سابعًا: حدود فلسفة التنوير
كان يمكن لفلسفة التنوير أن تكون هي فلسفة الوعي الأوروبي، وأن تكون أساسًا نظريًّا لسلوكه، وأن تكون تصورًا للعالم. ولكن لسوء الحظ تركها الوعي الأوروبي كعادته دائمًا في البحث المستمر، والانتقال من السخاء إلى نقيضه دون أن يثبتَ على شيء وكأنه قد فقد إلى الأبد بؤرةَ الشعور ومركز العالم ومحور الكون، ولم يَعُد قادرًا على الاتزان. وقد كان بالأحرى التوقف عند فلسفة التنوير وجعْلها فلسفته الدائمة كبديل عن إيمانه الضائع، ودينه المرفوض، وعقائده المنقوضة، وكتابه المقدس الذي لم تثبت صحتُه بفعل النقد التاريخي. فلسفة التنوير هي الوريث الوحيد للدين التاريخي والفهم الإنساني للعقائد الموروثة والعمل الصالح بدلًا من الشعائر.
-
(١)
ولهذا السبب هناك علاقة وطيدة بين فلسفة التنوير والإسلام، تاريخية أو فكرية. ويمكن القول بلا أدنى مبالغة إن الإسلام كان سببًا من أسباب نشأة فلسفة التنوير وإحدى روافدها التاريخية؛ إذ تكثر الإشارة من فلاسفة التنوير إلى الإسلام باعتباره نموذج الدين المستنير الخالي من العقائد والطقوس والشعائر والمؤسسات الدينية، والداعي إلى استغلال العقل وحرية الإرادة والمدافع عن المساواة والعدالة الاجتماعية. ويتضح ذلك أكثر إذا ما قارنَّا الفكر الاعتزالي بفلسفة التنوير ورأينا الشبه بينهما من دعوة إلى التنوير، وإثبات لحرية الإنسان ودعوة إلى إعمال عقله. وتأكيدًا لمسئوليته الفردية؛ فالفكر الاعتزالي يمثِّل التيار التحرري أمام الأشعرية المحافظة كما تمثِّل فلسفة التنوير التيار التحرري أمام الأرثوذكسية المسيحية.
وتتضح العلاقة التاريخية ممثلة في فكرة لسنج في النقاط الآتية:- (أ) كانت أول دراسات لسنج المنشورة عن اللاهوت هي «دفاع جيروم كاردان»١ الذي ظهر في عام ١٧٥٤م ولسنج ما زال في الخامسة والعشرين من عمره، وهو فيلسوف إيطالي من ميلانو في عصر النهضة اتُّهم بالإلحاد بسبب نشرِه كتاب «الدقيقات»٢ عام ١٥٥٢م تجرَّأ فيه الفيلسوف، وقارن بين المسيحية واليهودية والإسلام والوثنية. وقد دافع لسنج عن جيروم وأثبت أنه كان مسيحيًّا مخلصًا طالما أنه قوض الحجج التي تعتمد عليها الديانات الأخرى خاصة الإسلام. ولكن الذي يهمنا هو حكم لسنج على كاردان بأنه أهمل قضية أساسية يتبناها المسلم وهي أن الوحي الإسلامي يقوم على العقل في حين أن الوحي اليهودي أو المسيحي يقومان على شيء آخر يأتي من فوق العقل أي من وراء الطبيعة. وهذا لا يمكن البرهنة على صحته أو إثبات صدْقه. تقوم اليهودية على اختيار تعسفي لا مبررَ له من عقل أو من أخلاق، كما تقوم المسيحية على سر يندُّ عن العقل أو على عقيدة تناقض النور الفطري، ومن ثَم تفتح المسيحية الباب على مصراعَيه للخرافات والأوهام، كما تفتح اليهودية الباب على مصراعيه للعنصرية والقبلية والأنانية والعدوانية. أما الإسلام فإنه لا يحتوي على عقيدة واحدة تعارض العقل أو تناقض الطبيعة. فالإسلام دين عقلي Religion Rationale كما أنه دين طبيعي Religion Natwralis ويُثبت الإسلام الإله الواحد القادر على كل شيء كما يُثبت الجزاءات الأخروية. فإذا ما طالبت المسيحية أو اليهودية الإنسان بشيء أكثر من وحدانية الله أو من حب الخير فإن عبء البرهنة على ذلك يقع عليهما وحدهما. لا يوجد في الإسلام تطرُّف في أي شيء في التصور أو في الواقع، فلم ينهض نبيُّ الإسلام من الموت، ولم يَقُل بأنه ابن الله، ولم يَقُم بإجراء المعجزات. كان الإسلام إذن تحديًا عقليًّا وخلقيًّا للغرب، وأصبح نموذجًا لفلسفة التنوير.٣
- (ب) نشر لسنج في الجزء الثالث من «المساهمات» عام ١٧٧٤م دراسةً عن آدم نوزر «بعض الحكايات الحقيقية»،٤ وقد كان نوزر من أتباع لوثر ثم أصبح من أنصار كالفن، واتُّهم عام ١٥٧٢م مع ثلاثة آخرين بإنكار التثليث وألوهية المسيح، وحُكم عليه بالسجن ثم حُكم على أحدهم وهو سلفانوس Sylvanus بالإعدام بتهمة التجديف والخيانة، أما الاثنان الآخران فقد حُكم عليهما بالنفي. أما نوزر نفسه فقد هرب إلى القسطنطينية وتحوَّل إلى الإسلام وتوفي ١٥٧٦م. كانت صورته التقليدية أنه هرطيق وشرير وملحد. ويحكي لسنج قصتَه متعاطفًا معه مصورًا إياه على أنه إنسان بائس اضطرَّ إلى الإلحاد بسبب تعصب اللاهوتيين الأرثوذكس في هيدلبرج مثل سرفتوس Servetus آخر، وكرجل أمين استطاع بمنطق أحكم وبإخلاص أكثر من السوسنيين أن يستخلص من أفكاره لألوهية المسيح هذه النتيجة غير المعقولة، وهي أنه يمكن توجيه الصلاة لغير المسيح! فهذا يدل على أن بحث فلاسفة التنوير عن الله الواحد المنزه قد وجده البعض منهم في نموذج الإسلام.
- (جـ) وفي محاولة لسنج «اعتراضات اندرياس فيسوفاسيوس على التثليث»٥ الذي نشره في ١٧٧٣م ذكر لسنج اعتراضات السوسنيين المعاصرين لليبنتز، وردَّ ليبنتز عليها مدافعًا عن التثليث وتصور الأرثوذكسية له ومحتقرًا الأفكار السوسنية. هذه الاعتراضات تكون موقف الإسلام الطبيعي الذي لم تعرفه فلسفة التنوير تاريخيًّا، ولكنه ظل مطلبًا شعوريًّا طبيعيًّا لما كان الإسلام دين الطبيعة ودين الفطرة.
ولكن كانت هناك صورة أخرى للإسلام ظهرت في فلسفة التنوير وظلت سائدة في الغرب على مختلف فتراته التاريخية، وهي صورة تقوم على الخلط بين الإسلام والتاريخ كما هو الحال في المسيحية. وقد أتت هذه الصورة من دراسات المستشرقين وكتب الرحالة وجدل المتعصبين، وقد أتى معظمها من الأتراك حتى إنه لقد تم التوحيد بين المسلمين والأتراك، وهي صورة خاطئة؛ لأنها لم تأتِ من الإسلام ذاته كما هو موجود في مصادره الأولى، ولأنها تقوم على التعصب أو الجهل أو سوء النية. ومن مكونات هذه الصورة الأساسية التعصب، والقضاء والقدر، والتخلف، والمادية، والنَّيل من شخصية الرسول.
فقد تحدث فولتير عن التعصب في الإسلام نظرًا لما يعانيه الغرب المسيحي من التعصب الديني والحروب بين المذاهب والشِّيَع، واضطهاد الفِرَق الدينية بعضها للبعض الآخر، وطبقًا لما يراه من سوء معاملة الأتراك للمسيحيين الأرثوذكس في شرق أوروبا وفي بلاد البلقان. ولكن لو قدر له ولفلاسفة الغرب معرفة التسامح الإسلامي «لا إكراه في الدين»، والدعوة إلى العالمية «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا نتخذ بعضنا بعضا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقل اشهدوا بأنا مسلمون».٦وقد تسرَّب إلى فلسفة التنوير حكمٌ مسبق آخر وهو القول بالقضاء والقدر Fatalismo الذي هاجمه ديدرو في «يعقوب القدري»٧ والذي استقاه الرحَّالة الأوروبيُّون من اتصالهم بالعالم الإسلامي ورؤية ما عليه الناس من تواكل واتكال وسلبية وخنوع نظرًا لما ساد العالم الإسلامي إبَّان الحكم العثماني من قِيَم صوفية اتحدت مع العقائد الأشعرية، فخلط فلاسفة التنوير بين الإيمان وبين العجز، وبين التوكل والتواكل، ولو أنهم عرفوا «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». أو «قد أفلح من زكاها وخاب من دساها» لما وقعوا في هذا الحكم المسبق.٨ ولو أنهم أيضًا عرفوا الفكر الاعتزالي وتركيزه على خلق الأفعال وإثبات الاستطاعة للإنسان قبل الفعل ومع وبعد الفعل، لوجدوا في الإسلام نموذجًا لفلسفة التنوير.كما ظن فلاسفة التنوير وهم في حموة الإيمان بالتقدم والتبشير به باعتباره جوهرَ الوحي وغايته الإنسانية أن الشعوب الإسلامية متخلفة؛ نظرًا لأن دينها خالٍ من مفهوم التقدم ومن غائية التاريخ؛ فالتعالي الإسلامي خارجية محضة، والتنزيه سكون وفراغ وصورية لا حياة فيه ولا حركة ولا خلق. ولو قدر لهم معرفة القرآن للتاريخ ولدور الأنبياء في حركة التغيير الاجتماعي ولمَا أسماه الأصوليون وعلماء التنزيل «الناسخ والمنسوخ»، الذي يدل على أن الواقع في جوهره تقدُّم وتطور، وأن الوحي يتغير أيضًا طبقًا لتغير الواقع. ولو قدر لهم معرفة «الاجتهاد» الذي سماه إقبال من مبدأ الحركة في الإسلام لعرفوا أن الوحي والتقدم شيء واحد وأن ما أدركه لسنج في القرن الثامن عشر هو رؤية إسلامية صحيحة، ومن ثَم يكون تناقضًا أن تكون هناك أمة إسلامية متخلفة وليس تصور الأشاعرة للتاريخ، وهم أرثوذكسية الإسلام على أنه انهيار وسقوط من عصر النبوة إلى عصر الملك العضود، ومن السلف إلى الخلف الذين اتبعوا الشهوات، أو من الوحدة الأولى إلى التفرق والتشيع على ما هو معروف من حديث الفرقة الناجية «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة …» ومن حديث «خير القرون قرني …»
كما تسرَّب إلى فلسفة التنوير حكمٌ مسبق آخر هو مادية الإسلام من سوء تفسير القرآن وعدم معرفة قواعد اللغة العربية وأحكام الحقيقة والمجاز، وجهل بالتصوير الفني في القرآن، وتفسيره تفسيرًا حرفيًّا، في حين أن التفسير الرمزي نشأ في الشرق بوجه عام وفي مصر بوجه خاص في مدرسة الإسكندرية. ظن فلاسفة التنوير أن تصوير القرآن لمشاهد القيامة تصويرًا ماديًّا وأن شريعة الإسلام شريعة مادية خاصة فيما يتعلق بعلاقة الرجل بالمرأة وما يقال عن تعدُّد الزوجات والإماء والجواري وما يتعلق بالحرب والسلام، واعتماد الإسلام في انتشاره على السيف، وهي الصورة التي انتشرت في الغرب إما من عصر الفتوحات أو من عصر الحريم في تركيا. ولو أن فلاسفة التنوير قد عرفوا وضْعَ المرأة في الإسلام وحقوقها وأسباب انتشار الإسلام كدين طبيعي عقلاني لأصبح الإسلام نموذجًا كاملًا وشاملًا لفلاسفة التنوير ولما ساءت هذه الأحكام المسبقة في الغرب حتى الآن.
وأخيرًا لم يبرأْ رسول الإسلام أيضًا من الثَّلْب على يد فلاسفة التنوير مثل فولتير في كتابة «محمد»؛ إذ يتصورون أن النَّيل من الرسول نيلٌ من الدين، ويسمون الإسلام «المحمدية» والمسلمين «المحمديين»، ويجعلون موضوع العبادة هو محمد والقرآن، ومن ثَم يكون المسلمون أقرب إلى الوثنيين منهم إلى المسيحيين؛ فقد نشر فابريكوس حموريماروس Fabricius مثلًا «المعجم المفهرس للكتاب المقدس»٩ يُبرهن فيه على صحة الدين المسيحي ضد الأبيقوريين والمؤلهة والطبائعيين واليهود والمحمديين.والحقيقة أن فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر ودعوتها إلى العقل والحرية والتقدم والمساواة دعوة إسلامية خالصة بصرف النظر عن الأحكام المسبقة التي تسرَّبت إلى فلاسفة التنوير باعتبارهم مفكرين غربيِّين يسري عليهم ما يسري على غيرهم من المفكرين والأفكار الشائعة الخاطئة عن الحضارات الأخرى غير الأوروبية. وما أعلن لسنج اكتماله في القرن الثامن عشر قد أعلن الإسلام تحقيقه في القرن السابع من قبل باكتمال الوحي، وإعلان استقلال الإنسان عقلًا وإرادة، وتأسيس مجتمع العدل والمساواة. لم يحدث التنوير الإسلامي عن طريق الشك في صحة الكتاب؛ فالكتاب وثيقة صحيحة تاريخيًّا بمقاييس النقد التاريخي، بل عن طريق مناهج التفسير وحدها التي تُبرز المضمون العقلي والواقعي للنص، فما النص إلا صياغة عقلية لواقع يتحرك. وهذا هو السبب في إغراء فلسفة التنوير للمثقفين العرب وللمصلحين الدينيِّين، وهم لا يعلمون أنها تحاول اكتشاف ما وضعه الإسلام قبل ذلك بأحد عشر قرنًا وما صاغة المعتزلة بثمانية قرون. ولكن الجهل بالتراث والمعاداة له، والانحراف نحو الغرب واغتراب شعورنا القومي لدينا جعل مثقفينا متجهين نحو فلسفة التنوير في الغرب، وبالتالي تكون مهمة باحثينا مقارنة فلسفة التنوير بالتراث الاعتزالي وبروح الإسلام كما عبَّر عنها الوحي من أجل إيجاد أوجه التشابه بين التيارَين، ومعرفة أسباب قصور فلسفة التنوير وعدم رسوخها في أعماق الوعي الأوروبي.
- (أ)
-
(٢)
ولكن بالرغم من أن فلسفة التنوير تُعدُّ من أزهر ما أنتجه الوعي الأوروبي من فلسفات، بل إنها لتعدُّ أزهرها على الإطلاق بعد أن حدث للوعي الأوروبي الآن ما حدث، وبعد أن تكشَّفت أمامه أزمته، وأصبح يعاني من محنته نادمًا على تركه ما أسسه من قبل وهو فلسفة التنوير، وعدم أخْذه لها مأخذَ الجد، وكأنها لم تتجاوز مجرد افتراض كغيره من الافتراضات، ومجرد محاولة للبحث عن أسس نظرية للحياة وأسلوب عمل فيها كغيرها من المحاولات، ومن ثَم ضاع الحق النسبي بين حقوق كثيرة؛ فالكل ظن، والظن لا يُغني من الحق شيئًا، بالرغم من كل ذلك فإن لفلسفة التنوير حدودًا لم تتجاوزها، قد تكون هي السبب في عدم رسوخها في الوعي الأوروبي وعدم تأثيرها في سلوكه. هذا القصور الذاتي لفلسفة التنوير هو الذي جعلها عاجزة، لم تمسَّ أعماق الوجدان الأوروبي، ولم تدفعه أكثر مما دفعتْه بتحقيق الثورة الفرنسية، ولم تجعله نموذجًا للشعور الإنساني العام. لماذا لم تستمرَّ فلسفة التنوير إذن؟ لماذا لم تؤثر في الوعي الأوروبي؟ لماذا لم تحفظ الغرب من مآسيه وحروبه، وفقره واستغلاله، واستعماره وعنصريته؟ لماذا كان مصيرها مثل المسيحية، نظام رائع من حيث النظر ولكن ما أبعد العمل عن النظر وما أبعد الواقع عن المثال؟!
يمكن تحديد أوجه القصور في فلسفة التنوير على النحو التالي:- (١)
بالرغم من أن «العقل» هو دعامة فلسفة التنوير، وأصبح مرادفًا للإيمان وللدين؛ فالإيمان عقلي، والدين عقلي، وأصبح قادرًا على تنظير الأمور وفهْم العالم، فأمكن القضاء كلية على الأسرار والغموض والاشتباه، وأصبح شعارًا للكمال الإنساني ودليلًا على استقلاله وحريته. بالرغم من ذلك كلِّه إلا أن عمل العقل في كثير من الأحيان ظل كما كان الحال في العصور الوسطى المتأخرة حتى العصور الحديثة تبرير الحقائق المعطاة سلفًا، فكان عمله تنظيرًا لما هو موجود، وتعقيلًا لما هو معطًى، وتبريرًا لما هو قائم، خاصة عند فلاسفة التنوير النسبي وعلى رأسهم لسنج وهردر وكانط في ألمانيا دون فلاسفة التنوير الجذري وعلى رأسهم ريماروس في ألمانيا وفولتير في فرنسا لم يَقُم العقل بوظيفته في الرفض والثورة، بل كانت مهمته تنظير العالم، ومن ثَم قامت فلسفة التنوير على المذهب الفلسفية التقليدية، وأثبتت حقائق الفلسفة التقليدية وجود الله، وخلْق العالم، وخلود النفس، ولا مانع من تصوُّر المسيح على أنه ابن الله، روحه أو كلمته، ولا مانع أيضًا من قبول نظرية الفيض كما يفعل لسنج في محاولاته لتعقيل المسيحية وتحويلها إلى دين عقلي. وقد استمر هذا التبرير حتى القرن التاسع عشر عندما ظلت وظيفة العقل عند هيجل تبريرَ الوضع القائم وتنظير ما هو موجود في الدين وفهْم حوادث التاريخ الضرورية. وقد لاحظ ماركوز تخلِّي العقل عن القيام بوظيفة الرفض هذه، وركز عليها، وتحدث عن العقل والثورة؛ فالمثالية هي العقل، ثورة على الواقع وعلى نظمه في حين أن الوضعية — وهي تُثبت العلم — تسليمٌ بالأمر الواقع وبكيانه.
لذلك سرعان ما انتهى العقل إلا اللامعقول، وتوارت فلسفة التنوير أمام الرومانسية، وتخلَّى الوعي الأوروبي عن العقل، والتجأ إلى الإرادة حتى إنه قد أصبح من مأساة الوعي الأوروبي حاليًّا سيادة اللامعقول على العقل، والعبث على الغائية، والوجود على الماهية، وأصبحت مفاهيم العصر هي الواقع الحيوي، التطور الخالق، الديمومة، الذاكرة، الدين الدينامي عند برجسون مثلًا، أو التجربة الحية عند دريش ودلتاي وهوسرل، وإرادة القوة عند نيتشه، وإرادة الاعتقاد عند وليم جيمس، والوجود عند كلٍّ من هيدجر وسارتر وجابرييل مارسيل، والجسم عند ميرلوبونتي، وبوقوعِ حربَين عالميَّتَين كان الحكم فيهما للقوة، والسيادة فيهما للمنتصر. ثم خرج العقل من الإنسان وظهر في الآلة، وتأسَّس علم السيرنيطيقا لترجمة العقل البشري في الآلة الحاسبة كي تقومَ بعمله، وتحلَّ محلَّه، فتوقف ما بقيَ من عقلانية في الإنسان، وأصبح خاضعًا لتحكُّم الآلة وحسابها ليس فقط توفيرًا لجهده العضلي بل أيضًا توفيرًا لجهده الذهني، فلم يَعُد للعقل وظيفة، وتخلَّى عن عرشه إما للتصوف أو للآلة.
- (٢)
كانت «الحرية» في فلسفة التنوير مع العقل إحدى دعائمها، حرية الإنسان في أفعاله واختياره وفي قراره. كانت حرية هادفة تبغي خلاص الإنسان من كل صور القهر والطغيان الديني أو السياسي، بل إن التاريخ كلَّه كان عملية تحرُّر الشعور الإنساني من كل القيود التي تمنع حريته طبيعية أو سياسية. وكانت حرية تقوم على العقل، وتعبيرًا عن إدراكه، وتحقيقًا لأهدافه. ولكن انتهت هذه الحرية بعد فلسفة التنوير إلى كونها تعبيرًا عن إرادة لا عاقلة، ومجرد مرادف آخر للوجود الإنساني من حيث هو إرادة وانفعال. فلم تَعُد حرية هادفة بل أصبحت حرية عابثة تعبِّر عن أزمة الوجدان أكثر مما تعبِّر عن غائيته. أصبحت الحرية عند برجسون تعبيرًا عن حتمية ذاتية، وانتفى عنها طابعُ الاختيار بين البواعث. كما وصلت عند سارتر إلى حدِّ الإطلاق، ومن ثَم تجاوزت العقل والآخر والواقع على حدٍّ سواء، أو أصبحت فردية لا شأن لها بحرية الآخرين، ومكسبًا للذات بعد أن كانت في فلسفة التنوير مكسبًا للجماعة وتحقيقًا لغائية التاريخ. ولما كانت الحرية في فلسفة التنوير هي حرية للوعي الأوروبي دون غيره، وكانت الشعوب غير الأوروبية ممهدة لظهور الحرية في الوعي الأوروبي أصبح القرن العشرين تحررًا من هذه الحرية الأوروبية التي وهبت نفسها للوعي الأوروبي وتمتَّعت عن غيره، وبدأت الشعوب غير الأوروبية في التحرر من هذه الحرية الآسرة لغيرها، بل إن الحرية في الوعي الأوروبي كثيرًا ما كانت قاصرة على فئة متميزة فيه؛ إما الطبقة الحاكمة أو أصحاب البشرة البيضاء دون الأغلبية المنتجة العاملة أو الجماهير ذات البشرة السوداء أو الحمراء أو الصفراء. كانت حرية محدودة بداخل الوعي الأوروبي وكحقٍّ لطبقة متميزة فيه وفي حدود الأنظمة السياسية القائمة. وما زال الخروج على أيٍّ من النظم يعتبر انحرافًا بالحرية عن مسارها.
- (٣) كان «التقدم» مع العقل والحرية هو إحدى الدعائم الأساسية في فلسفة التنوير على كل المستويات، التقدم العقلي، والتقدم العلمي، والتقدم الحضاري، والتقدم الاجتماعي. ولكن كان التقدم دائمًا بين المد والجزر؛ فمرة يدفعه فلاسفة التنوير، ومرة أخرى يوقفه الأيديولوجيون. فعلى مستوى التقدم العقلي والعلمي بدَت فلسفة التنوير خاصة الجناح النسبي فيها مناهضًا للحركات الجذرية في الفكر الديني والسياسي. فقد بدأ لسنج فكْرَه بنقده ريماروس أكبر ناقد للأناجيل من حيث صحتُها التاريخية وأكبر مَن برهنَ على تحريفها، وأنها لا تعبِّر بأي حال عن أقوال المسيح. بدأ لسنج في نقْد ريماروس باسم الأرثوذكسية ودفاعًا عنها إلا أنه تشبَّع منه وتأثَّر به؛ فبدأ النقد التاريخي للكتب المقدسة يتسرَّب إلى الأرثوذكسية حتى تمَّ تفجيرها من الداخل، وأصبح لسنج بعد قليل أقربَ إلى ريماروس منه إلى الأرثوذكسية حتى لفظتْه الأرثوذكسية واعتبرتْه غيرَ ممثلٍ لها، وأخضعت كتُبَه ومؤلفاته للرقابة، وهو ما تكرر حدوثُه في أوائل هذا القرن عندما نصَّب لوازي Loisy نفسه مدافعًا عن الكاثوليكية الرومانية في فرنسا ضد هجوم هارناك Harnack عالم البروتستانتينية الحرة مثبتًا تحريف الأناجيل وتبديل دين المسيح إلا أن ذلك كان سلاحًا ذا حدَّين؛ إذ في نفس الوقت الذي نقد فيه لوازي هارناك تأثر به، وتشبَّع بروحه حتى كان أقرب إليه منه إلى الكاثوليكية الرومانية الفرنسية التي بدأ الدفاع عنها، فاتهم لوازي بالخروج على التقاليد وبإنكار صحة الأناجيل، وبإنكار الوحي المسيحي لحساب التاريخ. فبدأ لوازي بالخروج على الكاثوليكية الرومانية مجددًا إياها، ومؤسسًا لما عُرف باسم حركة التجديد في الكاثوليكية المعاصرة. لم يكن غريبًا إذن أن يأتيَ القرن التاسع عشر بفلسفاته الاجتماعية وحركاته الثورية رافضًا لفلسفة التنوير ومدينًا لها باعتبارها فلسفة البرجوازية المتوسطة التي تبغي الاستنارة لصالحها من أجل مزيد من الترشيد لحياتها، وظلت فلسفة «الأنتلجنسيا» لا تخرج عن نطاق الكتب والنظريات، تبغي التنوير العقلي لا التغير الاجتماعي، وتهدف إلى الإصلاح في الدين أكثر مما تهدف إلى الثورة في الواقع. فلا غرابة إذن أن ينتهيَ التقدم والثورة إلى سكون ونظام على يد الأيديولوجيين وأوجست كونت، ولا غرابة أيضًا أن يبدأ السهم المتجه إلى الأمام إلى السقوط من جديد كلما ضعف الدافع، وتلاشت قوة الدفع الأولى كما لاحظ ذلك مفكرو القرن العشرين بحديثهم عن الأزمة والمحنة والاحتضار أو المأساة والضياع. وبعد ظهور الإيقاع البدائي في الفنون المختلفة، وكأن قوة الدفع الأولى في فلسفة التنوير لم تستطع تحريك الوعي الأوروبي إلا بضع خطوات.
- (٤) كان «الإنسان» في فلسفة التنوير محور التاريخ، وكان لها الفضل في تقوية هذا القلب الذي تم في العصور الحديثة منذ عصر النهضة، أعني قلب التمركز حول الله Theocentrisme إلى تمركز حول الإنسان Anthropocentrisme. وكان هو الإنسان الشامل العاقل الحر، صورة الإنسانية على الأرض. ولكن لسوء الحظ سرعان ما تحوَّل هذا الإنسان من حيث هو كذلك إلى إنسان أوروبي أبيض أو مسيحي، منفصلًا عن الإنسان غير الأوروبي الأسود أو الأصفر أو الأحمر، اليهودي أو المسلم أو الطبيعي، وكأن الوعي الأوروبي يقوم على أساس عنصري كامن فيه يمنعه من أن يكون ممثلًا للإنسان من حيث هو إنسان إلا فيما ندر. هذه العنصرية الكامنة هي التي جعلت فلسفة التنوير تنتهي حيث بدأت، وجعلتْها قاصرة على أن تتجاوز حدودها الجغرافية أعني موطنها الأوروبي، وهي التي جعلت التاريخ ينقسم إلى مرحلتين أساسيَّتَين؛ مرحلة ما قبل التاريخ وهي حضارات الشرق القديم، ثم مرحلة التاريخ وهي حضارات الغرب الحديث؛ وكأن حضارات الإنسان غير الأوروبي ما هي إلا تمهيد ومقدمة لحضارات الإنسان الغربي دون أن يكون لها كيانها المستقل، ودون أن تكون غائية من داخلها، تتحقق في مسارها الخاص. فإذا كان العصور الحديثة في الغرب استطاعت صياغة حضارة ممركزة على الإنسان Anthropocentrique إلا أنها كانت حضارة ممركزة حول الذات Egocentrique لا ترى أبعد من ذاتها، ولا تتجاوز حدود ذاتها إلى غيرها إلا عن طريق الاتباع والاحتواء أو الاستغلال أو السيطرة. لقد فقد الوعي الأوروبي في حكمه على التاريخ حياده، ولم يستطع تجاوز حدوده، ومن ثَم فلم يَعُد يمثِّل إلا نفسه.
- (٥) استطاعت فلسفة التنوير أن تركِّز على «الاستنارة العقلية»، فكان التنوير في القرن السابع عشر خاصة، هو تقدم الذهن وتقدُّم العلوم والمعارف كما هو الحال عند بيكون. صحيح أن القرن الثامن عشر استطاع توسيع نطاق الاستنارة فجعلها تشمل الواقع الاجتماعي أيضًا ولكن طريقة التعامل مع هذا الواقع كان أيضًا تعاملًا عقليًّا، أي حكم العقل وبيان مدى بُعْده عنه. ولم تحدث الثورة الاجتماعية بالفعل باستثناء الثورة الفرنسية إلا في القرن التاسع عشر بازدهار المناهج الاجتماعية وتحوُّل الاستنارة العقلية إلى ثورة اجتماعية بالفعل قامت بها الطبقات الكادحة خاصة الطبقات العمالية. فالتنوير العقلي كان مقدمة للثورة الاجتماعية وليس بديلًا عنها. لذلك تساءل عددٌ من مفكري البلاد النامية ألَا يمكن أن يعيش بلدٌ نامي المرحلتَين معًا؛ مرحلة التنوير ومرحلة الثورة الاجتماعية.١٠ فتغيُّر الوضع الاجتماعي القائم لبلد متخلف جزءٌ من التنوير، والقضاء على الإقطاع والسيطرة ونظم الحكم التسلطية أيضًا جزء من التنوير. فتحرير العقل وتحرير الشعب واجهتان لشيء واحد. فالحديث عن التقدم وإدخاله كمقولة في الثقافة الوطنية لشعب متخلف وإحداث هذا التقدم بالعقل والمساهمة في تحقيقه شيءٌ واحد، وقد بيَّن هيجل في نقده لفلسفة التنوير هذه الحدود وهذا القصور وهو سقوط الواقع من عملية التنوير حتى أصبح تنويرًا صوريًّا.
- (٦)
وكانت «الفردية» في فلسفة التنوير أكبرَ ردِّ فعل على قهْر الفرد قبل العصور الحديثة في المؤسسات الدينية أو عند أمراء الإقطاع وكبار الملاك. فظهر الفرد أو الإنسان العادي المقهور مستقلَّ العقل، حرَّ الإرادة. وأصبحت الفردية إحدى مكاسب الليبرالية منذ القرن السابع عشر. لقد كان اكتشاف الفرد انقلابًا ضد النظم التسلطية، سياسية أم دينية، وكان من مآثر فلسفة التنوير إعلان حقوق الإنسان. ولكن الفردية في فلسفة التنوير لم يصحبها بُعدٌ اجتماعي واضح، وظل الفردُ وحيدَ عصره ونسيجَ وحده. الإرادة المستقلة عند كانط، العقل الكامل عند لسنج، الإنسان الطبيعي عند روسو؛ فالطبيعة غايتها تربية الفرد والتاريخ يهدف إلى تحقيق الكمال الفردي والإنسان الكامل. صحيح أنه في فلسفة التنوير في فرنسا ظهر البُعد الاجتماعي واضحًا عند روسو في العقد الاجتماعي، «ومونتسكيو في روح القوانين»، ولكن الغاية من الجماعة كانت هي المحافظة على حقوق الفرد، والدفاع عن حريته. فالمساواة مطلب فردي أكثر منه مطلبًا اجتماعيًّا، والإخاء مطلب إنساني أكثر منه تحقيقًا للتكامل الاجتماعي. وكان هذا هو السبب الذي من أجله ظهرت النظم الرأسمالية الغربية التي بلغت أوجهًا في القرن التاسع عشر في عصر الثورة الصناعية وتراكم رأس المال الصناعي مما دعا إلى ظهور الحركات الاجتماعية والثورات الفعلية بعد أن ظهر التعارض بين أصحاب رءوس الأموال والعمال. فلو أن البُعدَ الاجتماعي كان حاضرًا في فلسفة التنوير حضورًا أساسيًّا لربما أمكن استمرارها، ولظهرت فاعليتها في الواقع، وبدأ أثرها على الجماهير، ولتغلغلت في الشعور التاريخي بدلًا من أن تظل مجرد افتراض نظري في الدوائر الثقافية ولا تتجاوز سطح الأشياء.
- (٧) وقد ظهر مفهوم «الأمة» La Nation في فلسفة التنوير وأصبح الإنسان هو المواطن Le Citoyen وهو اللقب الذي يُطلَق على كل إنسان يشير إلى ولائه للأمة وللأرض، وأصبح انتساب الإنسان إلى جماعة إحدى أبعاده الإنسانية. وظهرت نظريات «العقد الاجتماعي» عند سبينوزا وهوبز وروسو لبيان نشأة السلطة المدنية، وظهرت مفاهيم المجتمع المدني والقانوني الوضعي والنظام الاجتماعي لتؤكد على هذا الجانب الجماعي في الإنسان. ولكن لسوء الحظ سرعان ما تحوَّل مفهوم الأمة إلى الأمة القومية أي الأمة المتميزة على غيرها بتاريخ، ودين، ولغة، وتراث، وحضارة على أحسن الفروض، وبجنس، وعرف، وهبات فطرية على أسوأ الفروض. فأصبحت هناك الأمة الألمانية، والأمة الفرنسية، والأمة البريطانية، والأمة الإيطالية، والأمة السلافية. كلٌّ منها يدَّعي أنه غاية التاريخ وكمال الإنسانية ونهاية التطور وآخر المطاف. نشأ الشعور القومي وبلغ أوجهًا في القرن التاسع عشر في النظريات العنصرية التي تمجد الأمة من حيث هي شعب يتميز بخصال فردية دون غيره. وقوَّى هذه النزعة الروح الرومانسية بانفعالاتها ووجدانها ولجوئها إلى أساطير العودة إلى الماضي العريق، فوجدت كلُّ أمة في أساطيرها القديمة ما يقوِّي نزعتَها القومية الحاضرة، وأصبحت روح الأمة هي روح الأصالة والخلق والابتكار. وهي الروح التي أصبحت فيما بعد في حاجة إلى مجال حيوي وإلى انطلاق يجاوز موطنها تأكيدًا لرسالتها في تحضُّر الإنسانية والتي أدت إلى تكوين أيديولوجيات عنصرية مثل الفاشية والنازية والصهيونية والتي أدَّت في القرن العشرين إلى حربَين عالميَّتَين طاحنتَين ما زال العالم يعاني من آثارهما. لم تستطع فلسفة التنوير إذن أن تحافظ على تصور للجماعة أو للأمة لا يقوم على أساس قومي ينتهي إلى العنصرية، ومن ثَم سرعان ما انتهت حيث بدأت، وظل الوعي الأوروبي قاصرًا على تجاوز حدوده، وعاجزًا عن الوصول إلى ما هو أبعد من قومياته المتطاحنة.
- (٨) وأخيرًا كان الشمول Universalisme في فلسفة التنوير أكبرَ ردِّ فعل على خصوصية العقائد، وخصوصية الطبقة، وخصوصية المذهب قبل العصور الحديثة، وقد ظهر الشمول طابعًا مميزًا للوعي الأوروبي منذ عصر النهضة، كما ظهرت الدعوة إلى الإنسان الشامل ذي العقل المستقل والإرادة الحرة. وكانت الأفكار منذ القرن السابع عشر حاملة لواء الشمول، وكانت الرياضة نموذجًا له. ولكن لسوء الحظ كان هذا الشمول مرتكنًا على بُعدٍ في الوعي الأوروبي أعمق من العقل وهو الإرادة أو العاطفة أو الوجود المتمركز حول الذات، فتحدد الشمول من جديد ولم يخرج عن نطاق الشمول الأوروبي والعموم الأوروبي وكأن العنصرية الدفينة في الوعي الأوروبي كانت حجرَ العثرة التي لم يستطع الشمولُ تخطيها. فمثل الفردية والحرية والعقل والتقدم كلها كانت تعبِّر عن الروح الألمانية أو الحضارة الألمانية أو القومية الألمانية، أو إن شئنا الجنس الألماني إذا كان فيلسوف التنوير ألمانيًّا. وتعبِّر عن الثورة الفرنسية وعن الروح الفرنسية وعن القومية الفرنسية إذا كان فيلسوف التنوير فرنسيًّا، وتعبِّر عن الروح الأنجلوسكونية وعن النضج الأنجلوسكوني وعن التاريخ الأنجلوسكوني إذا كان فيلسوف التنوير أنجلوسكونيًّا. فما أعطاه التنوير بيدٍ، وهو الشمول، استردَّه باليد الأخرى، وهو القومية، خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الخلف. لذلك لم تؤثر فلسفة التنوير في الوعي الأوروبي ولم تقضِ على عنصريته الدفينة، وعلى تمركزه حول الذات دائه العضال. فخرجت في القرن التاسع عشر القوميات السياسية، وانتهت الإمبراطوريات الغربية (النمساوية مثلًا) لصالح القوميات التي قامت بدورها باضطهاد الأقليات. ثم تطورت القوميات فيما بعد فأصبحت الأيديولوجيات العنصرية مثل النازية والفاشية والصهيونية في القرن العشرين.
وتبدو الإشارة إلى الجنس أو العنصر أو السلالة في فكر كانط الممثل النموذجي للشمول في كتيباته حول فلسفة التاريخ. ففي «الأجناس البشرية المختلفة»١١ يصنف كانط الجنس البشري طبقًا للون البشرة: الجنس الأسود «النيجر»، والجنس الأبيض، والجنس المخلط منهما، ويصنف الأجناس إلى البيض والسود والصينيين «المتجوليون والكالمون»، والهنود والعرب والفرس، وهم لحسن الحظ يدخلون مع البيض. والسبب في ذلك الاختلاف عند كانط هو وجود بذور أو جراثيم Germes عنصرية في كل جنس ووجود استعدادات فطرية، وهي العلاقات بين هذه البذور، وهي أشياء حتمية تحدث في الجنس البشري. ويجعل كانط أصل الأجناس كلها ومصدرها ومنشأها الأول هو الجنس الأبيض، ويصنف كالآتي:الجنس الأصلي-البيض ذو اللون القاني.
- الجنس الأول: الأشقر القاني (أوروبا المدارية، بلاد البرد الممطر).
- الجنس الثاني: الأحمر النحاسي (أمريكا، بلاد البرد الجاف).
- الجنس الثالث: الأسود (السنغال، بلاد الحر الشديد الممطر).
- الجنس الرابع: الأصفر الزيتوني (الهندي، بلاد الحرارة الجافة).١٢
وفي كتيب آخر «تحديد مفهوم الجنس البشري»١٣ يتحدث كانط أيضًا عن اختلافات الأجناس طبقًا للون البشرية، اختلاف المور (عرب موريتانيا) عن الكريول (سكان فرنسا) عن السويديين. ويعتمد في ذلك على دراسات المبشرين وملاحظاتهم على الشعوب غير الأوروبية (مثل ديمانيه Demanet)، ويميز بين أجناس أربعة طبقًا للون البشرية: البيض والهنود والصفر والسود (النجرو). وفي نفس الوقت الذي يؤكد فيه كانط أنه: «في طبقة البيض باستثناء ما يتعلق أساسًا بالنوع البشري لا توجد أية صفة أخرى مميزة وراثية بالضرورة وكذلك الحال في الطبقات الأخرى». ويرفض الصفات الوراثية للأجناس المميزة لها، إلا أنه يقول أيضًا «من تداخل الأجناس الأربعة المذكورة عاليًا فإن كلًّا منها يحافظ على صفة بلا خطأ». ويستمر كانط في التعبير عن الأساس العنصري، ويؤكد أن «ما يتم نقله عن طريق الوراثة في الطبقات المتعددة للجنس البشري يمكنه أن يبرر سيادة جنس بشري خامس»، أي أن سيادة جنس على آخر تتم بناء على صفات وراثية فيه. وهو ما قالته النازية فيما بعد بحديثها عن الخصائص البيولوجية العليا للشعب الألماني. وما تقوله بعض النظريات العنصرية الأمريكية عن الخصائص البيولوجية الدنيا للجنس الأسود.١٤بل إن لسنج ذاته وهو في معرض بحثه عن الشمول اكتشف الماسونية، وأعجبتْه دعوتُها إلى وحدة الأديان ووحدة الجنس البشري وإلى السلام وتطهير القلب دون أن يُدرك مخاطر الماسونية من نزْع المواطنة عن الناس وجعْلهم خائنين لأوطانهم بدعوى العالمية والشمول ومن سيطرة بعض الفئات على الدعوة وتوجيهها لصالحها كما حدث أخيرًا عندما سيطر اليهود عليها لتوجيه البشر لصالحهم، ومن قضاء على روح النضال والالتزام بقضايا الواقع بدعوى السلام وعدم العنف وتطهير القلب والتخلص من أدران البدن!
- (١)