته يفقد من قواه العقلية والبدنية في حين أن الإنسانية تقوى وتزدهر
وتتقدم
باستمرار، ونحن الآن في الألف السابعة أو الثامنة من تاريخ الإنسانية، أي أن الإنسانية
ما زالت
في مرحلة الطفولة، وربما تكون الآن على أعقاب مرحلة الشباب المبكر، في حين أن بيكون وبسكال
قد
تصورَا الإنسانية في عصرها الذهبي، بينما رآها فونتنل وبيرو في عصر الرجولة، وكأن العصر
الذهبي
كان عند القدماء في الماضي، وعند المحدثين في الحاضر، وعند خوري سان بيير وكوندرسيه فيما
بعد في المستقبل.
٣٨
ولكن هناك ثلاث عقبات للتقدم: الحروب، والخرافة، وغيرة الحكام عندما يظنون أن تقدُّمَ
العلوم والفنون خطرٌ عليهم! وقد يسير التقدم بخطًى بطيئة، وقد يسرع الخُطَى لتدخل عوامل
عديدة
منها توسع التجارة البحرية، والحصول على مزيد من الثروات، وظهور عدد أكبر من الكتَّاب
والأدباء.
ومنها أيضًا دراسة الرياضيات وعلوم الطبيعة في المعاهد والكليات، وقدرتها على تحرير الإنسان
من
سلطة الماضي، ومنها تأسيس أكاديميات العلوم التي ساعدت على تصحيح الأخطاء العلمية، وازدهار
المكتشفات والنظريات الجديدة، ومنها أيضًا انتشار الكتاب باللهجات المحلية، أي استقلالها
عن
اللغة الأم وهي اللغة اللاتينية، ويتحقق التقدم على درجات غير متساوية بين الشعوب؛ فأفضل
عشرة
من المتعلمين في بلد متقدم مثل إنجلترا أو فرنسا أكثر تقدمًا من أفضل عشرة من المتعلمين
في بلد
متخلف مثل تركيا! وأقل عشرة من غير المتعلمين في لندن أو باريس أكثر علمًا من أقل عشرة
من غير
المتعلمين في إستانبول! فتقدم الشعب لا يمكن تجاوزه بتقدم الأفراد، وتقدُّم الأفراد محكوم
عليه
في مساره بتقدم الشعب كلِّه ودرجته في الرقي من تطور الإنسانية العام. كما يلاحظ الخوري
أن
تقدُّمَ العلوم والفنون أسرع من تقدم الأوضاع الاجتماعية؛ فالعقل النظري أسرع تقدمًا
من العقل
العملي، ولكن الإنسانية لا تكون سعيدة فقط بالرياضيات والعلوم الطبيعية التي تعطي الإنسان
مزيدًا من الرفاهية، بل تكون أكثر سعادة بعلمَي الأخلاق والسياسة وهي العلوم التي لم
ينتبه
إليها أحد في الألفي سنة الأخيرة. وإنه لنقص كبير من ديكارت ونيوتن ألَّا ينتبهَا إلى
هذين
العلمَين. ومع ذلك فلا توجد عقبات أمام التقدم الإنساني لا يمكن تذليلها، ولا يوجد أعلى
للتقدم
تبلغه الإنسانية ثم تتوقف بعدها؛ فالخرافة في تقهقر أمام العقل، والحروب تتقلص بفضل مشروعات
السلام، وغيرة الحكام يمكن القضاء عليها بتأسيس أكاديميات العلوم الاجتماعية، والسياسية،
وتنصيب
أفضلهم استنارة. فتقدم الإنسانية المستمر هو السبيل لحصولها على السعادة الكاملة.
بدأ خوري سان بيير من الديكارتية وطوَّر مبادئها إلى: أولوية العقل الإنساني، والتنوير
التدريجي، وقيمة الحياة الدنيا لذاتها، ومقياس المنفعة، ومن ثَم وجب الانتقال من التقدم
في
العلوم إلى التقدم في الأخلاق والسياسة، وذلك عن طريق الحكومات المستنيرة، وتربيتها للشعوب.
والحقيقة أن كل هذه المشروعات لم ترَ النور باستثناء محاولة ترجو
Turgot تطبيق بعضها، ولكن الكثير منها دخل في دائرة المعارف أكبر تعبير عن عصر
التنوير، وهي: قوة الحكومة والقوانين، وقدرتها على تهذيب أخلاق الشعوب، وخضوع المعرفة
إلى مقياس
المنفعة، وتأليه العقل الإنساني، وعقيدة التقدم. وبالتالي يمثل خوري سان بيير فترة الانتقال
من
الديكارتية المبكرة التي جعلت همَّها الأمور العقلية، إلى أفكار القرن الثامن عشر الأخيرة
التي
دارت أساسًا حول المشاكل الاجتماعية، وكان سابقًا على مفكري دائرة المعارف بجعلهم الإنسان
مركز
العالم. وكان أول مفكري القرن الثامن عشر الذي اعتقد بالتقدم المستمر للإنسان.
٣٩
ويعتبر فيكو
Vico (١٦٦٧–١٧٤٤م) أولَ مفكِّري القرن الثامن
عشر صياغة لفلسفة التاريخ، ولو أن كتابه «العلم الجديد»
٤٠ لم يُعرف خارج إيطاليا إلا في القرن التاسع عشر، بعد أن ترجمه ميشليه
Michelet إلى الفرنسية في ١٨٢٧م، وكان قد تُرجم من قبل إلى
الألمانية في ١٨٢٢م. خرج على العرف السائد في الجامعة، وعلى التفكير الشائع، واتهمتْه
السلطتان
السياسة والدينية معًا بالانحراف والخروج. كان من أوائل الذين خرجوا على القديم مثل بيكون
في
الطبيعة، ورابليه في الأدب، وديكارت في الفلسفة.
ويعرض فيكو لفلسفته في التاريخ في القسمين الرابع والخامس من «العلم الجديد» الذي
يحتوي على
خمسة أقسام وهي:
- (١)
المظاهر العامة للحضارة: الدين، والأسرة، ودفن الموتى.
- (٢)
أهمية الشِّعر في الحضارات القديمة.
- (٣)
الوجود الجمعي للأفراد باعتبارها تجسدًا لروح أممهم.
- (٤)
تطور الإنسانية طبقًا لقانون ذي حالات ثلاث.
- (٥)
عودة المجتمعات إلى أشكالها الأولى؛ فالتطور يسيرُ في خطٍّ دائري طبقًا لقانون
النكوص.
وتطور الإنسانية لدى فيكو هو مجموع تطوُّر الشعوب التي تتقدم من حالة إلى أخرى، من
الهمجية
إلى النظام، ويتم هذا التطور على مراحل ثلاث:
- (١)
المرحلة الدينية: وتمثِّل عهد الآلهة، وهو عهد يقوم على الخوف باعتباره الباعث الأول
على التدين، بالإضافة إلى المخيلة مما يطبع الفكر بطابع الخرافة والأساطير. فالقوانين
الاجتماعية تعبيرٌ عن إرادة الآلهة، وسلطة الحكام مستمدة من سلطة الله؛ ولذلك تكون
الحكومات استبدادية يسيطر عليها رجال الدين، ويتم تفسير كلِّ شيء في الطبيعة والمجتمع
بالرجوع إلى الدين. واللغة قاصرة على التعبير، ولا بد من الرموز وتأويل الرموز، وليس
على
الإنسان إلا التكفير والتوبة.
- (٢)
المرحلة البطولية: عندما تتحول القوى المسيطرة إلى أنصاف آلهة، وأنصاف بشر مثل رؤساء
القبائل، والعشائر، والملوك، والأباطرة، وهو حال المدن اليونانية والرومانية. لقد خطتِ
الإنسانية خطوةً إلى الأمام، وانتقلت من الرقِّ الديني المطلق، إلى رقِّ الإنسان للإنسان،
وقد ساد حكمُ العقل على حكم الإيمان، وظهرت مبادئ الفلسفة، والفنون، وعلى رأسها الشعر
الذي يقصُّ حياة الأبطال، كما تقصُّ الفلسفة مغامرات الفكر. تقوم هذه المرحلة إذن على
تأليه الأفراد، وعلى فضائل الشرف التي تقسم الناس بين الأعلى والأدنى، وعلى حق الأقوى
وامتياز الأقلية أمام الأغلبية المحرومة، وعلى الحكومة الأرستقراطية، وعلى تعبير اللغة
عن
نزعات القوة والترف تمجيدًا للأبطال.
- (٣)
المرحلة الإنسانية: وهي مرحلة الحرية المدنية والسياسية، حيث تكون الأنظمة ديمقراطية،
وحيث تقتصر مهمة الدين على تهذيب الأخلاق. وتتأسس هذه المرحلة على احترام الطبيعة
الإنسانية، وعلى الواجب كفضيلة ومبدأ للسلوك، وعلى إعلان حقوق الإنسان، وعلى الديمقراطية
والمساواة. وتكون اللغة الوطنية هي لغة التخاطب.
ولكن هذه المرحلة الأخيرة لا تدوم؛ إذ لا يلبث الفناء أن يدبَّ فيها، فالترف، وحب
المال،
وسيادة الأنانية، كلُّ ذلك يسبب في ظهور الطبقات الاجتماعية، وإفساد النظم السياسية،
ولا يقوى
المجتمع أمام الغزوات الخارجية فينهزم ويعود إلى حالة التوحش والبربرية؛ فقد سقطت روما
وعادت
إلى الدين ومرحلة التأليه، ثم سقطت الإمبراطورية وظهرت مرحلة البطولة في العصور الوسطى،
حيث ساد
الإقطاع والحرب؛ مما أدى إلى ظهور المرحلة الثالثة في عصر النهضة. ويمكن للشعب أن ينهض
من جديد
ويبدأ دوراته الثلاث، ولكن لا يبدأ حيث انتهى بل يستفيد من تجاربه السابقة، ويبدأ من
نقطة أكثر
تقدمًا من النقطة الأولى التي بدأ فيها، وبالتالي يكون التقدم لدى فيكو دائريًّا ومستقيمًا
في
آنٍ واحد، وهو التصور الحلزوني، أي التصور الدائري الصاعد إلى أعلى.
ويحدد فيكو مراحل التاريخ لدى كل شعب. فالمرحلة الدينية عند اليونان يمثِّلها عصر
هوميروس،
والعصر البطولي تمثِّله مدينة أسبرطة، والمرحلة الثالثة مدينة أثينا، حيث ازدهرت فيها
النزعة
الإنسانية والحياة الديمقراطية. ثم تأتي الحضارة الرومانية، وتتمثل مرحلتها الأولى في
عصر رؤساء
العشائر، وتقديس الآباء، والمرحلة الثانية توجد عندما ينشأ الصراع بين العامة والأمراء،
والمرحلة الثالثة عندما قامت الجمهورية وأعلنت الحقوق الإنسانية العامة. وفي الحضارة
الغربية
الحديثة تتمثل المرحلة الدينية منذ القرن الخامس الميلادي بعد غزو البرابرة الإمبراطورية
الرومانية، ثم تأتي المرحلة الثانية المتمثلة في عصر الإقطاع والفروسية، والمرحلة الثالثة
المتمثلة في عصر النهضة وظهور النزعة الإنسانية، كما يتحدث فيكو عن الشعوب غير الأوروبية
فيرى
أن المرحلة الدينية الأولى قد تمثلت في روسيا؛ نظرًا لإيمانها الشديد، وتسلُّط قياصرتها،
بالإضافة إلى بلادة شعوبها، وكسلها، وتواكلها. ويشاركها بلادُ التتار، والصين، والحبشة،
ومراكش.
وتتمثل المرحلة الثانية مرحلة البطولة عند الشعب الياباني لما عُرف عنه من شِيَم التضحية،
والمرحلة الثالثة ظهرت أخيرًا عند الشعب البولوني، والشعب البريطاني.
٤١
ثم تحولت هذه العقيدة إلى مزيد من التحليل الاجتماعي، ولم تُصبح مجردَ افتراض عقلي،
بل أمكن
التحقق من صدْقها، بتتبُّع تاريخ المجتمعات والأوضاع الاجتماعية المختلفة، كما بدأت نظرية
العناية الإلهية، وفعلها في التاريخ في التواري والاختفاء، وظهر هذا التحول عند مونتسكيو
(١٦٨٩–١٨٥٩م) «في روح القوانين»، وعند فولتير (١٦٩٤–١٧٧٨م) في «محاولة في العادات»، وعند
تورجو
Turgot (١٧٢٧–١٧٨١م) في «خطاب في التاريخ الشامل».
٤٢
لم يكن مونتسكيو في حقيقة الأمر من دعاة فكرة التقدم، ولكنه نشأ في بيئة راجَ فيها
الفكر،
كما تربَّى على جدل بيل الهادم، والقانون الطبيعي المطرد عند الديكارتيِّين، واهتم بمستقبل
الإنسانية اكثر من اهتمامه بماضيها. حاول مدَّ المنهج الديكارتي إلى الوقائع الاجتماعية؛
فالظاهرة الاجتماعية تخضع لقانون كما تخضع له الظاهرة الطبيعية، وقد بيَّن ذلك بالفعل
في كتابه
«اعتبارات حول عظمة الرومان وسقوطهم»
٤٣ سنة ١٧٣٤م عندما رفض أن يكون الحظ والمصادفة
La
Fortune، سببَ حركة التاريخ. فهناك أسباب عامة خلقية وطبيعية، هي التي تحرك
التاريخ. وعندما رفض تصور بوسويه للتاريخ على أنه يتحرك بفعل العناية الإلهية وأغراض
الله؛ إذ
يتحرك التاريخ إذن بعلل فاعلة وليس بعلل غائية، ثم ظهر «روح القوانين» بعد ذلك بأربعة
عشر عامًا
يضع فيها مجموعة من الأفكار بلا ترتيب، ويركز على العلل الخلقية والطبيعية، دون أن يُحصيَها
إحصاء كاملًا، ولكنه يركز على البيئة الطبيعية، وخاصة على الجغرافيا والطقس، وقد أشار
من قبل
بوادن وفونتنل وخوري سان بيير إلى أهمية الطقس في نشأة الحضارات كما أشار إليها أيضًا
L’Abbé Du Bos الخوري دي بوس وكذلك
شاردان
Chardin. ولكن مونتسكيو هو الذي أبرزها فأصبحت البيئة
الجغرافية العامل المؤثر في نشأة المجتمعات الإنسانية وتطورها. هذا بالإضافة إلى عوامل
أخرى،
مثل: الدين، والقوانين، وأوامر الحكومة، والمثل التاريخية، والأخلاق، والعادات، وكل ما
ينتج من
الذهن العام. هناك إذن عاملان: البيئة الجغرافية، والبيئة الاجتماعية، ومن اجتماعهما
تنشأ
الحضارة.
لقد كانت الفكرة السائدة في عصر مونتسكيو أن
L’égislation التشريع له قدرة لا حدود لها لتغيير النظم الاجتماعية، ولتربية
الشعوب، ولكن مونتسكيو قدَّم بديلًا عنها فكرة أخرى، وهي «القوانين العامة»، ولكن هذا
البديل
الجديد لم يُحدث الأثر الكافي كما أحدثتْه الفكرة الأولى عن التشريع؛ لأن مونتسكيو لم
يُعطِها
الصرامة المنطقية اللازمة. هذا بالإضافة إلى أن مونتسكيو قد انتزع القوانين من الأوضاع
الزمنية،
وتحدَّث عنها باعتبارها موجودات مستقلة، ومن ثَم لم يفصل في مراحل تطور الإنسانية؛ لأن
ذلك
يحتاج إلى تاريخ وإلى زمان. أراد مونتسكيو أن يدرس كلَّ القوانين والدساتير في كل الأزمنة
وفي
كل الأمكنة.
٤٤ وفي نفس الوقت الذي كان يكتب فيه مونتسكيو «روح القوانين» كان فولتير يكتب «عصر
لويس الرابع عشر» سنة ١٧٥١م، وأيضًا «محاولة في عادات الشعوب»
٤٥ سنة ١٧٥٦م. فإذا كان مونتسكيو قد أسس العلوم الاجتماعية فإن فولتير هو واضع تاريخ
الحضارة. ففي «عصر لويس الرابع عشر» يذكر فولتير أن هدفه هو بيان ليس أفعال رجل واحد،
بل أفعال
الذهن البشري في أكثر العصور استنارة. والمحور الأساسي يقوم على أن الحروب، والأديان،
كانت
عقبات كبيرة أمام تقدُّمِ الإنسانية، وأنه بإلغائها وبالقضاء على الأحكام السابقة التي
تقومان
عليها، يمكن للإنسانية أن تتقدم بخطًى أسرع. فالتقدم يقوم على العقل الشامل في الإنسان،
بالرغم
مما به من انفعالات تُشعل الحرب ضده، وبالرغم من كل الطغاة الذين يسيلون دمه، وبالرغم
من كل
المحتالين الذين يودُّون القضاء عليه بالخرافة؛ فطبيعة الإنسان تحتوي في داخلها على عوامل
التقدم، بالرغم من تشويه «بسكال» لها بعقيدة الخطيئة الأولى التي تجعل طبيعة الإنسان
شريرة،
وبالتالي يستحيل التقدم؛ فهي عقيدة معارضة للتقدم، في بدايتها الطبيعة الشريرة وفي نهايتها
الخلاص عن طريق الآخر، وليس بقوى الإنسان الطبيعية. إن الحياة الآن في بلد متقدم ومتحضر،
تعادل
الحياة في جنات عدن. كان فولتير يفكر دائمًا ضد بوسويه، الذي حوَّل الخطيئة الأولى إلى
فلسفة في
التاريخ، وحكم على الإنسان بالموت في البداية بفعل الخطيئة، وفي النهاية بفعل الخلاص،
والذي جعل
اليهود مركز العالم فيتحدد كل شعب آخر بصلته باليهود، والذي جعل التاريخ أخيرًا مسيرًا
بالعناية
الإلهية، وغير قادر على التقدم بذاته، أما فولتير فقد أراد تحليل سلطة العلل والمعلولات
في
التاريخ، كما أراد سير أعماق الإنسان وحده، فلا صدفة ولا حظ في التاريخ. ولكن فولتير
ما زال
يريد ضمانًا للمستقبل كي يستمرَّ التقدم دون توقُّف، ودون أن يرجع القهقرَى، فكانت عيناه
على
المستقبل أيضًا، ممهدًا بذلك طريق كوندرسيه. يكفيه أنه هو مبتدع اصطلاح «فلسفة التاريخ».
وقد حاول فولتير أيضًا وضْعَ قانون للتقدم على مرحلتين؛ الأولى عهد الفطرة الخالصة،
Efat de pure Nature عاش فيها الإنسان عاقلًا طبقًا
لقانون الفطرة، يتمتع فيها بنتيجة عمله ويحترم فيها حقوق الآخرين، والثانية عهد المدنية
Etat Policé يعيش فيها الإنسان تحت نظام من صنْعه، يحول فيه
قانون الفطرة إلى نظام اجتماعي، يقوم على الحرية والعدل. قد تحدث انحرافاتٌ في مسار العقل،
وفي
تقدُّم الإنسانية، وعلى رأسها الطبقات الاجتماعية، واستغلال الملكيات الكبيرة، واضطهاد
الأجناس
البشرية، والاضطهاد الديني، ومع ذلك فالإنسانية قادرة على التغلب على هذه الانحرافات،
والاستمرار في تقدمها بفضل المدنية، والنظم الاجتماعية القائمة على الحرية والعدالة،
كما هو
الحال في النظام الإنجليزي، وليس النظام الفرنسي الذي يقوم على الطغيان في الحكم وعلى
التعصب في
الدين؛ فالبروتستانتية لديه تمثِّل تقدمًا أكثر من الكاثوليكية، التي تقوم على التعصب
والتزلُّف
للحكام، وعلى الإباحة والمجون، وعلى الشَّرَه والبِطْنة، فتجعل رجالَها يعيشون بغرائزهم،
وليس
بعقولهم وأرواحهم، تستغلهم السلطة السياسية حتى يُخضعوا لها الشعوب، وليسهل سَوْقها كالأنعام.
أما إذا كان رجال الدين رجال آخرة، لا دينا كانوا قوة في الدولة من أجل الصالح العام
يخشاهم
الحكام. أراد فولتير أن يجعل من قانونه هذا أشبه بقانون الجاذبية لنيوتن، ولكن في العلوم
الاجتماعية، ومع ما به من عموميات، إلا أنه يدل على ثقة فولتير بالتقدم المطلق، وبمستقبل
الإنسانية.
٤٦
وقبل أن ينشر فولتير محاولته بستِّ سنوات نشر مفكرٌ شابٌّ آخر هو تورجو (١٧٢٧–١٧٨١م)
كتابًا
آخر «خطاب في التاريخ الشامل»،
٤٧ وهو في سنِّ الثالثة والعشرين يحتوي على نظرات في التاريخ، وقد كان تورجو
اقتصاديًّا ورجل إدارة، ولكن نظراته في التاريخ كانت أكثرَ ذكرًا من تخصُّصِه الدقيق.
تأثر
«بروح القوانين» لمونتسكيو وأيضًا ببعض كتابات فولتير، وبدأ مثله بمعارضة تصور بوسويه
للتاريخ
وبيان تطور البشرية ومسار تقدمها. وقد يظهر لفظ «العناية الإلهية» في كتاباته مصادفةً،
ولكنها
في الحقيقة لا تحتلُّ أية مكانة في تصوره للتاريخ، وحلَّت محلَّها العللُ التي تحدَّث
عنها
مونتسكيو، بالرغم من نقدِه لعامل الطقس وتأكيده، على أن العوامل الطبيعية تؤثر على نحو
مستتر في
تكوين العادات والأخلاق، في حين أن العوامل النفسية والخلقية لها تأثيرٌ مباشر. يجب إذن
تأسيس
علم تطور المجتمعات على علم النفس، وبالتالي يقترب من لوك الذي تتأسس الفلسفة لديه أيضًا
على
علم النفس. فالعلل العامة الضرورية، والتي يجب أن نسميَها الشروط، والتي تُحدد مسار التاريخ
هي؛
أولًا طبيعة الإنسان وانفعالاته وعقله، وثانيًا البيئة أي الجغرافيا والطقس. ولكن هذه
العوامل
الأساسية تُفعل أيضًا من خلال عوامل أخرى جزئية، مثل: حرية الإرادة، أو حرية أفعال عظماء
الرجال. وللتقدم غايات ثلاث؛ أولًا: التقدم العقلي وهو أساس التقدم في النواحي الأخرى،
وهو ما
ركَّزتْ عليه فلسفاتُ التنوير جميعها في محاربتها لألوان الجهل والتعصب. ثانيًا: التقدم
الاجتماعي خاصة في العادات والتقاليد، واكتساب الإنسان سلوك التحضُّر والمدنية. ثالثًا:
التقدم
في التشريع وإقامة النظم الاجتماعية على العدالة، وعلى الديمقراطية في أساليب الحكم.
ويحدث تطور الإنسانية ككلٍّ ببطء وثبات، ولكن ذلك لا يمنع من سبْق بعض الشعوب للبعض
الآخر،
أو إسراعها في التقدم من البعض نظرًا لاختلاف ظروفها الثانوية، مثل هبات الطبيعة. وليس
العقل
وحده هو رائد التقدم والدافع عليه، بل هناك الانفعال والطموح اللذان يدفعان التقدم أيضًا؛
فالعقل وحده دون الحماس لا يكفي لصنْع التقدم، ولو منع الناس الحروب لعاشوا منعزلين منزوين؛
فاللاعقل واللاعدل محرِّكان للتاريخ كالعقل والعدل، وهو ما سيذكره «هيجل» فيما يتعلق
بالحِيَل،
والمكر، والخداع كمظاهر للعقل في التاريخ، وبالتالي يكون تورجو أقربَ إلى فولتير في تصوُّره
للتاريخ على أنه «حشدٌ من الجريمة، والجنون، والشقاء» من بوب Pope التفاؤل المطلق «كل ما يوجد صواب». لا يتوقف التاريخ أبدًا، حتى في لحظات
الانهيار والسقوط، يحدث تقدمٌ بطيء غير مرئي في بعض نواحي الحياة؛ فالمسيحية في العصر
الوسيط
الذي يؤخذ دائمًا على أنه نموذج الظلام الحضاري، كانت عاملَ تقدم وازدهار، على خلاف فولتير
وجبون Gibbion الذي اعتبر أن انتصار البربرية والدين «كان
كارثةً حلَّت بالعالم».
ويستمر التقدم عند تورجو طبقًا لقانونَي التطور
Evolution
والثورة
Rèvolution. فالثورة من عوامل التقدم، والثورة تشمل
الانفعال والحرب، في حين أن التطور البطيء يقوم على العقل والثبات، والإنسانية لا تهدأ
إلا
لتثور، ولا تثور إلا لتهدأ. فحياة الشعوب في تجاذُب وتدافع «ولولا دفع الله الناس بعضهم
لبعض
لفسدت السموات والأرض».
٤٨ والصراع بين الحاكم والمحكومين جزءٌ من عملية التقدم، وكأن تورجو هنا كان سابقة على
ماركس وشلنج في القرن التاسع عشر. فإذا كانت الثورات والحروب هي عاملَ التقدم في لحظة
التغير
المفاجئ، فإن اللغة والكتابة هي عامل التقدم في مرحلة التطور العاقل البطيء.
والتربية التاريخية للشعوب إحدى وسائل تقدمها؛ فالشعب الذي لا يعي دروس الماضي، ولا
يستفيد
من عبراته لا يتقدم، فاكتساب التجارب والاستفادة منها، يربِّي لدى الشعب وجدانه التاريخي،
الذي
يكون لديه ذخيرة تُرشده في تصوره للحياة، وفي صنْعه للتقدم. وإن الشعب الذي لا تاريخ
له يعيش في
وجدانه، شعبٌ ميت لا يتحرك؛ فالحركة تضمن استمرارًا في الزمان، وتقدمًا من الماضي إلى
الحاضر،
ومن الحاضر إلى المستقبل، وهو ما يذكره الوحي باستمرار في آخر مراحله، عندما يذكر قصص
الأنبياء،
ويعطي حصيلة التجارب السابقة «إن في ذلك لعبرة … لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب»
و«لقد
أنزلنا إليكم آيات بينات ومثلًا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين».
٤٩
وقد حاول تورجو إخضاعَ التقدم لقانون ذي مراحل ثلاث؛ أولًا: المرحلة الدينية، التي
فيها يتم
تفسير الظواهر الطبيعية، باللجوء إلى قوًى خفية تُلقي الرعب في قلوب الناس، وتفرض عليهم
الطاعة
والتقديس. ثانيًا: المرحلة الفلسفية، التي يتم فيها التفسير عن طريق المفاهيم النظرية،
والمقولات الفلسفية، التي حلَّت محلَّ القوى الخفية والتي يتصور المفكرون وجودَها الفعلي.
ثالثًا: المرحلة التجريبية، التي تفسِّر مظاهر الطبيعة بعللها المباشرة من أجل اكتشاف
القوانين
المطَّردة، وهو إرهاص لقانون «كونت» فيما بعد، قانون المراحل الثلاث.
٥٠
ولم يدعُ للتقدم مفكرون فحسب، بل دعَت إليه الجماعات العلمية والفكرية، مما يدل على
أن
التقدم ليس دعوةَ مفكر عبقري، بل هو اتجاه اجتماعي تتمثله الجماعات والهيئات، وتتبنَّاه
الأحزاب، وتقوم له الثورات، فما الثورة الفرنسية في النهاية، إلا التحقيق الفعلي لدعوة
التقدم.
هذه الحركة الفكرية التي مهَّدت الطريق للثورة الفرنسية، كانت إنسانية بمعنى أن الإنسان
هو
محور الاهتمام الأول، ومركز التصورات العامة للحياة. فالإنسان كما يقول ديدرو Diderot هو مركز الكون، وهو الذي يعطي الطبيعة معناها، وبدونه
تُصبح الطبيعة صامتةً ميتة، بكماء صماء. وهو الدرس المستفاد من العصور الحديثة ابتداءً
من
ديكارت والديكارتيين ( الكوجيتو)، حتى كانط والكانطيين (الثورة الكوبرنيقية). وقامت هذه
الحركة
الفكرية على أساس أولوية العقل، واطِّراد قوانين الطبيعة، واستبعاد تدخُّل أيِّ إرادات
خارجية
في مسارها. وتحت تأثير «لوك» والفلسفة الإنجليزية بدأ تفسير الأفكار تفسيرًا حيًّا، وارتبط
العقل في وظائفه بالحس، بالإضافة إلى بعض المقاييس العلمية لإثبات صدْق الأفكار، وعلى
رأسها
التغير الاجتماعي، وما تُحدثه الأفكار من قلبٍ لأوضاع الظلم والطغيان الديني والسياسي.
يظل
العقل قادرًا على القضاء على كل الأحكام المسبقة، وعلى كل مظاهر الجهل والتعصب، ويظل
الإنسان
على ثقة مطلقة بأنه قادر على الوصول إلى الكمال. ومع ذلك ظلَّ مفهومُ التقدم روحًا عامًّا
أكثر
منه مفهومًا دقيقًا، ويعبر عصر التنوير كما تعبر ألفاظ العقل، والطبيعة، والإنسانية،
والتنوير.
ويظهر إنجيل التنوير بالفعل وهو «الإنسيكلوبيديا»
L’Encyclopèdic (١٧٥١–١٧٦٥م) حاملًا لواء التحرر العقلي الذي قاد إلى الثورة
الفرنسية سنة ١٧٨٩م، وتعادل المجلة نصف
الشهرية
Fortnightly Review التي أشرف على نشْرها مورلي
Morely
(١٨٦٨–١٨٨٢م) في القرن التاسع عشر في إنجلترا، وقد أشرف على دائرة المعارف ديدرو
Diderlot (١٧١٣–١٧٨٤م) ودالمبير
D’Alembert (١٧١٧–١٧٨٣م) من أجل تأكيد الارتباط بين العلوم، ووحدة المعرفة من أجل
التقدم العقلي والاجتماعي، ورقيِّ الإنسان وخير البشرية، وقد كانت هي الوريثة «للقاموس
التاريخي
النقدي» لبيل
B. Bayle٥١ (١٦٤٧–١٧٠٦م) الذي قام قبل ذلك بجيلَين بهدم العقائد الموروثة ونقد القديم. استأنفت
«دائرة المعارف» المعركة ضد التسلط والخرافة، على أقلام كُتَّابٍ كانت لهم مُثُلٌ وأهدافٌ
اجتماعية ولم يكونوا شكاكين مثل بيل، وكانوا على ثقة تامة من إمكانية وصول الإنسانية
إلى
الكمال. لم يكن همُّهم هو توسيع المعرفة، بل انتشارها بين الناس من أجل القضاء على الخرافة
والجهل، ومن أجل إعداد الشعوب للثورة على الظلم والطغيان. وكان أهمُّ شخصيَّتَين حول
ديدرو هما
هلفسيوس
Helvệtius (١٧١٥–١٧٧١م) وهولباخ
Hollbach (١٧٣٣–١٧٨٩م). فقد حاول كلاهما إعطاءَ الأساس النظري
للتقدم من أجل تأصيل النظرية التي يقوم عليها، وهي الإمكانية اللامحدودة للطبيعة البشرية
أن
تتغير عن طريق التربية والمؤسسات، ووجدَا في فلسفة لوك الحسية الأساسَ الذي اعتمدَا عليه.
كتب
هلفسيوس «في الذهن»
٥٢ في ١٧٥٨م يبيِّن فيه أن علم الأخلاق مساوٍ لعلم التشريع، وأن كل الناس في مجتمع
منظَّم قادرةٌ على أعلى درجات الرقيِّ العقلي، والتقدم الخلقي. ويرجع اختلاف الناس وتفاوتهم
في
العقل والأخلاق لاختلاف تربيتهم وتفاوت نُظُمِهم الاجتماعية. فليس العبقري هبة الطبيعة
كما يقول
الرومانسيون فيما بعد، بل هو وليد الظروف الاجتماعية، فإذا ما تغيرت التربية، وإذا ما
تغيرت
النظم الاجتماعية تغيَّر السلوك الإنساني، وهي النظرية التي سادت مناهج التربية في ألمانيا
في
القرن الثامن عشر، والتي عبَّر عنها لسنج في «تربية الجنس البشري». لا توجد إذن عوائق
طبيعية
تمنع شعبًا من التقدم؛ فالأخلاقية واحدة بالنسبة لكل سكان المعمورة، ولا يوجد عنصر بعينه
قادر
على التقدم، وعنصر آخر متخلف بطبعه، وقد عبَّر الخوري
رينال
L’Abbe Raynal (١٧١٣–١٧٩٦م) في كتابه «تاريخ الهنديين»
٥٣ في ١٧٧٢م عن هذا الموقف اللاعنصري الذي تأسست عليه حركة المدافعين عن السود وأنصار
تحرير العبيد، بالإضافة إلى ما يحتويه من هجوم على الكنيسة على النظام الكنسي، وهو أيضًا
نفس
موقف جيبون
Gibbon (١٧٣٧–١٧٩٤م)؛ فقد بيَّن رينال شقاءَ السكان
الأصليين في العالم الجديد ومظاهر اضطهاد المبشرين، واستغلال الأوروبيين لهم تحت سمعِ
الكنيسة
وبصرها بل وبتوجيهٍ منها.
أما هولباخ فكان أكثرَ تأليفًا من هلفسيوس، وكانت مؤلفاته أقلَّ أثرًا منه، ومع ذلك
فهو
الأب الروحي للثائرين هبرت
Hébert وشوميت
Chaumetté ألَّف «نظام الطبيعة»
٥٤ في ١٧٧٠م مدافعًا عن نظرية طبيعية خالصة للكون، مع رفض مذهب التأليه السائد آنذاك.
فالعالم قائم بذاته لا يحتاج إلى إله، ويفترض أنه ربما كانت نظرية لوكرسيوس
Lucretius عن التطور، هي التي أدت في النهاية إلى فكرة التقدم، وقد أثار انتباه
العصر نظرًا لردِّه كلَّ مآسيه إلى رجال السياسة ورجال الدين. ولكن عبَّر عن نظراته في
التاريخ
بصورة أوضح في «النظام الاجتماعي».
٥٥ فالإنسان كائن طبيعي، لا بالخيِّر ولا هو بالشرير، ولكنه يمكن أن يكون هذا أو ذاك
بالتربية، وتكوين الرأي العام، والقوانين، والحكومات، والأنظمة السياسية، وغريزة التقليد،
التي
جعلها تارد
Tarde فيما بعد محورَ مذهبه؛ فالتردد إذن نتيجة
للخرافة والتسلط، ويمكن القضاء عليها بعملية طويلة وشاقة من النضال العقلي والعمل السياسي.
وبالرغم من أن هولباخ كان جبريًّا خالصًا ولم يكن يعطي لحرية الإرادة أيَّ مجال في تصوره
للتاريخ، إلا أن اعتزازه بالطبيعة وتأكيده على قوانينها، جعلتْه أكثرَ دعوة لتحرير الإنسان
عقلًا، وإرادة، وحضارة، ونُظُمًا اجتماعية، عن طريق الطبيعة. فقد كان كلُّ دعاة الحتمية
في
الطبيعة؛ مثل: ديكارت، وليبنتز، وسبينوزا من دعاة الحرية في الحياة الإنسانية الفردية
والجماعية. التقدم طبيعي وضروري؛ فهو تعبير عن مسار الطبيعة وحركة التاريخ حتى ولو كان
بطيئًا ثابتًا.
٥٦
ولم تكن التربية وحدها هي صانعة التقدم كما يقرر محررو «دائرة المعارف»، بل نافسها
أيضًا
علم الاقتصاد عند علماء الاقتصاد، أو ما يُطلق عليهم لقب الفزيوقراطيون
Physicocrates. فالاقتصاد هو إحدى معاول تقدُّم البشرية؛ إذ يقوم النظام
الاقتصادي على نظرية في الإنتاج والتوزيع واستثمار الثروات، وبالتالي فلا يمكن إغفال
النظام
السياسي والاجتماعي الذي يقوم بتنظيم الموارد. لا يمكن فصل نظرية الإنتاج والتوزيع عن
النظرية
السياسية؛ فالإنتاج يضع مسائل وظائف الحكومة وحدود التدخل في التجارة والصناعة. ويتضمن
التوزيع
مسائل الملكية، والعدالة، والمساواة، كما يؤدي الغنى والفقر إلى مسائل الأخلاق. وقد بدأت
المدرسة قبل ١٧٦٠م على يد كزني
Quesnay (١٦٩٤–١٧٧٤م)
وميرابو
Mirabau (١٧٥١–١٧٨٩م) ومرسييه دي لارفيير
Mercier de la Rivère٥٧ الذين تناولوا موضوع الاقتصاد من وجهة النظر الفلسفية؛ فالنظرية الاقتصادية تعادل
نظرية في المجتمع الإنساني، وتستنبط من النظام الطبيعي في المجتمعات السياسية. ويؤكد
الاقتصاديون مثل مفكري «دائرة المعارف» أن غاية الإنسان هي تحقيق السعادة، وأن ذلك يتم
عن طريق
النظم السياسية. ويقول مرسييه في مقاله: «من الناحية الإنسانية تتكون أعظم سعادة لنا
في أكبر
قدر ممكن من وفرة الموضوعات الملائمة لمتعتنا، وفي أكبر قدر من الحرية نتمتع بها منها؛
فالحرية
ضرورية لإنتاجها وللتمتع بها. كما يشترط أيضًا تكاثر الأجناس في مقابل تكاثر المنتجات،
حتى
تتكاثر السعادة ويعظم الهناء. والملكية هي شرط التمتع بالإنتاج الحر، والغزو والعدوان
انتهاكًا
لمبدأ الملكية الذي هو أساس السعادة. فغاية الحكومة — إذن — هي الحفاظ على مبدأ الملكية،
وترك
المجال حرًّا أمام النشاط الاقتصادي الحر لاستغلال الثروات الطبيعية للأرض، ويحسن الاقتصاد
كلما
اتَّبعت الصناعة والتجارة ميلَها الطبيعي؛ فالفيزيوقراطية تعني أولوية نظام الطبيعة.
فلو راعى
الحكام حدود وظائفهم، لأدَّى ذلك إلى تحسينٍ للأخلاق؛ فنظام الحكومة العام هو المربي
الحقيقي
للإنسان الخلقي. كان الاقتصاديون محافظين وضعيِّين، وليسوا مثاليِّين ثوريِّين مثل مفكري
«دائرة
المعارف»، وكانوا يختلفون معهم في أنهم لم يؤمنوا بالمؤسسات التي تعبر عن البناء الاجتماعي
والمجتمع الطبيعي، بل تكفي لذلك السلطة السياسية، ونظام الحكومة، بالإضافة إلى أنهم رأوا
وجود
اللامساواة بين الناس، والتفاوت بين الطبقات تعبيرًا عن طبيعة الإنسان والمجتمعات؛ نظرًا
للتفاوت في القدرات الطبيعية. ولكنهم آمنوا بتقدم الإنسانية نحو الرخاء الذي لا يحدث
إلا بتطور
مباشر للعدالة، والحرية، وانتشار المعارف والعلوم، وحرية النشاط الاقتصادي، وعدالة إطلاق
القدرات الطبيعية، وعدم الحد من نشاطها. كانت الحرية السياسية غائبة، وكانت الرقابة على
الحكومة
أيضًا معدومة، بل على العكس لم يعارضوا صنوف الرقابة التي يفرضها الحكام على الشعوب.
لذلك
هاجمهم ماركس فيما بعد باعتبارهم أنبياء الاقتصاد الحر، ودعاة النظام الرأسمالي.»
٥٨
ولكن وسط هذا التفاؤل المطلق بمستقبل الإنسانية ظهر «روسو» (١٧١٢–١٧٧٨م) يبشِّر بقانون
القهقرَى، الذي عبر عنه في ردِّه على السؤال المشهور الذي طرحتْه أكاديمية ديجون
Dijon في سنة ١٧٥٠م «إذا كانت العلوم والفنون قد ساعدت على تهذيب
الأخلاق». فقد كانت الردود كلُّها بالإيجاب، إلا رد «روسو»؛ فقد كان بالنفي، ونال الجائزة.
وعندما طرحت الأكاديمية الموضوع الثاني عن «نشأة اللامساواة بين الناس» أجاب «روسو» أيضًا
في
١٧٥٤م ببحث عن «مقال في اللامساواة» يعبر فيه عن فلسفته في التاريخ. كان روسو من عامة
الشعب،
وأدرك مفاسد الأرستقراطية، وكان جمهوريًّا بطبيعته معاديًا للملكية، فرأى الطبقات الاجتماعية
أكثرية في بؤس وأقلية مترفة، والملكية هي الراعية لهذا النظام فهي أساس الفساد؛ فاللامساواة
بين
الناس سببُ الرذائل عند الطبقات المحرومة، وعند الطبقة المترفة على السواء، وسبب لا أخلاقيات
الفقر، ولا أخلاقيات الغنى، ولا خلاص للبشر إلا بالرجوع إلى عهد الفطرة؛ حيث سادت المساواة،
وحيث عمَّت الأخلاق. وأخيرًا كتب روسو كتابَيه المشهورَين «الأميل» و«العقد الاجتماعي»
٥٩ في ١٧٦٢م يتحدث في الأول عن التربية الطبيعية، وفي الثاني عن تنظيم المجتمع تنظيمًا
جمهوريًّا؛ حتى يمكن للمجتمع أن يحقق التقدم المنشود.
وقد رأى روسو أن التطور حتميٌّ، وأن الإنسانية تتدرج من مرحلة إلى أخرى وتتحول من
الطبيعة
إلى الصنعة، ومن البراءة إلى الخطيئة، ومن الخير إلى الشر؛ فالإنسان مفطور على الخير
بطبعه، ثم
تُحيله المدنية إلى شرير. عندما كان الإنسان بمفرده كان سعيدًا، لا يعرف الخداع، ولا
يخضع
لحكومة، ولا يؤمن بدين؛ فإذا ما تحضَّر ظهرت الملكية، وبان انحرافُ رجال الدين، ومارس
الإنسان
خداع الإنسان بالإيهام والكلام، وقد تحدث «هوبز» (١٦٨٨–١٧٦٩م) أيضًا عن نفس الحالتَين
إلا أنه
جعل الحياة الأولى شقاءً أو بؤسًا، والثانية حياة هناء وسعادة.
ويميز «روسو» عهودًا أربعة توالَت عليها الإنسانية في انتقالها من حالة الفطرة إلى
الحالة
المدنية. أولًا: عهد الفطرة؛ حيث كان الإنسان يعيش على الطبيعة لا يعرف الملكية، ولم
يمارس
الحرب، وكانت رغباته محدودة ويعيش بمفرده. ثانيًا: عهد الملكية، ووضع اليد وبداية انحراف
الإنسان، بتكوين الأسرة، واحتلال الأشياء، وممارسة النزاع، بدأت العواطف الأسرية والاجتماعية
في
الظهور، ونشأت العادات والتقاليد بفعل المناخ والظروف، لتقوم بوظيفة القانون، وبدأت الرذائل
في
الظهور بظهور عواطف الكبرياء والاحتقار، لمن هم دون الإنسان، وظهر الحسد والنقمة، وبدأ
الشرُّ
من بين ثنايا الخير. ثالثًا: عهد استعمال الإنسان للمعادن، وفلاحة الأرض، ووضع الحدود
على
الملكية؛ فالمالك هو السارق الحقيقي؛ لأنه أول مَن وضع يده على أرض مشاع، أما السارق
في القانون
فهو الذي يريد إرجاع الأشياء إلى الطبيعة. المالك هو المنحرف والسارق في نظر القانون
هو الذي
يريد أن يقضيَ على الانحراف. نشأ المجتمع المدني للمحافظة على مكاسب الطبقات، وبالتالي
نشأت
الجرائم والحروب من أجل رفع هذه النظم التي تُقرُّ اللامساواة والظلم. رابعًا: عهد العقد
الاجتماعي، الذي حاول فيه الإنسان علاجَ ما ينتج عن الملكية من أضرار؛ فأنشأ الدولة والقوانين
والحكومة والدساتير من أجل أن يأخذ الفقراء حقوقَهم من الأغنياء، وأن يأخذ الضعفاء حقوقهم
من
الأقوياء؛ فالدساتير جمهورية تقوم على العدالة الاجتماعية، وليست ملكية تقوم على الدفاع
عن
الأرستقراطية ضد غالبية الشعب.
٦٠
وكان «روسو» على علمٍ بمثل هذه المناقشات الدائرة في فرنسا وخارجها؛ فقد كتب مندفيل
Mandville «أسطورة النحل»
٦١ مفسرًا نشأة المدنية برذائل الأشرار، وليس بفضائل الأخيار، كما حاول اللورد
«شافتسبري»
Lord Shaftesbury (١٦٧١–١٧١٣م) إثباتَ طبيعة
الإنسان الخيِّرة، وأن المدنية تعبير عن هذا الخير، فوافق روسو كليهما: خيرية الإنسان
عند
شافتسيري، وخروج المدنية من الرذائل عند مندفيل. وكان هوبز قد تصور من قبل حالة الفطرة
حالة
حرب، كما تصورها «لوك» حالة سلْم، فكان روسو أقرب إلى لوك منه إلى هوبز. كما حاول بيرك
Burke (١٧٢٩–١٧٩٧م) بالرغم من موقفه المعارض لروسو بالنسبة للثورة
الفرنسية في كتابه المبكر «دفاع عن المجتمع الطبيعي»
٦٢ نقل حجج المؤلهة من أمثال بولنجبروك
Bolingbroke
ضد دين المؤسسات والأسرار والطقوس، من أجل إقامة دين طبيعي لنقد المجتمع المصطنع، المجتمع
المدني، وإقامة المجتمع الطبيعي الذي يضعه روسو في حالة الفطرة.
وفي داخل فرنسا حاول مورلي
Morelly ومابلي
Mabely (١٧٠٩–١٧٨٥م)
٦٣ تصور حياة بسيطة وتأسيس جماعات اشتراكية تعيش وفقًا للطبيعة، حيث لا ملكية ولا ظلم
ولا طغيان. ولكن مورلي جعل العالم وسيلة للسعادة والحصول على الكمال. ومع أن ديدرو كان
لا يتذوق
كثيرًا الأفكارَ الطوباوية، إلا أنه كان معجبًا بفكرة الحياة البسيطة، وجعل الحياة الكاملة
وسطًا بين الحياة الفطرية والحياة المتحضرة، ويبدو إعجابه بالحالة الفطرية كما صورها
روسو، وكما
عبَّر عنها ديدرو في كتابه «ملحق لرحلة بوجا نفيل».
٦٤ أما هولباخ فإنه يعترف بأن انتقال الإنسان من الحالة الطبيعية إلى حالة التحضر، هو
ذاته انتقال طبيعي يدل على طبيعة الإنسان ورغبته في التقدم والكمال؛ فالعودة إلى الحالة
الأولى
قضاء على الطبيعة، وقد كان شغل الجميع الشاغل هو كيفية التوفيق بين الثروة والرفاهية
التي تنعم
بها الأقلية المترفة وسط أغلبية فقيرة جائعة وبين التقدم، وكأن فكرة التقدم قد تركت الجماهير
جانبًا، ولم تأخذ في الاعتبار إلا طبقات المجتمع العليا التي تنعم بمظاهر المدنية. لقد
قَبِل
فولتير الثروة بكل نتائجها، ولكن هولباخ رأى فيها سببَ انهيار الشعوب، أما ديدرو وهلفسيوس
فقد
صاغَا حججًا يمكن تأويلها على كلا الجانبَين، وقد شارك هيوم بمقال له في موضوع الثروة
بموضوعية
وحياد.
وقد جاء أكبر ردٍّ على روسو مبرهنًا عليه بالحجج التاريخية لإثبات تقدُّم الإنسان،
وفقر
قانون القهقرى، وبيان أن الإنسان لم يكن في أية لحظة أسعد مما هو عليه الآن، جاء من شيفالييه
دي شاستلوكس
Chevalier de Chastellux مبينًا تقدم الإنسانية،
وإمكانية تربيتها بالمؤسسات، والنظم، والقوانين، وأن التنوير شرطٌ ضروري للسعادة، وأن
الحرب
والخرافة اللذين نشَآ من رجال السياسة ورجال الدين، هما العقبتان الرئيسيتان للتقدم.
وتتمثل
السعادة العامة في السلام الاجتماعي والرفاهية والحرية، حرية التمتع بحياة خاصة في هدوء
وسكينة.
وعلامات ذلك ازدهار الزراعة، وزيادة السكان، وتوسُّع التجارة والصناعة. كما تصور مشروعًا
للسلام، اتحاد للدول الأوروبية في جمهورية فيدرالية، وتمنَّى المساواة في المجتمع، ولكنه
رأى أن
السعادة يمكن تحقيقها لدى كافة الطبقات الاجتماعية في مجتمع يقوم على عدم المساواة؛ كل
طبقة
اجتماعية تعيش في سعادة وهناء، ويظل مقياس التقدم «هو أكبر قدر ممكن من السعادة، لأكبر
عدد ممكن
من الناس».
٦٥
ثم برَّر أخيرًا التقدم، وقد تركَّز محورُه الأساسي على المستقبل، بعد أن كان مركزًا
من قبل
على الماضي في العصر الذهبي، أو في الإنسان الفطري، ثم أصبح مركزًا على الحاضر في عصر
التنوير.
لا يقف التقدم على الماضي أو الحاضر، بل يستمر إلى ما لا نهاية نحو المستقبل وبالتالي
تصبح
فلسفة التاريخ فلسفة مستقبلية هدفها هو استبصار المستقبل، ويكون فيلسوف التاريخ أشبه
بنبيٍّ
يتنبَّأ لقومه بما سيحدث في المستقبل، في صيغة أدبية مرة، ومرة في صيغة فلسفية تاريخية.
فقد كتب
سباستيان مرسييه
Sébastien Mercier (١٧٤٠–١٨٢٤م) في سنة
١٧٧٠م مؤلفه «سنة ٢٤٤٠م»
٦٦ يصف فيه مستقبل العالم وما سيكون عليه في هذا الوقت، وكان قد أُعجب من قبل بروسو
وألَّف كتابه «المتوحش»
٦٧ مبيِّنًا فيه أن مقياس الأخلاقية هو في قلب الإنسان البدائي، وأن أفضل شيء يمكن
عمله هو العودة إلى حياة الغاب. ولكن حدث وهو بصدد كتابة ختام الكتاب أن انقلب موقفُه
رأسًا على
عقب، ومن الماضي السحيق اكتشف المستقبل البعيد، ومن التشاؤم تحول إلى تفاؤل، وتصور مستقبل
العالم بعد سبعمائة سنة من عصر التنوير.
والفكرة الأساسية من ليبنتز وهي أن «الحاضر حامل بالمستقبل»؛ فمستقبل الإنسانية تطور
طبيعي
لحاضرها. ومحورها أن إنسانًا قد وُلد في عصر التنوير وهو الحاضر، ثم غلبه النوم ثم استيقظ
فوجد
نفسه في عام ٢٤٤٠م وكأنه من أهل الكهف. فوجد الأمم تعيش في وحدة واحدة لا حرب بينها،
وتدور معظم
الحوادث في فرنسا وبوجه خاص في باريس، فوجد أن الرق قد أُلغيَ، وأن الصراع بين فرنسا
وإنجلترا
قد انتهى إلى حلْف أبدي، وأن البابا قد اعترف بأخطائه، وتنازل عن عرشه، ورجع إلى حياة
الكنيسة
الأولى، وأن مسرحيات باريس تمثل في الصين، وأُعيد بناء باريس على أساس صحي، وأن حياة
الناس عادت
إلى البساطة، وأن الزواج أصبح اتفاقًا بين شخصَين، وأن نظام المهور والدفع بالتقسيط قد
أُلغيَ،
وأن التربية تقوم على مبادئ روسو. كما تم إلغاء تعليم اللغات القديمة والتاريخ المملوء
بالجرائم
والجنون، وتحولت المسارح إلى مؤسسات حكومية ومدارس للتربية. كما تم إعدام سجلات التاريخ
بالنار؛
نظرًا لأنها تشوِّه حقائق الماضي، ورجال الأدب والفكر لهم مكانة بارزة، ولا توجد رقابة
عليهم
بالرغم من وجود الرقباء، ولا توجد السجون والمعتقلات بل يكفي التحذير والتنبيه. ودين
الدولة هو
التأليه
Deisme، والملحد يأخذ درسًا في علوم الطبيعة. وعلى
كل إنسان أن يعمل، فلا رهبنة هناك، ولكن العمل ليس هو عمل العبيد، بل عمل الأحرار.
٦٨
وتابعه في هذه الرؤية رستيف دي
لابرتون
Restif de la Bretonne (١٧٣٤–١٨٠٦م) الذي نشر في عام ١٧٩٠م روايةً «سنة ٢٠٠٠م»
٦٩ يبشِّر فيها بنبوءته في المستقبل، وهو ما أصبح شائعًا في القرن التاسع عشر فيما
بعد. وكذلك كتب فولني
Volney (١٧٥٧–١٨٢٠م) رواية «الأطلال»
٧٠ ولم تُنشر إلا بعد الثورة الفرنسية، وفيها يتصور البشرية وقد حكمتْها نظمُ الطبيعة
الأبدية وقوانينها، وهي حبُّ الذات، والرغبة في السعادة، وكراهية الألم. الإنسان صاحب
مصيره
وعلى ثقة بقدراته. ولكن هناك عقبتان للتقدم: صعوبة انتقال الأفكار من جيل إلى جيل، وصعوبة
إيصالها من إنسان إلى إنسان، وقد أمكن التغلب عليها بفضل الطباعة، وربما تكون الثورة
في العالم
الجديد والآمال التي أثارتها في وجدان الشعوب من تطلع إلى عالم أفضل هي إحدى أسباب هذه
الرؤى
المستقبلة؛ إذ يتجه النبي ببصره نحو الغرب (لقد دوتْ صيحة الحرية في الشواطئ البعيدة
للأطلسي،
ووصلت القارة القديمة) يحدث على أثرها تغيرٌ في البلاد المتاخمة للبحر الأبيض المتوسط،
فتقلب
العروش، وتدك أصرح الطغيان، ويتم انتخاب ممثلي الشعب ومشرِّعيه وقضاتِه، وتُصاغ القوانين
على
مبادئ الحرية والمساواة والعدالة. ولكن تحدث غزوة من بلد مجاور فيقترح المشرِّعون الدعوة
إلى
جمعية عامة تمثل العالم لمحاكة الغزاة، ولتقييم كلِّ الأنظمة الدينية، وأثناء إقامة المحكمة
ينتهي الكتاب.
٧١
ولكن التعبير عن الرؤية المستقبلية على نحو فلسفي قد تمَّ على أيدي كوندرسيه
Condorcet (١٧٤٣–١٧٩٤م) أحد كبار مفكري الثورة الفرنسية والمعبر
عنها. بدأ كتاباته في الرياضيات التكاملية حتى انتُخب عضوًا في أكاديمية العلوم ثم سكرتيرًا
عامًّا لها. وهناك اتصل بمفكري الثورة الفرنسية وعصر التنوير دالميير، وديدرو، وتورجو،
وفولتير.
فانتقل من الرياضة والعلم إلى الفلسفة والاجتماع، وأراد تطبيق المنهج العلمي على الظواهر
الاجتماعية. وبعد عدة كتابات في المالية والاقتصاد، وبعض الموضوعات الدينية والفلسفية،
كتب
مشروعًا لإصلاح التعليم على أساس ديمقراطي، ومشروعًا آخر لإصلاح الدستور رفضه البرلمان
الفرنسي.
كان كوندرسيه قد انتُخب عضوًا فيه، وأُمر بالقبض عليه مما دعاه إلى الاختفاء عند أحد
الأصدقاء،
وهناك كتب كتابَه المشهور الذي حواه نظراته في فلسفة التاريخ وهو «موجز تاريخي في تقدم
الفكر الإنساني»
٧٢ داعيًا لتحرر الإنسان وكلُّه ثقة وتفاؤل بالمستقبل.
يعتمد كوندرسيه على دالمبير في تأكيده لأهمية منهج العلوم الطبيعية والرياضة، وتطبيقه
في
العلوم الإنسانية، وعلى مونتسيكو لتأكيده على ضرورة إخضاع العلوم الإنسانية إلى قانون
محكم،
وعلى تورجو في تأكيده على أهمية التقدم والرقي الإنساني، وفلسفة التاريخ لديه لا تتحدث
عن
الماضي والحاضر فقط، بل تتنبأ بالمستقبل وتُشير إلى مستقبل الإنسانية اللامحدود، بدأت
الإنسانية
تعيش حياة الفطرة، وكان للإنسان حياة اجتماعية محدودة في نطاق الأسرة، وكانت له لغة ونشأت
لديه
عواطف التضامن الاجتماعي، وبدتْ لديه بعض الصناعات للآلات ثم تقدمت الإنسانية من هذه
الحالة،
وتطورت وتعاقبت على مراحل عشر، تِسْع منها في الماضي، والعاشرة في المستقبل، وهي:
- (١)
تقوم هذه المرحلة على طبيعة الإنسان الجسمية والعقلية والأخلاقية، التي تضطر الإنسان
إلى العيش في جماعة كالأسرة. وفي هذه المرحلة تظهر بعضُ الفنون مثل صناعة الآلات للحرب،
وفن الطبخ، وفن الحصول على المواد الأولية، وفن حفظ المأكولات، وأساس الإنتاج هو الصيد
والقنص. تظهر اللغة والمشاعر المشتركة فتنشأ بعض الوحدات الاجتماعية من أجل الدفاع ضد
عدوٍّ مشترك، وتكون الرئاسة للرجال. كما تظهر بعض أنواع الفنون كالرقص والموسيقى للترفيه.
تتسم المرحلة بالقسوة واستعباد النساء والمعتقدات الخرافية، وظهور طبقة رجال الدين،
وبالتالي ينقسم المجتمع إلى طبقتَين طبقة مسيطرة من رجال الدين، وطبقة مضطهدة من عامة
الشعب، ويعتمد رجال الدين على الشعوذة والسحر والدَّجل لإخضاع الشعب واستغلاله.
- (٢)
مرحلة استئناس الحيوان والاعتماد على الرعي وبدْء الاستقرار. عرف الناس النباتات،
وفنون الزراعة، والفلاحة، وتربية الماشية، وبعض الصناعات الزراعية وبدءوا يلبسون الجلد.
لم تكن المساواة قائمة بين الناس، وكانت الملكية فردية، وظهرت طبقة العبيد كأيدي عاملة،
وظهرت بعض القيم مثل الشجاعة، والضيافة، وحسن معاملة المرأة، كما ظهرت التجارة واتسع
نشاطها. وكان النظام السياسي في يدِ رجلٍ قويٍّ مهمتُه إيجادُ المرعى والحفاظ على
الجماعة، ارتقت المعارف في الفلك لرعاية الماشية ليلًا، كما تقدمت فنون الأغاني والشعر
والدين، وهو فنُّ خداع الناس، ويهدف إلى السيطرة عليهم بوعدهم أو وعيدهم، وتظهر الطقوس
وترسخ المعتقدات، وكل الوسائل التخديرية لتسكين الجماعات.
- (٣)
مرحلة الزراعة الثابتة؛ فبدأت الناس في الاكتفاء الذاتي، وانصرفوا إلى العمل الذهني،
وبدأت قوة الخرافة والسحر في الانحصار. ولكن هذا الرقي قابلَه فسادٌ في الأخلاق نظرًا
لبداية حياة الترف والرفاهية، ولا يجعل كوندرسيه المدنية السببَ المباشر للرذائل، بل
يجعل
ذلك هو المرحلة الطبيعية التي يوجد فيها المجتمع، وهي مرحلة الانتقال التي لم تكتمل بعد.
وهذه المراحل الثلاث هي التي قطعتْها الإنسانية وهي في طور الشرق القديم.
- (٤)
المرحلة اليونانية: وهناك ازدهرت العلوم والفنون، ولكن كان ينقصها النظام الاجتماعي
والسياسي؛ فقد كان نظام اليونان يعترف بالرقِّ. ولكن عيوب اليونان لم تنتج من معارفها؛
لأن معارفها أدَّت إلى تهذيب الأخلاق، بل أتت من بقايا المراحل القديمة، والرق نفسه أعطى
الوقت للأحرار للتفلسف والمعرفة. والتفكير اليوناني مجرد نظري تجريدي تنقصه الوقائع،
وهو
لا يعتمد على التخصيص، بل على المعارف الشاملة. تحرَّر الفكر اليوناني من سلطة رجال
الدين؛ وذلك لأن تقدم التفكير البشري يقاس بمقدار ضَعْف سلطة الدين في المجتمع.
- (٥)
المرحلة الرومانية: وفي هذه المرحلة لم تُبدع الإنسانية كثيرًا، ولكنها تميزت بصفات
عملية ثلاث: أولًا: الحرب والفتح. ثانيًا: التشريع وسَنُّ القوانين. ثالثًا: ضعف الأثر
الديني. ولكن هذه الصفات لم تَدُم؛ نظرًا لظهور المسيحية وقضائها على الروح الرومانية،
وقد انتشرت المسيحية نظرًا لعوامل ثلاثة: أولًا: قيامها على الرق، والاستعباد، والطاعة
المطلقة، والزهد، وهي فضائل كاذبة تقوم على الرياء. ثانيًا: قيام المسيحية كدين سياسي،
هدفه الحكم وليس الدين، ويبغَى الدنيا وليس الآخرة، وتقوم على الطمع وليس على إنكار
الذات، ودخول قسطنطين المسيحية أكبر دليل على ذلك. ثالثًا: نشر الجهل بين الناس حتى يمكن
التأثير على الناس؛ ولهذا كانت المسيحية ضد تعليم الفلسفة والعلم. فالمسيحية عند كوندرسيه
إحدى عوامل التأخر، تجعل الإنسانَ كارهًا لهذا العالم حتى يستغلَّه الآخرون، وتَعِدُ
الإنسانَ بعالم آخر بناء على حرمانه من هذا العالم، وتجعل الكون خاضعًا لمظاهر السحر
والخرافة. ويتهم كوندرسيه رجال الدين بأنهم فسقة Vicioux
ومحتالون Charlatans ومخادعون Fourbes متمشيًا مع التراث العدائي للكاثوليكية عند هولباخ
وفولتير.
- (٦)
المرحلة منذ سقوط روما حتى الحروب الصليبية إلى العصر الوسيط المبكر: حيث عمَّ فساد
رجال الدين، وطغيان الكنيسة، وانتشار الجهل، وسيادة الأطماع والشهوات، وانتشار العنف
والقسوة، وعمَّت الهمجية باسم الدين. أصبح الناس بين نارَين، نار رجال الدين، ونار الملوك
الأباطرة. لقد انحطَّت الأخلاق، وبدَا هذا الانحطاط أولًا في تسخير الدين لغير أغراضه؛
مثل الجشع، وجمع المال، وصكوك الغفران. كما بدَا ثانيًا في سيادة الجهل، في صور قصص،
وخرافات وأساطير. وبدَا ثالثًا في روح التعصب، والتنكيل، وانتهاك الحرمات، وحرق القساوسة
المستنيرين علنًا، ليس معنى ذلك أن الإنسانية قد رجعت إلى الوراء، بل إن تحمُّلَها لكل
مظاهر الظلم والطغيان هذه لهي دليل على التقدم، وتحمُّل العذاب في سبيل خلاص قريب بانتظار
العقل والتسامح.
- (٧)
المرحلة منذ الحروب الصليبية حتى اختراع المطبعة: وهي العصور الوسطى المتأخرة، أو عهد
الإقطاع، وتمتاز هذه المرحلة أولًا: بظهور التفكير الفلسفي من خلال الدين دفاعًا عنه،
ومع
ذلك كان يقوم التقليد والتسليم، كما امتاز ثانيًا: بظهور نظام الاسترقاق الزراعي، أو
نظام
تبعية الفلاح إلى الأرض الذي خفَّف من حدة نظام الرقِّ. وامتاز ثالثًا: باكتشاف البارود.
وتساوى الجميع في فضيلة الشجاعة، بعد أن كانت الفروسية حكرًا على الطبقات الأرستقراطية،
دون عامة الشعب، كما أصبح البارود في أيدي عامة الناس يدافعون به عن أنفسهم ضد أمراء
الإقطاع، ولكن ما زال هذا العهد يسوده استبدادُ الحكام المدنيين، والحكام العسكريين،
والحكام الرومانيين من أجل استغلال الناس لصالحهم.
- (٨)
المرحلة من اختراع الطباعة حتى ظهور ديكارت، ويتميز هذا العهد بأربعة أمور؛ أولًا:
الثورات ضد الكنيسة نظرًا لتعصُّبها وتدخُّلها في السياسة، والسعي وراء الثروة وتناقضها
مع مبادئ الإنجيل. وبالرغم من إرسال الكنيسة الحملات العسكرية لإخماد الثورات، إلا أنها
لم تستطع إخمادَ نور العقل. ثانيًا: اختراع الطباعة، فقد أصبح أكبر دعامة لنشر الأفكار،
وسريانها، وشيوع الأفكار بين الناس، أصبحت الكتب منابر للشعوب، وظهرت الجرائد والمجلات
للتعبير عن الرأي العام. ثالثًا: حركة الإصلاح الديني، أي إصلاح الكنيسة من داخلها ضد
صكوك الغفران، ومظاهر الفساد في الكنيسة، وعلى رأسها استبداد البابا وتواطؤه مع الأباطرة
والملوك على استغلال الشعوب واستعبادها. رفض الإصلاح التوسط بين الإنسان والله، واحتكار
تفسير الكتاب المقدس، كما رفض نظام الرهبنة، وأساليب الشعائر، ومظاهر البذخ والترف،
وقرارات الحرمان. رابعًا: الحرية الفكرية، والجرأة على القديم؛ فقد بدأ الناس في استعمال
النقد، وعدم قبول أيِّ سلطة سوى سلطة العقل، ورفض كل مظاهر التسلط والطغيان.
- (٩)
المرحلة من ديكارت حتى الثورة الفرنسية: وهي القرن الثامن عشر، قرن الثورة والإصلاح
الاجتماعي، وإعلان حقوق الإنسان، وانتصار العقل على الإيمان، والعلم على الخرافة،
والديمقراطية على الديكتاتورية، والجمهورية على الملكية. وأصبح الإنسان مستقلًّا، حرًّا،
عاقلًا، مريدًا. وهو إنسان عصر التنوير قمة ما وصلت إليه الإنسانية من تقدُّم، وظهور
كبار
مفكري الإنسانية الداعين إلى التحرر الفكري، والتقدم الإنساني مثل كولنز Collins (١٦٧٦–١٧٢٩م) في إنجلترا في كتابه المعروف «في
الحرية الفكرية» الذي صدر سنة ١٧١٣م وبولنجبروك Bolingbroke (١٦٧٨–١٧٥١م) الذي هاجم المسيحية. وفي فرنسا ظهر بيل، وفونتيل،
وفولتير، ومونتسكيو، وكان محور تفكيرهم جميعًا العقل والتسامح والإخاء الإنساني. كما
ظهر
العلماء من أمثال «نيوتن» لعلم الطبيعة، و«لوك» لعلم النفس، و«روسو» لعلم الاجتماع. وقد
ذاعت آراؤهم بين الناس، وأصبحت الثقافة عامة، وليست حكرًا على طبقة، وأصبح الإنسان
متمتعًا بحرية التعبير والكتابة والاجتماع، وقامت الدساتير على فكرة الحرية والمساواة،
وعمَّ التسامح الديني، وحصل الشعب على حق الانتخاب، وأخذت المستعمرات استقلالها (الثورة
الأمريكية ضد بريطانيا)، ثم اندلاع الثورة الفرنسية، والقضاء نهائيًّا على النظام الملكي،
ونظام الطبقات، والإقطاع، والكنيسة، والرق، والاضطهاد الديني. وظهرت فكرة التقدم أخيرًا
التي أعطت الإنسانية روحَها، وأطلقت قواها عند تورجو
برستيلي Priestley، وبريس Price.
- (١٠)
مرحلة المستقبل، وقد عرض لها تورجو من قبل، وهي العصر الذهبي للإنسانية، وبالتالي
يصبح الإنسان قادرًا على التنبؤ، ليس فقط في العلوم الطبيعية، بل أيضًا في العلوم
الاجتماعية. وفي هذا العصر تحققت أمورٌ ثلاثة: أولًا المساواة بين الأمم، وزوال الفوارق
بينها، تتساوى فيما بينها في الحقوق والواجبات، وستصل الدول الأوروبية «فرنسا، وإنجلترا،
وأمريكا» إلى الذروة؛ إما بالتطور الهادئ، وإما عن طريق الثورة. وستحقق أيضًا المساواة
بين الشعوب المستعمرة، وإلغاء الرق، وإلغاء الشركات الاستعمارية، وإلغاء الاحتكار، وتحسين
حال الملونين، وسيحدث ذلك نتيجة لتنازع الدول الأوروبية على المستعمرات. ثانيًا: المساواة
في داخل كل أمة؛ وذلك عن طريق إلغاء عدم المساواة في الثروة، التي تنشأ من إصدار قوانين
لصالح طبقة على حساب طبقة أخرى، خاصة بالضرائب، وبالدخل، وبالجمارك، وقوانين الاحتكار،
وإلغاء عدم المساواة بين صاحب العمل والعامل، وإنشاء نظم الادخار والتأمين، وإلغاء عدم
المساواة في التعليم، وعدم وجود طبقة عاملة وأخرى جاهلة. ثالثًا: ارتقاء الإنسان في ذاته،
وتقدم المعارف والاختراعات والآداب، والعلوم الاجتماعية، وتحسين العادات، وارتقاء
التشريع، وإقرار المساواة بين الرجل والمرأة، وانقراض الحروب، وظهور لغة عالمية، وتقدُّم
الصحة، وزيادة متوسط عمر الفرد، وتقدُّم الفرد روحيًّا بازدهار العقل، وكشفه أسرار
الطبيعة، وتهذيب الأخلاق.
وقد حاول كابانيس
Cabanis (١٧٥٧–١٨٠٨م) تحقيقَ خطة
كوندرسيه في الإنسان الطبيعي، من حيث هو مجموعة من وظائف الأعضاء، عن تأثير لوك وكوندياك؛
فدراسة الكائن العضوي هي السبيل للتقدم الخلقي للجنس البشري. ولكنه أيَّد انقلاب ١٨ بريمير
18 Brumaire الذي أتى على أثره نابليون ونظامه الدكتاتوري
ظانًّا أن في ذلك نهاية لعهد الإرهاب. ولكن يظل كوندرسيه هو نيوتن التقدم في عصر التنوير،
والذي
أدى إلى الثورة الفرنسية واشتعل بها، وربما أيضًا راح ضحيتَها بتناوله السمَّ في مخبئه
عندما
سمع أقدام الشرطة، شرطة الإرهاب.
٧٣
كانت فرنسا في القرن الثامن عشر، هي عهد فلسفة التنوير، وبالتالي موطن فكرة التقدم،
ولكن
ساهمت «إنجلترا، وألمانيا، وإيطاليا» أيضًا في التنوير بقدر ملحوظ. كانت إنجلترا أسبق
من فرنسا
في القضاء على نظام الفرد المطلق، وإقامة المؤسسات، وتكوين الدساتير؛ ولذلك لم يظهر مفهوم
التقدم على نحوٍ انفعالي كما ظهر في فرنسا، ولم تكن له هذه الهالة من الضوء كما كانت
له في
فرنسا. كان تصور الإنجليز لوظيفة الحكومة منذ لوك تصورًا سلبيًّا، أي المحافظة على النظام
القائم والدفاع عن الملكية، وليس في المساهمة في تقدُّم المجتمع، بل تهيئة الظروف بحيث
يستطيع
كلُّ فرد تحقيق أغراضه. ومع ذلك فقد حاول شافتسبري المؤله الحديث عن تقدم الإنسان والمجتمع،
وأطلق شعاره الذي صاغه بوب
Pope في العبارة المشهورة
«ما يوجد هو الصواب»
What is, is right (١٦٧٨–١٧٤٤م)،
وتَبِعه هنشسون
Hutcheson في ذلك في جوٍّ من التفاؤل العام.
ولم يظهر التقدم نقيضًا للعناية الإلهية، بل كان إحدى المفاهيم التي اعتمد عليها اللاهوت
المسيحي، لأخذ دفعة جديدة على يد اللاهوتي الإسكتلندي تورنبول
Turnbull.
٧٤
لم يتحرك هيوم
Hume (١٧١١–١٧٧٦م) لفكرة التقدم اللامحدود
للمدنية؛ فالعالم فانٍ، وبالتالي فهو يعيش في الزمان وله طفولته وصباه وشبابه، ثم شيخوخته.
والإنسان يساهم في هذا التطور مع العالم ويخضع له. ولكن من الصعب معرفة متى تنتهي فترة،
ومتى
تبدأ أخرى. ولكن يبدو أن قدرات الإنسان الجسمية والعقلية، ظلت كما هي دون تغيير. أما
التغيير
فقد حدث بين الشعوب على اختلاف درجاتها من الحضارة.
٧٥ وبالتالي فنحن لسنا على ثقة من أن الإنسان الحالي في تقدُّم وازدهار، أم في تدهور
وانهيار. ومع ذلك فمما لا شك فيه أن المدنية الحديثة أكثر تفوقًا من المدنية القديمة.
فهناك
تقدُّم في الفن، والصناعة، وفي الحرية والأمان، ولكن من الصعب الحكم على التاريخ كله
بوجه عام
والحديث عن تقدم الإنسانية.
وقد عالج آدم سميث
Adam Smith (١٧٢٣–١٧٩٠م) في «ثورة الأمم»
٧٦ موضوع تقسيم العمل وآثاره الاجتماعية، وموضوع التطور الاجتماعي بوجه عام، وهو ليس
مؤلفًا في الاقتصاد فحسب، بل يحتوي على تاريخ التقدم الاقتصادي التدريجي للمجتمع الإنساني،
بناء
على الوفرة والسعادة كقيمة للإنسان. ويتأتى ذلك بالتجارة الحرة، والتبادل التجاري بين
شعوب
العالم، دون تدخُّل من الحكومات تأكيدًا للتضامن الاقتصادي بين الشعوب كمثال على التقدم.
وقد تناول كتَّاب آخرون مفهوم التقدم مثل فرجسون
Fergusen
(١٧٢٣–١٨٥٦م) الذي تأثَّر به لسنج، ودونبار
Dunbar،
وبرستلي
Priestley (١٧٣٣–١٨١٤م) وهو أشهرهم، وأكثرهم حماسًا
لفكرة التقدم؛ فقد رفض فكرة العصر المظلم في كتابه «محاضرات في التاريخ»،
٧٧ وفي كتباه «انهيار وسقوط الإمبراطورية الرومانية»
٧٨ عن تقدُّم الإنسانية المستمر، وأنها لن تعود إلى عصور الظلام كما حدث من
قبل.
ومع ذلك تظل فكرة التقدم من الأفكار الممهدة للثورة
الفرنسية والمحققة لها، وبالرغم من إشعاعها خارج فرنسا؛ وذلك لأن الأفكار التي ظهرت في
ألمانيا
حول التقدم، هي أيضًا من آثار الأفكار في فرنسا، دون أن نجدَ فكرًا ألمانيًّا أصيلًا
في موضوع
التقدم بما في ذلك كانط نفسه. فقد حوى مذهب ليبنتز (١٦٤٦–١٧١٦م) وتفاؤله الكوني، على
نظرية في
التقدم الإنساني، ولكنها توقَّفت على أيدي فولف
Wolff
(١٦٦٩–١٧٥٤م)، وتحجَّرت وضاعت ديناميَّتُها، وذلك بعد إثبات أن الأخلاقية في الكون قدرٌ
ثابت لا
يتغير، نظرًا لتغليب الأنطولوجيا على الأخلاق. لذلك يرى مندلسون
Mendelssohn (١٧٢٩–١٧٨٦م)، مروجًا لآراء فولف، أن التقدم للفرد وحده، أما تقدم
الإنسانية ككل فليست فرضًا للعناية الإلهية.
٧٩
ثم يُبرز هردر (١٧٤٤–١٨٠٣م)، وكانط (١٧٢٤–١٨٠٤م) نمطَين مستقلَّين، ووضعَا فلسفة التاريخ
في
ألمانيا مع لسنج.
فبالرغم من أن هردر كان تلميذًا لكانط، إلا أنه كان على النقيض منه؛ فقد أنكر الأفكار
الفطرية، وقال بالاكتساب، كما جعل وظيفة العقل أقربَ إلى استقراء الطبيعة منها إلى استنباط
التصورات المنطقية، أو المفاهيم الرياضية، وجعل حقائق التاريخ مستقلة عن الإرادة الخيِّرة؛
لأنها وقائع حتمية، تدخل ضمن تاريخ الطبيعة العام وتخضع لقانونها؛ فالتاريخ فلسفة طبيعية
إنسانية، يتناول الإنسانية كلها في تطورها الشامل، بما فيها الدين والأدب والأساطير والفلسفة
والعلم، وقد يكون هو أول المفكرين الألمان الذي ظهرت لديه النعرة القومية، وذلك جعل الحضارة
الألمانية نهاية تطور الإنسانية، مما دفع بعض المفكرين من بعده إلى السير في هذا التيار،
مثل
بول دي لاجارد Paul de la Garde، وشمبرلان Chamberlain (١٨٢٦–١٩١٤م)، وشبنجلر Spengler (١٨٨٠–١٩٣٦م)، وروزنبرج Rosenberg؛ إذ
اقتصر فلاسفة التاريخ في فرنسا وإنجلترا على جعل فلسفة التنوير هي نهاية التطور دون ربطِها
بفرنسا أو بإنجلترا بالضرورة.
كتب هردر كتابَين في فلسفة التاريخ الأول «فلسفة أخرى للتاريخ»
٨٠ في صيف ١٧٧٣م، وظهر في ١٧٧٤م، والثاني «آراء في فلسفة تاريخ الجنس البشري»
٨١ الذي ظهر في ١٧٩١م. والأول أهم من الثاني؛ ففيه العرض النظري كتبه هردر مرة واحدة،
في حين أن الثاني مملوء بالوقائع والتواريخ، اعتمد هردر فيه على الوثائق والمراجع، فطغت
الوقائع
على الأفكار. تأثَّر بمونتسكيو كثيرًا، ولكنه افترق عنه ورفض الأفكار الثلاث الرئيسية
التي بنى
عليها مونتسكيو تصورَه للتاريخ، وهي فكرة الخوف، وفكرة الشرف، وفكرة الفضيلة، فهي في
رأي هردر
أفكار ليست صحيحة في كل عصر، وإن التاريخ السياسي أكثر تعقيدًا من ردِّه إلى أفكار ثلاث،
كما أن
تاريخ البشر لا ينفصل عن تاريخ الطبيعة بما فيها من نبات وحيوان. فالتاريخ جزء من العالم
الطبيعي ومن ثَم فهو في حاجة إلى نيوتن جديد يضع العالم الإنساني مع العالم الطبيعي،
ثم يكتشف
قانونَ تطوره وحركته كما اكتشف نيوتن قانون الجاذبية، أما ردُّ التاريخ إلى النظم السياسية،
وعلاقة الحكام بالمحكومين، والصراع بين الطبقات، والثورة على الاستبداد، فهذا لا يكفي
لإعطاء
تصورٍ عام للتاريخ.
والتاريخ كله يخضع لقانون واحد شامل، يأخذ في اعتباره
تطور الشعوب كلها، وليس تطور شعب بعينه. وهو قانون يعبر عن أدوار البشرية في تطورها.
فالبشرية
لها أعمار مثل الإنسان، ولها دورة حيوية مثل الكائن الحي. ويقوم هذا القانون على ثلاثة
أفكار
رئيسية: التواصل والاستمرارية Continuito، والغائية Finalité، والعود
الأبدي Le Retour Eternel، وهي أفكار استقاها من ليبنتز في تصوره للكون. وتصور لنا حياة الإنسانية
مثل حياة الشجرة، فهي تنبت ثم يشتد ساقُها ثم تزدهر وتخبو، ثم تبدأ الدورة من جديد بتساقط
البذور، وكذلك الفرد فإنه يمر بأربعة أطوار: الطفولة Enfance،
والشباب Adolescene، والرجولة Muturit والشيخوخة Vieillesse. وعندما تعود
الدورة من جديد تبدأ من حيث بدأت أولًا، بل تبدأ من نقطة أبعد، وبالتالي يكون التقدم
سائرًا في
خطٍّ لولبي، أي أنه يجمع بين الدائرة والمستقيم؛ فالدائرة ليست متطابقة ولكنَّ كلًّا
منها
يمثِّل تقدُّمًا عن الدائرة الأخرى، فالدوائر ذات مراكز متقدمة عن بعضها وليست ذات مركز
واحد،
لذلك جمع هردر بين التشاؤم والتفاؤل؛ تشاؤم لأن التاريخ يضمحل، وتفاؤل لأنه يبدأ من جديد
من
نقطة متقدمة، وليست من نفس النقطة. ومراحل الطفولة والشيخوخة أقل أهمية من مراحل الشباب
والرجولة؛ فمن الطبيعي أن يكون الإنسان طفلًا وشيخًا ولكنَّ خُلقه وإبداعه مرتبطٌ بالشباب
والرجولة، والطفولة تُبشر بالشباب، والشيخوخة تُبشر بميلاد جديد. التقدم هو غاية الإنسانية
حتى
في لحظات الدورة التي تبدو فيها الإنسانية متوقفة، أو أقل تقدمًا، وكل شعب له دورته،
ومجموع
الدورات يمثل تاريخ الإنسانية العام؛ ولذلك فكل الشعوب لها دور في صنْع التقدم، والتقدم
ليس
حكرًا على شعب عبقري دون غيره. وهناك تقدم للبشرية جمعاء من حصيلة تقدم الشعوب، وهناك
تقدم كل
شعب بعينه، وتقدُّمُ كلِّ شعب مرهونٌ بعاملَين: البيئة والجنس. وقد ساعدت البيئة الزراعية
على
التقدم نظرًا لما تتمتع مجتمعاتها من استقرار وثبات. أما الجنس فهو مجموعة من الصفات
الوراثية،
وهنا يبدو التصور العِرقي لهردر الذي يجعل التقدم في إحدى عوامله مرهونًا بصفات طبيعية
لشعب
معين، فإذا ما أدى شعبٌ دورته في التاريخ فإنه لن يكون له دورٌ آخر؛ فمصر أدَّت دورتها
قديمًا،
وبلاد الشرق كلها، الهند والصين وفارس، أدَّى كلٌّ منها دورًا، ولم يبقَ إلا الدول الأوروبية
كلٌّ يؤدي دورَه. لو عاش هردر الآن لرأى نهضة مصر ونهضة الشرق من جديد، ولرأى أن كل شعب
له أكثر
من دورة في التاريخ، وأن الدول الأوروبية قد قامت بدورها في دوراتها، وأن شعوب الشرق
أو الشرق؛
الشرق القديم تُعيد دورتها.
وتطبيقًا لهذا القانون بمراحله الأربعة: الطفولة، والشباب، والرجولة، والشيخوخة، يرى
هردر
الشعوب الشرقية القديمة، باستثناء مصر والصين تمثل مرحلة الطفولة، وقد كانت الإنسانية
فيها تعيش
على الرعي، ولا تعرف معنى العدالة والنظام، وتسود حياتها الاضطرابات، والخوف، والاستبداد،
وكانت
العقلية خرافية دينية. أما مصر والصين فتمثل دور الشباب حيث كانت الإنسانية أكبر استقرارًا
ورخاء؛ فالأمن مستتب والناس تعيش في قرًى، وتخضع لقوانين، وكان الدين من وضع الإنسان
يؤمن به
طوعًا لا كراهية. ومع مصر والصين يضع هردر فينيقيا، أما عهد الرجولة فتمثَّل عند اليونان
في
حضارة الفكر والنظر، في حين كانت الحضارة الشرقية حضارة عمل وتنظيم. ويتمثل التقدم عند
اليونان
في ثلاثة عناصر: الحياة، والإيحاء، والحركة، كما وضحت في الفن. فالفن اليوناني يمثل الحياة
في
مقابل الفن المصري الذي يمثل الموت. كما أن الفن اليوناني يوحي بالمُثُل العليا، في حين
أن الفن
المصري يمثل الهيبة والروعة، والفن اليوناني يمثِّل الحركة والتطور في مقابل الفن المصري
الثابت. وأخيرًا يأتي العهد الرابع عهد الشيخوخة الذي يتمثل في الحضارة الرومانية، حضارة
التقليد، وعدم الأصالة والابتكار؛ فقد عبد الرومان القوة لا الحكمة، واللهو واللذات،
وليس
المثل، وظهرت لديهم مظاهر الترف وليس التقشف، واهتموا بالكماليات دون الضروريات فسقطت
الإمبراطورية الرومانية، وانهارت وانتهت إحدى دورات التقدم في تاريخ الإنسانية. وهنا
نجد أن
هردر يضع الحضارتَين اليونانية والرومانية، مع حضارة الشرق القديم، وليس مع الحضارة
الغربية.
ثم تبدأ دورة ثانية تدور في أوروبا الغربية. يمثل
العهد الأول فيها عهد الطفولة وهو الشعب الألماني، في مرحلة الغزوات البربرية التي قضت
على
الإمبراطورية الرومانية، وظهرت فضائل المحبة والقوة والشجاعة والخشونة نظرًا للجو البارد،
وما
يتطلب من مظاهر الحياة الخشنة. ثم يبدأ العهد الثاني عهد الشباب في العصور الوسطى، عصر
الإقطاع
الزراعي والحروب، بعد دخول قبائل الغزاة الدين المسيحي، فطبعوه بطابعهم؛ فالصليب أخذ
شكْلَ
السيف، وقطاع الكنيسة مشابه للإقطاع الزراعي، وعبيد الكنيسة مثل عبيد أمراء الإقطاع،
وتسلط
الكنيسة مثل تسلط الأباطرة، وحرب الكنيسة مثل حروب الدول، والشعب الألماني محور هذه الدورة
الذي
أعطى شكله الشمالي للمسيحية، وجمع بين البربرية البدائية، والقوة الألمانية والفصائل
المسيحية.
ثم يأتي العهد الثالث عهد الرجولة، وهو الإصلاح الديني حيث ازدهرت الفنون والآداب، وانفصلت
الكنيسة عن الدولة، وقام الفلاحون بحروبهم ضد أمراء الإقطاع، ولولا لوثر لما كان ديكارت،
وليبنتز، وبيكون؛ فلوثر هو باعث الروح الحديثة، ومؤسس الحضارة الجديدة، حضارة التحرر،
والنهضة،
والإصلاح. وأخيرًا يأتي العهد الرابع عهد الشيخوخة في القرن الثامن عشر؛ فقد تفككت فيه
روحُ
الشعب، خاصة في فرنسا وسارت المادية «الفلسفة الإنجليزية»، وزاد الاعتماد على الآلة،
وانحسرت
الفضائل والقيم، وظهر الاستعمار ورق الشعوب، وانتشرت مبادئ الغنى، والوفرة، والثروة،
وجمع
المال، وقد اهتمت بعض الجماعات الدينية في ذلك، مثل الجزويت (وقد هاجمهم بسكال، وفولتير
من
قبل)؛ فهردر يرى القرن الثامن عشر عهدَ أفول وانحسار، على غير ما يراه فلاسفة التنوير
الذي
اعتبروه عهد نهضة، بلغ فيه التقدم الذروة، ولكن لم يبيِّن هردر الدورة الثالثة، ومن أين
تبدأ
لأنه لم يَعِش تطورَ الغرب خلال القرن التاسع عشر، والعشرين، ولم يرَ نهضة شعوب الشرق،
وحركات
التحرير في العالم الثالث حتى يأخذها في الاعتبار.
هذا التطور كلُّه هو ظهور العناية الإلهية في التاريخ؛ فقد وحَّد هردر بين العناية
الإلهية
والتقدم في التاريخ؛ فالله يرعى العالم تعني أن التاريخ يتقدم، والعناية الإلهية لا تعني
هنا
صفة أبدية، ثابتة لا تتحرك، ساكنة ولا تفعل، خارج العالم وليست داخله، بل تعني تطور التاريخ
وتقدُّم الإنسانية، حركة داخل العالم وليست خارجه. فما سمَّاه علماء اللاهوت العناية
الإلهية،
وجعلوها صفة الله هو في الحقيقة تطور التاريخ وتقدُّم البشرية؛ فالله لا يتدخل في مسار
التاريخ،
بل التاريخ يسير وفقًا لقانون حتمي مثل الطبيعة، وهو جزء من الطبيعة، ولكن الله يظهر
في التاريخ
كغاية. تصور هردر العناية الإلهية ضد الشكاك في تقدم البشرية، مبينًا إحدى القيم الشاملة
المسيحية، تصور الدورات ضد الاعتقاد بالتقدم الذي يقوم على الغرور، وضد السقوط القدري
لكل
حضارة، والانهيار المصيري لكل شعب، وتصور التقدم العام ضد الكلاسيكيين وضد المعجبين بفرنسا،
الذين تصوروا أن فرنسا هي نهاية المطاف، وأن الثورة الفرنسية هي خاتمة التقدم.
٨٢
أما كانط فقد تناول التاريخ أيضًا بالبحث والتحليل. فليس صحيحًا أن التاريخ هو ابن
القرن
التاسع عشر، وأن كانط لم يعرف العقل التاريخي كما عرف العقل النظري والعقل العملي. وذلك
لأن
كانط في «نقد العقل الخالص» تحدَّث في تسعة أعشار الكتاب عن عناصر العقل الخالص، ولكنه
جاء في
العشر الأخير وتحدَّث عن تاريخ العقل الخالص في العصور الحديثة، كما أن له مقالات عدة
عن
التاريخ، والجنس البشري، والتنوير، توحي بأن موضوع التاريخ كان مثارًا لاهتماماته.
٨٣
ويلخص كانط فلسفتَه في التاريخ في صورة تسع نقاط عرضها في مقاله «فكرة تاريخ شامل
من وجهة
نظر كونية سياسية» في ١٧٨٤م، وهي:
- (١)
أن كلَّ الاستعدادات الطبيعية للمخلوق تتحدد بحيث تتطور يومًا ما، على نحو كامل طبقًا
لغاية. وهنا يبيِّن كانط أن التاريخ يتحرك وفقًا للعلل الغائية وليس وفقًا للعلل الفاعلة؛
فالغائية حالة من الطبيعة، وهو ما عرض له من قبل في «نقد ملكة الحكم»، الغائية هي حلقة
الوصل بين المعرفة موضوع «نقد العقل الخالص»، والأخلاق موضوع «نقد العقل العملي»؛ فالحكم
الجمالي والحكم الغائي من نفس نوع الحكم التاريخي؛ فالغائية في الطبيعة، والفن، والتاريخ،
هي نفس الغائية.
- (٢)
أن الاستعدادات الطبيعية عند الإنسان باعتباره المخلوق الوحيد العاقل على الأرض،
والتي تؤهله لاستعمال عقله لم تحصل على تطورها الكلي في الفرد، بل في النوع وحده. فالتقدم
عند كانط ليس تقدمًا في الفرد، بل تقدُّمًا في الإنسانية من حيث هي كل شامل. فالفرد ميدان
حرية الإرادة، ولكن النوع ميدان قوانين الطبيعة الثابتة، وتطورها طبقًا للميول
والاستعدادات الطبيعية.
- (٣)
لقد أرادت الطبيعة أن يستمدَّ الإنسان كلية من ذاته كل ما يتجاوز التدبير الآلي
لوجوده الحيواني، وألا تشركَه في أية سعادة أو كمال إلا ما يحصل عليه بنفسه، بعقله الخاص،
مستقلًّا عن الغريزة. فالإنسان يتمتع بإرادة حرة، وهبتْها له الطبيعة حتى ينال بها كماله؛
فالتاريخ لا ينفصل عن كمال الإنسان، والسياسة ما هي إلا تطبيق للأخلاق.
- (٤)
أن الوسيلة التي تستعملها الطبيعة، من أجل تطور استعدادات الإنسان كلها على نحو كامل،
هو تعارضها داخل المجتمع بالرغم من أن هذا التعارض هو في نهاية الأمر السبب في التنظيم
الطبيعي لهذا المجتمع. فتعارض الاستعدادات مثل الغرائز، والميول، والعواطف، والانفعالات،
هي السبب في تنظيم المجتمع وإقامته على أسس عقلية شاملة.
- (٥)
إن المشكلة الإنسانية للجنس البشري التي تفرضها الطبيعة على الإنسان كي يحلَّها، هي
تحقيق مجتمع مدني يقوم على قانون شامل؛ فالغاية من التقدم هو تأسيس المجتمع المدني، وأن
يعيش الإنسان مع غيره تحت قانون، وفي نظام يقوم على العدالة.
- (٦)
وهذه هي أصعب مشكلة، وهي أيضًا المشكلة التي سجلها الجنس البشري في نهاية الأمر، ومن
ثَم ينتقل كانط من الفرد إلى الجماعة، ومن الأخلاق إلى السياسة، مطبقًا التنوير العقلي
على التنوير الاجتماعي.
- (٧)
إن مشكلة إقامة دستور مدني كامل ترتبط بمشكلة إقامة علاقات طبيعية بين الدول، ولا
يمكن حلُّها حلًّا منفصلًا عن المشكلة الثانية، وهنا ينتقل كانط من الاجتماع والسياسة
إلى
القانون، ومن المجتمع المدني إلى العلاقات الدولية؛ فالدستور الكامل هو الذي ينظم المجتمع
الشامل، وهذا هو معنى التاريخ الكوني السياسي الشامل من أجل حلِّ قضية «الحرب
والسلام».
- (٨)
يمكننا أن نتصور تاريخ الجنس البشري بوجه عام، باعتباره تحقيقًا لخطة مستترة للطبيعة،
من أجل إقامة دستور سياسي كامل في الداخل، ومن أجل تحقيق هذه الغاية، يكون أيضًا كاملًا
في الخارج. وهذه هي الحالة الوحيدة التي تستطيع فيها الطبيعة أن تطور على نحو كامل كل
الاستعدادات التي وضعتها في الإنسانية، فالطبيعة تهدف إلى إقامة نظام إنساني شامل.
- (٩)
إن أية محاولة فلسفية من أجل إقامة التاريخ الشامل، وعلاقته بخطة الطبيعة التي ترمي
إلى التوحيد السياسي الشامل لكل الجنس البشري، يجب اعتبارها ممكنة، بل ومفيدة لقصد
الطبيعة هذا، وقد حاول كانط ذلك بالفعل في «مشروع السلام الدائم»، الذي يضع فيه نظامًا
اتحاديًّا لكل الدول التي قامت نظمها أولًا على الدستور، ويكون هو الجمهورية الشاملة.
٨٤
ويرى كانط أن السبيل إلى تحقيق ذلك هو التربية، وهو العنصر الثاني في فلسفته في التاريخ؛
فقد أعطى كانط محاضرات في التربية ضمَّنها خلاصةَ تصورِه لتحقيق التقدم في الفرد والجماعة؛
فالتربية لا تتحقق إلا للإنسان والحياة الإنسانية. ولما كان الإنسان متطورًا فإن لكل
مرحلة من
مراحل تطوره أسلوبًا في التربية. ويقسِّم كانط عمر الإنسان إلى ثلاث مراحل؛ أولًا: الطفل
الرضيع، والتربية تعني هنا إشباع حاجاته الأولية من غذاء وتكفله بالرعاية. ثانيًا: التلميذ،
والتربية له تعني النظام والتكوين. ثالثًا: الطالب الذي تعني التربية بالنسبة له التعليم
والثقافة. والتربية عند كانط لها غرضان؛ الأول: سلبي وهو منع الأضرار، والثاني: إيجابي
وهو جلب
المنافع؛ فالتربية تهدف إلى تحقيق المنفعة، وبالتالي فهي ليست كالأخلاق. ومع ذلك تهدف
التربية
إلى تحقيق المنفعة عن طريق الأخلاق والدين. فلا يجب تعليم الأطفال وهم في مرحلة الطفولة،
كره
الرذيلة خوفًا من العقاب، وحب الفضيلة طمعًا في الثواب، بل لأن الرذيلة مكروهة في ذاتها،
وأن
الفضيلة محبوبة في ذاتها، وإلا ظن الأطفال أنه بإمكانهم فعل الشر ما لم يحرمه الله، وعدم
فعل
الخير ما لم يأمر به الله، يريد كانط تربية الأطفال على المبادئ الاعتزالية من أجل خلق
الإنسان
المستنير. وما يريد لسنج إعطاءَه للإنسان وهو في مرحلة النضج، يريد كانط إعطاءَه له وهو
في
مرحلة الطفولة دون انتظار، فلا خوف من عقاب، ولا طمع في ثواب، إلا في حياة «الضمير».
فالتربية
الدينية لا تقوم على مبادئ اللاهوت، بل على الأخلاق الطبيعية كما لا يجب تدنيس اسم الله
وذكره
باستمرار، حتى في الترانيم؛ «فالترانيم أفيون الشعوب»، الدين واحد وهو دين العقل ودين
الطبيعة.
وأثناء تربية الطفل يمكن الاهتداء بقواعد ثلاث؛ أولًا: يجب ترك الطفل حرًّا منذ طفولته،
بشرط ألا تتعارض حريتُه مع حرية الآخرين. ثانيًا: يجب أن يعلم أنه لا يمكن تحقيق غاياته
إلا إذا
ترك الآخرين يحققون غاياتهم. ثالثًا: يجب أن يعلم أننا نمارس الضغط عليه من أجل أن يتعلم
كيف
يمارس حريته، وأنه يتربَّى كي يصبحَ في يوم ما حرًّا.
فالتربية تهدف إلى إحساس الإنسان بالواجب. والواجب إما نحو الفرد أو نحو الآخرين،
وحقوق
الآخر هي عين الله على الأرض. فالتربية تهدف إما لذواتنا، وإما للآخرين الذين نشأنا معهم،
وإما
للخير العام والشامل للجميع الذي يرعاه الله.
وتتحقق التربية وتشمل التربية البدنية، والتربية العقلية، والتربية الخلقية؛ فالتربية
البدنية تتم بالتمرينات وتدريب الجسم وتقويته، والتربية العقلية تتم بالثقافة المدرسية
التي
تشمل بعض المهارات وتعليمها، أما التربية الأخلاقية فتتم بتعليم الفضيلة وعلى رأسها الطاعة،
والصدق، والتضامن الاجتماعي.
٨٥
إن هدف التاريخ والتربية معًا هو تحقيق التنوير، ويحدد كانط معنى التنوير في مقاله
المشهور
«جواب على سؤال: ما التنوير؟» الذي نشره في ديسمبر ١٧٨٤م، والذي انتهى من كتابته في كونجزبرج
في
٣٠ سبتمبر ١٧٨٤م. ويقول في مقدمته: «ما الأنوار؟ إنها خروج الإنسان من حالة كونه قاصرًا
وهو
المسئول عنها، وتعني هذه الحالة أنه عاجز عن استعمال ذهنه دون الاستعانة بالآخرين، وهو
المسئول
عنها؛ لأن سببها ليس في الذهن، بل في نقص في أخذ القرار، ونقص في الشجاعة على أن يسلك
الإنسان
دون استعانة بالآخرين! Sapere Aude فكُن شجاعًا واستعمل ذهنك،
هذا هو رصيد التنوير.»
فبعد أن حررت الطبيعة الإنسان، جاء الكسل والجبن،
وأرجعَا الإنسان إلى حالة القاصرين من جديد فيحتاج إلى وصيٍّ. الكتاب يعمل بدل الذهن،
والمرشد
بدل الضمير، والطبيب بدل العناية، ما دامت أدفع للجميع، يقوم الجميع بأعبائي بدلًا عني،
فإذا ما
تجرَّأ الإنسان على رفْع الوصايا عن أكتافه، حذَّره الناس من الوقوع وهو لم يتعود بعدُ
على
المشي، ولكن المشي يحتاج إلى أن يخطوَ الإنسان، وأن يتعثر حتى يصبح قادرًا على السير
في
النهاية، والتنوير إذن هو رفعُ جميع الوصايا على الإنسان ذكرًا أم أنثى، ورفض جميع صور
التوجيه
والإرشاد عنه، وهي عملية شاقة؛ فالإنسان بثقله يودُّ أن ينعمَ في حظوة الآخرين وتحت غطائهم.
وما
يحدث للفرد يحدث للجماعة، فترفع الوصايا من عليها حتى تعمل ذهنها، وهذا هو ما يفسر ثورة
الشعب
على الحكام، الذين يستعبدونه وينصبون أنفسهم ولاةَ أمرِه؛ فالحرية هي سبيل التنوير، والحرية
هي
الاستعمال العام للعقل في كل المجالات. يقول الضابط: لا تعقل بل نفِّذ. ويقول المالي:
لا تعقل
بل ادفع. ويقول اللاهوتي: لا تعقل بل آمِن. ولكن الحرية وحدها هي التي تقول: اعقلْ كما
تشاء، ثم
أَطِع؛ فالحرية عقل وإرادة. والاستعمال يجب أن يكون عامًّا وليس خاصًّا وإلا لما تقدم
التنوير،
أي يجب أن يكون استعمالًا اجتماعيًّا عامًّا في حركة ونشاط، وليس مجردَ استعمال مكتبي
علمي
فلسفي منطوٍ على نفسه. استعمال الحرية يجب أن يكون بصوتٍ عالٍ وليس بصوت منخفض، أو في
صمتٍ
مطبق، فالحرية نداءٌ وتعبير، ورسالة وتبليغ. ولكن الموظف ينفِّذ تعليمات الإدارة، والمواطن
ينفِّذ أوامر الدولة، والجندي يُطيع أوامر قائده، والقسيس يعلم عقائد الكنيسة، والكل
لا يؤمن
بما يفعل، الكل ينافق ويقول ما لا يعتقد، ويعمل ما يؤمن به. العقل وحده هو القادر على
تبليغ
الرسالة باستعماله استعمالًا عامًّا Usage Publique،
وليس استعمالًا خاصًّا Usage privé من أجل القضاء على
ازدواجية الإنسان الناتجة عن الكسل والجبن؛ فالكنيسة أو الدولة لا يمكنها فرض الوصايا
على العقل
الإنساني، بدعوى العقد الاجتماعي الذي تعقده الكنيسة مع المؤمنين والدولة مع المواطنين
لأنه ضد
الاستعمال العلني للعقل وبالتالي يصبح العقد باطلًا لأنه يهدف إلى توقُّف الإنسانية عن
التقدم
وإلى ارتكاب جريمة ضد الإنسانية، فأي شعب يقبل مثل هذا العقد؟ إن حقَّ الإنسان هو الاستعمال
الصريح للعقل، حق المواطن في الدولة، وحق القسيس في الكنيسة لتغيير نظام الدولة ولتغيير
نظام
الكنيسة، إن التخلِّي عن هذا الحق فيه انتهاك لحقوق الإنسان المقدسة، وإن تسلُّطَ الحاكم
أو
الكنيسة على المواطنين والمؤمنين لهو انتهاك أيضًا لهذه الحقوق؛ «فليس القيصر فوق علماء
اللغة».
فإذا ما سُئلنا: هل نحن نعيش الآن في عصر مستنير؟ فالإجابة هي: لا، ولكننا نعيش في عصر
في طريقه
إلى التنوير فما زال الطريق طويلًا أمام الإنسان كي يستقلَّ بنفسه في أمور الدولة وفي
شئون
الدين. وهو أيضًا عصر التسامح الذي يكون العقل فيه وسيلة الحوار، وليس عصر التعصب والتسلط
والرأي الواحد؛ فإذا كان التنوير رفع الوصايا فإنه يعني أساسًا رفعها في شئون الدين والدنيا.
أما في العلوم والفنون فالأمر أقل خطرًا وإلحاحًا. إن حرية الفكر هي أساس الحرية السياسية،
وحق
استعمال العقل هو شرط حقوق المواطن.
إن تطور الإنسانية عند كانط ينتهي في النهاية إلى التنوير فقد بدأت الإنسانية أولًا:
بالغريزة، صوت الله في الإنسان، غريزة الغذاء ثم تلتْها ثانيًا: الغريزة الجنسية من أجل
الاستمرارية والبقاء، ثم تلتْها ثالثًا انتظار المستقبل من أجل التقدم والرقيِّ، ثم يأتي
رابعًا
وأخيرًا العقل، الغاية القصوى للطبيعة، ومع العقل حرية الإنسان ومساواته للآخرين، وعلى
هذه
النحو يتحقق الكمال في الطبيعة.
٨٦