خامسًا: فلسفة التاريخ عند لسنج
عبَّر لسنج عن فلسفته في التاريخ في كتابه المشهور «تربية الجنس البشري»،
١ ويحتوي على مائة فقرة، نُشرت الفقرات من ١–٥٣ سنة ١٩٧٧م، ثم نُشر العمل كلُّه سنة
١٩٨٠م، أي قبل أن يتوفى لسنج بعام واحد.
وقد كتب لسنج في ٢٠ فبراير ١٧٨٠م لأخيه كارل أنه الآن يشعر بأنه قادر على نشر العمل
كله؛
«طالما أنني لن أعترف أبدًا أنه من وضعي». وقد حاول البعض الشك في صحة نسبة الكتاب إلى
لسنج،
وعلى رأسهم كروته
Kröte (١٨٣٩م)، وكروجر
Kruger (١٩١٣م)، وصاغَا نظرية مؤداها أن الفقرات من ١–٥٣ على الأقل، وربما العمل
كله من عمل «البريشت تار»
Albrecht Taer، والحقيقة أن هذا الشك
لا أساس له من الصحة، كما أثبت ذلك أخيرًا «شنايدر» في مقاله «مَن هو مؤلف تربية الجنس
البشري؟»
٢ فهو إذن آخر ما كتبه لسنج، والذي يتضمن خلاصة فكرِه عن الدين، والتاريخ، والتقدم
والإنسانية، متوجًا بذلك فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر في ألمانيا وفرنسا معًا،
جامعًا بين
هردر وكوندرسيه. فقد جمع بين غائية التاريخ التي تعبِّر عن العناية الإلهية، وهو ما أعطَته
ألمانيا لفلسفة التنوير، وبين تقدُّم الإنسانية وهو ما أعطتْه فرنسا لفلسفة التنوير،
وبالتالي
أصبحت «فلسفة الدين» المدخل الطبيعي والأساسي ﻟ «فلسفة التاريخ» عند لسنج.
وقد نشأت الفكرة لديه من تأملاته عن العلاقة بين «العقل والوحي»، وهي المشكلة الأساسية
في
الفكر المسيحي من أجل تعقيل الوحي، ويبدو فيها تأثيرُ هردر عليه في فكرة تتابع شعوب مختارة،
يستعملها الوحي كحوامل لتقدم البشرية، خطوة خطوة، وهو ما عرضه هردر في «شروح العهد الجديد»،
٣ وكذلك في فكرة الأثر الفارسي على اليهود من الجزء الثالث لكتاب هردر «أقدم وثيقة
للجنس البشري».
٤ كما اعتمد لسنج في محاولته هذه على فرجسون
Ferguson، وتأثَّر ببعض أفكاره في كتابه «محاولة في تاريخ المجتمع المدني»،
٥ وقد ظهرت ترجمة إلى الألمانية في ليزج ١٧٦٨م، وأرسلها مندلسون في ديسمبر١٧٧٠م، كما
تأثر ببعض أفكاره من كتابه الثاني «مبادئ الفلسفة الخلقية»
٦ وكان قد ترجم أيضًا إلى الألمانية في ١٧٧٢م فقد نقد فرجسون فكرة روسو عن «الخير
الأصلي» لطبيعة الإنسان غير المتمدين، وأن التاريخ قد أخرج الإنسان من حالته الطبيعية
الأولى،
التي يغلب عليها طابع التوحش والبربرية، إلى حالة أخرى أكثر تقدُّمًا ورُقيًّا؛ فالتاريخ
لا
يمثِّل تراجعًا، بل يمثِّل تقدُّمًا.
كما يرجع تصوُّر لسنج لتربية الجنس البشري إلى قراءته المبكرة لآباء الكنيسة، خاصة
مَن
ينتسب منهم إلى الأفلاطونية المسيحية في الإسكندرية، مثل كلمنت وأوريجين. فطبقًا لأوريجين
يتم
الخلاص بعملية طويلة وبطيئة لتربية إلهية، وليس دفعة واحدة عن طريق الإيمان بالمخلِّص.
كما يرى
أوريجين أنه في الكتاب المقدس يتكيف الوحي الإلهي مع قدرات الإنسان البسيطة، فتعرض الحقائق
مباشرة له في حين أنها تعرض في صورة أسرار يخوض فيها المتعلم. ويبدو أن أوريجين كان يتصور
أن
الحقائق المباشرة التي يسهل إدراكها لوضوحها من نصيب العامة، في حين أن الأسرار التي
يصعب
فهمها، ويختلف الناس في تأويلها من نصيب الخاصة، وقد يكون العكس هو الصحيح — كما يقول
الفلاسفة
المسلمون — فالعامة هي التي تُحيل الوحي إلى أسرار غامضة، معتمدين على كل ما يندُّ عن
العقل، في
حين أن الخاصة تُدرك حقائق بسيطة بوضوح معتمدة في ذلك على نور العقل وحده. فإذا وجدنا
في العهد
القديم عقيدة الإله الإنسان أو الإنسان الإله، وإذا وجدنا أن العهد القديم يوجِّه التهديدات،
ويوزِّع اللعنات فيظهر الله في صورة إله منتقم جبار؛ فإن ذلك كله ليس حجة ضد الإيمان
بالوحي
الإلهي. وأنه موجود في الكتاب كما عبَّر عن ذلك ماركيون Marcion الهرطيق في القرن الثاني. صحيح أن هذه اللغة لا تطابق طبيعة الله
الحقة، ولكن يمكن استعمالها نظرًا للضعف الإنساني، وكما يبدو الآباء البشر في هذه الصورة
من أجل
تربية أبنائهم وهم في الحقيقة خلاف ذلك؛ فالغرض من العقاب الإلهي هو التربية والصلاح،
لا
الانتقام وشفاء الغليل. العقاب جزء من «تربية الجنس البشري» وعامل إيجابي في رقيِّه وليس
قضاءً
عليه، وعاملًا سلبيًّا من أجل هدمه. فإذا بدأ المؤمن قبولَ الإيمان بناءً على الثقة والتصديق،
فإنه بعد التربية يكتشف الأسس العقلية، فبدلًا من أن يقبل الإيمان عن طريق السلطة، يتحقق
من
صدقه بالحجج العقلية، فالله يُعلِّم المؤمن كما يعلِّم المربِّي الطفل تدريجيًّا. الله
هو معلم
الإنسانية. إن فلسفة العهد القديم عن الجحيم تعني التطهير، كما تعني الجنة الحب الإلهي
الذي
ينتظر القديسين والأطهار، وعلى هذا النحو استطاع أوريجين بمنهجه في التأويل، تجاوز العقائد
إلى
مدلولها الإنساني العام كما فعل لسنج فيما بعد، وهو موقف مشابه لموقف ليبنتز في محاولته
عن
«العقاب الأبدي» في بدايات فلسفة التنوير.
وقد سمى لسنج محاولته في الصلة بين الوحي والتقدم «تربية الجنس البشري» فماذا تعني
التربية؟
لقد عُرف القرن الثامن عشر باهتماماته بالتربية؛ فالتربية هي الطريق لإعادة بناء الفرد،
ولا
تتم التربية للعقل وحده كما حاول القرن السابع عشر بمناهجه العقلية والاستنباطية عند
ديكارت
والديكارتيِّين، أو التجريبية الاستقرائية عند بيكون والمدرسة الأنجلوسكسونية بوجه عام،
بل
تجاوزت التربية إلى الإنسان ذاته من أجل إقامة الإنسان العاقل، أو الفرد المستنير، أو
المواطن
الصالح، كما كان الحال في فرنسا. لم يَعُد العقل هو فقط مناط التربية، بل أصبح الإنسان
كلُّه
عقل وإرادة، الإنسان من حيث هو وجود إنساني حي في علاقته مع الله، ومع العالم على حدٍّ
سواء.
وكما توَّج كل فيلسوف مذهبه بتطبيقه في السياسة، فإن من عناصر هذا التتويج أيضًا
تطبيقه في
التربية؛ فالتربية كالأخلاق جزء من السياسة. ولما كان المذهب أساسًا نظرية في المعرفة،
ثم نظرية
في الوجود، فإنه ينتهي عادة إلى نظرية القِيَم التي تشمل: الأخلاق، والسياسة، والاجتماع،
والتاريخ، والتربية. وقد اتضح ذلك عند سبينوزا وليبنتز من الديكارتيين، عندما طبق سبينوزا
المنهج الديكارتي في تاريخ بني إسرائيل، وفي دراسة الدولة العبرانية القديمة وصلة الدين
بالدولة.
٧ وعندما طبق ليبنتز المنهج الرياضي وحساب التفاضل والتكامل على التاريخ المعاصر،
وانتشار الإرادة الأوروبية خارج حدودها، واكتشاف أن مصر حلقة الاتصال بين الشرق والغرب،
هي التي
يتحقق بها حساب التفاضل والتكامل في السياسة، وأن مَن يأخذ مصر يسيطر على العالم؛ فمصر
هي مفتاح
الشرق والغرب، ومن ثَم كتب مشروعًا قدَّمه لملك فرنسا لغزو مصر!
ويتضح ذلك أكثر عند كانط والكانطيين الجدد؛ فقد توَّج كانط مذهبه تطبيقه في السياسة
في
«مشروع السلام الدائم»، ثم في التربية في «تأملات في التربية» وهو آخر ما كتب قبل وفاته،
٨ كما كتب نيتشه في تربية الشعب الألماني «نداءات إلى الأمة الألمانية»، بل إن علم
التربية ذاته بالمعنى الاصطلاحي قد نشأ في هذه الفترة على يد بستالوزي
Pestalozzi (١٧٤٦–١٨٢٧م) الذي يُشير إليه فلاسفة التنوير باعتباره مؤسسًا لهذا
العلم.
في هذا الجو العام كتب روسو «إميل» Emile محددًا معالم
التربية الطبيعية، كما كتب لسنج «تربية الجنس البشري» من أجل تحقيق التربية، لا في العقل
وحده
كما كان الحال في القرن السابع عشر، ولا في الإنسان وحده كما أصبح الأمر بعد ذلك في القرن
الثامن عشر، ولكن في التاريخ، تاريخ الجنس البشري كله، فالوعي الإنساني وعيٌ تاريخي،
يتحقق
ويتطور ويكتمل في التاريخ. التربية عمل التاريخ والاكتمال يحدث في التاريخ، ومن ثَم تعتبر
فلسفة
التنوير بحقٍّ أول فلسفة ركزت على التاريخ من حيث هو تقدمٌ واكتمال قبل فلسفات التاريخ
المشهورة
في القرن التاسع عشر، وأن هيجل بهذا المعنى هو تلميذ كانط، وأن كانط وهردر ولسنج هم واضعو
فلسفة
التاريخ كجزء من فلسفة التنوير.
كانت التربية — إذن — من الموضوعات التي شغلت بال المستنيرين في القرن الثامن عشر،
من أجل
القضاء على الجهل والوصول إلى الحقيقة، ونَيل السعادة؛ لأن الإنسان بطبيعته لا يطلب إلا
التعلم
والتقدم نحو الخير. وفي نفس السنة التي كان لسنج يصيغ فيها فلسفته في تربية الجنس البشري،
كان
بازدوف
Basedow يُعيد فيه بناء التربية الجديدة، ويشكك في
المناهج القديمة. يأخذ الطفل كما ولدته أمه، كما يأخذ لسنج الإنسانية عارية تمامًا من
بدء الخلق
ويقودها تدريجيًّا نحو وعيها بذاتها ووعيها بالعالم، حتى تكتمل الإنسانية في المستقبل
وتحقق
طبيعتها وغايتها. وكما يعلم بازدوف ويوجِّه ويقوم ويُرشد إلى فنِّ الحياة، ويؤدي بالإنسان
إلى
السعادة، فكذلك يوجِّه لسنج الإنسانية نحو المعرفة والسعادة عن طريق تربية الوحي لها
تربية
عملية، وقد شخَّص بازدوف عيوب التربية في ألمانيا في التوعية الرديئة للأساتذة، وعدم
انتظام
التلاميذ في التعليم، وعدم اهتمامهم به، وينقد المدارس والسياسة الرجعية للكنيسة، واهتمامها
باللغة اللاتينية والعلوم الدينية دون اللغات الحديثة والعلوم العصرية، رياضية، وطبيعية،
واجتماعية. وأقام أسسًا جديدة للتربية تقوم على عدم التسرع وانتظار نضج الطفل، وإعطائه
تعليمًا
يتفق ومع مرحلة تطوره ولخص هذه الأسس في ثلاث؛ أولًا: من وجهة النظر السياسية والاجتماعية
يجب
أن تكون التربية وطنية مستقلة عن الكنيسة. ثانيًا: من وجهة نظر نوعية الثقافة التي يجب
إعطاؤها
للطفل يجب أن تكون نفعية وعملية. ثالثًا: من حيث المناهج المتبعة، يجب أن تعتمد التربية
على
المحسوس والحدس الذي يساعد على الخلق والتشويق. والهدف النهائي من التربية هو التحرير
واكتشاف
قدرات الإنسان الخلاقة.
٩
وتعتبر محاولة لسنج «تربية الجنس البشري» آخر وصية فلسفية لاهوتية له، والهدف الرئيسي
من كل
محاولاته السابقة، فيرى كاسيرر
Cassirer مثلًا، «أن تربية
الجنس البشري» هو المعبر الذي لم يستطع «برهان الروح والقوة» إتمامه؛ ففي هذا الكتاب
الأخير رفض
لسنج إقامة الدين على أساس من المعجزات، وأن «حقائق التاريخ العرضية، لا يمكن على الإطلاق
أن
تصبح برهانًا لحقائق العقل الضرورية»،
١٠ ومن ثَم يجب تصور الدين القائم على المعجزات، وعلى حوادث التاريخ على أنه يمثِّل
مرحلة أولى من مراحل تقدُّم الإنسانية، كانت الإنسانية فيه ما زالت في مرحلة الطفولة.
فإذا ما
انتقلت إلى مرحلة النضج تجاوزت المعجزات، ولم تَعُد في حاجة إليها كبرهان؛ فالدين الكامل
لا
يحتاج إلى براهين خارجية، بل يقوم على براهين داخلية من ذاته. وفي محاولة لسنج الأخرى
«فرض جديد
خاص بكتاب الأناجيل باعتبارهم مؤرخين بشر»، وهي المحاولة التي نُشرت بعد وفاته التي كان
الهدف
منها عمل مقدمة كبيرة عن الفلسفة الدينية كان يعمل على إقامتها منذ مدة طويلة، يعرض لسنج
فكرة
«تربية الجنس البشري» بإثباته أن كتَّاب الأناجيل ليسوا مترجمين عن الله ومتحدثين باسمه،
بل هم
بشر متفرقون؛ مثل الماسونيين في عصرهم، ودورهم مثل دور العناية الإلهية في تربية الجنس
البشري،
وهو دور تربوي خالص؛ فقد كتبوا الوحي طبقًا لحالة الشعب اليهودي ودرجة تطوره بأخطائه
وأحكامه
المسبقة وصفاته الروحية. ويكتب إلى أخيه كارل في ٢٥ أبريل: «لا أعتقد بأنى كتبت شيئًا
أعمق من
هذا وأكثر دلالة على هذا النوع من الموضوعات.»
والحقيقة أن لسنج في بعض مؤلفاته الأولى قد تبنَّى التصور التراجعي لله، أي إن الله
يُبحث
عنه بالرجوع إلى الوراء وليس بالتقدم إلى الأمام. وقد عبر عن هذا التصور في «تأملات في
المورافيين».
١١ وأيضًا في «مصدر دين الوحي»
١٢ فتصوَّر دينًا طبيعيًّا أوليًّا، أفسده رجال الدين وقضى عليه القساوسة بتحويلهم
إياه إلى دين وضعي شعائري كنسي عقائدي، وبالتالي تحولت الروح إلى مؤسسة اجتماعية، ولكنه
في
«تربية الجنس البشري» يعارض هذا التصور بآخر، وهو تصور الألوهية تصورًا تقدميًّا يظهر
الله فيه
كحركة إلى الأمام، وليس كرجوع إلى الوراء فالله أقرب إلى خطوة إلى الأمام منه إلى خطوة
إلى
الخلف. كما يبدو لسنج في إحدى محاولاته الأولى عن «القانطين»،
١٣ قد ظن أن تاريخ العالم وتاريخ المسيحية هو تاريخ الانحطاط، وأن صفاء العصور الأولى
قد انقضى تدريجيًّا وكأن لسان حاله يقول «خير القرون قرني …» ولكنه في «تربية الجنس البشري»
يثبت العكس، وهو أن تاريخ الجنس البشري وتاريخ الوحي في تقدُّم مستمر. وفي «مسيحية العقل»
١٤ يبيِّن لسنج الإنسان باحثًا عن الحقيقة، ومتقدمًا نحو الكمال معتمدًا على نفسه في
البحث عن الخير وفي تحقيق التقدم. صحيح أن هذا التقدم بطيء، وقد يصاب بالنكوص مرة ومرات
مما
يدفع الإنسان إلى اليأس، كما هو الحال لدى الطوباويين والحالمين الذين يريدون الوصول
إلى الكمال
مباشرة، دون أن يصبروا حتى الوصول إلى المرحلة النهائية. لا يمكن تغيير الطبيعة البشرية،
ولكن
بالوقت والمثابرة يمكن تذليل كل العقبات أمام التقدم وعشق الغاية الكبرى. ويعود لسنج
باستمرار
«في تربية الجنس البشري» إلى فكرة التقدم البطيء؛ فطرق العناية الإلهية غامضة، وترشد
الإنسانية
إلى طريق تبدو وعرة ومضللة ولكن هذا التأخر يتضمن تقدمًا أسرع فيما بعد. لا يحدث التغير
فجأة
بالانقلابات والثورات كما هو الحال عند كوندرسيه، ولكن كما يتقدم الطفل ويتعثر في أول
خطاه،
كذلك تتقدم الإنسانية وتتعثر خُطَاها، وترزح تحت عبءِ شعورها المصمت، وكأن الإنسانية
قد فقدت
غايتها التي تصبو إليها. ولكن التقدم حادث ويستمر منذ عدة قرون دون أن يراه أحد، أو يُدرك
إيقاعه، كما يستمر أيضًا في المستقبل، حيث إن الزمان كلَّه ما زال أمامه وقد عبر عنه
«هردر» بأن
هناك اكتمالًا تدريجيًّا للجنس البشري يحدث بجهد دائم ومتصل. فعلى البشر أن يتبعوا الطريق
الذي
رسمتْه الطبيعة بتركهم أنفسهم لميولهم، وأن يتبعوا تطورهم الطبيعي حتى يصلوا تدريجيًّا
إلى
الكمال. ويظهر هذا المسار التدريجي للإنسانية في تربية كلِّ فرد ونموه. وكما يؤثر المربي
على
تلميذه بتقدُّمه أو تأخُّره أو توجيهه نحو طرق أخرى، كذلك يخضع تاريخ الإنسانية إلى مؤثرات
خارجية، وهي العناية الإلهية التي قامت بدور هذا المربي.
يعود لسنج إذن في «تربية الجنس البشري» قبل أن يموت، إلى الموضوع الرئيسي في حياته
الذي
أرَّقه منذ ثلاثين عامًا، والذي كتب فيه عديدًا من الكتابات الفلسفية: ما مقدار الثقة
التي يمكن
إعطاؤها للكتاب المقدس؟ ما هو الحقيقي في الكتاب الذي أصبح منذ لوثر قلب العقيدة وروحها؟
كيف
يمكن تصور أن هذه الكتب التي تستمد منها المسيحية جوهرها، وتكون دعامة ثقتها، تحتوي على
تعاليم
مخالفة لشعور الإنسان الحديث؟ لدى الإنسان تصور عن الحق والخير، ويسعى إليهما بطبيعته،
ويحاول
أن يصبح أفضل مما هو عليه، وأن يصل إلى أعلى مستوى من الأخلاقية ويبحث عن كمال متجدد،
وفي هذا
البحث تكمن قيمة الإنسان، ويكون سبب وجوده. والدين المسيحي أسمى الأديان وأكثرها تركيزًا
على
القيم الخلقية بدفع الإنسانية في هذا الاتجاه، وممارسة المسيحية تختلط بالبحث عن الحقيقة
الخلقية، ومع ذلك فالكتب التي هي أساس المسيحية التاريخية ومصدر دعوتها الخلقية تصدمنا
بقسوتها
وفظاظة تعاليمها الخلقية، وبتأكيداتها المتناقضة مع نتائج العلوم الطبيعية، وبميتافيزيقاها
التي
لا توصف بأنها مسيحية لأنها تجهل عقيدة خلود الروح؟ كيف يمكن التوفيق إذن بين مضمون هذا
الوحي
ومقتضيات الشعور الخلقي؟ هل نجد في التاريخ تصديقًا لحقائق العقل؟
ومن الممكن حلُّ هذا الإشكال عن طريق التضحية بأحد أمرين: إما أن نحرِّم على العقل
الفحص في
حقائق الوحي، وهو ما يقوم به أعداء لسنج من الأرثوذكس، وإما أن نلفظَ الوحيَ كلَّه ببساطة
ونتمسك بمبادئ الأخلاق وبالدين الطبيعي كما يفعل فولتير. ولكن لسنج يحترم التاريخ ولا
يريد
التخلي عن شيء، ويريد أن يجعل الوحي يتفق مع العقل، ويريد تبرير ذلك بحجج عقلية تبريرًا
بعديًّا
وجدها في التطور وفي تقدُّم الجنس البشري نحو الكمال. فالتطور لديه حلٌّ للصراع بين الأرثوذكسية
وبين التنوير، فهو يعترف بما تؤمن به الأرثوذكسية ولكن كإحدى مراحل التطور الأولى، ويعترف
بما
يؤمن به التنوير كإحدى مراحل التطور التالية، فكلاهما على حقٍّ على درجات متفاوتة من
التطور؛
ولذلك تعتبر الفقرات الأولى من ١–٥٣ في «تربية الجنس البشري» موجهة ضد الفقرات الرابعة
لريماروس
«في أن أسفار العهد القديم لم تُدوَّن كي توحي بدين»، بالرغم من أن أسلحته للرفض هي أسلحة
الأرثوذكسية أي التسليم بالافتراضات الظنية كمراحل في طريق التقدم. أما الجزء الثاني
من الفقرة
٥٤–١٠٠ موجه إلى الأرثوذكسية لبيان أن الأخلاق الطبيعية والدين العقلي الشامل أقرب إلى
المسيحية
وأبعد عن الأرثوذكسية.
ويتوجَّه لسنج بتصوُّره عن التقدم إلى المدافعين عن الأرثوذكسية على أمل أنها قد تُلقي
ضوءًا جديدًا على الكتاب، وبالتالي لن تصدمنا أوجهُ النقض الخلقية، ولن تصبح حجةً ضد
صحة الكتاب
المقدس. وأهم مثل يضربه لسنج على ذلك هو غياب عقيدة خلود النفس من العهد القديم. فإذا
كانت
عقيدة خلود النفس هي إحدى حقائق اللاهوت الطبيعي وغير موجودة في الكتاب المقدس، فإن ذلك
لا ينقص
الوحي شيئًا ولا يقلل من شأنه، فإن تصور لسنج للوحي على أنه عملية تربية للجنس البشري
أكثر من
تصوره له على أنه وحيٌ أُعطي مرة واحدة في الأزمان كحقائق أبدية تستبعد الحاجة إلى دقيقات
الأسقف «فاربرتون» الذي حاول جاهدًا — حتى ولو ناقض نفسه — إثباتَ أن غياب هذه العقيدة
من العهد
القديم هي البرهان الحاسم على مصدره الإلهي. بل إن فاربرتون يرى أن غياب هذه العقيدة
يقضي على
الأخلاق وعلى السياسة، فلا توجد قيمٌ ولا توجد دولة، وهذا ما حدث بالنسبة لليهود. لذلك
أعطى
الله بديلًا عن هذه العقيدة. عقيدة الإيمان بحياة أخرى. وقرر بعنايته الخاصة وفضلِه الإلهي
أن
كل يهودي يجب أن يكافأ في حياته طبقًا لطاعته للشريعة، واستبدل بعقيدة الحياة الأخرى
تدخلاته
المباشرة من خارج الطبيعة في النظام الطبيعي. فاليهودية على هذا النحو ليست دينًا خلقيًّا
يعتمد
على ممارسة الفضائل لذاتها بل مجرد خضوع للأوامر الإلهية التي تثبت بقدرة الله على الإتيان
بالمعجزات، ومن ثَم فهي تمثِّل مرحلة أولى من تطور البشرية؛ حيث كانت البشرية كالطفل
لا استقلال
لإرادته أو لعقله.
هذه الطريقة لا تحلُّ بعض مشاكل العهد القديم فحسب، ولكنها تضع المعجزات في ضوء جديد؛
فإنها
تعتبر غطاءات للكنيسة الطفل. كان الإيمان بالمعجزات خطوةً في تطور طويل للشعور الإنساني
الديني.
وإن إنكار الأناجيل والنفور منها؛ لأنها تحتوي على قصص مليئة بالمعجزات هو اعتناق لوجهة
نظرٍ
تاريخية. وليس من حقِّنا مطالبة القرن الأول أن يؤمن بوجهة نظرنا في القرن الثامن عشر.
وهذا هو
السبب في عداء لسنج للاهوت الحر لدى زملر Semler ومدرسته، وفي
اشمئزازه من هؤلاء الذين يريدون المحافظة على الأناجيل بعد استبعاد المعجزات؛ مثل زملر
وريماروس. لقد أدت المعجزة دورًا مرحليًّا في تطور الشعور الإنساني واسترعت انتباهه،
وكشفت
للذهن بعض جوانب التوحيد. ولكن بعد أن اكتمل الشعور الإنساني واستقل العقل والإرادة لا
يصبح
للمعجزة أيُّ دور. وهنا تبدو فكرة التقدم خيرَ وسيلة لحل المسائل الدينية بين الإثبات
والنفي؛
فالإثبات والنفي كلاهما نظرة جامدة لحقائق الدين في حين أن التقدم يقوم على نظرة حركية
له.
فالمرحلة التي تمرُّ بها الإنسانية هي التي تحكم على الشيء بوجوده أو بعدمه بناء على
وظيفته.
فإذا كان له وظيفة وجد، وإذا انتهت وظيفتُه أصبح عدمًا.
وقد كان الطبيعي والخارق للطبيعة متعارضَين في الأرثوذكسية كما يمثِّلها جوتز Goeze مثل تعارض الدعوى ونقيضها؛ لذلك أصبح الخارق للطبيعة محصورًا
بين مُثبتِين من الأرثوذكسية، ومنكرين من فلاسفة التنوير الجذريِّين والعقلانيِّين والمؤلهة
والطبائعيِّين. ولكن حاول فلاسفة التنوير النسبيُّون مثل لسنج إثباتَ الخارق للطبيعة
على نحو
طبيعي. ففي «تربية الجنس البشري» يستعمل لسنج لغة أخرى لتجاوز هذا التعارض، وبيان أن
الخارق
للطبيعة المتمثل في الإرادة الإلهية وتدخلها في سير قوانين الطبيعة، هو المسار الطبيعي
لهذه
الطبيعة وتطورها الداخلي، وارتقائها الذاتي. عندئذٍ يصبح الخارق للطبيعة من داخل الطبيعة
وليس
من خارجها، ويبدو في مسارها وتقدمها وليس في إنكار قوانينها، ومن ثَم يتحد الخارق للطبيعة
مع
الطبيعة، ويصبح كلاهما شيئًا واحدًا.
تتم تربية الجنس البشري إذن دون تدخُّل خارجي من الله ودون عناية إلهية ضد تصور
الأرثوذكسية. يريد لسنج تجاوزَ كلِّ مفارقة أو تعالٍ، وإعادة تفسير ذلك على أنه مباطنة
ومعايشة؛
فالوحي يربي الإنسانية من داخلها، والتربية هي وصفٌ لعملية التقدم التي تحدد مسار الجنس
البشري.
والوحي لا يعطي الإنسانية شيئًا لا تستطيع أن تكتشفه بنفسها من داخلها. فالمنهج باطني،
والموضوع
داخلي، والغاية تنبثق من أعماق الشعور الإنساني، وتتحقق في صورة تقدم نحو الأمام.
وقد ذكر لسنج من قبل في ردِّه على سؤال ريماروس «ما الوحي الذي لا يوحي شيئًا؟» إنه
يمكن
الاحتفاظ بالاسم طالما أن الشيء نفسه قد انقضى، وما يقرره لسنج في الفقرة الرابعة في
«تربية
الجنس البشري» من أن الوحي بالرغم من أنه غير ضروري طالما، أن العقل سيصل في النهاية
إلى ما
سيعطيه الوحي بجعل من الوحي عاملًا مساعدًا للعقل، حتى يمكن للعقل أن يُسرع الخُطَى نحو
اكتشاف
حقائقه. وإذا أخذنا في الاعتبار فكرة التقدم في التاريخ، وأن نضج العقل هو نتيجة لتقدم
الإنسانية يكون لسنج قريبًا من روسو في قول القسيس السفوياردي
Savoyard «يقول العقل لي إن العقائد يجب أن تكون واضحة وبسيطة ومباشرة، فإذا
كان هناك شيء ناقص في الدين الطبيعي فإنه يتعلق بالغموض الذي يكتنف الحقائق الكبيرة التي
يدعو
لها. يجب أن يُعلمَنا الوحي هذه الحقيقة بطريقة يفهمها العقل، ويجب أن يُقرِّبَها الوحي
إليه
ويُفهمَها له حتى يُقرَّ بها.»
١٥
هل يعني ذلك أن لسنج لم يتخلص كلية من التصور
التراجعي للألوهية؟ قد يبدو ذلك بالنسبة للدين الوضعي؛ لأن هذا التطور هو الحلُّ الجذري
له. ففي
نفس الفقرة الرابعة يُعلن لسنج أن الوحي لا يُعطي العقل شيئًا لا يستطيع العقل أن يحصل
عليه من
نفسه؛ فكلُّ مَن يعتمد في معرفته على الوحي يكون متأخرًا، وكلُّ مَن يعتمد في معرفته
على العقل
يكون متقدمًا، ولا يمثِّل فضل الوحي على العقل إلا في الجهد الأقل والوقت الأقصر، في
حين أن
العقل يفضل الوحي كما يصوره الدين الوضعي في الوضوح واليقين الداخلي، ولكن لسنج في الفقرة
٧٧
يرى أنه بالرغم من أن المسيحية من الناحية التاريخية مشكوكٌ فيها، إلا أن الإنسانية استطاعت
أن
تُدرك الله والإنسان بطريقة لا يمكنها أن تعتمد فيها على العقل وحده دون مساعدة خارجية،
في حين
أنه في الفقرة الرابعة يؤكد على أن الوحي لا يعطي الجنس البشري شيئًا لا يمكن للعقل أن
يصلَ
إليه بمفرده؛ فالوحي زائد وإضافي، وتأتي تعاليمه دون أن تخرقَ قوانين العقل؛ ولذلك لا
يناقض
التنزيه، واختلافه عن العقل من حيث الكم لا الكيف، وهو اسمٌ آخر لتطور الروح الإنسانية
نحو
التقدم والنضج. والواقع أن هذا ليس تناقضًا بين الفقرتَين؛ فالوحي يدفع العقل، والعقل
يُنير
الوحي، فهما متكاملان وليسَا متعارضَين. يدفع الوحي العقل فيقصر له الشوط ويختصر له الجهد،
ويقلل له الوقت ثم يأتي العقل فيضبط الوحي ويفسِّره ويحميه من سيطرة الأهواء، والانفعالات،
والمصالح عليه. ويمنعه من الوقوع في الإلهامات، والإشراقيات، والخرافات، والخزعبلات.
كما قد يبدو التصور التراجعي للدين في الفقرة ٩٥ عندما يدين افتراضاته الخاصة بتناسخ
الأرواح الموجودة في كل الديانات القديمة، في حين أن الدين المستنير يُنكرها، ويقوم على
المسئولية الأخلاقية والعمل الفردي، ومن ثَم يمثِّل الدين العقلي ليس فقط تقدمًا بالنسبة
للدين
الوضعي بل أيضًا إدانة له.
١٦ وتفترض هذه الديانات تناسخ الأرواح؛ لأنها ترى أن اليقين المطلق لا يمكن الحصول
عليه في الحياة الدنيا كما أقر بذلك الإسكندرانيون وعلى رأسهم أوريجين.
والحقيقة أن التطور التراجعي للدين الذي قد يبدو أحيانًا عند لسنج ليس هو الأساس؛
لأن الدين
الوضعي طارئ على الدين الطبيعي، فالسقوط أو الانهيار في الشكل والوضع وليس في الجوهر
والأساس.
لا ينقد لسنج الديانات الوضعية أو يهدمها ويقوضها كما يفعل أنصار التنوير الجذري، بل
يجعلها
تمثِّل مرحلة معينة في تاريخ البشرية. الديانات الوضعية ليست إفسادًا تأخريًّا بل تمثِّل
فترات
معينة في تطور البشرية، وإحدى المراحل الأولى في تقدمها من الطفولة إلى النضج.
وتطور التاريخ، وتقدم الجنس البشري ليس غريبًا على دارسي العهد القديم وتاريخ بني
إسرائيل
فإن توالي الأنبياء وظهورهم فترة بعد أخرى يجعل تسلسلهم وفقًا لخطة تكتمل فيها النبوة،
وتحقق
غايتها عند موسى عند البعض، وعند عيسى عند البعض الآخر، وعند محمد عند فريق ثالث. فتتابع
الأنبياء وظهورهم على مراحل يوحي بوجود خطة في التاريخ، واكتمال النبوة ونهايتها يوحي
أيضًا
باكتمال التطور وتحقيق الغاية.
والتاريخ هو الطبيعة، وتطور التاريخ تطورٌ طبيعي وليس
مفروضًا من خارج الطبيعة، ومن ثَم كانت الغاية كامنة في التاريخ وفي الطبيعة، وقد يكون
هذا هو
معنى الحلول التنزيهي، الذي قضى في نفس الوقت على التنزيه بمعنى الخارجية والسطحية والعجز،
كما
قضى على الحلول التشبيهي الذي وقع في التشخيص والتجسيم، وهذا من أهم منجزات فلسفة التنوير،
وهو
ما أقامه مذهب التأليه الطبيعي
Deisme؛ فالله والطبيعة صنوان،
والدليل على وجود الله هو الدليل الطبيعي، وأن الله ليس خارج العالم بل هو القوة الكامنة
في
الطبيعة، وهو ما أصبح فيما بعد حركة التاريخ ومساره عند هيجل. ويبدو أن لسنج هنا قد أصبح
سبينوزيًّا، ويؤيد ذلك محاوراته مع سبينوزا، ولكن الله كقوة روحية داخل العالم تهدف إلى
غاية
أخلاقية أكثر مما تهدف إلى غاية ميتافيزيقية يأخذ مصير الإنسان بيده، ويعمل على تقدُّمِه
ورقيِّه، وينحو به نحو كماله الخلقي، وقد كان عقل لسنج في حقيقة الأمر في حوار مستمر
مع
سبينوزا؛ فقد أعطى بيل
Bayle في قاموسه صورةً معادية لسبينوزا،
وقد قرأه لسنج أثناء إقامته في براج وتناقش مع صديقه مندلسون عن صلته بليبنتز. وتدل فقرة
لسنج
حول «وجود الأشياء خارج الله» على أنه يُثير مسائل حول تنزيه الله بعبارات تُشير إلى
سبينوزا،
بالرغم من أن لغته قد لا توحي بأنه ينتمي إلى مذهبه، وقد نشر جاكوبي
Jacabi ١٧٨٥ خطاباتِه إلى مندلسون في موضوع مذهب سبينوزا. ويقول إنه في يوليو
١٧٨٠م قبل موت لسنج بمدة قصيرة (١٥ فبراير ١٧٨١م) زاره في فولفنبتل وناقشه في موضوع فلسفة
سبينوزا. وأثناء إلقائه شعر جوته عن برومثيوس قال لسنج إن فلسفة سبينوزا لا تصدمه؛ فقد
قَبِل
كلَّ شيء سلفًا من سبينوزا، «إن أفكار الأرثوذكسية من الألوهية لم تَعُد ممكنة بالنسبة
لي،
فإنني لا أستحسنها كلها، ولا أعلم شيئًا آخر، ولا يوجد شيء آخر إلا في فلسفة سبينوزا»،
وقد
أدهشه لسنج بقوله إنه لا يخشى من حتمية سبينوزا الخلقية، «إني لا أرغب في حرية الإرادة».
وقد
خشي فلاسفة التنوير من رأي جاكوبي في علاقة لسنج بسبينوزا، ونشر مندلسون كتيبًا دفاعًا
عن نفسه
واسمه. يمكن إذن قراءة «تربية الجنس البشري» قراءة سبينوزية، وترك فكرِه — تعالى الله
—
والاستعانة بحلول الألوهية، وقد أيَّد جوري سالم رأيَ جاكوبى في إنكار لسنج لحرية الإرادة
في
ختام مقالاته الفلسفية التي نشرها في ١٧٧٦م احتجاجًا على آلام فرتر لجوته.
١٧
فلسفة سبينوزا إذن هي الأساس النظري لفلسفات التاريخ؛ لأنها هي التي تكشف المحور الأفقي
في
حياة الإنسان، لا المحور الرأسي الذي يعلِّمه الفكر الديني التقليدي. لم يكن استطاعة
فلسفات
القرن السابع عشر أن تكتشف التاريخ القائم على فكرة التقدم، وهي الفكرة الأساسية في القرن
الثامن عشر، والتي أصبحت مع العقل، والحرية، والفردية، شعار فلسفة التنوير؛ وذلك لأن
معركتها لم
تكن في اكتشاف البعد التاريخي للإنسان، بل كانت معركتها في تأسيس المنهجية في الفكر من
أجل نقدِ
الموروث خاصة الموروث الديني فيما يتعلق بالإلهيات والدفاع عن التنزيه. لذلك ظهر الإنسان
في
القرن السابع عشر في علاقة مع الله الواحد الذي ليس كمثله شيء، الحر العاقل، وكفى بذلك
نصرًا.
كانت المعركة تدور على محور رأسي لا أفقي، من أجل تأكيد الصلة المباشرة بين الإنسان من
حيث هو
عقل مفكر وإرادة حرة، وبين الله من حيث هو واحد شامل منزَّه ليس كمثله شيء، ولم تكن معركة
الإنسان الأفقية، أي وجوده في التاريخ قد بدأت بعد. فإذا ما تم التوحيد بين الله، والطبيعة
توحيدًا رأسيًّا بحيث تصبح صفات الله المطلقة قوانين الطبيعة الثابتة كما هو الحال عند
سبينوزا،
ثم إدخال فكرة التقدم انقلب المحور الرأسي إلى المحور الأفقي، وتحولت الطبيعة إلى تاريخ،
وتحول
عالم الثبات إلى عالم الحركة، وأصبحت العناية الإلهية قانونَ تطور التاريخ وتقدمه كما
هو الحال
عند هردر، وأصبح العلم الإلهي وهو الوحي، تربية الجنس البشري كما هو الحال عند لسنج.
وتتم تربية الجنس البشري عند لسنج على مراحل ثلاث تحدد فلسفته في التاريخ.
فبالإمكان إذن تغيير الإنسان الحالي وتصور إنسانية المستقبل، وقد تخلصت من مآسي الحاضر،
واعيةً بذاتها تمامًا وبإمكانياتها، تعلم مصادر غنَى العالم، وتأخذ منه لسعادتها كلَّ
الخبرات
الممكنة. لذلك رفض لسنج نظم الرهبنة؛ لأنها نظم تأمُّلية تخرج عن نطاق الواقعة الإنسانية،
ويفضل
الهرطقة التي تبرز من خضمِّ الموقف الإنساني، وترفعه إلى أقصى حدٍّ. ومع ذلك فهو مناقض
للمادية
ولا يتصور التقدم إلا بالروح وبالإرادة الإنسانية المستنيرة، ويرى في الوعي الفردي —
خاصة في
وعي الصفوة — محرك التاريخ. يعتمد لسنج إذن على ليبنتز في تصوُّره للفرد، ويضيف عليه
الجماعة
بنت القرن الثامن عشر والثورة الاجتماعية. تتجه الإنسانية نحو الكمال، وكل نقص عارض لا
يبغي إلا
الكمال، وجهد الإنسان ليس عبئًا ضائعًا لا طائل وراءه، بل يهدف إلى تحقيق الكمال أي الخلاص
النهائي دون فقدِ الأمل في إمكانية هذا التحقق؛ فالحياة رحلة طويلة ومسار نحو الحقيقة،
كما هو
الحال في بعض الأساطير القديمة وكما عبرت عنه الفلسفات الرومانسية، ولكنها ليست حقيقة
ثابتة
ساكنة بل متحركة حيوية تتكشف في التقدم نحو غاية وهي الكمال النهائي.
١٨
هل نحن بعيدون عن هذه المرحلة النهائية في تطور الجنس البشري وتحقيق الكمال النهائي؟
والردُّ بالإيجاب والسلب معًا. فالعصر الحاضر هو فجر العصر الجديد، والدور الذي سيغمر
هذا العصر
يتسرب من خلال أستار الخطأ وأغلاله. نحن على علم بأين نسير، ولكن بعض الطوباويين الحالمين
يتسرعون ويُعلنون لغة النور النهائي وأن العصر النهائي قد أتى بالفعل مع أننا ما زلنا
في
بدايته. إن تقدم الوحي لا يكون إلا بطيئًا، ولا تتغير الطبيعة الإنسانية إلا خطوة خطوة،
ولا
يمكن رؤية التقدم، ولكن يمكن المساهمة في صُنْعه وترقُّبه، وتنتهي «تربية الجنس البشري»
بالابتهال إلى التقدم البطيء للغاية، ولكن المستمر واليقيني للإنسانية نحو كمالها. فالحكيم
دءوب
يعلم غايته، ولا يتسرع في الحصول عليها في غمضة عين؛ لأنه يعلم أن التقدم لا يتم في جيل
واحد،
بل يحتاج إلى أجيال عدة، ويشير لسنج صراحة إلى أنصار «الإنجيل الأبدي»، ويُطلق عليهم
اسم
الحالمين في القرن الثالث عشر، ويقصد لسنج يواقيم
الفيوري
Joachim of Fiore والفرنسيسكان الروحانيِّين الذين تصوروا أيضًا لأول مرة في الفكر
المسيحي عقيدة التثليث على أنها فلسفة للتاريخ ذات ثلاث مراحل: «مرحلة الأب»، وهي المرحلة
التي
يتم فيها الإيمان بالسلطة الإلهية وبدافع الرهبنة والخوف. وهي المرحلة الأولى عند لسنج،
مرحلة
اليهودية التي تمثل الإنسانية في دور الطفولة. ثم تأتي «مرحلة الابن»؛ حيث يتم فيها الإيمان
عن
طريق المؤسسة أي الكنيسة. وهي المرحلة الثانية عند لسنج، مرحلة المسيحية التي تمثل الإنسانية
في
دور الصِّبا. ثم تأتي في النهاية مرحلة «الروح القدس»؛ حيث يتم فيها الإيمان بالروح دون
ما حاجة
إلى إرادة خارجية أو كنيسة أو عقيدة أو شعائر أو طقوس، وهي مرحلة الإنجيل الأبدي التي
هي
المرحلة الثالثة عند لسنج مرحلة الإنجيل الأبدي التي تمثل الإنسانية في دور الرجولة؛
حيث تكتمل
الإنسانية وتصل إلى غايتها القصوى وهو ما حدث بالفعل في فلسفة التنوير. ويرجع ليبنتز
في شرحه
للإنجيل الأبدي في التيوديسية
Théodicée إلى ما قبل يواقيم
الفيوري والقرن الثالث عشر إلى أوريجين والقرن الثاني. وبصرف النظر عن البداية التاريخية
لهذا
العصر فإنه يرجع إلى بناء فلسفي واحد وهو الأفلاطونية المسيحية.
١٩
وهكذا يبني لسنج فلسفته في التاريخ مثل فلاسفة التنوير على فكرة التقدم، ولكنه يتصور
التقدم
تصورًا جدليًّا من الموضوع إلى نقيض الموضوع إلى مركب الموضوع؛ فالقانون اليهودي هو الموضوع،
والحب المسيحي هو نقيض الموضوع، ودين العقل والطبيعة هو مركب الموضوع، وهو أيضًا دين
الروح أو
الدين المطلق أو الدين الكامل. تتقدم الإنسانية إذن على نحوٍ جدلي بتقدُّم الوعي الفردي
العام
حتى يصل إلى استقلاله وكماله. تتقدم الإنسانية من الدياجير الأولى حيث يختلط كل شيء،
وحيث لا
ندري الإنسانية أو لا يدري الإنسان أين هو ذاهب؛ لذلك عبد الأوثان على اختلاف أنواعها،
كما عبد
ديانات القوة والرهبة والسيطرة. ولكن شيئًا فشيئًا يدخل النور عديدًا من الأذهان المستنيرة
ويكثر عددها يومًا بعد يوم حتى يصبحوا هم الإنسانية جمعاء. وإن سار هذا التطور في خط
غير
مستقيم، وإن خرجت الإنسانية وهي في سبيل التقدم، وإن كان هناك انحراف أو سقوط فإن ذلك
من شيمة
الجدل. فمسار التاريخ ليس تقدمًا باستمرار ولكن لحظات التوقف أو النكوص في النهاية تمثل
عاملًا
مكونًا للتقدم النهائي، فكل نقص أو سقوط فيه تقدم للبشرية. لا يعني الدين الطبيعي إذن
في فلسفة
التنوير وعند لسنج وفي مذهب التأليه، العود إلى حالة الطبيعة الأولى التي تحدَّث عنها
روسو،
فهذه الحالة هي إحدى المراحل الخاصة للدين الطبيعي، ولكنه يعني دين الفطرة، الدين الذي
يقوم على
الاعتراف بكل شيء في الطبيعة، طبيعة الإنسان دون ما زيادة أو نقصان، والإنسان هنا هو
الإنسان من
حيث هو إنسان بصرف النظر عن وجوده في الزمان، الإنسان الأول أو الإنسان المدني.
كان لسنج لديه احترامٌ للتاريخ ورفض أن يرى فيه مجرد أهواء وأفعال وغرائز وأحكام مسبقة
للإنسان، وعلى النقيض من فولتير تُعلن فلسفته عن فلسفة هيجل الجدلية للتاريخ، فهو يسبق
عصره،
ويكشف عما سيأتي بعده. ولقد قال صديقه مندلسون بعد عام واحد من ظهور «تربية الجنس البشري»:
«حقيقة، لقد سبق عصره بأكثر من جيل».
التسامح والعالمية
وقد حاول لسنج تحقيق المرحلة الثالثة لتطور الإنسانية بالفعل في جماعة عالمية تؤمن
بدين
الروح، ويتحقق فيها التسامح، وكتب في ذلك مسرحيته الشهيرة «ناثان الحكيم» كما كتب أيضًا
«إرنست وفالك، محاورات ماسونية».
وقد جمع لسنج كلَّ مكتسبات العصور الحديثة في تصوره لدين الروح، وهو دين العقل، ودين
الطبيعة، ودين العمل، وليس دين الأسرار أو العقائد أو الطقوس أو الكنائس. اقتطف لسنج
ثمرة
القرن الثامن عشر وهي الثقة بالعقل والاعتراف بسلطته التي بدأت في القرن السابع عشر ببيان
تطابق حقائق العقل مع حقائق الوحي عند سبينوزا وليبنتز بتطبيق مناهج الرياضة (يرى ديدرو
أن
عصر الرياضة هو ١٦٥٠–١٧٥٠م) ثم أتى ريماروس وضحَّى بالوحي في سبيل العقل على عكس الأرثوذكسية
التي كانت تُضحي بالعقل في سبيل الوحي. أتى لسنج ليُبيِّن أن دين الوحي هو دين العقل
في
المرحلة الثالثة من تطور الوحي وفي العصر الثالث لتربية الجنس البشري. وقد جعل فولف من
قبل
العقل هو القاعدة، والإيمان هو الاستثناء، كما جعل هيوم كل الديانات بنات الهوى والخوف
والأمل
أو خيال فضفاض؛ فالدين ذاتي خالص يتبنَّاه شخص واحد، ولا يمكن البرهنة عليه وإيصاله للآخرين.
يظن كلُّ مؤمن أنه قد وجد الله ثم يقع الجميع في الفوضى والتحزب والتعصب. هذا هو «التاريخ
الطبيعي للدين»، ومن ثَم كان البديل هو العلم والعقل العلمي. وعند المؤلهة الإنجليز مثل
تولاند يترك العقل كل القضايا الدينية المتعالية المستحيلة تصورها أو فهمها أو تمثلها
مثل
الأسرار والمعجزات التي هي إضافات متأخرة على الدين، وليس لها إلا قيمة نسبية، هذا ما
يقوله
تولاند في «المسيحية ليست سرًّا» كما أراد هوبز تطبيق العقل على قواعد الإيمان
Canon، وأنكر المصدر الإلهي للكتاب بُعْد أعمال العقل في
الروايات. وعند تندال الكتابُ تالٍ على الدين المسيحي؛ فالدين قديم قِدَم العالم لأنه
دين
طبيعي، والوحي السابق هو معرفة الله بالعقل، وهي معرفة طبيعية لا تحتاج إلى إله أو إلى
وحي أو
إلى أنبياء، كما استخلص شافتسبري وتوماس كليب Thomas Clubb
دينًا عقليًّا من العهد الجديد، دينَ حبٍّ، ودينًا شاملًا لجميع الناس وليس دينَ شعبٍ
مختارٍ
يحتاج إلى وحي أو قوانين، بل دين طبيعي يقوم على قوانين الطبيعة، دين يعرفه وجداننا،
دين
الإنسانية والإنجيل الإنساني، وهو الدين الذي بشَّر به ناتان، كما يمثل عداء بيل Baylo للتصوف أيضًا مساهمة في بناء دين العقل، ولكنه العقل العلمي
مثل هيوم الذي يفكر في الأرض لا في السماء والذي تكون مهمته التحليل والتركيب، والذي
لا يميز
بين «روح الدفة وروح الرياضة».
ودين العقل هو أيضًا دين الطبيعة؛ فقد استطاع ناتان التوحيد بين الأديان على مبادئ
الدين
الطبيعي. ولما كانت قوانين الطبيعة ثابتة فإنها لا تسمح بحدوث خرقٍ لها ووقوع المعجزات.
فالطبيعة تخضع لقوانين حتمية عند ليبنتز، كما أن صفات الله هي قوانين الطبيعة عند سبينوزا.
كما حاول فولف إعادة تفسير الخارق للطبيعة على أنه الطبيعي في كل قوته وازدهاره، والعالم
بمعجزات نادرة أفضل من عالم بلا معجزات يدل على وجود مهندس ضعيف؛ فالمعجزات إثارة للذهن
البشري، ودافع على البحث عن قانون طبيعي، وهو ما قاله سبينوزا أيضًا من أن المعجزات حادث
طبيعي نجهل قانونه، كما أنكر المؤلهة الإنجليز المعجزات باعتبارها جزءًا من الأسرار،
والدين
الطبيعي لا أسرار فيه، فأنكر تولاند وولستون
Woolston المعجزات.
٢٠
دين العقل ودين الطبيعة هو أيضًا دين الأخلاق العملية، ودين القيم الإنسانية الشاملة
التي
يتفق عليها جميعُ الناس لا فرق بين ملحدين ومؤمنين، بل إن فولف يرى أنه في كثير من الأحيان
يكون الملحد أخلاقيًّا والمؤمن غير أخلاقي كما يرى أرنولد Arnold أن الحقيقة قد تكون موجودة عند الهراطقة أكثر من وجودها عند
الأرثوذكس؛ فالهرطقية ثورة على الفساد الخلقي كما هي إثبات لبداهة العقل ضد ظنية العقائد
وأوهام الانفعالات والعواطف. ويرى ويبلز Wippels أن الكتب
المقدسة ليست هي القواعد الوحيدة للإيمان أو المبادئ الوحيدة للسلوك، بل تضحية المسيح
بنفسه
لا تُغني عن العمل الصالح؛ فالعمل هو وسيلة الاستحقاق، أما المظاهر الخارجية للدين فهي
أقرب
إلى الوثنية منها إلى الأخلاق، كل إنسان يخلِّص نفسه بنفسه بالعمل الصالح، وليس بتضحية
الآخرين حتى ولو كان المسيح، كما هاجم تيلوستون Tilloston
الطقوس والشعائر في الدين وجعل العمل الصالح هو سبيل الخلاص؛ فالعمل الصالح يُغني عن
العقيدة
الظنية كما يُغني عن الشعائر والطقوس الخارجية. والعمل الصالح يأتي به الإنسان بمفرده
دون ما
حاجة إلى كنيسة أو كهنوت. كما رفض توماسيوس Thomasius سلطةَ
أرسطو وسلطة الكنيسة، ورفض الكهنوت؛ فالقسيس غير مفيد وتدخُّله في شئون الدنيا ممقوت،
والزهد
والنسك عمل المرأة الطيبة والنفس الخائفة، ولكن المسيحية ليست الحزن والقلق من أناس خائفين
أو
الصليب الذي يعلِّقه القسيس حول العنق. ويرى ديبلز أن الكنيسة ليست إلا جماعة من الناس
لهم
إرادة معينة ينفذون بها ما يشاءون، وينطبق عليها قانون الجماعة وبناؤها وهو قانون السيطرة
والقوة الجماعية. كما يرى إدلمان Edelmann الرهبنةَ تشويهًا
وتزييفًا لصورة الله الحق الحال في الطبيعة، وتجميد للروح وإضافتها فوق المادة؛ فهو يشير
إلى
روحانية عرجاء ميتة خواء وإلى مادية صامتة تكون هي أساس الكون.
وأخيرًا فإن دين العقل ودين الطبيعة ودين العمل الصالح هو دين التسامح، وقد عانت
الإنسانية أكثر ما عانت من التعصب الديني والحروب بين الفِرَق. وقد حاول عديد من المفكرين
إعادة بناء الدين على أساس من التسامح فكتب لوك رسالته «في التسامح» في ١٦٨٩م ضد نقض
تشريع نانت L’Elite de Nantes في ١٦٨٥م يركز على عدم
الإضرار على أي نحو كان بالشخصية الإنسانية؛ فلكل إنسان الحق في أن يُنقذ نفسه بنفسه
بلا حاجة
إلى توسُّط من آباء أو كنائس. فالتوسط تسلط، والتسلط يقوم على التعصب والرغبة في الاستحواذ
والتملك. أما طريق الشعور وصوت الضمير فهو طريقٌ رحبٌ واسع يقوم على التسامح والشمول،
كما يجب
رفع كلِّ الضغوط على الإنسان، من أجل أن يتحول عن دينه قهرًا، فذلك ضد حرية العبادة والاختيار
الحر، كما يجب رفض طقس العماد الذي يُجبر الطفل الرضيع على دين قد لا يرضاه بعد أن يشب
عن
الطوق. إن أفضل ما في الإيمان هو الصدق وحرية الاعتقاد، وأسوأ ما في الدين هي الكنيسة،
كلُّ
كنيسة تدَّعي أنها أفضل من الأخرى وأعلى منها، وكلٌّ منها تتملَّق السلطة السياسية وتتقرب
لها. وكلٌّ منها تدَّعي أن شعائرها هي أفضل الشعائر، وأن طقوسها هي أفضل الطقوس، وكلٌّ
منها
تُنصِّب عليها رئيسًا تدَّعي أنه يمثل الروح القدس، وأنه معصوم، وفي الحقيقة أنه يمثِّل
التسلط والطغيان مثله مثل أمراء الإقطاع والأباطرة، يتصالحون مرة من أجل استغلال الشعب
والسيطرة على رزقه، ويتنافسون مرة أخرى إذا ما تعارضت المصالح ويكون الحكم في النهاية
للأقوى.
كما رفض هلفسيوس Hèlvetius وكوندلياك Condillac كلَّ الصور والعقائد والأشكال الخارجية عن الدين، على أنها تعبيرات
مختلفة عن التعصب والقبلية وضيق الأفق والغرور والادعاء. كما كتب بلليسون Pellison في «القاموس التاريخي والفلسفي» مقالًا عن «التسامح» مبينًا أن
العقبة الأساسية أمام المعرفة ليس هو نقص العلم، بل كمية الأحكام المسبقة التي تؤمن بها
إيمانًا قائمًا على الهوى والخرافة؛ فالتعصب والدجماطيقية هما سببُ التخلف، وضيقُ الأفق
والتفسير الحرفي لنصوص الكتاب هما سبب الجهل. كما كتب فولتير «مقال في التسامح» في ١٧٦٣م
يتهم
المسيحية بأنها دين يقوم على ضيق الأفق، ويتأسس على التعصب الذي تقوده الكنيسة ويمارسه
الرهبان، ويتهم المسيحيين قائلًا: نحن المضطهدون القتلة لإخواننا! ويتهكم عليهم قائلًا:
«يا
إلهي كم من الفضائل في روح الكافر!» فالمؤمن أكثر تعصبًا من الكافر لأن المؤمن لا يسمع
لأخيه
المؤمن والكافر يحاور الجميع. يريد فولتير أن يعيش الناس كلهم أخوة، مسلمون وصينيُّون
ويهود
وساميون؛ فكلنا لآدم وآدم من تراب، كلُّنا أبناء إله واحد. التسامح قمة العقل، ومبدأ
الفلسفة،
وأخ الدين. ويضرب فولتير المثل بمجتمع النحل، فلا يحب الله إلا النحل لتعاونه على البر
والتقوى، وعلى الحياة، واستمرارها، فكيف لا توجد لغة مشتركة بين الناس!
ورث لسنج كلَّ هذه المحاولات لإقامة دين واحد شامل للإنسانية جميعًا، دين العقل والطبيعة
والخير والتسامح، لا فرق فيه بين ديانات الشرق والغرب، بين كونفوشيوس والمسيح كما يقول
فولف،
ولا يوجد فيه دين أسمى من دين بل تتوحد الديانات كلها في الإيمان بالله الواحد وفي العمل
الصالح، وعلى هذا النحو ترتقي الإنسانية نحو الكمال، وتتجه نحو الأفضل. وتتجه الديانات
كلها
نحو الله على ما يقول ليبنتز، ويصبغ لسنج كلَّ هذا التنوير على أساس حركي دينامي في بلوغ
الإنسانية طورها الثالث والأخير.
وقد ظهر موضوع التسامح في أعمال لسنج قبل «ناتان الحكيم» مما يدل على أنه كان فكرة
موجهة
لديه تتخلل كلَّ أعماله من أولها حتى آخرها. وقد تم الكشف أخيرًا على أن جدَّ لسنج من
أبيه قد
ناقش في ٢٤ مارس ١٦٦٩م رسالةً عن «التسامح في الدين»، وأن لسنج وهو في سنِّ الثانية عشر
قد
دوَّن عدة أسطر أضافها على نسخة جدِّه، يبيِّن فيها أن المسيحية تمحو الخلافات بين الشعوب،
وقدَّمها إلى مدرسة ميسن كامتحان قبول. فقد خلق الله المسيحيين ولهم عقول، فهم أول مَن
يمارسون الحب المتبادل، ويعممونه على كلِّ مَن هو في حاجة إليه، وعلى الإنسانية جمعاء،
وقد
قال الله في الكتاب «لا تحكم»، أي لا تدين الجار سواء كان يهوديًّا أو مسلمًا؛ لأن هناك
أشخاصًا شرفاء في كل دين وملة.
وفي مسرحيَّتَيه الهزليَّتَين «المفكر الحر» و«اليهود» في ١٧٤٩م يرى لسنج أن المفكر
الحر
ليس إنسانًا فاسدًا أو مدعاة للسخرية، بل رجل فضيلة، مثل أردست Ardest الذي يعمل بعقله ويصل إلى نتائج معارضة للأرثوذكسية. ليس لليهود مقولة
مستقلة عن مقولة البشر، وبالتالي لا يجب اضطهاد المسيحيين لهم؛ فقد ظهر من بينهم الأنبياء
والأبطال الشرفاء كما ظهر من بينهم المارقون الفاسقون الذين يستحقون العقاب. يريد لسنج
الذهاب
إلى ما وراء العقائد والأشكال والرسوم إلى شيء آخر أكثر جوهرية في الإنسان وهو الفكر
الحر
والعمل الصالح، الذي عليه يتوحَّد كلُّ الناس بصرف النظر عن دياناتهم ومِلَلهم. وفي مسرحية
فيلوتاس Philotas يشرب اليوناني والفارسي نفسَ النخب؛
فالتسامح فقط ليس بين الأديان ولكنه أيضًا بين الشعوب والقوميات اتِّقاءً لويلات الحرب
واتقاءً لشرِّ الضغينة. وأول شعر ديني قرضَه لسنج كان تمجيدًا للعقل ورفعًا من شأنه واعتزازًا
بشعار المسيحيين: «أحبُّوا أعداءَكم كحبِّكم لأنفسكم.» فليس هناك شفاعة بديلة عن الحب،
حتى
ولو كانت هي مادية العلماء والفلاسفة الفرنسيين من أمثال لامتري La Mettrie.
ويعتبر أول عمل فلسفي كتبه لسنج وهو «تأملات حول الكانطين» في ١٧٥٠م أبرز عملٍ ظهرت
فيه
الدعوة للتسامح. فالقنوط هو العمل بالخير، وعمل الخير عمل الروح، وعمل الروح هو التواضع
والإحسان. لقد سقط الدين وانهار منذ آدم حتى الآن فضاع الدين البسيط الحق واستبدل به
الناس
دينَ الأسرار وأضافوا عليه زياداتٍ ليست منه. لذلك كان لا بد من ظهور المسيح حتى يؤسس
الدين
الجديد ضد الآباء وعلماء اللاهوت، ويقلب المائدة على رأس التجار الذين حوَّلوا معبد الله
إلى
تجارة خاسرة، فأسس الدين الواحد، دين التسامح والإخاء. ولكن انحرف الدين عن مساره بعد
القرن
الأول، وضاعت الحقيقة الإلهية البسيطة والخلقية في خضمِّ الجدل اللاهوتي العقيم وتسلَّط
الجماعات باسم التنظيم والإدارة حتى عبد الناسُ البابوية. يجب العودة إذن إلى الدين الطبيعي
الذي يرى في الطبيعة نظامًا وجمالًا أكبر دليل على وجود الله. إن اتفاق الأفعال الخيِّرة
ووحدة العمل الصالح وليس اتفاق الآراء ووحدة العقائد هو الذي يجعل العالمَ هادئًا سعيدًا،
وفي
القلب السليم يجد الإنسانُ أخاه الإنسان. يدافع لسنج عن القنوط ضد اتهام الأرثوذكسية
له بأنه
نزعة صوفية؛ فالعمل الطيب لا بد وأن يقوم بالضرورة على حضور الروح. وقد كتب لسنج: «لقد
خُلق
الإنسان من أجل العمل وليس من أجل النظر، ولكن الإنسان قلبَ الآية وترك العمل وأخذ بالنظر
فأغرتْه الأحلام والطوباويات والتأملات الفارغة، في حين أن مهمته في العمل وفي الممارسة
مع
الآخذين وفي توجيه حياته نحو الخير. لا يستطيع الإنسان أن يُنقذ نفسه إلا بالأفعال، ولا
يهمُّ
ما يفكر فيه المسيحيون أو المسلمون أو اليهود، ولا يهمُّ إذا كانوا بيضًا أم سودًا أم
حمرًا
أم صفرًا؛ لأن الفضل يتحدد بقيمة العمل وحسن النية، وفي أثر العمل وصدق النية، وفي درجة
مقاومة الشر ومناهضة العنف والظلم والوقوف أمام كلِّ مظاهر التعصب والطغيان، ويعترف ناتان
بكل
الأديان بشرط مساهمتها في التقدم وعدم معارضتها لدين العقل والطبيعة والخير والتسامح،
وكان
يمكن للمسيحية أن تكون نموذجَ هذا الدين ومصدرًا للتقدم الخلقي، ولكن الكنيسة بميلها
نحو
التأمل اللاهوتي أدخلت المسيحية في طريقٍ أفقدها صفاءَها وقوتَها، وتنكَّرت للعصور الأولى
التي كانت فيها دعوة للحياة والأمل.»
لقد دعَا لوثر لخلاص الإنسان عن طريق الإيمان بنظريته «التبرير بالإيمان لا بالأعمال»،
ولكن لسنج يرى أن العكس هو الصحيح وأن خلاص الإنسان يتم بالأعمال لا بالإيمان؛ فالطيِّبون
المؤمنون هم الذين يعملون، ولا يمكن تأجيل عمل اليوم إلى الغد مهما كانت مهام اليوم التي
تفرض
نفسها على الإنسان المحبِّ للخير. وعلى هذا النحو يتحقق الكمال بعمل إنسان دون ما حاجة
إلى
عونٍ خارجي، فلا ينتظر الإنسان خلاصًا بالتأمل بل عن طريق الجهد والمعاناة والإيمان بالأعمال.
هذا التفاؤل مرتبط بالتصوف المسيحي الذي يُبشِّر بالتسامح أكثر مما يُبشِّر بحبِّ الجار.
يطالب لسنج الإنسان بعمل الخير من أجل الإنسانية، وبأن يعمل من أجل خلاص أترابه أكثر
مما
يطالبه بحبِّهم؛ فالإنسان يفارق باستمرار نحو الكمال. لذلك لم يعترض لسنج على آراء المؤلهة
من
أن المسيحية في جوهرها تعاليم خلقية بسيطة كاملة تتركز على حبِّ الجار. كما دافع عن آراء
القنوطيِّين في وقت كانوا فيه موضع الهجوم مقارنًا بساطة دينهم مع الأرثوذكسية المتوغلة
في
اللاهوت قائلًا: «كم كان دينُ آدم بسيطًا وحَيًّا، ولكن كم بقي من الزمان؟ لقد غرق العالم
فيما بعد في دين ناقص ووضعيٍّ للقسيسين والأضاحي والأسرار؛ ولهذا أتى المسيح، واسمح لي
أن
أعتبره هنا فقط كمعلم أناره الله. لقد كان عمله في إعادة البساطة والإخلاص وفي تعلمه
أن الله
«روح تحبب عبادته بالروح» ولكن استمر الفساد القديم، واختلطت التعاليم المسيحية بالحكمة
الدنيوية؛ فالمسيحية الحقيقية أندر مما كانت عليه في عصور الظلام. في المعرفة نحن ملائكة
وفي
السلوك نحن شياطين.»
وفي مسيحية العقل (١٧٥٢-١٧٥٣م) لا يكتفي لسنج بعرض المسيحية بالحجج النقلية، ولكنه
يؤسِّسها على الحجج العقلية حتى يمكن أن تكون نموذجًا للبداهة وبالتالي نموذجًا للدين
الطبيعي. وفي «مصدر دين الوحي» (١٧٧٥–١٧٦٠م) يبيِّن لسنج أن الدين الطبيعي أعلى من دين
الوحي،
وهو الدين البدائي السابق على كل شيء، وهو دينٌ شخص إنساني وفي نفس الوقت شامل عام فهو
يجمع
بين العمق والسمو. وتكون المسيحية دينًا صحيحًا بقدر اقترابها من الدين الطبيعي وهو الدين
الأخلاقي، وطالما ستظل المسيحية دينًا اتفاقيًّا فقط فلن تكون دينًا تلتفُّ حوله الشعوب،
وتلتقى عليها الديانات والملل. الدين الطبيعي هو الدين الأساسي
Urreligion الذي عليه تتوحد ومنه تنشأ كلُّ الأديان، وهو
الدين الذي حاول لسنج عرْضَه أيضًا في دين المسيح.
كما عرض لسنج لموضوع التسامح في «الخلاصات» Retturgen في
١٧٥٤م عندما أراد إنقاذ أسماء من النسيان جديرة بالبقاء (ضد يعقوب البوهيمي الحالم المتناقض)،
مثل كاردان (١٥٠١–١٥٧٦م)، وتبرئته من تهمة الإلحاد، وتقديره لتوحيده بين الأديان: اليهودية
والمسيحية والإسلام، بالرغم من أن لسنج يعيب عليه أنه كان متسامحًا مع المسيحيين الذين
رأوا
وظيفة العقل في معرفة الله واستئصال الأخلاق فتحوَّلت المسيحية على أيديهم إلى مجموعة
من
الأسرار وبعض الأفكار الفظَّة والمناهج الجدلية القديمة دون إيمان صادق أو أخلاق عملية.
أراد
كاردان أن يؤسس دينًا واحدًا عامًّا شاملًا بسيطًا واضحًا لا أسرار فيه ولا غموض، ويُعيد
لسنج
الكرَّة من جديد، كما يُعيده كلُّ المفكرين الأحرار في الحضارة الأوروبية وكأنه هو مشروعها
الأوحد على مستوى الوجدان الديني.
وأخيرًا خصص لسنج مسرحيته الشهيرة «ناثان الحكيم» من أجل التأكيد على موضوع التسامح
والعمل الصالح الذي يوحِّد بين الأديان، وعلى اليقين العملي الذي لا يختلف عليه المتدينون
على
اختلاف مزاجهم ومِلَلهم وعقائدهم. والشخصيات الأساسية هي ناثان اليهودي، وصلاح الدين
المسلم،
وفارس تمبلار Templar الذي يمثِّل المسيحية من نوع لسنج
والتي يدعو إليها، وناثان نموذج الإحسان والتسامح، وصلاح الدين نموذج الفارس المقدام
الذي
ينشر دينه Runner-up، ولكن باستنارة واقتناع، وفارس تمبلار
بالرغم من أنه شخصية مسيحية إلا أن عليه أن يتعلم منذ البداية أن يُدرك قيمة التسامح
الديني
ورذيلة التعصب، والدعوة التي يريد لسنج تبليغها هي أن كل الناس يجب أن تُعامل بعضها البعض
في
أخوة بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية. فالبشر بشرٌ قبل أن يكونوا مسيحيين أو يهودًا
أو
مسلمين؛ فالكل يؤمن بإله واحد ويعمل الخير.
وتبدو قمة المسرحية في الفصل الثالث، المنظر السابع، في حوار بين ناثان وصلاح الدين
(في
غياب فارس تمبلار ودلالة هذا الغياب). ويستعمل لسنج قصة من الدكامرون
Decameron لبوكاتشيوه
Boccacio، فيسأل صلاح
الدين ناثان بحكاية رمزية. كان هناك شرقيٌّ يمتلك خاتمًا ثمينًا له قدرة على أن يجعل
حامله
محبوبًا من الله والناس، فأعطاه في وصيته لابنه المختار موحيًا إياه على أن يفعل نفس
الشيء
وتناقلتْه الأجيال حتى وصل إلى أب له ثلاثة أبناء كلهم أعزاء لديه. لم يشأ الأب أن يتحيَّز
لواحد مهم، وأمَرَ بعمل نسختين متشابهتَين للخاتم الحقيقي، وأعطى كلَّ ابنٍ خاتمًا، وبعد
موته، ادَّعى كلُّ ابنٍ أنه يمتلك الخاتم الحقيقي، ونشأ عراكٌ بينهم؛ لأنه كان من الصعب
التمييز بين الخاتم الصحيح والخاتمَين الآخرَين المتشابهَين، كما أن الإيمان الصحيح من
الصعب
العثور عليه. ولما رفعوا الأمر إلى القضاء حكم القاضي بينهم بأنه لا يحقُّ لأي واحد منهم
أن
يدَّعيَ أنه حامل الخاتم الصحيح، على افتراض أن الخاتم الأول قد فُقد، وأن الأب قد قام
بعمل
نُسَخ ثلاث للخاتم المفقود. ومع ذلك، فليحاول كلٌّ منهم بروح الحب والأخوة أن يبيِّن
أن خاتمه
له نفس القدرة التي للخاتم المفقود، وبهذه الطريقة وحدها يمكن التعرف على الخاتم الصحيح.
فالعمل الصالح وحده والتنافس في الخير هو السبيل إلى معرفة صدْق النظرية وصحة الإيمان.
وكل
الديانات «الوضعية» صحيحة لمن يؤمن بها بالرغم من أن الفلاسفة والفقهاء قد يرونها باطلة
أو
معابة. الدين المطلق الوحيد هو الدين الطبيعي للإنسانية كلها. ليس المطلوب من الإنسان
الإيمان
النظري قبل الممارسة العملية للحب والتسامح، وهي نفس الدعوة التي عبر عنها في «وصية يوحنا»؛
فإذا كان الإيمان النظري ظنيًّا، على ما يقول الفقهاء المسلمون، فإن العمل يقينيٌّ.
٢١
والحقيقة أن لسنج يُنكر فهْمَ الوحي فهمًا واحدًا على أنه وحيٌ خاص؛ فالحقيقة ليست
في
العقيدة بل في غياب العقيدة. الحقيقة هي الحب الأخوي والإخلاص والتسامح، أكثر من كونها
تفسيرًا ميتافيزيقيًّا عن طبيعة الإنسان والله والطبيعة، ويقينه يقينٌ أخلاقي؛ فموقف
ناثان من
الديانات الوضعية هو موقف لسنج، وهو ما يقوله في «ناثان» وفي «عهد يوحنا» وفي «إرنست
وفالك».
وعندما سمع أن فولتير قد استقبل القسيس وهو في فراش المرض قال: «عندما تراني أموت أدع
الكاتب،
فأعلن إليه أني أموت دون أن أومنَ بأيِّ دين وضعي!»
وقد دفعته فكرة لسنج عن الإخاء الشامل والتسامح ولا مبالاته بالديانات الوضعية نحو
الماسونية وتعلمها في همبورج في ١٧٧١م. ومما لا شك فيه أنه قد أُصيب بخيبة أمل عندما
رآها في
التطبيق. ولكنه ظل معجبًا بها من حيث المبادئ والمُثُل ودعوتها الباطنية الروحية. وقد
نشر منذ
١٧٧٨م المحاورات الثلاث الأولى من «إرنست
وفالك» Ernest and Falk، ثم المحاورتَين الأخيرتَين في ١٧٨٠م. لم يشارك لسنج في احتفالات
الماسونية؛ «فالمعبد الماسوني بالنسبة للماسونية كالكنيسة بالنسبة للمسيحية»، وبالتالي
فلن
يبقَ التنظيم الماسوني إلى الأبد. وأهم شيء هو ماسونية الروح متجاوزة ليس فقط التنظيمات
الدينية والكنسية، بل أيضًا الوطنية والعنصرية التي تضع البشر في نظم منفصلة. ويبشر لسنج
بالدولية والعالمية والأممية قائلًا: «كثيرًا ما يأمل الإنسان أن يكون في كل دولة بعض
الناس
أحرارًا من الأحكام المسبقة عن الوطنية، وعلى وعيٍ تامٍّ متى تحول الوطنية إلى رذيلة.»
والحقيقة أن «المحاورات الماسونية» هي التطبيق الفعلي لمحاولته «تربية الجنس البشري»؛
ففي
المحاورات يطبق لسنج مبدأ الكمال الإنساني والتقدم نحو الإنسانية المتكاملة، كما حاول
نابليون
أن يُقيمَ الجمهورية الشاملة La République Universello على
مبادئ الثورة الفرنسية الحرية والإخاء والمساواة. هناك إذن تماثلٌ بين المشكلة الدينية
والمشكلة السياسية، بين تقدُّم الشعور الديني وإقامة النظم السياسية. لقد أهملت الكنيسة
إعطاء
المسيحيين وسائلَ تحقيق الاتفاق بين العقل والإيمان، وتوضيح ما غمض من الوحي بالتحليل
العقلي
كما أهملت النظم السياسية بيان ماهية الماسونية، وتوضيح أهداف الجماعة التي تسعى إلى
تحقيق
انتصار الإنسانية في المؤسسات السياسية والاجتماعية.
إن إقامة مجتمع كامل، هو الدولة عند هيجل فيما بعد، نتيجة طبيعية للدين الشامل؛ وذلك
أن
تطوير الجنس البشري يؤدي بالضرورة إلى انقسامات دينية وسياسية وتعدُّد الديانات والدول
وهو
شرٌّ لا بد منه داخل المجتمع وطبيعة الواقع الاجتماعي. وابتداء من اللحظة التي قرر فيها
الناس
الارتباط معًا في جماعات فإنهم يرون أنها جماعات محدودة تتصارع فيها بينها، وإن كل أمة
تَعِي
ذاتَها بمعارضتها للأمة الأخرى، وأن المواطنين يَعُون جماعتَهم بتعارض دولتهم مع دولة
أخرى.
وهنا تنشأ الحاجة إلى نظام آخر تُمحَى فيه الفروق، وإلى أمة واحدة لا صراع فيها حتى يمكن
التغلب على الفتن والحروب والانقسامات بين الجماعات والدول. وسيأتي اليوم حتمًا الذي
تنشأ فيه
هذه الجماعة، ولكن رجال الخير لا يجب عليهم انتظار أن تتحد الأمم والجماعات في نظام واحد،
بل
عليهم أن يعملوا من أجل تحقيق وحدة الجماعة الإنسانية الكبيرة، جماعة اليوم الآخر والبعث،
من
أجل تكوين الكنيسة اللامرئية للإنسانية وهي الماسونية.
فالماسونية كنيسة لأن أعضاءها مرتبطون معًا بالاشتراك في سرٍّ لا يفهمونه دائمًا،
فهناك
في أساس مؤسستهم شيء يتجاوزهم، يكون أعلى من حكمهم الفردي، ويعطي كلَّ فرد الأولوية له،
ويؤيدهم في ذلك إحساسٌ قويٌّ بأنهم ينتمون إلى جماعة ليست مجردَ مجموعِ أفراد. إن مبدأ
الماسونية فوق كلِّ ذي عقل فردي لأنه مبدأ المجتمع الماسوني. يعلم الماسوني في أن الآخرين
قد
اكتشفوا ذواتهم، وأنهم اكتشفوا مراكز أشخاصهم، ومن ثَم يصبح لأعمالهم معانٍ أخرى؛ فإنهم
لا
يعملون طبقًا للغرائز اللاعقلية والمصالح الخاصة والدوافع الملوثة بالانتماءات الوطنية
والدينية والاجتماعية؛ لأنهم يعلمون أن الإنسانية الخالصة تتحدث من خلالهم، فكلُّ فرد
منهم هو
الإنسان من حيث هو إنسان، كما ينبغي أن يكون دون أن يُشوه بالانتماءات الاجتماعية المختلفة.
فالماسونية هي ارتباط بين كلِّ مَن يشعرون بأنهم مواطنون في العالم، والذين تخلَّوا عن
مصالحهم الخاصة ومصالح جماعتهم، ولا يعملون إلا من أجل مصالح الإنسانية، فيأخذون من الإنسان
كلَّ عرض يتعلق به، ويضعون فيه ما هو جوهري، يعملون بعقل، ولا يفقدون الحماس. وقد حاول
لسنج
ذاته أن يجمع بين الحماس في النضال والعقل السليم، وألَّا يتخلَّى عن الوضوح والبطولة.
وهذا
هو السبب القوي الذي يجعل الماسونيَّ مرتبطًا بجماعته، يُطيعها برضاه، وينتسب إلى هذه
الكنيسة
اللامرئية التي يعلم أهدافها. قد تطلب إليه أخْذَ مواقف، والقيام بأفعال قد لا يعي مبرراتها
مباشرة؛ لأن هناك سرًّا مشتركًا بين الماسونيين يحتوي كلُّ ماسوني على ذرة منه، وهذا
السرُّ
هو كنزهم المشترك. يشعر الماسوني أنه أسمى من الإنسانية الشائعة، ليس بمعنى أن له ماهية
مخالفة، ولكن بمعنى أنه قطع شوطًا أبعد من حيث الوعي بالذات والوضوح والحقيقة، ويعلم
أن البشر
لا يستطيعون الآن فهْمَ كلِّ شيء، ولا يريد أن يُعلمَهم الآن كلَّ ما يجهلونه كما يحاول
أنصار
فلسفة التنوير «الفلسفة الشعبية»؛ فالماسوني يعلم الجنس البشري، ويعلم أن تلميذه اليوم
غير
قادر على استقبال أية حقيقة «لا يستطيع الحكيم أن يقول ما كان من الأفضل ألَّا يقولَه»،
ولكن
غدًا يستطيع الناس فهْمَ ما لم يستطيعوا أن يفهموه اليوم.
وللماسوني وجودان وحياتان، ولكلٍّ منهما نوعان من الأفعال؛ الأول: أفعالهم الخارجية
Ad Extra التي تُحدِّد دورَهم في المجتمع المدني.
والثاني: أفعالهم الداخلية وهي أفعالهم الحقيقية التي تتصل بالجوهر. وقد يعجب مَن لا
يعلمهم
من قولهم إن الأعمال الحسنة ليست سببًا في الفخر والزهو؛ مثل تشييد المدارس وبناء الملاجئ
للأيتام؛ وذلك لأن هذه الأفعال ظاهرية لأفعال أخرى حقيقية تدهش الأنظار، وتسترعي الانتباه،
وتجعل الناس يُقبلون نحوهم. إن الأعمال الحقيقية تحدث في مكان آخر، ولا يمكن وصْفها لأنها
لا
يمكن تعيينها، بل تحدث في الكنيسة الجديدة اللامرئية التي تنظم الإنسانية الكاملة وعقلها
الأسمى وإرادتها الخيِّرة، ويظل الماسوني ذاته حتى عندما يحاول مع أقرانه الوصول إلى
حقيقة
المسائل الصعبة، وتوضيح مسألة جديدة وتكييفها طبقًا لعمله.
٢٢
والمسائل ليس لها إلا إجابات تقريبية بطريقة رمزية، والعلاقات تقوم بمهمة التربية
عندما
تعبِّر عن الفكر بالأمثال والرموز. فمثلًا يكون السر هو: «أن أفعال الماسونيِّين لها
غاية
واحدة هي أن تجعل معظم ما نسمِّيه اليوم أعمالًا حسنة غير مفيدة»، أي جعْل المجتمع الإنساني
يصل إلى مستوى الكمال؛ حيث لا يمكن لأي شيءٍ أن ينال من الفرد، وحيث لا يمكن لأيِّ شيءٍ
أن
يقهر الفرد أو الجماعة، وحيث يستطيع الفرد أن يزدهر بكمال، وحتى يُصبح الإحسان بلا موضوع؛
لأنه لا يَعُد هناك بؤس، وحيث لا يمكن أن تخرق المصالح الشخصية العدالة؛ فالبشر ليسوا
متساوين
وليسوا كاملين، ولكن الأفضل يقود الضعفاء، والمجتمع يقوم على أساس عقلي، وليس على مبدأ
الأقوى
ومن ثَم تصبح الأعمال الصالحة لا فائدة منها، ويمكن القول بالمثل مع الإخلاص والتفاني؛
لأن
العلاقات الاجتماعية قائمة بحيث لا يمكنها أن تنال من أحد.
وتختفي التقسيمات الوطنية والاجتماعية؛ لأن البشر لن يحتاجوا إلى هذا الارتباط الاجتماعي،
وإلى معاداة جماعة أخرى يمكنهم السلوك وحدهم والعيش بمفردهم، فيصبح جهاز الدولة لا لزوم
له؛
لأن العدالة ستسود الجميع. لقد أقام روسو الديمقراطية المثالية على الإرادة العامة، فيما
يوجد
في الإنسان، ويكون صحيحًا على وجه الشمول وعلى الإحساس بالواجب وعلى الرغبة في الخير.
ويريد
لسنج مثله إقامةَ مجتمع لا يحتاج إلى الاعتماد على القوة، ولا تحتاج فيها الدولة أن تُحيطَ
نفسها بجيوش مسلحة لحماية المواطنين ضد دولة أخرى يحكم البشر أنفسهم بأنفسهم، ولن يحتاجوا
إلى
أحد يُرشدهم. وبعد الإحسان لا يحتاج الناس إلى الدولة، وسيجدون فيما بعد قرن ونصف من
الزمان
المثل الماركسي الأعلى: «إن القضاء على الدولة يكون من بين أهداف الإنسانية التي تتحقق
في
المستقبل، فمجتمع المستقبل لا دولة له مجتمع شيوعي».
ولا يقوم هذا المثل الأعلى على أمل التغير الجذري للإنسان الذي سيصبح فجأةً ملاكًا،
ولكنه
يمثل إيمانًا بالعقل الإنساني. فهذه الجماعة المثالية التي يقودها الماسونيون أي حزب
الأفضلية
هي جماعة عقلانية تقوم فيها السيادة والسلطة على العقل والذكاء. وهو ليس مدينة الله تقوم
فيها
العلاقات الاجتماعية على الإحسان، ولكن على العكس تصبح الأعمال الخيِّرة هنا بغير ذي
موضوع؛
لأن المؤسسات تُقوِّي الميول الخيِّرة على نحو طبيعي عند الإنسان بدلًا من مناهضتها،
لا يريد
لسنج إقناع الناس بأن يكونوا ملائكة لتكوين مجتمع الملائكة، ولكن يريد لهم أن يكونوا
أنفسهم
فحسب، وبالتالي فنحن ملائكة نعيش كشياطين. ولا يوجد إنسان، إلا إذا كان غبيًّا تمامًا
وغير
جدير بالانتساب إلى أية جماعة إنسانية، لا يستطيع التمييز بين الخير والشر أو الحق والباطل،
ولكن يندر الإنسان الذي يحاول أن يوحِّد بين أفعاله ومعارفه، وبين شعوره وسلوكه، وما
أكثر
المعاذير! العادات السلفية تُبقيهم في الخطأ والظلم. وفي اليوم الذي يشعرون فيه بثنائيتهم
بعد
أن يُرشدهم نور العقل، ويوجِّه إرادتهم فإنهم يصبحون جديرين بمواطني العالم. «المحاورات
الماسونية» نداء مستمر للفعل، ولا يُبرر الماسونيون سموَّهم على غيرهم إلا بأفعالهم،
فهم
عظماء بأفعالهم، وليس لهم أية عقول فوق العادة، وفطنتهم ليست بالضرورة أفضل مما لدى سائر
الناس، ولكنهم صفوة لأنهم يتطلبون من أنفسهم ما لا يتطلبه الآخرون، ولا يحتجون
بالأعذار!
هذه الماسونية لا ترجع إلى القرن الثامن عشر فحسب، ولم تتأسس في لندن قبل غيرها من
المدن،
ولكنها موجودة في كل مكان لأنها رابطةُ العقول المستنيرة، وأعضاؤها هم رجال الخير الذين
يحاولون إرشاد الشعوب إلى طريق التقدم والرقي. فقد كان هناك ماسونيون باستمرار منذ عصر
الأنبياء والحواريين. الماسونيون متعطشون للكمال الإنساني، ويصيح فالك في بداية المحاورة
الخامسة: «الماسوني ينتظر شروق الشمس!»
وعلى هذا النحو يحقق لسنج الكمال الإنساني ليس في الدين وحده، بل أيضًا في النظام
الاجتماعي حتى لا يكون الطور الأخير في تقدُّم الإنسانية طورًا نظريًّا خالصًا، ومجرد
أمل أو
حلم. ولكن يظل السؤال هل المجتمع الماسوني هو الذي يمثل الإنسانية الكاملة؟