سادسًا: فلسفة التاريخ بعد لسنج
لقد أثر لسنج تأثيرًا كبيرًا في عديد من المفكرين والشعراء الذين أتَوا بعده؛ فقد
أثر على
كيركجارد
Kierkegaard، (١٨١٣–١٨٥٥م)، وكولريدج
Coleridge (١٧٧٢–١٨٣٤م) في ربطهما الوحيَ بالتقدم، كما أثر على
نيومان
Newman (١٨٠١–١٨٩٠م) في تفرقته بين الفكرة والواقعة،
أو بين الحقيقة والحادثة في كتابه المشهور «محاولة في التطور».
١ كما أثر لسنج على شليرماخر
Schleiermacher
(١٧٦٨–١٨٣٤م) في تمييزه بين الطبيعي والخارق للطبيعة، وعلى رتشل
Ritschl (١٨٢٢–١٨٨٩م) في محاولته لتحديد الصلة بين الإيمان والحرية. كما أثر لسنج
بإصراره على ضرورة الحكم الشخصي والبحث الحر على كل الغنوصيين ضد سلطة الكنيسة الكاثوليكية،
وأعطى ثقة لا حد لها بقدرة الإنسان على البحث والاستقصاء، كما دفع لسنج حركة النقد التاريخي
للكتب المقدسة خاصة في أبحاث توماس هنري هكسلي
T. H. Huxely
(١٨٢٥–١٨٩٥م)، بل لقد امتد أثر لسنج حتى القرن العشرين عند بولتمان
Bultmann (١٨٨٤–١٩٧٦م) في رفضه يقين المعرفة التاريخية، وأعطى المدافعين عن
الأرثوذكسية حجةً جديدة للدفاع عن عقائدهم عن طريق التسليم بها كمؤمنين وليسوا كمؤرخين.
٢
وقد استمرت فلسفات التاريخ تُصيغ التقدم، وتُحدِّد قانونًا لمساره بعد لسنج في ألمانيا
وإنجلترا وفرنسا على وجه الخصوص؛ ففي ألمانيا كما كان كانط وهردر
مؤسِّسَا فلسفة التاريخ قبل لسنج، فإن فشته، وهيجل، وشلنج،
وشليجل، قد حاولوا بعده إعادة صياغة فلسفات التاريخ وتحديد مسار التقدم تحديدًا قبليًّا
دون
اللجوء إلى التجربة البشرية فكلهم كانوا تلاميذَ لكانط.
فتاريخ البشرية عند فشته (١٧٦٢–١٨١٤م) هو تاريخ الحرية ومسارها، بل إن تاريخ العالم
كله هو
تحقيق لمبدأ الحرية كغاية للكون يتجه نحوها، ويظل هذا المسار دون توقُّف ليس له نهاية.
فالغاية
هدف للتحقيق دون أن تتحقق بالفعل، يمكن للإنسان أن يقترب منها دون الوصول إليها، وإلا
لتوقفت
الحياة. فكلُّ عصر يحقق مقدارًا من الحرية وبالتالي مقدارًا من العقل، ويظل التقدم مستمرًّا
لا
ينتهي. والحرية على نقيض من الغريزة، أما العقل فهو القاسم المشترك بينهما؛ فقد تقوم
الحرية كما
تقوم الغريزة على العقل. وتقرب الإنسانية من كمالها عندما تتأسس الحياة على العقل الذي
يعي نفسه
كحرية وليس كغريزة. ويتحدد تاريخ الإنسانية بمرحلتَين كبيرتَين؛ الأولى سابقة تسلك فيها
الإنسانية بدافع الغريزة وفقًا للعقل، والثانية لاحقة تسلك فيها الإنسانية محاولة تحقيق
العقل
كلية. وبين هاتين المرحلتين يتحد مسار الإنسانية في خطوة يعي فيها العقلُ ذاتَه على درجات
متفاوتة دون أن يغيب في أيٍّ منها. وللوصول إلى ذلك تتحرر الإنسانية من سيطرة الغريزة
في خطوة
رابعة، ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا بإحساس الإنسانية بسيطرة الغريزة على الإنسان ثم
سيطرة
العقل عليها عن طريق قوانينه مما يحتِّم خطوة خامسة. وعلى هذا النحو يستنبط فشته خمسَ
مراحل في
تطور الإنسانية: مرحلتان يكون فيهما التقدم أعمى، ومرحلتان يكون فيهما التقدم حرًّا،
ومرحلة
متوسطة يناضل فيها لتحقيق الوعي. وتكون المراحل الخمس على هذا النحو:
- (١)
مرحلة العقل الغريزي، وهي مرحلة البراءة.
- (٢)
مرحلة العقل التسلطي.
- (٣)
مرحلة التحرر، مرحلة الشك والحرية غير المنظمة.
- (٤)
مرحلة العقل الواعي من حيث هو علم.
- (٥)
مرحلة العقل السائد من حيث هو فن.
ولا توجد حواجز فاصلة بين هذه المراحل الخمس، بل قد تتشابك وتتداخل فيما بينها، ولا
تتمايز
خصائصها، بل قد تمتد وتنتشر عليها.
والإنسان الآن (١٨٠٤م) في المرحلة الثالثة؛ فقد تم التحرر من السلطة دون الحصول على
معرفة
منظمة للعقل. والحقيقة أن فلسفة التاريخ عند فشته هي ترجمة لفلسفته الخلقية واستنباطًا
من
مبادئه النظرية أكثر منها تحليلًا للتجربة الإنسانية. صحيح أنه رفض التصور الفردي للتاريخ
الذي
أسَّسه كانط تابعًا للمسيحية، وجعل الباعث على الأخلاقية ليس خلاص الفرد، بل تقدم الإنسانية،
ومع ذلك يظل التقدم لديه هو تقدم في مبادئ الأخلاق، فهذه المبادئ عند فشته مثل العقل
والحرية هي
مبادئ الوجود، وهي المبادئ التي يُدركها الفيلسوف بعقله فيمتد مسار التاريخ ومراحل تطوره؛
فالفيلسوف كما هو الحال عند هيجل هو واضع فلسفة التاريخ أي مستنبطها.
٣
أما هيجل (١٧٧٠–١٨٣١م) فإن فلسفته في التاريخ أكثر شهرة من فلسفة فشته، وهو أيضًا
يعتمد على
استنباطها قبليًّا من فلسفته النظرية؛ فتاريخ الإنسانية هو أيضًا تاريخ الوعي بذاته،
وهو أيضًا
عملية تحرر الوعي؛ فتاريخ العالم هو تاريخ الوعي، وتاريخ التحرر، وتاريخ المطلق، وهو
تاريخ
ضروري. ولكن التاريخ عنده ليس هو الأخلاق كما هو الحال عند فتشه، بل هو السياسة وعلى
وجه أخص
الدولة. والتاريخ لديه لا يبدأ من حالة الفطرة، بل من الصين ثم تحطُّ الإنسانيةُ مسارَها
من
الصين والهند وفارس (الشرق القديم) إلى مصر واليونان والرومان (الشرق الأوسط)، وأخيرًا
إلى
الدول الأوروبية (الغرب) وعلى رأسها ألمانيا. في الشرق كان إنسان واحد هو الحر، وكان
النظام
السياسي يقوم على التسلُّط والطغيان، وعند اليونان والرومان كان البعض فقط هم الأحرار،
وكان
النظام السياسي هو النظام الأرستقراطي والنظام الديمقراطي، وفي العصر الحديث كان الجميع
هم
الأحرار وكان النظام السياسي هو النظام الملكي؛ فالشرق القديم يمثل الإنسانية في طفولتها،
والشرق الأوسط الإنسانية في صباها، والغرب المسيحي الإنسانية في رجولتها، والروح الألمانية
هي
روح العصر الحديث التي عبَّرت عن آخر مراحل تطور المطلق، فإذا كان التقدم عند فشته ما
زال
مستمرًّا، والمستقبل ما زال لم يتحقق بعدُ، فإنه عند هيجل قد تحقق، وأن الحاضر هو المستقبل
وأن
المستقبل هو الحاضر، فإذا كانت فلسفات التقدم قد حملت لواء التقدم بالفعل خاصة في فرنسا،
فإن
إعلان نهاية التطور واكتماله يوقف حركة التاريخ، ولا يعطي للأجيال السابقة أيَّ دور.
كما أنه
تحقيق الروح في النظام الملكي يُعدُّ تراجعًا بالنسبة لمثال الديمقراطية والنظام الجمهوري
الذي
دعا إليه فلاسفة التقدم.
٤
ولكن شلنج (١٧٧٥–١٨٥٤م) هو الوحيد من فلاسفة التاريخ الألمان الذي حاول الاعتماد
على
التجربة في وصفه للتقدم على أنه وحيٌ مستمرٌّ للعقل الإلهي. فالتطور عضويٌّ حيٌّ، قريب
من
التطور البيولوجي كما وضح ذلك عن أحد المعاصرين له المتأثرين به وهو كراوس Krause. فالتاريخ تعبير عن المطلق من حيث هو تطورٌ للحياة والمجتمع نفسه عضوي
يمكن معرفة تطوره من قانون الأحياء، وهو ما ظهر فيما بعد بصورة واضحة في قانون التطور
عند
دارون.
ثم أتى شليجل (١٧٧٢–١٨٢٩م) كآخر مفكر ألماني حاول صياغة فلسفة جديدة للتاريخ أقرب
إلى
التصور المسيحي الذي يؤكد طبيعة الإنسان الفاسدة ضد فلسفة التقدم التي تثق بطبيعة الإنسان
وقواه
وتؤكد كمال الطبيعة. ومع ذلك فهو يؤكد أن موضوع فلسفة التاريخ هو مبادئ التقدم الاجتماعي،
ويحددها في ثلاث؛ الأول: الطرق الخفية للعناية الإلهية التي تُحرِّر الجنس البشري، ثانيًا:
الإرادة الحرة للإنسان، ثالثًا: القوة التي يعطيها الله لعوامل الشر، وهي عوامل يمكن
للمفكر
الديني التقليدي أن يؤيدها مثل بوسويه، ولكن شليجل يجعلها قوًى في سبيل التقدم. والحقيقة
أن
شليجل كان يهدف إلى إعادة بناء المسيحية كطريقة في الحياة ضد هجمات المفكرين الأحرار
على
الكنيسة. والحقيقة أن فلسفة التاريخ في ألمانيا منذ هيجل تتأرجح بين كونها دعامة التقدم
وبين
كونها دعامة للمحافظة.
٥
أما في إنجلترا فقد ألهب اندلاع الثورتَين الفرنسية والأمريكية المفكرين والكتَّاب
الإنجليز؛ فقد كتب الوزير المعارض ريتشارد بريس
Richard Price «ملاحظات
حول الحرية المدنية»
٦ دفاعًا عن المستعمرات الأمريكية مما سبَّب ردَّ فعل محافظ من بيرك
Burke في «التأملات»،
٧ ثم رد فعل تحرري على بيرك من بريستلي
Priestley.
فالحكومة تمثل الطغيان، وقامت بنفي كلِّ الشبان المتعاطفين مع الثورة الفرنسية، ووقع
الاضطهاد على توماس بين
Thomas Paine (١٧٣٧–١٨٠٩م) لنشره «حقوق الإنسان»
٨ داعيًا للثورة. ولكن أكبر ممثل لهذا العصر كان هو وليم جودوين
William Godwin (١٧٥٦–١٨٣٦م) في كتابه «فحص خاص بالعدالة السياسية»
٩ في ١٧٩١م، وظهر في ١٧٩٣م دون أن يخضع للرقيب؛ لأنه كان في طبعة رخيصة، وقد خضع
لتأثير كوندرسيه، وأراد أن يتجاوز فلسفة مونتسكيو في «روح القوانين»، فإذا كان مونتسكيو
قد جعل
التشريع هو عامل التقدم فإن جودوين قد جعله هو العائق عن التقدم. فكل الحكومات وكل الأنظمة
السياسية شرٌّ وعلى رأسها النظام الملكي، وبالتالي فسبيل التقدم ليس إصلاح الحكومات بل
إلغائها،
والتاريخ هو في النهاية مجموعة الشرور والآثام، وإن حال الإنسانية هو أسوأ حال مرَّت
به الآن.
ويبدو جودوين وروسو هنا أكبر معبِّرين عن روح الأمر الواقع في القرن الثامن العشر والمعبِّرين
عن مآسي الشعوب.
وقد اعتمد جودوين في نظراته التشاؤمية هذه على التحليل النفسي لهيلفسيوس Helvétius القائلة بإمكان تغيير طبيعة الإنسان بتغيير البيئة العقلية والخلقية،
وليست البيئة الفيزيقية. فقد وُلد الإنسان دون استعدادات طبيعية، ويتوقف سلوكه على تصوراته،
وبتغيير أفكار الناس التي هي وليدة الأنظمة السياسية والدينية يتغير حالهم، وهنا تبدو
أهمية
التربية؛ لذلك قام كوندرسيه بعمل خطة للتربية الشاملة. أما جودوين فيعتبر المدارس سلطة
في يد
الحكومة أقوى من سلطة الكنيسة توجه بها الشعوب أينما تشاء، ووسيلة لنشر الأفكار المسبقة
التي
يبثُّها الأمراء ورجال الدين في نفوس الناس، والأمل منوطٌ بالمفكرين الأحرار لتنوير الرأي
العام
ومناهضة الأفكار السائدة.
وقد لاقت فكرة التقدم نحو الكمال هجومًا شديدًا من (١٧٦٦–١٨٣٤م) مالثوس
Malthus في مؤلَّفِه «محاولة في مبدأ السكان»
١٠ الذي ظهر في ١٧٩٨م دونَ وضْع اسمه عليه، وقد بدأ مالثوس من افتراض كوندرسيه الذي
يقضي بأنه قد يأتي يومٌ يفوق فيه عددُ السكان كميةَ الإنتاج التي تسمح ببقائهم، ولكن
ذلك اليوم
ما زال بعيدًا، ويمكن أن تستعدَّ الإنسانية له من الآن أو أن تستغلَّ الأراضي الشاسعة
غير
المنزرعة حتى الآن كما يقترح جودوين، ولكن مالثوس يقوِّي الافتراض، ويجعله حقيقة بديهية،
ويضعه
في قانونه المشهور: إن الزيادة السكانية تتضاعف باستمرار ٢–٤–٨–١٦–٣٢ في حين أن زيادة
الإنتاج
تسير طبقًا للعدد الحسابي ٣-٤-٥-٦؛ فالعالم يسير نحو مجاعة حقيقية ومستقبل البشر مهدد
بالفناء.
وقد استمر تلاميذ جودوين من الشعراء أمثال وردزوورث Wordsworth (١٧٧٠–١٨٥٠م)، وكوليردج Coleridge
(١٧٧٢–١٨٣٤م)، وسوذي Southey (١٧٧٤–١٨٤٣م)، وشيلي Shelly (١٧٩٢–١٨٢٢م)؛ فقد كان وردزوورث مدافعًا حارًّا عن الثورة
الفرنسية، ثم أصبح تلميذًا لجودوين، ثم تنكَّر للثورة الفرنسية بعد عصر الإرهاب. أما
سوذي فقد
كان خاضعًا لتأثير روسو ثم أصبح من تلاميذ جودوين بفضل كوليردج، وكوَّنوا جماعات مثالية Pantisocratic في أمريكا تتحقق فيها السعادة في بيئة
اجتماعية تجمع بين الواجب والمصلحة؛ وبذلك سبقوا محاولات أوين Owen (١٧٧١–١٨٥٨م) وكابيه Cabet (١٧٨٨–١٨٥٦م).
ولما وجدَا تحقيق حلمهما مستحيلًا تراجعَا، وأصبح سوذي من الدعامات المحافظة على الدولة
وانضم
إلى جناح المحافظين وكأنه لم يؤمن في يوم ما بالتقدم، ورأى أن التقدم عملية بطيئة تقوم
على
دعائم إصلاحية تؤسسها الكنيسة. وقد عبَّر شيلي في أشعار خاصة في «ثورة الإسلام»، عن هذا
الكمال
النهائي الذي تبلغه الإنسانية بتحررها من النظم الدينية والسياسية على طريقة جودوين.
وقد ارتبطت فكرة التقدم أيضًا بالاشتراكية خاصة في مرحلتها الأولى، المرحلة العاطفية
على يد
سان سيمون في فرنسا وروبرت أوين في إنجلترا قبل أن يحولها ماركس إلى علم اجتماعي دقيق،
وكان من
المسلَّمات أن النظم السياسية هي المسئولة عن مآسي الناس وشرور العالم، وأنه بتغير هذه
النظم
يتحقق التقدم المنشود. وقد استمرت هذه النظرية من القرن الثامن عشر كفكرة حتى القرن التاسع
عشر
كثورة، وقد عرف أوين ذلك من جودوين. وعلى هذا فيمكن القول بأن نظريات التقدم كانت على
نوعين؛
الأول: هو التقدم الذي يتحقق بالفعل على أيدي المثاليين والاشتراكيين؛ فالجماعة هي محرك
التقدم،
والاشتراكية أو الاقتصاد الموجَّه هو نظريته السياسية. والثاني: التقدم الذي لا حدود
له، والذي
لا يتحقق إلا في المستقبل البعيد، والحرية هي محرك التقدم والليبرالية هي نظريته السياسية.
١١
ولكن يبدو أن فكرة التقدم كانت نهايتها قريبة، وقد بدأت هذه النهاية بمجرد انتهاء
الثورة
الفرنسية بعد الإرهاب وعودة الملكية، فنشأ مفكرون يدافعون عن النظام الملكي، وعن الكاثوليكية،
وعن الأمن والنظام، ونشأ ردُّ فعل على فكرة التقدم التي حمل لواءَها مفكرو الثورة الفرنسية،
وكأن القرن التاسع عشر على الرغم مما يبدو من أنه عصرُ فلسفة التاريخ هو بداية النهاية
بالنسبة
لفكرة التقدم. وكان دعاة هذه الحركة المحافظة الجديدة هم شاتوبريان Chateaubriand (١٧٦٨–١٨٤٨م)، وجوزيف دي
ميستر Joseph de Maistre (١٧٥٣–١٨٢١م)، ودي بونالد De Bonald
(١٧٥٤–١٨٤٠م)، ولامنيه Lamneuais (١٧٨٢–١٨٥٤م) بالرغم من
استمرار الأساس العلمي المادي من كوندياك وهلفسيوس إلى كابينس ودستت دي تراسي Destutt de Tracy (١٧٥٤–١٨٣٦م) الذين التفَّ حولهم علماء
العصر من أمثال لابلاس Laplace، وبيشا Bichat ولامارك Lamarck وهم ما يسمون
بالأيديولوجيين Ideologues هي كلمة صاغها دي تراسي كي يميز
بها البحث الفكري القائم على مناهج لوك وكوندياك من الأبحاث الميتافيزيقية القديمة، وكان
مبدأ
الأيديولوجيين هو عمل العقل في الواقع ورفض الاستنباطات القبلية، وهم الذين ورثوا مفكري
«دائرة
المعارف»؛ فقد آمنوا بالتقدم المطلق للمعرفة وبالتنوير العام وبالعقل الاجتماعي.
وكانت أول نتيجة لعمل الأيديولوجيين ردَّ اعتبار العصر الوسيط الذي اعتبره فلاسفة
التنوير
والتقدم بوجه عام عصرَ ظلام وتعقيم؛ فقد ساعدت المسيحية على تنوير الأذهان، وعلى فتح
مجالات
للذهن البشري كانت مغلقة عليه، وعلى صنْع حضارة وتأسيس مدينة، وقد قامت الكنيسة بدورها
في صنْع
الحضارة. لقد ساعدت العصور الوسطى على تطور القدرات الذهنية وعملت على نشر المدنية كما
عبرت عن
ذلك مدام دي ستال
Madame de Stael في «الأدب في علاقته مع
النظم الاجتماعية»،
١٢ وقد أيَّد شاتو بريان في نفس الدعوى في «عبقرية المسيحية»
١٣ معلنًا الحرب على فلسفة التنوير وعدائها للمسيحية، وأصاغ الحجج تأييدًا للعقائد
الأرثوذكسية: الخطيئة الأولى، والانهيار الأول … إلخ.
ولم يعتمد في ذلك على المنطق، بل اعتمد على العاطفة وإحساس الأديب، مما أوقع الحركة
الرومانسية أيضًا في براثن دعوى الأيديولوجيين في تيار رجعي محافظ واحد يدعو للملكية
وللكنيسة.
ومن ثَم توارت فكرة التقدم وحدثت رده إلى روسو لنقد المدنية والحضارة والرجوع بالإنسان
إلى حالة
أولى وعصر ذهبي.
أما بونالدودي ميستر ولامنيه فقد كان مَثلهم الأعلى إقامة حكومة دينية للعالم ضد
الحكم
الدستوري (إنجلترا) أو الحكم الثوري (فرنسا). وفي هذا الصراع بين التقدم والتراجع، تعود
العناية
الإلهية من جديد حارسة للعالم، وفي نفس الوقت تنهار الإنسانية ولا ترقى إلا بالرجوع إلى
الوراء.
ولم يقلل من ذلك محاولة مدام دي ستال (١٧٦٦–١٨١٧م) من افتراض تقدم في الحس الأدبي للإنسانية،
وبالتالي يكون الأدب الأوروبي الحالي أرقى من الأدب القديم. ولما كان الأدب مرتبطًا أشد
الارتباط بالنظم الاجتماعية؛ فالارتقاء الأدبي لا بد وأن يتضمن بالضرورة رقيًّا اجتماعيًّا.
ولم
تنجح محاولتها في التعريف بالحضارة الألمانية في إيقاف المد التاريخي في فرنسا؛ فبالرغم
من
ترجمة ادجار كينيه Edgar Quinet «لأفكار» هردر، وترجمة
رودريج Rodrigues «لتربية الجنس البشري» للسنج، ومعرفة كوزان
بهيجل وترويجه له، إلا أن الرجوع إلى الوراء كان له الأولوية على التقدم إلى الأمام.
لقد حاول
كوزان (١٧٩٢–١٨٦٧م) الترويج لفلسفة هيجل في فرنسا والتركيز على التقدم؛ ففي محاضراته
التي
ألقاها في السربون في ١٨٢٨م تحدَّث عن حتمية التطور التاريخي وعن اكتمال هذا التطور في
الفلسفة
وليس في الدين، وقسَّم تاريخ الإنسانية إلى مراحل ثلاث كلٌّ منها تسودها فكرة أساسية؛
الأولى:
الشرق وتسوده فكرة اللانهائي، والثانية القديم وتسوده فكرة النهائي، والثالث العصر الحديث
وتسود
العلاقة بين النهائي واللانهائي، وبالتالي ينتهي التقدم ويصبح المستقبل لا دورَ له بعد
أن تحقق
في الحاضر. وبالرغم من عداء كوزان للأيديولوجيين لاعتمادهم على الفلسفة المادية فقد دعَا
الأرثوذكسية لنصره فكرة تقدُّم الجنس البشري، حتى وإن كان هذا التقدم قد توقَّف فإنه
على الأقل
لا يرجع إلى الوراء.
وقد تناول جفروا
Jouffroy (١٧٩٦–١٨٤٢م) موضوعَ التقدم
أيضًا على طريقة هيجل وفيكو؛ فالتقدم في العقل، وتكون مهمة المؤرخ هي تتبُّع التقدم في
تاريخ
الأفكار، وهو تقدُّم حتمي لا دخل فيه للعناية الإلهية،
١٤ ثم أعقبه جيزو
Guizot (١٧٨٧–١٨٧٤م) في محاضراته عن
الحضارة الأوروبية.
١٥ فالحضارة تعني التقدم، والتقدم يعني الحضارة، ولكنه تقدمٌ عقلي عام يشمل حواس
الإنسان ورغباته. وقد سبَّبت هذه المحاولات في كتابة التاريخ نشأة المدرسة التاريخية
في ألمانيا
وعلى رأسها إيشهورن
Eichhorn وسافيني
Savigny (١٧٧٨–١٨٦١م) ونيبور
Niebuhr
(١٧٧٦–١٨٣١م) التي ترى أن تقدم القوانين والنظم هو تطور طبيعي لأذهان الشعوب ومن ثَم
افترقت عن
«العقل الشامل» الذي تحدثت عنه فلسفة التنوير، واستبدلت به عقليات الشعوب مما غذَّى روح
القومية
في القرن التاسع عشر.
ولكن يبدو أن الردة التي حدثت بعد عودة الملكية في فرنسا في النصف الأول من القرن
التاسع
عشر قد ولَّدت ردةً أخرى على مستوى الفكر فحدث تراجع في مفهوم التقدم. لقد حدد المفهوم
مسار
التغيير بأن التغير إلى الأمام، مقرًّا بتغير الواقع ونظمه، والثورة على الأوضاع، ومشيرًا
إلى
أن هذا التغير هو باستمرار نحو الأفضل من ملكية إلى جمهورية، ومن ديكتاتورية إلى ديمقراطية،
ومن
تسلُّط إلى حرية، ومن ظلم واستغلال إلى عدالة اجتماعية. ولكن بعد عودة الملكية أصبح النظام
أفضل
من التغير، والوضع القائم أحسن من الثورة عليه، فظهرت فكرة النظام والقانون واستتباب
الأمن،
وبالتالي انتهى مفهوم التقدم بالفعل حتى ولو استمر المفكرون يبحثون عن قانون التطور؛
وذلك أن
التطور ينتهي في نهاية الأمر إلى استقرار النظام.
١٦
وتحقيقًا لهذا التحول انتقل مفهوم التقدم من فلسفة التاريخ إلى علم الاجتماع؛ فالتاريخ
هو
المجتمع في حركته، والمجتمع هو التاريخ في سكونه، فبدل أن اعتمد المفهوم على أفكار العقل
والطبيعة تحوَّل إلى تحليل اجتماعي إحصائي، وقد قام بذلك ثلاثة مفكرين هم فورييه Fourier (١٧٧٢–١٨٣٧م)، وسان
سيمون Saint-Simon (١٧٦٠–١٨٢٥م)، وكونت Comte (١٧٩٨–١٨٥٧م)؛
فقد أجمع الثلاثة على بلوغ الإنسانية مرحلة من التطور يسودها الثبات ويعمُّها النظام.
خرج كونت من سان سيمون وخرج سان سيمون من كوندرسيه ولكن فورييه نشأ مستقلًّا لا يعترف
بأستاذية أحد عليه، واعتبر نفسه نيوتن علم الاجتماع. وقد حاول إعطاء خطة شاملة لتنظيم
المجتمع
على مبدأ التعاون الصناعي، وتصور أنه وجد هذا الميدان في قانون «الجذب الانفعالي»؛ فالانفعالات
الإنسانية هي سبب الشقاء، ومهمة الإنسان هي أن يحولها سببًا للسعادة، وبالتالي فعليه
معرفة
القانون الذي يحكم مسار الانفعالات. وقد أقام فورييه تصوره على مبدأ «التعاون» دون أن
يكون
بالضرورة مبدأً اشتراكيًّا. فالأسرة وحدة اجتماعية يجب استبدالها بوحدة أكبر يسميها فورييه
الكتيبة Phalange تكتفي بذاتها اقتصاديًّا، وتتكون من حوالي
١٨٠٠ إنسان يعيشون معًا في بناء كبير تحوطه جميعُ المرافق العامة. الملكية الفردية قائمة،
ولكن
يعيش الأغنياء والفقراء معًا، ويتم توزيع الإنتاج عليهم طبقًا للعمل والقدرات مع وجود
حدٍّ أدنى
للدخل. وعلى هذا النحو يمكن التخفيف من هذه الانفعالات وبداية عهد جديد في تطور الإنسانية.
وعمر
الإنسانية هو ٨١٠٠٠ سنة انقضى منها ٥٠٠٠ سنة، وسندخل في عصر يزداد فيه التآلف يتبعه عصرُ
انهيار. وما انقضى يمثل عصر الطفولة، والآن نحن في عصر الصِّبا عصر المدنية؛ حيث يبدأ
الانسجام
والتآلف من جديد، وليس على مَن عاش في عصر الانهيار أن يتحسر، أو مَن عاش في عصر التآلف
أن
يبتهج؛ وذلك لأن الإنسان يعيش في عصور متوالية طبقًا لعقيدة تناسخ الأرواح التي افترضها
لسنج
فيما قبل، وهكذا تنتهي فكرة التقدم وتعود من جديد إلى الفكر الأسطوري، والافتراضات النظرية
بعد
أن كانت مبدأً لتقدُّم التاريخ وتطور الإنسانية.
وقد استمرت فكرة التقدم عند سان سيمون مؤكدًا أن العصر الذهبي ليس خلفنا بل أمامنا،
لم
يشهده الأجداد بل سيراه الأحفاد. وقد نشأ سان سيمون متعاطفًا مع فولتير والثورة الفرنسية،
وأخذ
كوندرسيه أستاذًا له، واستمد منه فكرتين: الأولى: أن علمَي الأخلاق والسياسية يعتمدان
أساسًا
على علم الطبيعة. والثانية: أن التاريخ هو التقدم. لقد عرَّف كوندرسيه التاريخ بأنه تقدُّمٌ
في
المعرفة، ولكن سان سيمون يرى أن هذا التصور للتقدم محدود الأفق وأن كوندرسيه غفل الأهمية
الاجتماعية للدين كما قلَّل من شأن العصور الوسطى واعتبرها عصورَ ظلام وتخلُّف. ويبدو
أن سان
سيمون كان معبرًا عن ردِّ الفعل الديني الذي نشأ في عصر إعادة الملكية، ورأى أن الدين
له دورٌ
اجتماعي طبيعي وشرعي ولا يمكن إغفاله أو تناسيه. فالظاهرة الدينية مثل باقي الظواهر الاجتماعية،
يمكن تفسيرها. الدين علم مغلف بالعواطف والانفعالات، وناشئ عن حاجات نفسية؛ فالعصور الوسطى
تمثل
دورًا أساسيًّا في تطورات الإنسانية، وحاولت تحديد الصلة بين القوى الروحية والقوى الزمنية.
فالدين كالعلم والسياسية والاقتصاد يشارك في صنْع التقدم على مستوى العصر. ولم يشأ سان
سيمون
ترْكَ التقدم بلا قانون يحكمه، وصاغ قانونًا مؤداه أن قانون التطور هو أن عصور التنظيم
والبناء
تأتي بعد عصور التقدم والثورة. كانت العصور الوسطى عصور تنظيم ثم تلاها عصر نقد وثورة
قد انتهى
الآن ولا بد من أن يتلوه عصر نظام من جديد. ولما كان العصر الآن عصر العلم فسينشأ دين
يقوم على
العلم الطبيعي، ويحل محلَّ المسيحية ومذهب التأليه. وسيقوم العلماء بنفس الدور الذي قام
به رجال
الدين في العصر الوسيط. ولما كانت غاية التقدم هي تحقيق السعادة فإن ذلك يتم أولًا للطبقة
العاملة عن طريق تنظيم الحكومة وتحقيق الاشتراكية، ورفض مفاهيم الليبرالية والديمقراطية
والحرية
والمساواة كما هو الحال عند الأيديولوجيين دعاة الرجعية والمحافظة. أما المستقبل فسيحكمه
حكومة
واحدة للبلاد الأوروبية حيث يتحقق السلام الدائم وتنتهي الحروب. ولا بأس أن تكون الحكومة
برلمانية في النظام الملكي الفرنسي هي الحكومة الشاملة.
وقد روج تلاميذ سان سيمون لمبادئه وعلى رأسهم رودريج
Rodrigues وإنفانتان
Enfantin (١٧٩٦–١٨٦٤م)
وأسَّسَا مجلة
Producteur يعبِّران فيها عن تصورهم للتاريخ.
فالشعوب تنتقل من العزلة إلى الوحدة، ومن الحرب إلى السلام، ومن الصراع إلى التعاون،
وبالتالي
يكون برنامج المستقبل هو الارتباط والتعاون القائم على أسس علمية لا دينية، وأن القوة
التنظيمية
موجودة عند العلماء وليس عند رجال الدين. ويقوم المجتمع على ثلاث طبقات: العمال والعلماء
والفنانين، ويعيش الناس كلٌّ طبقًا لقدراته؛ إذ تستحيل المساواة التامة؛ نظرًا لاختلاف
قدرات
الناس ولكن اللامساواة القائمة على العمل والاستحقاق هي ما يقبله العقل. ويجب الخضوع
للسلطة،
سلطة الحكومة والدولة، كما يجب الحفاظ على النظام العام حتى يتحقق التقدم. فالسلطة السياسية
هي
عصب التقدم وليس الشعب أو الجماهير. ولن يتحقق التقدم بالثورة والخروج على النظام بل
تدريجيًّا
خطوة فخطوة. وهنا يبدو أن أتباع سان سيمون قد وجدوا في النظام الثيوقراطي الذي دعا إليه
جوزيف
دي ميستر نموذجًا للحكومة القوية. ولكن أقوى عارض لأفكار المدرسة كان بازار
Bazard (١٧٩١–١٨٣٢م)؛ فقد تصور الجنس البشري كوجود جماعي واحد يظهر في التاريخ
طبقًا لقانون التقدم وهو قانون فيزيولوجي للأنواع الإنسانية يتكون من التحول من العهد
العضوي
Organic إلى العهد
النقدي
Critic ففي العهد العضوي يعيش الناس في تآلف وانسجام، في حين أنهم في العهد
النقدي يتصارعون وتتضارب أهواؤهم. وقد مرت اليونان بالعهد العضوي قبل سقراط، ثم تلاه
عهدٌ نقدي
أدَّى إلى الغزوات البربرية، ثم إلى عهد عضوي جديد منذ عصر شرلمان حتى نهاية القرن الخامس
عشر،
ثم تلاه عصرٌ نقدي منذ لوثر حتى سان سيمون وقد آن الأوان الآن لظهور عصر عضوي جديد. كما
يبيِّن
تطور التاريخ مبدأَ الترابط الاجتماعي وليس الصراع الاجتماعي؛ فتكبر الوحدات الاجتماعية
من
الأسرة إلى المدينة إلى الأمة إلى الكنيسة الأممية، وستتجه الإنسانية في المستقبل نحو
وحدة
الجنس البشري وطبقًا لمدى تحقيق مبدأ التعاون تتطور الإنسانية. فإذا غاب ظهر استغلال
القوي
للضعيف، وإذا تحقق تدريجيًّا تنتقل الإنسانية من مرحلة إلى مرحلة. فمثلًا من أكل لحوم
البشر،
إلى الرق، إلى العبودية، إلى الاستغلال في المجتمع الصناعي في المجتمعات الرأسمالية التي
تقوم
على مبدأ الملكية الفردية، وبتقوية التعاون تتحول الملكية من فردية إلى جماعية، أو من
ملكية
خاصة إلى ملكية الدولة، فالمجتمع المستقبلي هو مجتمع اشتراكي. ويتحقق هذا المجتمع ليس
عن طريق
التشريع أو التربية، بل بإقامة دين جديد لا يكون هو المسيحية؛ لأنها قائمة على ثنائية
المادة
والروح، بل يكون دين توحيد يتكون من مبادئ بسيطة؛ مثل: الله واحد، الله هو كل شيء، وكل
شيء هو
الله، هو الحب الشامل يظهر في الروح والمادة. ويقابل هذا الثالوث ثالوث آخر: الدين والعلم
والصناعة، وقد قام أتباع سان سيمون بترجمة محاولة لسنج في تربية الجنس البشري نظرًا لتعاطفهم
مع
مضمونها، كما حاولوا إنشاء جماعات فعلية تقوم بتحقيق هذه المبادئ في فرنسا وفي مصر ولكنها
انتهت
إلى الأفول.
١٧
ولكن أوجست كونت هو الذي استطاع تحويل آراء سان سيمون ومدرسته إلى نظرة مضبوطة مستبعدًا
منها أحلامهم ونبوءاتهم، فنظَّم المعرفة الإنسانية في وحدة شاملة، وحلَّل التاريخ وأسَّس
علم
الاجتماع محاولًا إيجاد قانون شامل لتقدم الإنسانية، ولكنه ظل مدينًا لأستاذه ببعض أفكار
أساسية
في مذهبه، مثل تقابل الظاهرة الاجتماعية والحالة العقلية في فترات التاريخ، وأن المرحلة
القادمة
مرحلة تنظيم مثل مرحلة العصور الوسطى، وأن حكومة العلماء هي المنوط بها هذا التنظيم،
كما أن
فكرة الفلسفة الوضعية أيضًا مستمدة من أستاذه، ولكن كونت هو الذي أعطاها صورتها العلمية
والمنهجية. وقد نشر في ١٨٢٢م وهو في سنِّ الاثنين وعشرين عامًا «خطة العمليات العلمية
الضرورية
لإعادة تنظيم المجتمع»، حدد فيها قانون الحالات الثلاث المشهور: اللاهوتية، والميتافيزيقية،
والوضعية. فقد حاولت الإنسانية أولًا تفسير الظواهر الطبيعية باللجوء إلى الآلهة والقوى
الغيبية
التي يفترضها الخيال، ثم تقدمت الإنسانية فظهرت المرحلة الثانية التي تفسر فيها نفس الظواهر
باللجوء إلى المبادئ المجردة. وبعد أن تقدمت الإنسانية أكثر أتتِ المرحلة الثالثة التي
تفسر
فيها الظواهر تفسيرًا علميًّا معتمدة على الملاحظة والتجربة. وهو قانون نفسي يحكم تطور
الذهن
البشري. في الحالة الأولى يخترع الذهن وفي الثانية يجرد، وفي الثالثة يخضع للوقائع. والدليل
على
الوصول إلى المرحلة الثالثة هو الإيمان بحتمية قوانين الطبيعة واطرادها. وتاريخ الإنسانية
هو
تاريخ أفكارها، وتطور الأفكار هو الذي يحدد أيضًا تطور الإنسانية، وقد لا تتفق كلُّ فروع
المعرفة البشرية في نفس مراحل التطور فقد يسبق فرعٌ فرعًا آخر. ويجعل كونت مهمته تحويل
العلوم
الإنسانية — وعلم الاجتماع خاصة — من المرحلة الميتافيزيقية إلى المرحلة الوضعية أي العلمية.
وقد توجد المراحل الثلاث في نفس العصر؛ فقد تبدو فكرة لاهوتية في إحدى جوانبها، وميتافيزيقية
في
جانب آخر، ووضعية في جانب ثالث. وهنا يجب على الفيلسوف أن يختار الأفكار الاجتماعية والأخلاقية
دون غيرها؛ لأنها مستمدة من أعلى العلوم وأرقاها في سُلَّم العلوم كما أنها أكثر العلوم
شيوعًا
وأكثرها تعبيرًا عن واقع الناس. ويتحقق التقدم على جميع المستويات، فهو تقدمٌ مادي وأخلاقي
وذهني في آنٍ واحد، وقد ينتكس التقدم ويتأرجح؛ وذلك يرجع إلى أسباب ثلاثة: العنصر أو
الجنس،
والبيئة الجغرافية، والعمل السياسي المقصود، ولكن يظل التقدم مستمرًّا.
ويلتمس كونت تحقيقًا لقانون الحالات الثلاث في تاريخ الإنسانية الذي يقتصر في نهاية
الأمر
على التاريخ الأوروبي، بل وعلى الصفوة منه، واعتبر الهند والصين مجرد مقدمات لتاريخ الإنسانية،
وغفل عن دور البرهمانتية، والبوذية، والإسلام. وقد انتهت المرحلة اللاهوتية في نهاية
القرن
الرابع عشر، وانتهت المرحلة الميتافيزيقية في عصره، وبدأت المرحلة الوضعية. وتنقسم المرحلة
اللاهوتية ذاتها إلى ثلاث فترات من الفتشية Fétichisme إلى
تعدُّد الآلهة، إلى التوحيد، وتتميز فترة تعدُّد الآلهة بظهور الرق، والخلط بين الروحي
والزمني،
والانتقال بين عهدَين الثيوقراطي الذي تمثله مصر، والحربي الذي تمثله الرومان. أما اليونان
فإنها متأرجحة بين العهدَين. وقد ظهر التوحيد في فلسطين جوديا Judea، ثم التفرقة بين الروحي والزمني (مهمة الأولى التربية، ومهمة الثانية
العمل)، ومن عيوب هذه الثنائية ظهور اللاهوت اللاعقلي. وتمثل عقيدة البابوية تقدمًا كبيرًا
في
تاريخ الإنسانية؛ لأنها أعطت المجتمع أساسًا تنظيريًّا شرعيًّا بدلًا عن العقائد الغامضة!
وهنا
يلتحق كونت بجوزيف دي مستر في دفاعه عن الحكم الثيوقراطي الممثل في البابوية. ويمثل الانتقال
من
الشرك إلى التوحيد أفولًا في الروح الدينية، وسيادة الحكمة الإنسانية على الوحي الإلهي،
ولكن
سيطرة الكنيسة ورجال الدين على الحياة الدينية كانت عاملَ تقدم أمام التأملات النظرية
في
العقائد.
ثم انهارت الكاثوليكية القائمة على التوحيد، وبدأت المرحلة الميتافيزيقية معتمدة على
الفلسفة الخلقية منذ القرن الرابع عشر، وبداية الاضطرابات والقلاقل الاجتماعية. فالروح
الفلسفية
رافضة وهادمة، وأدَّت الفلسفة النقدية للأوضاع القائمة إلى سيادة الفوضى، وقد كان هوبز،
وسبينوزا، وبيل، من كبار الهادمين الناقدين في القرن السابع عشر، وتابَعهم روسو في القرن
الثامن
عشر، ونشر «هلفسيوس» أخطاء عدة، منها: تساوي البشر في قواهم العقلية، وقامت الفلسفة النقدية
كلها على أخطاء ثلاثة: السيادة للشعب، والمساواة، وحق كل إنسان في البحث الحر! وهو ما
أدى في
النهاية إلى سيادة الفوضى وقلب الأوضاع والخروج على النظام. فالسيادة الشعبية تعارض المؤسسات
والنظم وتجعل المرءوسين رؤساء، والرؤساء مرءوسين، أو المساواة تؤدي إلى الفوضى بالإضافة
إلى
أنها تمثل تصورًا زائفًا؛ فالبشر غير متساوين في قدراتهم وبالتالي في أوضاعهم الاجتماعية.
أما
حقُّ كلِّ إنسان في البحث الحر فإنه يقتصر على الانتقال من المرحلة الميتافيزيقية إلى
المرحلة
الوضعية. ولقد أدى القضاء على القوى الروحية الممثلة في الكنيسة إلى شيوع الفوضى وسيادة
الروح
القومية، مما جعل العصور الحديثة أقل تقدمًا من العصر الوسيط! ومع ذلك فقد كانت الروح
الميتافيزيقية في فرنسا أقرب إلى الوضعية العقلية من التصرف الألماني أو النزعة التجريبية
الإنجليزية. وقد كانت مهمة الثورة هي نقل المجتمع من مرحلة إلى مرحلة، ولكن النظام أتى
ليخلف
الثورة. ولقد انتهت المرحلة الميتافيزيقية؛ لأنها أغفلت مآثر العصر الوسيط، واستعارت
من اليونان
والرومان! وبالرغم من محاولة نابليون لإعادة النظام إلا أنه لم يُفلح في القضاء على الروح
اللاهوتية والحربية، ولم تنجح أيضًا أنظمة الحكم التالية له، الملكية البرلمانية؛ فقد
كان حكمًا
طوباويًّا انتهى إلى انقضاء المرحلة الثانية.
وأخيرًا أتت المرحلة الوضعية بعد أن أدَّت الروح الميتافزيقية دورها التاريخي، وبدأت
دراسة
المجتمعات دراسة علمية، وتأسيس علم الاجتماع الوريث لكل العلوم الإنسانية. وهو إما علم
اجتماع
استاتيكي لدراسة قوانين الترابط الاجتماعي أو علم اجتماع دينامي لدراسة تطوره. الأول
يكون نظرية
النظام والثاني نظرية التقدم. وتتميز هذه المرحلة النهائية بتنظيم المجتمع على أسس علمية
وعلى
التمييز بين الروحي والزمني الذي تحقق من قبل في فترة التوحيد في المرحلة اللاهوتية.
سيحل
العلماء محل القساوسة، والعلم محل اللاهوت، والمجامع العلمية محل المجامع الكنسية ويقضي
تماما
على الروح اللاهوتية والروح العسكرية أكبر عقبتَين أمام التقدم. فالكاثوليكية الآن حطام،
والحروب تقترب من النهاية، والبلاد الأوروبية تقترب من وحدتها تحت إمرة «قوة روحية» لا
تقضي على
قوميتها من أجل أممية فارغة.
وقد وُجهت انتقادات كثيرة لقانون الحالات الثالث. منها التوحيد بين التقدم الاجتماعي
والتقدم العقلي، وأن الدين والفلسفة والعلم لها جذور مشتركة واحدة في الذهن البشري، وأن
هذه
الحالات الثلاث مجرد افتراض ميتافيزيقي لا يسانده تعليلٌ علمي أو إحصاء دقيق؛ فمثلًا
ليست
الديانة الفتشية بالضرورة أولى مراحل الديانات وسابقة على تعدُّد الآلهة أو التوحيد،
بل قد يرى
بعض علماء الأديان أنها مرحلة متأخرة. كما أن هذا القانون مستمدٌّ من التاريخ الأوروبي
وحده،
وقائم على التوحيد بين التاريخ الإنساني العام والتاريخ الأوروبي، مستبعدًا حضارات الهند
والصين
وفارس ومصر، أي حضارات الشرق بوجه عام. هذا فضلًا عن أنه قانون حتمي صرف لا يفسح المجال
للحدوث
في التاريخ أو لأي نوع من الحرية أو المصادفة كما فعل فولتير أو كورنو
Cournot. كما يؤخذ على صاحبه أنه أصبح ضحيةَ مذهبٍ مغلق، وبالتالي فقد الطابع
العلمي، وتكيف الواقع حسب الافتراض الذهني. كما أنه كان من دعائم النظام والسلطة وضد
التغير
والثورة، وهو ما عنَاه ماركيوز فيما بعد بتوحيده بين الفلسفة الوضعية وفلسفة الثورة المضادة.
لذلك انتهت الفلسفة الوضعية بأن أصبحت حليفة الفلسفة الرجعية كما وضعها الأيديولوجيون
كردِّ
فعلٍ على فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر، ولم تستمرَّ روح الثورة الفرنسية بنت التنوير
إلا
في الفلسفة الماركسية والثورة الاجتماعية في القرن التاسع عشر.
١٨
وقد أثر كونت في عديد من المفكرين في القرن التاسع عشر، سواء كانوا من تلاميذه المباشرين
مثل ليتريه
Littré (١٨٠١–١٨٨١م)، وتين
Taine (١٨٢٨–١٨٩٣م) في فرنسا، أو من أنصار تياره الوضعي مثل مل
Mill (١٨٠٦–١٨٧٣م) في إنجلترا الذي حاول استقراء القوانين التجريبية
للطبيعة البشرية. ثم حاول بكل
Buckle في «تاريخ المدنية في إنجلترا»،
١٩ ترويجَ فكرة التقدم وقوانين التاريخ العامة في المناقشات السياسية وعلى صفحات
الجرائد معتبرًا أن مسار التاريخ يتحدد بعاملين: الطبيعة الإنسانية والطبيعة الخارجية.
وانتهى
إلى نتيجتَين؛ الأولى: أن الإنسانية في مراحلها الأولى قد خضعت للطبيعة الخارجية أكثر
من خضوعها
للطبيعة الإنسانية. وعلى مسار التقدم ينقلب الوضع وتخضع الإنسانية للطبيعة الإنسانية
أكثر من
خضوعها للطبيعة الخارجية، ويصبح الإنسان سيدًا للطبيعة. والثانية: أن الذي يحكم التطور
ليست هي
القوى العاطفية والأخلاقية بل العقل، فهذه القوى ثابتة ومن ثَم فالدين الذي يقوم على
هذه القوى
ليس عاملًا حاسمًا في تطور البشرية في حين أن العقل هو المحرك والعامل الحاسم في تطور
الحضارة
الأوروبية. وقد تأثر «بكل» في تصوره الظاهرة الاجتماعية كظاهرة طبيعية بكتيليه
Quetelet (١٧٩٦–١٨٧٤م) الذي رأى أن الظواهر كلها إنسانية أم
طبيعية تسير وفقًا لنظام مطَّرد يمكن معرفته بالإحصاء، وقد روَّج أيضًا لفكرة تقدُّم
الإنسانية
وخضوعها للقانون الطبيعي الفيزيولوجي الأمريكي درابر
Draper في
كتابه «تاريخ التطور العقلي لأوروبا»
٢٠ مقارنًا تطور المجتمع بتطور الفرد. فكما يخضع الفرد لقانون بيولوجي للتطور فكذلك
المجتمع؛ فحياة الفرد هي حياة مصغرة لحياة المجتمع، وخلايا جسم الفرد مثل الأفراد في
المجتمع
الواحد، ومن ثَم فلدينا لكليهما قانونُ تطورٍ ذو مراحل خمس: الطفولة المبكرة
Childhood، والطفولة
المتأخرة
Childhood، والشباب
Youth، والرجولة
Manhood، والكهولة
Old Age،
وبالتالي يخضع التقدم الأوروبي أيضًا لمراحل خمس هي: الاعتقاد
Credulity، الفحص
Inquiry، الإيمان
Faith، العقل
Reason، الضعف أو
الهزال
Decrepitude. ويرى أن أوروبا الآن في المرحلة الرابعة
وتُسرع نحو المرحلة الخامسة. والضعف ليس تصورًا سلبيًّا بل هو قمة التقدم! ويعني تنظم
العقل
الوطني وهو ما قامت به الصين، فاستطاعت أن تُقيمَ نظامًا يهدف إلى رفاهية العيش وإلى
إطالة
العمر؛ فطريق أوروبا يتَّجه نحو الصين.
٢١
ويبدو أنه بعد إعادة الملكية في فرنسا وسيادة الأيديولوجية الرجعية المحافظة كردِّ
فعل على
الثورة الفرنسية وفكرة التقدم نشأ ردُّ فعلٍ ثانٍ في الحركات الثورية في أوروبا (١٨٣٠–١٨٥١م)
التي بلغت ذروتها في ثورة ١٨٤٨م؛ فقد نشر جافري
M. A. Javary
في باريس في ١٨٥٠ كتابًا صغيرًا بعنوان «فكرة التقدم»
٢٢ تبين أن فكرة التقدم ما زالت هي الفكرة الرئيسية للعصر؛ فالتقدم المادي ظاهر
للعيان. وإذا كان التقدم العقلي في توقُّف أو تقهقر فإن ذلك توقُّف عارض سرعان ما ينتهي،
ينبئ
عن تغيُّر النظم عن قريب، انهيار النظم القديمة، وتأسيس نظم جديدة. فكل تغيُّر في الواقع
يحدث
طبقًا لقانون التقدم؛ فقد رأى مشيليه
Michelet، وكينيه
Quinet أن مسار الحضارة هو انتصار تدريجي للحرية، كما بشَّر
لورو
Leroux، وكابيه
Cabet
ولوي لوبلان
Louis Leblanc، وبرودون
Proudhon بشيوعية إنسانية، بل إن البرجوازيين الذين استفادوا من حكم لوي فيليب
Louis Philippe والعمال الذين أطاحوا بحكمه كلاهما آمنوا
بالتقدم، وكانت الجريدة التي أسَّسها لوي لوبلان التي نشر فيها «تنظيم العمل»
٢٣ اسمها جريدة «التقدم»
٢٤ كما أن معظم المشاكل النظرية؛ مثل الصلة بين حرية الفرد والسلطة والسياسية أو مشكلة
الجبر والاختيار أو التشاؤم والتفاؤل كانت تحلُّ طبقًا للتقدم وأخذ أكثر الحلول تحقيقًا
للتقدم.
وفي هذا المد الثوري المستمد من الثورة الفرنسية والذي كان ردَّ فعل على رجعية كونت
ظهرت
فكرة المساواة الشاملة والمجتمع بلا طبقات على أنها غاية التقدم، وتمثِّلها الحركات الشعبية
ضد
البرجوازية. وقد عبر عنها توكفيل Tocqueville (١٨٠٥–١٨٥٩م) في
كتابه المشهور «الديمقراطية في أمريكا». فقد وجد بعد رحلته إلى أمريكا في المجتمع الأمريكي
المساواة في الظروف هي الفكرة التي يقوم عليها كلُّ شيء، وانتهى إلى أن المساواة هي غاية
الإنسانية وضعتْها العناية الإلهية، وتُشير إليها بالضرورة دون توقُّف أو نكوص.
وقد كان لتوكفيل أثرٌ كبير على برودون (١٨٠٩–١٨٦٥م)؛ فقد أراد أيضًا أن يؤسس علمًا
للمجتمع
ولكنَّ عداءَه للدين وشعاره المشهور بأن الملكية سرقة، وتبشيره بالفوضوية، وأسلوبه غير
المباشر
في تعبيره عن أفكاره، كل ذلك أوحى بأنه ثائر مضاد للثورة الاجتماعية. والحقيقة أنه قد
جمع بين
أفكاره الثورية عن المساواة والملكية الشيوعية وبين النزعة الفردية. فطاقات الفرد وحريته
هي
العامل المحرك للتاريخ والعائق هو النظم والحكومات. ولما كان من الصعب التوفيق بين حرية
الفرد
والمساواة الاجتماعية التامة فقد ظن أن تقديم الإنسانية من شأنه القضاء على تفاوت القدرات
بين
الأفراد. وفي هذا الوقت لا يحتاج الإنسان إلى نظام أو إلى سلطة أو إلى دولة لأنه سيكون
حرًّا
ومساويًا للآخرين. فالتقدم هو طريق الحرية، والنظريات الاجتماعية السائدة سواء تقدمية
أم محافظة
لم تأخذ التقدم مأخذَ الجد بما فيه الكفاية. والإيمان بالتقدم يتناقض مع الإيمان بالمطلق.
ولما
آثر برودون الإيمان بالتقدم فقد أنكر المطلق في حين أن فلاسفة التقدم قد حاولوا الإيمان
بالتقدم
وإثبات المطلق في آنٍ واحد؛ ولذلك انتهوا إلى الإيمان بالمطلق وإنكار التقدم!
ولما كانت فكرة التقدم من عوامل ثورة ١٧٨٩م فإنها أيضًا أصبحت شعارَ ثورة ١٨٤٨م.
فقد حاول
أرماند ماراست Armand Marrast (١٨٠١–١٨٥٢م) إقامةَ مبدأ
الاقتراع العام على القانون اللامرئي الذي يحكم المجتمعات، وهو قانون التقدم الذي تمتد
جذوره في
الطبيعة الإنسانية. فالثورات تندلع إذا ما أُعيق التقدم، وتكون إعلانًا على انتصار التقدم
على
التخلف، والحركة على الثبات، ويمكن تجنُّب هذه الثورات والتقلبات المفاجئة بخلْق نظم
ومؤسسات
ديمقراطية من شأنها تبنِّي الأفكار التقدمية وتحقيقها أولًا بأول وبحكومة تمثِّل الشعب
وتأتي عن
طريق الاقتراع العام.
وقد ارتبطت ثورة ١٨٤٨م أيضًا بأسماء فيكتور
كونسدران Victor Considérant (١٨٠٨–١٨٩٣م) تلميذ فورييه وبيير
لورو Pierre Leroux (١٧٩٧–١٨٧١م) الشيوعي الإنساني وتلميذته المخلصة جورج صاند George Sand (١٨٠٤–١٨٧٦م)، وبالرغم من أنه شيوعيته كانت غامضة
وغير مؤثرة إلا أنه كان له تصور للتاريخ. فقد بدأ لورو من أنصار سان سيمون، ولكنه انفصل
عنه،
وأعاد إثبات مبدأ المساواة الذي أنكره سان سيمون. وجعل تحقق هذا المبدأ مقياسَ التقدم.
فتاريخ
الإنسانية هو تاريخ التقدم الممثل في القضاء التدريجي على الطوائف والطبقات، وفي المرحلة
الحالية من تطور الإنسانية يعني الإنسان المساواة. ولكي تحقق الإنسانية في المستقبل مثلها
الأعلى فإنها تحتاج إلى قوة ورافعة؛ فالقوة هو الإنسان والرافعة هي فكرة التقدم. ولكن
القوة
والرافعة تحتاجان إلى سندٍ وهو «التضامن» Solidarite بين أفراد
الجنس البشري وجماعاته. والتضامن لديه لا يرتبط بدين يقوم على وحدة الوجود كما هو الحال
عند سان
سيمون بل يرتبط بنظرية لورو عن العودة إلى الحياة Palingénesie.
فنحن لسنا أحفادَ الأجيال السابقة فقط بل نحن هم هذه الأجيال بعد أن عادت إلى الحياة
من جديد.
وكأن عقيدة تناسخ الأرواح التي افترضها لسنج ظلت مرتبطةً بفكرة التقدم؛ لأنها تقوم على
الاستمرارية والتواصل في التاريخ.
وقد ولدت ثورة ١٨٤٨م تصورًا آخر للتقدم، تقدم الإنسانية عند إرنست رينان
E. Renan (١٨٢٣–١٨٩٢م) في كتابه المشهور «مستقبل العلم»
٢٥ الذي كتبه في ١٨٤٨م ولم يُنشر إلا في ١٨٩٠م، يبشِّر فيه رينان بان التاريخ له غاية،
وأن الإنسانية لها مستقبل وهو العلم الذي يسود الغريزة والهوى. وقد كانت الثورة الفرنسية
أول
محاولة تستقل فيها الإنسانية، وتأخذ مصيرها بيدها بعد أن توقَّفت أمام الهوى والانفعال.
وعلى
الإنسانية الآن أن تختار بين موقفَين: إما اليأس من العقل والوقوع في الشك، أو تعويض
ذلك
بالإيمان بسلطة خارجية متمثلة في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية أو الثقة بالعقل والإيمان
بتقدم
العقل البشري واتجاهه نحو الكمال. وقد اختار رينان الموقف الثاني، وآمن بأن العلم بما
فيه فقه
اللغة والفلسفة تجعل الإنسان قادرًا على تحقيق مَثل الإنسانية الأعلى حيث تتحقق المساواة
بين
الناس جميعًا. والدولة هي آلة التقدم، والاشتراكيون على حقٍّ في صياغتهم المشكلة التي
على
الإنسانية حلُّها ولو أن حلَّهم ليس هو الحل الأمثل؛ لأن الحرية الفردية التي يحددها
الاشتراكيون هي انتصار حتمي للإنسان، ويجب الإبقاء عليها بلا شروط. ولكن رينان بعد أربعين
عامًا
قد غيَّر موقفه، وأعلن أنه يشك في أن يُصبحَ البشر جميعًا متساويين في يوم من الأيام؛
فاللامساواة مسطورة في الطبيعة البشرية، ليست فقط نتيجة ضرورية للحرية بل أيضًا مصادرة
حتمية
للتقدم. فسيوجد باستمرار أقلية متفرقة. ولكن بقايا اشتراكيته العاطفية جعلتْه يظن أن
الاشتراكية
العلمية قد تنتصر في النهاية. ولكنه رأى أن مستقبل الإنسانية أكبر بكثير من تطبيق
الاشتراكية.
وأمام هذا المد الاشتراكي الجديد، وعودة فكرة التقدم إلى الظهور أعلن البابا بيوس
التاسع
أنها فكرة خاطئة، يروِّج لها أعداء الكنيسة، وهي الفكرة الخاطئة الثامنة عشر من قائمة
الأخطاء
التي أدانها مثل: الليبرالية، والتسامح، والديمقراطية، والاشتراكية، والعقلانية!
٢٦
ولكن يبدو أن المعرض الذي أُقيم في بريطانيا في ١٨٥١م قد حقق مآثر التقدم في منجزات
بالفعل
خاصة بعد اكتشاف قوة البخار والفحم والكهرباء واختراع السكك الحديدية. لم يَعُد التقدم
فكرةً أو
قانونًا، بل أصبح تقدمًا ماديًّا ملحوظًا بالفعل يحقق الرفاهية والخير للناس يتغنَّى
به الشعراء
ويصنعه العلماء. فقد نشر سوذي
Southey «سير توماس مور أو
مؤتمرات حول تقدم المجتمع»
٢٧ في ١٨٢٩م متنبِّئًا فيه بأن «البخار سيحكم العالم». وبانتشار المسيحية وبتقدم
المسيحين تصل الإنسانية إلى آخر مرحلة في تطورها. فقد جمعت بين التقدم المادي والتقدم
الروحي،
بالرغم من أن سوذي محافظ يدعم سلطة الدولة والكنيسة. كما نشر هاملتون
Hamilton (١٨٠٥–١٨٦٥م) «تقدم المجتمع»
٢٨ مبشرًا بكمال الطبيعة الإنسانية والوصول إلى عصر ذهبي يختفي فيه الفقر والشقاء.
والعقل هو السبيل لتحقيق هذا الكمال. وقد غنَّى الشعراءُ تقدُّمَ الإنسانية من أمثال
تنيسون
Tennyson (١٨٠٩–١٨٩٢م) وفيكتور هوجو
Victor Hugo (١٨٠٢–١٨٨٥م) من أجل وحدة الإنسانية والجماعات
الشاملة التي سماها تنيسون «برلمان الإنسان اتحاد العالم».
والتقدم المادي هو الذي سيحقق وحدة البشرية. كما عبر عن ذلك الأمير كونسور
Prince Consort الداعي لمعرض ١٨٥١م القائم على مبدأ «تقسيم العمل» وعلى
«التضامن». وقد تساءل المفكرون هل وازَى التقدمَ المادي تقدمٌ خلقيٌّ؟ هل حقق التقدم
الصناعي
سعادة الإنسان؟ وقد كان الرد أحيانا بالإيجاب؛ فقد أُلغيَ الرقُّ في أمريكا، وأحيانا
أخرى
بالسلب نظرًا لما يسود العالم من حروب، وبؤس في الطبقة العاملة، وهو الرد الذي ما زال
قائمًا
حتى الآن.
٢٩
وأخيرًا وجد التقدم آخر أنصار له في نظرية التطور؛ فقد مرت فكرة التقدم بمراحل ثلاث؛
الأولى: مرحلة الثورة الفرنسية عندما كان التقدم مسلَّمة عامة عند جميع المفكرين دون
فحص أو
تمحيص. والمرحلة الثانية: عندما أصبح التقدم خاضعًا لقانون عام يكشف عنه علم الاجتماع
أو العلم
الطبيعي أو علم التاريخ. ولكنه ظل قانونًا تأمليًّا لا يقبله كلُّ العلماء. وفي المرحلة
الثالثة
تحوَّل هذا القانون العام إلى قانون علمي هو قانون التطور على أيدي البيولوجيِّين وعلماء
الأحياء. كان أولهم دارون
Darwin (١٨٠٩–١٨٨٢م) في كتابه
المشهور «أصل الأنواع»
٣٠ فقد رفض التصور الثابت للطبيعة وبيَّن تطورها، وعلَّل هذا التطور. وما ظنَّه
المفكرون على أنه مجرد افتراض حاول دارون إثباتَه بالعلم وتحويله إلى قانون، وتخلَّى
نهائيًّا
عن فكرة العناية الإلهية. ولا يعني التطور في الحياة الإنسانية الاتجاه بالضرورة نحو
غاية بل هو
تطور محايد علمي لا شأن له بالتفاؤل أو بالتشاؤم. بل يمكن تأويله على المعنيَين معًا.
ويعتمد
دارون في إقامته التقدم على قانون التطور على حجتَين، خضوع الحياة الاجتماعية لنفس القوانين
العامة لتطور الأحياء وزيادة السعادة المتضمنة في هذا التطور. ولكن سبنسر
Spencer (١٨٢٠–١٩٠٣م) هو الذي أقام التقدم على التطور، وعمَّم التطور على
الاجتماع والأخلاق في فلسفة تفاؤلية عامة. فقد نشر أولًا «الثبات الاجتماعي»
٣١ في ١٨٥١م، وكان ما زال مؤلهًا لم تتضح قوانين التطور في ذهنه بعدُ. ولكن ظهر التقدم
على أنه أساس نظرية الأخلاق، هاجم ثبات الطبيعة الإنسانية وأثبت تغيُّرَها الدائم الذي
يخضع
لقانون التغير. ولما كان التغير هو قانون الحياة كان بإمكان الإنسان الوصول إلى الكمال.
وليس
الشر ضرورة دائمة في الطبيعة؛ فالشر ينتج عن عدم تكيُّف العضو الحي مع بيئته، ويمحي الشر
بوجود
هذا التكيف. والمدنية هي مجموع التكيفات بين الإنسان والبيئة، والتقدم هو الخطوات المتتالية
التي يتم فيها هذا التكيف. التقدم ليس عرضًا في حياة الإنسانية بل ضروري. فالمدنية جزء
من
الطبيعة، وكأن الطبيعة تحتوي على غاية قصوى هي السعادة القصوى للجنس البشري دون اللجوء
إلى فكرة
العناية الإلهية مع أن سبنسر في نهاية حياته أقرَّ بموجود غائب وراء كل الظواهر يكون
بمثابة
قواها الكامنة فيها. ولكن هذا التفاؤل وهذه السعادة التي تتحقق في مستقبل الإنسانية لا
تتطلب
إقامةَ نظم سياسية أو حكومات، بل تعني التكيف التدريجي والتغير النفسي التدريجي، ويتحقق
هذا
التكيف في الحرية الفردية؛ فالمقاومة مفيدة ونافعة لازدهار الحرية. وقد عمَّم سبنسر قانون
التطور الذي عرضه في «المبادئ الأولى» في ١٨٦٢م إلى «علم الحياة»، و«علم النفس»، و«علم
الاجتماع»، في العشرين سنة التالية. وقد تابع أنصار التطور عملَ سبنسر؛ مثل هكسلي
Huxley (١٨٢٥–١٨٩٥م) وونوود
ريد
Winwood Reade٣٢ ولوتز
Lotze (١٨١٧–١٨٨٧م)، بل قد تعدَّى مفهوم
التطور علم الأحياء إلى عالم اللاشعور عند
هارتمان
E. Von Hartmann (١٨٤٢–١٩٠٦م) في كتابه «فلسفة اللاشعور».
٣٣
ولكن يبدو أن القرن العشرين قد تخلَّى عن فكرة التقدم، فكان ذلك إحدى مآسيه. فقد
تخلَّى
الغرب عن مفهوم الغائية، واعتبرها خدعًا ووهمًا؛ فالعالم عند رسل وسارتر لا يسير وفقًا
لغاية،
ولا يسعى نحو هدف في حين أن هذه الغاية وهذا الهدف كانَا منارَ فلسفة التنوير، وكان هو
الله من
حيث هو تطلع نحو المستقبل، وتحقيق لكمال الإنسانية.
٣٤ ولم تفلح المحاولات الأخيرة في إحياء الشعور الأوروبي وإعطائه دفعة جديدة؛ فقد كانت
محاولة كروتشه
Croce (١٨٦٦–١٩٥٢م) في «التاريخ باعتباره قصة للحرية»
٣٥ آخر مَن تبقَّى من روح هيجل في القرن العشرين، ومن ثَم فهي تعبِّر عن روح
القرن الماضي ومدى دفعته وانتشاره في هذا القرن، وقد حاول
هوسرل في «أزمة العلوم الأوروبية»
٣٦ وصف تقدُّم الوعي الأوروبي نحو غاية
Telos، ولكن
هذه الغاية كانت نظرية خالصة أشبه بالنقطة الهندسية أو مثال أفلاطون. وكأن الكمال قد
عاد من
جديد كمالًا نظريًّا عقليًّا كما كان الحال في القرن السابع عشر. كما حاول برجسون أيضًا
دفْعَ
الروح الأوروبي خطوة أخرى، ولكن اتجاه هذا الدفع كان إلى أعلى وليس إلى الأمام؛ فالحرية،
والديمومة، والدافع الحيوي، والذاكرة، والتطور الخالق، كل هذا يتجه نحو الأعلى الذي يظهر
في
الدين الدينامي، وهو التصوف. ومن ثَم فقدَ التقدمُ اتجاهَه نحو الأمام، واتجه إلى أعلى
لمعارضة
السقوط والانهيار في الروح الأوروبي، وبالتالي عادت فكرة التقدم إلى التصور المسيحي الأول
القائم على حركتَي الذهاب والإياب، أي على عقيدتَي الخطيئة الأولى والفداء، وكأن برجسون
قد عاد
إلى تصوُّر التاريخ القديم في العصور الوسطى عند أوغسطين. كما حاول بعض فلاسفة الوجود
مثل سارتر
وميرلوبونتي الحديثَ عن المفارقة وتحديد اتجاهها إلى الأمام وليس إلى أعلى ولكنها مفارقة
فردية
وجودية، بها تتجاوز الذاتُ حدودَ الموضوع ولكنها لا تنقل الفرد من فترة إلى فترة، ولا
تنقل
الجماعة من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى، فهي مفارقة لإنقاذ الذات من تحويلها إلى موضوع
وليس
من أجل إنقاذ الجماعة أو تغيير الواقع الاجتماعي إلا عرضًا عن طريق الفرض الذاتي الذي
قد يصل
إلى حدِّ الانتحار. وقد تحوَّل التاريخ كلُّه عند هيدجر إلى بعد الوجود الإنساني، فبدل
أن كان
الإنسان في التاريخ أصبح التاريخ في الإنسان. وحتى هذا الإنسان فإنه وجود من أجل الموت
وليس من
أجل الحياة! وأخيرًا توج شبنجلر وتوينبي فلسفات التاريخ في القرن العشرين معلنين نهاية
الحضارة
الأوروبية وأفول الغرب وانحسار التمدد الأوروبي وانتشاره خارج حدوده، وكأن بداية النهاية
قد
قربت، وحان وقت إغلاق الأقواس عن فترة الريادة الأوروبية التي بدأت منذ عصر الإحياء في
القرن
الرابع عشر إلى عصر الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر إلى عصر النهضة في القرن السادس
عشر إلى
الفلسفة العقلانية في القرن السابع عشر إلى فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر إلى الفلسفة
الوضعية في القرن التاسع عشر وأخيرًا إلى أزمة القرن العشرين. لم يبقَ أمام الغرب إلا
حربان
عالميتان تقوم فيه أسلحةُ التدمير والنضال بدلًا عن العقل والحرية. لم يبقَ أمام الغرب
إلا أن
ينعَى التقدم المادي الذي يحقق للأوربيِّين السعادةَ المرجوة. لم يبقَ إلا أن ينعَى إلى
نفسه
إفلاسَ المشروع الغربي الناتج عن التقدم المادي، وهو أكبر قدر ممكن من الإنتاج لأكبر
قدر ممكن
من الرفاهية. لقد بدأ المفكرون الجدد يُبيِّنون حدود «مجتمع الوفرة» ومخاطر «مجتمع الاستهلاك»،
ويقتربون من شعور البلاد النامية وبلدان العالم الثالث فيبدو وأن نهاية الريادة للشعور
الأوروبي
قد عاصرتْها بداية الريادة لشعور العالم الثالث.
٣٧