تربية الجنس البشري
١
الوحي بالنسبة للجنس البشري فاعلية بمثابة التربية بالنسبة للفرد الواحد.
مهمة الوحي تربوية محضة، والغاية منه تربية الإنسانية وليس إعطاء عقائد أو إقامة شعائر أو تشييد مؤسسات دينية. فالوحي وسيلة لا غاية. إذا تحققت الغاية أدت الوسيلة المطلوب منها. والوحي الذي لم يحقق غايةً يكون وحيًا متحجرًا متجمدًا، يتقوقع على ذاته، ويعيش داخل نفسه، وبالتالي يموت موتًا بطيئًا حتى تتوقف الحياة فيه. فلا يوجد وحيٌ في ذاته كما لا توجد حقائق في ذاتها في صورة عقائد، بل يوجد وحيٌ من أجل الإنسانية. الوحي هو مجموعة من البواعث التي تبعث على النشاط، وتدفع إلى الحركة، وليست مجموعة من العقائد الجاهزة للإيمان والتسليم بها.
والإنسانية كالفرد شعورٌ حيٌّ، ناشئ ومتطور، وليست تاريخًا أصمَّ يحتوي على حوادث وأشخاص، ونظم ومذاهب، ودول وأحلاف. وكما يحتاج الفرد إلى تربية تحتاج الإنسانية أيضًا إلى تربية. والتربية في جوهرها إذكاءٌ للشعور وإظهار له. التربية كشفٌ عما هو موجود وليست فرضًا من الخارج على ما هو موجود. تربية الإنسانية اكتشاف لشعورها وإيقاظ له. فالإنسانية الخاملة لم يعمل فيها الوحي بعدُ، والإنسانية التي نفرض الوصايا عليها تُزيح الوحيَ وتستبعده. والإنسانية التي ترجع إلى الوراء بالقضاء على عقلها ومحوِ إرادتها إنسانيةٌ تعمل ضد الوحي وعلى النقيض منه، وتقف مناهضةً له. فالأمة التي تتلقَّى وحيًا وتتخلف وتتأخر أمةٌ تناقض نفسها وتقضي على وجودها بالقضاء على مقومات حياتها في شعورها.
فإذا كنَّا أمة تلقَّت مثل هذا الوحي، وينقصها التربية، ويعيها التخلُّف تكون أمة كالحمار يحمل أسفارًا! وكيف يحدث في أمة تلقَّت وحيًا أن يكون أهمُّ معوقات تنميتها نقصًا في التربية — تربية الفرد والجماعة — وغفلتها ونومها حتى قامت حركات الإصلاح فيها تدعو لليقظة والصحوة! ولا تعني التربية هنا معناها الضيق، التربية الخلقية ولكن التربية بمعناها الشامل التي تتحقق عن طريق رفع الوصايا عن العقل والإرادة في الأخلاق والسياسة، في الداخل والخارج على حدٍّ سواء.
٢
التربية وحيٌ يُعطَى للفرد الواحد، والوحي تربية تُعطَى وما زالت تُعطَى للجنس البشري.
تربية الفرد بمثابة وحيٍ يُعطَى له؛ إذ إن التربية تكشف عن مضمون ذاته، وتساعده على إخراج ما لديه، ولا تفرض عليه شيئًا من الخارج على طبيعته، لا يعني الوحيُ إذن بالضرورة إرسالَ رسلٍ وبعثات تُعطي للإنسان حقائقَ من الخارج، بل يعني أيضًا اكتشافَ الإنسان لذاته ولطبيعته، ومعرفته للمبادئ والقِيَم من داخله. وتلك هي مهمة التربية في إحداث وحيٍ لكل إنسان حتى يستطيعَ أن يكتشف الحقائق من داخله وبجهده الخاص.
والوحيُ المتعارف عليه هو تربية للإنسانية. وما دامت الإنسانية في حاجة إلى تربية فهي في حاجة إلى وحي. فإذا تحققت التربية، واكتملت الإنسانية انقطع الوحيُ وانتهى دورُ الرسالات. وكلُّ تربية للإنسانية وحيٌ لها؛ لأنها تكشف عن ذاتها، وترقى وتقدم. وكما أن الأنبياء هم مربو الإنسانية فكذلك المربون هم أنبياؤها.
مهمة الوحي إذن كالتربية مهمة عملية وليست نظرية من أجل تحقيق التقدم للجنس البشري وليس من أجل إعطائه معارفَ نظرية، وكأن الوحي كالتربية يعطي الأولوية للعمل على النظر، وللتقدم على التخلف، وللحركة على الثبات، وللتاريخ على الفكر.
٣
لا أريد أن أبحث هنا الفوائد التي يجنيها المربِّي من التربية إذا نظرنا إليها من هذه الزاوية. ولكن مما لا شك فيه أن اعتبار الوحي تربية للجنس البشري ذو فوائد جمة في علم اللاهوت ويحلُّ مشاكل عديدة.
- (أ)
يخلط علم اللاهوت، وهذا خطأ من حيث المبدأ، بين اللاهوت والدين لدرجة التوحيد بينهما فيصبح علم اللاهوت بديلًا عن الدين في حين أن علم اللاهوت أي علم العقائد شيء والدين شيء آخر، فعلم العقائد علمٌ تاريخي محض يعطي التفسيرات المختلفة للدين على مختلف العصور كما يعطي التصورات المختلفة لعدد من الأجيال للدين. فهو يحتوي على عقائد تاريخية ومذاهب إنسانية أقرب إلى عقائد الفِرَق وإلى الملل والنِّحَل منها إلى الدين. ومن ثَم تظهر فيها الأهواء والأغراض والمصالح. فالعقائد على هذا النحو تنظير تاريخي لصراع القوى الاجتماعية. ومن حق الإنسان ألَّا يلتزم بهذه الاجتهادات كما أن من حقه أن يصبغ نظريات أخرى تعبِّر عن قوًى اجتماعية مضادة. فلا يوجد علم لاهوت واحد بل هناك صياغات نظرية عديدة كلها على نفس المستوى من الشرعية، ولا يجوز أخْذُ إحداها على أنها حقٌّ واعتبار الأخرى باطلة، إحداها ناجية والأخرى في النار. فالحق الناجي هو في الغالب ما تأخذه الدولة وما تمثِّله السلطة، والباطل في النار هو ما ترفضه الدولة، وما تمثِّله قوى المعارضة، وما يسمَّى في تاريخ المسيحية بالهرطقة وفي تاريخ العقائد الإسلامية بالفِرَق وأهل الأهواء. وقد حدث في تاريخ كلِّ شعب أن أخذَت الدولة مذهبًا رسميًّا في علم اللاهوت، واضطهدت المذاهب المعارضة، فأخذ المأمون المذهب الاعتزالي واضطهد مخالفيهم من أهل السنة ثم أخذ المتوكل المذهب الأشعري واضطهد مخالفيه من أهل الاعتزال. ما زلنا نحن اليوم نأخذ المذهب الأشعري ونجعله معيار الحقيقة والتفسير الأوحد للدين، ونضطهد كلَّ مَن خالفه أو كلَّ مَن ميَّز بين المذهب والدين. وحدث ذلك في تاريخ العرب أيضًا عندما كانت الكنيسة أوغسطينية أفلاطونية واضطهدت كلَّ تفكير عقلي ثم أصبحت توماوية أرسطية واضطهدت كلَّ تفكير مثالي يفسر العقائد تفسيرًا شعوريًّا خالصًا، وقد حذر سبينوزا في اليهودية من ذلك، ونادى بالفصل بين الدين والدولة كما حذر من دخول الدولة في الصراعات الفكرية ومن تبنِّيها أحدَ المذاهب واضطهادها المذاهب الأخرى. ولذلك رفض فقهاء المسلمين وعلى رأسهم ابن حزم كلَّ المذاهب الكلامية فكلها معابة، وكلها خاطئة أو ظنية، ونادى بالرجوع إلى الدين ذاته. كما رفض ابن رشد كلَّ المذاهب الكلامية وعلى رأسها المذهب الأشعري، وهو ما نعتقده نحن اليوم، باعتباره لا يفيد الذكي، ولا ينتفع به البليد، معاب عند العقلاء وصعب لدى الجمهور.
- (ب)
وخطأ من حيث المقصد؛ إذ يحول علم اللاهوت الدين إلى علم نظري خالص وكأن غاية الوحي نظرية لا عملية. تثبت الرقاب أو تقطع الرقاب، ويذهب الإنسان على كراسي الفتوى أو يكفر بناء على الإثبات أو الإنكار النظري لهذه العقيدة أو تلك. في حين أن النص غاية عملية، ويهدف إلى تحقيق رقيِّ الإنسان، وأفضل الأنظمة الاجتماعية التي يدافع فيها عن استقلاله ومصالحه.
ولما كانت الحقائق النظرية في حاجة إلى واقع تقوم عليه فإنها تخلق من ذاتها واقعًا فتتحول القصائد النظرية إلى أشياء حسية، وتتحول الأفكار المجردة إلى حوادث تاريخية، وتنقلب الروحانية إلى مادية، ويصبح التجسد شيئًا، والخلاص واقعة، والخطيئة الأولى حادثة، والتثليث مشخصًا، كما أن الجنة والنار، والملاك والشيطان … إلخ. كلُّ ذلك يصبح أشياء بالفعل توجد وجودًا ماديًّا حسيًّا، ويقضي على المعاني والدلالات، وتصبح الغاية منها نظرًا للخلط بين الرمز والمعنى، والجهل بقواعد اللغة وبالتفرقة بين الحقيقة والمجاز.
ولما كانت هذه الحقائق النظرية أبدية خالدة، لا تتغير مثل الدين، فإنها تقف حجر عثرة في سبيل التغير. وبالتالي تهدف إلى نقيض ما قصد إليه الوحي من دفْع للإنسانية خطوات من أجل تحقيق التقدم. وغالبًا ما ينتهي هذا الجمود بالرفض التام وكسره، وتُثبت للواقع أولويته على المذهبية، وينتصر التغيير على الجمود.
- (جـ)
وخطأ من حيث المضمون؛ إذ يقلب اللاهوت مقصد الوحي رأسًا على عقب، فبدلًا أن كان الوحي قصدًا موجهًا من الله إلى الإنسان بدليل خطاب الله للإنسان، حوَّل اللاهوت القصدَ وجعله قصدًا موجهًا من الإنسان إلى الله. فبدل أن يتحدث الله إلى الإنسان تحدَّث الإنسان إلى الله، وبدل أن يأخذ الله الإنسان موضوعًا له أخذ الإنسان الله موضوعًا له. وبعد أن كان القصد هو الدفاع عن مصالح الإنسان أصبح القصد هو الدفاع عن الله ومن ثَم قلب اللاهوت الغايةَ من الوحي، وغيَّر اتجاهه. وأصبح اللاهوتي هو عدو الله الأول الذي قلب مقصده وتحمل ضده. وما حركات الإصلاح الديني إلا محاولة إعادة الأمور إلى نصابها والتركيز على الإنسان، والدفاع عن عقله، وحريته، وحقوقه قبل مطالبته بواجباته، بل إن كل الحركات المناهضة للدين وعلى رأسها حركات الإلحاد هي في حقيقة الأمر إعادة الأمور إلى نصابها، وعودٌ إلى قصد الوحي الأول في اعتبار الإنسان غاية لا وسيلة، وفي التأكيد على حياة الإنسان وعلى وجوده في العالم وعلى أن الحقيقة في الأرض لا في السماء.
- (د)
وخطأ من حيث المنهج؛ إذ لا يرتقي علم اللاهوت إلى درجة العلم اليقيني، بل يظل ظنيًّا يعتمد على الخطابة أو الجدل، تتضارب فيه الآراء، وتختلف فيه وجهات النظر فتضيع وحدة الحقيقة، ويصبح كلُّ شيء فيه قولان، يعتريه الخطأ والصواب، وتتشعب المذاهب، وتضيع معها وحدة الأمة، وتتحول إلى فِرَق متطاحنة متضاربة، وإلى شِيَع متصارعة ومتحاربة كما حدث في التاريخ القديم لكل أمة مسيحية أو إسلامية. فالجدل لا يؤدي إلى اليقين بل يقوم على التشاحن والبغضاء، ولا يعبر إلا عن الأهواء والانفعالات، مهمتُه إفحام الخصوم، وإبراز البراعة الذاتية. وليس الوصول إلى الحقيقة أو التسليم بها، ويكون السجال كلُّه مع طواحين الهواء.
٤
لا تعطي التربية للفرد شيئًا لا يستطيع الحصول عليه من نفسه. إلا أنها تعطيه ما يستطيع أن يحصل عليه من نفسه على نحو أسرع وبجهد أقل. وكذلك الوحي لا يعطي الجنس البشري شيئًا لا يستطيع العقل الإنساني أن يجدَه بمفرده. إلا أن الوحي أعطى وما زال يعطي أهم هذه الحقائق وكان أسبق في ذلك.
لا تفرض التربية على الإنسان معتقدات من الخارج سواء قبلتْها طبيعتُه أم لفظتْها، ولكنها تساعد الإنسان على اكتشاف الحقائق بنفسه من داخله ومن طبيعته. مهمة التربية فقط هي الإسراع في الكشف عن الحقائق الطبيعية التي بداخل الإنسان، بدلًا من أن يقضيَ الإنسان وقتًا أطول في اكتشافها بنفسه. كما أن مهمة التربية هي في توفير بعضٍ من جهد الإنسان وتوجيهه إلى شيء آخر وهو الممارسة الفعلية لهذه الحقائق وتوجيه سلوكه طبقًا لها. فالتربية توفير لوقت الإنسان وجهده، وكذلك الوحي لا يعطي الإنسان معرفة لا يستطيع الإنسان أن يحصل عليها بنفسه من قبل. فالوحي معرفة طبيعية يُدركها الإنسان بعقله، ولكن الوحي سبق إليها وأعطاها للإنسان حتى يساعدَه على اكتشاف ذاته، ويقظة شعوره. فالعقل والوحي يصلان إلى نفسه الحقائق، ولكن الوحي أسبق إليها من العقل، ومن ثَم ساهم الوحي في تقدُّم الإنسانية والإسراع في جلاء العقل وظهوره.
٥
وكما تهتم التربية بتحديد النظام الذي تتبعه لتنمية القدرات الإنسانية؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يتعلم كلَّ شيء دفعة واحدة كذلك كان على الله أن يعطي الوحي بقدر محدد، وطبقًا لنظام معين.
تتحقق التربية على درجات طبقًا لقدرات الطفل؛ فالتربية تسير جنبًا إلى جنبٍ مع ارتقاء الطفل وظهور ملكاته. لا تتم التربية دفعة واحدة ينتقل فيها الصبيُّ من مرحلة الطفولة إلى مرحلة النضج، بل تحتاج التربية إلى عمْر وإلى حياة. وتقوم على التطور والارتقاء، وتأخذ الزمن في اعتبارها موطنًا للنضج والنماء.
وكذلك الوحي يتم على فترات، وطبقًا لنظام، ووفقًا لقدرات الإنسانية ودرجتها في التطور لا يُعطى الوحي دفعة واحدة كي تنتقل البشرية من طورٍ إلى طورٍ آخر بل يسير الوحيُ جنبًا إلى جنبٍ مع تطوُّر الإنسانية وارتقائها. فالوحي يحتاج إلى تاريخ وإلى زمان هو تاريخ الإنسانية وزمانها. فكلُّ وحيٍ ملائمٌ لزمانه، ولا يمكن لوحي سابق توجيه تاريخ لاحق فيكون الوحي أكثر تخلفًا من التاريخ، ويكون التاريخ أكثر تطورًا من الوحي. ولا يمكن لوحيٍ لاحق توجيه تاريخ سابق عليه؛ فالوحي يكون أكثر تطورًا من التاريخ، والتاريخ يكون أقل تطورًا من الوحي. يسير الوحي والتاريخ إذن في خطَّين متوازيَين، يدفع الوحي التاريخ، ويتقبل التاريخ دفْعَ الوحي له. وكلاهما يوجدان في الزمان.
٦
لو افترضنا أن الإنسان الأول فاجأ العالم بفكرة إله واحد لكان من المستحيل أن تبقى هذه الفكرة المنقولة من الخارج والتي لم يحصل عليها بنفسه أمدًا طويلًا في صفاتها الأولى. فبمجرد ما يبدأ العقل الإنساني بمفرده في تمثُّلِها فإنه يُجزِّئ الواحد الذي لا يتجزَّأ إلى موجودات متعددة، ويعطي لكل واحد من هذه الأجزاء علامة مميزة.
فكرة الإله الواحد فكرة متطورة، عرفَتها الإنسانية بعد تطورها وارتقائها. فالتوحيد ثمرة عمل، ونتيجة جهاد، وحصيلة مسار طويل، التقى فيه الوحي بالتاريخ. ولو أتت هذه الفكرةُ إلى الإنسانية وهي في مهدها لما استطاعت فهمها أو الحفاظ عليها منزهة عن ملابسات المادة ومخاطر الشرك، ولفتَّتَتْها الإنسانية إلى أجزاء، ولحوَّلتْها إلى آلهة متعددة أو آذان صماء، وجعلت لكل صفة إلهًا أو وثنًا تعبده.
وهذا لا يعني أن فكرة الإله الواحد من حيث هي فكرة طبيعية دخيلة على الإنسان، ومنقولة إليه من الخارج؛ فهي فكرة طبيعية وخبرة أولية ولكنها لا تظهر في صفائها ونقائها إلا بعد تحرُّر الوعي الإنساني من أسْرِ المادة ومن رقبة النظُم التسلطية.
٧
وهكذا كان من الطبيعي أن ينشأ تعدُّد الآلهة الوثنية. ومَن يدري، فلعله قد قُدِّر للعقل الإنساني أن يضلَّ طريقه لعدة ملايين من السنين، إن لم يشأ الله بفعل جديد أن يهديَه لطريق أقوم، مع أن بعضًا من الناس قد كشفوا عن هذا الضلال في كثير من البلدان، وفي عصور مختلفة.
وكان يمكن للإنسانية أن تستمرَّ في وثنيتها منذ البداية ولكن جاء دور الوحي، وجعل مهمتَه دفْعَ الإنسانية وإيقاظها، وتقديم فكرة الإله الواحد حتى تتحطم معاقلُ الوثنية في الوعي الإنساني؛ فالوحي هنا محرر للطبيعة من أسْرِ المادة ومكمِّل لها؛ إذ فيه تجد الطبيعة كمالها.
٨
ونظرًا لأن الله لم يشأ أن يوحيَ لكل إنسان بمفرده، بل ولم يرغب في ذلك، فقد اختار شعبًا واحدًا، وهو أكثر الشعوب قحة وشراسة، كي يبدأ معه عمله التربوي من الأساس.
ولما كان الجنس البشري مكونًا من شعوب مختلفة لم يكن باستطاعة الوحي تربية الشعوب كلها، ولكنه بدأ بشعب واحد من أجل تربيته وتحرير وجدانه حتى يقوم هذا الشعب بدوره بتربية الشعوب الأخرى، وحمل الأمانة لغيره. وكان هذا الشعب هو أكثر الشعوب مادية وفظاظة وغلظة حتى يتم العمل التربوي من الأساس.
ولا يعني اختيار الشعب لميزات خاصة به فريدة لا توجد في غيره من الشعوب بناء على حبٍّ خاصٍّ أو تفضيل من الله له، ووعْد لهم بالغنم ولغيرهم بالغرم، وبالأرض وبالنسل وبالنصر كما يدَّعي علماء أهل الكتاب في عقيدة الشعب المختار. بل كان على الوحي أن يبدأ بشعب ما، ويكون هو الشعب موطن التجربة، وهي تجربة تحررية خالصة قبل عقد أيِّ ميثاق خاص أبدي من طرف واحد، يقوم على وعدٍ مادي كما يقول علماء اليهود أو ميثاقٍ عام لكل الشعوب، معروض على كل الأفراد، مشروط بالعمل الصالح، ومعقود بين طرفَين، ولا يَعِدُ إلا النعيم والسعادة الأبدية كما هو الحال في الإسلام.
٩
ومن ثَم، كان شعب بني إسرائيل، ونحن لا نعلم دينه الذي اتبعه عندما كان بمصر؛ لأنه كان محرمًا على العبيد الأذلاء الاشتراك في الطقوس الدينية للمصريين، ولأنه لم تكن لديه أيُّ ذكرى لإله آبائه.
عرف بنو إسرائيل الإله الواحد قبل نزوحهم إلى مصر مع يوسف بزمن طويل وقبل ظهور موسى. وتختلف نتائج الدراسات حول الفترة التي عاشها اليهود في مصر؛ فمنها ما ينتهي إلى أنهم كانوا يتمتعون بحقوق المواطن وبواجباته، وأنهم لم يكونوا أقلية مستعبدة ذليلة مضطهدة، ومنها ما ينتهي إلى أنهم، نظرًا لعدم اختلاطهم بالمصريين، ظلوا أقلية تقوم بأعمال العبيد. وبصرف النظر عن صحة أيٍّ من هذين الرأيَين ظلت البقية الصالحة من بني إسرائيل وهي في مصر تتذكر إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب بدليل ظهور موسى. ويميل القرآن إلى الرأي الثاني بقوله: «وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم» (٢: ٤٩).
١٠
وربما حرم المصريون عليه صراحة أن يعبد الله أو أيَّ آلهة أخرى. وربما بثُّوا في روعه أنه ليس هناك إله واحد أو آلهة عديدة. وقد كانت عبادة الله أو تلك الآلهة من الامتيازات التي يتمتع بها المصريون النبلاء، يستخدمونها لإعطاء تسلُّطهم مظهرَ العدل. فهل يعامل المسيحيون اليوم عبيدهم بطريقة تختلف كثيرًا عن هذه الطريقة؟
إذا كان وضْع اليهود في مصر القديمة هو وضْع الأقلية المضطهدة فإنه لا غرابة في أن يتدخل المصريون في عبادتهم إما بتحريم عبادة الإله الواحد أو بتحريم آلهة قومية أخرى. أما الحكم بأن كهنة مصر كانوا يستخدمون عبادتهم لإيقاع الظلم بالناس ولبْسه ثوب العدل فهو إسقاط من القرن الثامن عشر على مصر القديمة، وموقف حديث ضد الكهنوت كما هو الحال في مناهضة فلسفة التنوير لتسلُّط الكنيسة. وهناك أيضًا رأيان في كهنة مصر: الأول يجعلهم حارسين للنظام، محافظين على الدين، ضامنين للشرعية وللاستمرارية، والثاني يحملهم طبقة مستغلة مستفيدة من الفلاحين ومن الأمراء على السواء.
ولكن المقصود هنا هو التصوير الحديث لرجال الدين الذي يشير إليه لسنج وهو معاملة الكنيسة للمؤمنين على أنهم عبيد لها، وهو ما يُثيره تساؤله في نهاية الفقرة.
١١
وقد ظهر الله لهذا الشعبِ القُحِّ في أول الأمر كإله آبائهم كي يُعرِّفَهم به ويأنسوا له.
وهذا الإله الوطني أقرب إلى روح الجماعة حتى تأنس له وترى فيه رعاية لمصالحها. وهذا أقرب إلى تربية الإنسانية وهي في المهد. وهي ما زالت في حاجة إلى أليف وأنيس؛ لأنها ما زالت غير قادرة على إدراك المبادئ الشاملة المجردة.
وفي التاريخ الحضاري للشعوب السامية القديمة يمثل يهوه أكثر الآلهة القديمة خصوصية. فهو إله شعب خاص. ويعطي وعدًا خاصًّا. ولا يرعى إلا شعبًا خاصًّا في حين أن الإله « شمش» مثلًا إلهٌ شامل لا يحده زمان أو مكان، وهو إله حمورابي، فتصوُّرُ العبرانيين للإله الوطني أكبرُ معبِّر عن خصوصيتهم التي نسميها بلغة العصر التمركز حول الذات أو العنصرية.
١٢
وتشهد المعجزات التي استطاع بها الله أن يُخرج اليهود من مصر إلى بلاد كنعان. تشهد بوضوح على أن الله أقوى من أي آلهة أخرى.
وكانت المعجزة قديمًا هي الوسيلة التي استعملها الله لإثبات قدرته المطلقة؛ إذ يتدخل الله مباشرة في الطبيعة لإثبات قدرته وإعطاءنا دليلًا حسيًّا على شمولها. وكان العقل في ذلك الوقت قاصرًا على إدراك الأمور النظرية المجردة؛ لأنه لم يكن قد ظهر أو اكتمل بعد. وبهذه الوسيلة الحسية لم يؤمن بنو إسرائيل؛ فقد فشلت التجربة. ولم يؤمن بنو إسرائيل بالله وبقدرته وكأن الإيمان عن طريق التجربة والحس محدود وغير مأمون. ولا بديل للإيمان عن طريق العقل وهو ما سيحدث فيما بعد عندما ترتقي الإنسانية وتتقدم وتكتمل في فلسفة التنوير.
١٣
وهكذا عوَّد الله (اليهود) شيئًا فشيئًا على تصوُّر إله واحد مظهرًا نفسه دائمًا أقوى ما في الكون، وهي خاصية لا يتمتع بها إلا مَن كان إلهًا واحدًا.
وينتج من إثبات قدرة الله المطلقة إثبات وحدانيته؛ فالله وحده أقدر الآلهة جميعًا، ومن ثَم كان واحدًا، فالوحدانية نتيجة للقدرة. ولما كانت الوحدانية صفة نظرية أكثر منها صفة عملية كان إثباتُ الصفات العملية عند العبرانيين سابقًا على إثبات الصفات النظرية؛ فالإنسانية ما زالت في عهدها، لم يكتمل عقلُها بعدُ، والعقل وحده هو القادر على إدراك الصفات النظرية، وهو ما تم بالفعل في فلسفة التنوير.
١٤
ولكن هذا التصور الواحد كان أقل بكثير من التصور الحقيقي الترنسندنتالي للواحد الذي سيتعلم العقل فيما بعد أن يستنبطه على نحو يقيني من تصور اللانهائي.
ومع ذلك كان تصور الله الواحد عند العبرانيين أقلَّ بكثير من التصور العقلي له، فكان الواحد هو القادر على الآلهة الأخرى ولكنه لم يكن الواحد المنزه الذي يُدركه العقل على نحو يقيني من طبيعة العقل ذاته. فالإنسانية في مهدها اعتمدت على الحس لأن العقل لم يكن قد ظهر بعدُ.
١٥
وظل التصور الحقيقي للواحد بعيدًا عن متناول الشعب اليهودي بالرغم من أن الصفوة منه استطاعت تقريبًا أن تقترب من هذا التصور، وهذا هو السبب الوحيد في أنه كثيرًا ما ترك إلهه الواحد، وظن أنه قد وجد الإله الواحد، وهو الأقوى، إله الشعوب الأخرى.
أما الصفوة، وهي البقية الصالحة فهي التي استطاعت تصوُّرَ الإله الواحد تصورًا عقليًّا خالصًا؛ لأنها تمثل ظهور الوعي الفردي من الوعي الجماعي كما حدث لإبراهيم ولأهل الكهف وللرجل المؤمن من آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، ولصالح، وللوط، ولموسى، ولعيسى، ولمحمد. فالأنبياء يمثلون هذا الانبثاق للوعي الفردي المتيقظ من داخل الوعي الجماعي الغافل (انظر الفقرة ٧). في حين أن باقي العبرانيين، نظرًا لأن إيمانهم بالإله الواحد كان قائمًا على القدرة التي تظهر في التجربة، كثيرًا ما تركوا إلههم الواحد وآمنوا بآلهة الشعوب الأخرى عندما تبدو لهم أنها الأقوى! فكانوا يتبعون القوة لا الحكمة والقدرة لا العقل كما يفعل الصبيان.
وما زال هنا الصراع موجودًا في الفكر الديني بين مَن يعطي الأولوية في صفات الله للقدرة أو الإرادة وبين مَن يعطيها للعقل أو للعلم. فيتم الخلق عند الفريق الأول بالإرادة «كن فيكون». ويتم عند الفريق الثاني بالعقل عندما يعقل ذاته ويعقل فكرة العالم. فالصراع بين المتكلمين والفلاسفة يقوم على هذا الأساس. والصراع بين الأشاعرة والمعتزلة أيضًا في بعض نواحيه يقوم على هذا التفضيل؛ فالأشاعرة تعطي الأولوية للإرادة على العقل، وللقدرة على الحكمة. والمعتزلة تعطي الأولوية للعقل على الإرادة، «وللحكمة على القدرة».
١٦
ولكن أي تربية خلقية يمكن إعطاؤها لشعب غليظ كهذا لا يمكنه أن يفهم الأفكار المجردة. ولم يتعدَّ بعدُ مرحلة الطفولة؟ أي التربية القائمة على الجزاء الحسي المباشر، عقابًا كان أم ثوابًا.
وكما أن تربية الطفل تقوم على وعده بالثواب الحسى ووعيده بالعقاب الحسي، فيتربَّى بالحلوى أم بالعصا كذلك تقوم التربية الإنسانية في مهْدها على الوعد والوعيد، أي على الجزاء الحسي ثوابًا كان أم عقابًا. فالإنسانية غير قادرة وهي في هذا الطور على إدراك الأمور المجردة، وعلى الإيمان بالقِيَم لذاتها، وعلى فعل الخير لأنه خير، وتجنُّب الشر لأنه شرٌّ، فهذا يتطلب ظهور العقل، وهو ما يحدث في الطور الأخير من تطور الإنسانية الذي تحقق في فلسفة التنوير.
١٧
وهنا تلتقي التربية مع الوحي؛ لأن الله لم يشأ حتى الآن أن يعطيَ شعبَه أيَّ دين آخر، أو أيَّ قانون آخر، إلا هذا القانون الذي يجلب السعادة بطاعته والشقاء بعصيانه في هذه الحياة الدنيا. ولم يكن هذا الشعب قد عرف بعدُ شيئًا عن خلود النفس، ولم يكن يرجو حياة أخرى في العالم الآخر. فمن الخطأ كلَّ الخطأ إعطاؤه وحيًا يتضمن مثل هذه الحقائق التي لا يمكن لعقله أن يُدركَها؛ لأنه لم يبلغ بعدُ قدرًا كافيًا من النمو وإلا لكان مثل ذلك المربِّي المغرور الذي يُحمِّل الطفل ما لا طاقةَ له به، يريد بذلك التباهي على حسابه أكثر من إعطاء الطفل تكوينًا راسخًا.
ومن الحقائق النظرية التي لا تقدر الإنسانية وهي في مهْدها على إدراكها عقيدةُ خلود النفس ووجود حياة أخرى بعد الموت. لذلك لم تظهر هذه العقيدة في الديانة اليهودية القديمة، ولم تظهر إلا أخيرًا بعد سبيِهم في بابل في القرن السادس قبل الميلاد وأملهم في حياة أخرى، حياة العودة إلى أرض الميعاد، فبدأت الأخرويات في الظهور وإمكانية حياة أخرى بعد الموت. أما عقيدة خلود النفس فقد ظلت بعيدةً عن متناول اليهود ولم تكن جزءًا من معتقداتهم، وظلَّ الصديقيون منكرين لها حتى عصر المسيح، فجادلهم المسيح وحاول إثباتها لهم. وانتشرت العقيدة بظهور المسيحية ولكنها لم تُصبح جزءًا من التراث اليهودي إلا بعد ظهور الفلسفة العقلية في إسبانيا عندما عاشوا مع المسلمين، وأصبحت عقيدة خلود النفس مع وجود الله وخلق العالم أهم العقائد التي تقوم عليها ديانات الوحي، اليهودية والمسيحية والإسلام كما وضح ذلك عند موسى بن ميمون.
فالمربِّي الذي يُعطي الطفل ما لا طاقة له به لا يبغي تربيةَ الطفل تربيةً حقيقية بل يبغي التباهي والتفاخر بالتربية على حقائق نظرية.
١٨
فإن تساءل أحد: لماذا يقوم الله بتربية شعب غليظ كهذا، بادئًا معه كلَّ شيء من أول الأمر؟ أجيب قائلًا: حتى يمكن الاختيار من هذا الشعب أناسًا على وجه التأكيد يستطيعون القيام بتربية الشعوب الأخرى على مرِّ الزمان. فربَّى فيه مَن يقومون بتربية الجنس البشري في المستقبل. وكان هؤلاء من اليهود، ولا يمكن أن يكونوا غير يهود، أي رجال من شعب تمَّت تربيتُه.
وقد تم اختيار اليهود، وهم أكثر الشعوب غلظة، وأشدها مادية حتى يمكن تربية أفراد يمكنهم بدورهم القيام بمهمة تربية الشعوب الأخرى. نبدأ التجربة إذن بأبعد الشعوب عن التربية وأصعبها مراسًا حتى يمكن أن تنجح التربية. وقد كان الأنبياء هم هؤلاء الأفراد الذين نجحت التجربة معهم، فتم تحرير شعورهم من أَسْر المادة، ويقظة وَعْيهم فكان بإمكانهم بعد ذلك أن يقوموا بمهمة تربية باقي أفراد الشعب، والشعوب الأخرى.
ويجعل لسنج هنا مهمة الأنبياء تربية الشعوب الأخرى مع أن أنبياء بني إسرائيل كانوا مرسَلين لبني إسرائيل وحدهم وليس إلى غيرهم من الشعوب. وهذا الشمول لرسالة الأنبياء إسقاطٌ من فلسفة التنوير على تاريخ العبرانيين.
١٩
لنَسِرْ شوطًا أبعد. بعد أن كَبِر الطفل، وبعد أن تطاولَت عليه يدُ القسوة مرة، وداعبَته يدُ الحنان مرة أخرى، وبعد أن وصل إلى سنِّ العقل، أرسله والده يومًا ما إلى الخارج، حينئذٍ تذكَّر الصبي في الحال النعيم الذي كان فيه عندما كان في منزل والده، والذي لم يستطع وقتئذٍ أن يقدره حقَّ قدره.
عندما كَبِر الطفل وأصبح أكثرَ دراية بما يدور حوله، وأكثر قدرة على مقارنة أحواله بأحوال الآخرين وجد أنه كان في نعمة كبيرة، نعمة التربية، تلك النعمة التي لم يقدرها حقَّ قدرها قبل أن يشبَّ عن الطوق.
٢٠
وأثناء قيام الله بتربية شعبه المختار، متدرجًا في مراحل التربية التي يمرُّ بها الطفل، كانت شعوب الأرض الأخرى تتقدم بواسطة نور العقل، ولكن بقيَ معظمها متخلفًا وراء الشعب المختار. إلا أن بعضًا منها استطاع أن يسبقه، وهذا ما يحدث أيضًا بالنسبة للأطفال عندما ينمون بمفردهم. يظل بعضهم غليظًا ببنما يُنمِّي البعض الآخر نفسه نموًّا يُثير الدهشة.
وعندما كان بنو إسرائيل يتلقَّون التربية عن طريق الوحي كانت الشعوب الأخرى تتربَّى عن طريق العقل، ولما كان طريق الوحي أسرع فقد ارتقى بنو إسرائيل أسرع من الشعوب الأخرى، وبقيت الشعوب الأخرى متخلفة وراءها؛ وذلك أن مهمة الوحي ووظيفته هي في صنْع التقدم وخَلْقه أو المساهمة فيه ودفعه. ولكن بعض الشعوب الأخرى استطاعت بنور العقل وحده أن تتقدم وأن تسبق بني إسرائيل كما هو واضح في الحضارات السامية القديمة في بابل وآشور وكنعان ومصر. فالشعوب كالإفراد. فكما أن في الجماعة توجد أفراد مؤمنة، هي البقية الصالحة، فكذلك في الشعوب توجد شعوب مؤمنة تدخل أيضًا ضمن البقية الصالحة. وهذا ما يحدث أيضًا في التربية عندما يسبق طفل متميز باقي الأطفال مع أن الكل قد تلقَّى تربية واحدة، ويُعمل عقلَه بطريقة واحدة.
٢١
وكما أنه لا يمكن أخذ هؤلاء المتميزين كدليل ضد فائدة التربية وضرورتها فكذلك لا يمكن أن يكون وجودُ بعض الشعوب الوثنية التي تبدو حتى الآن، وقد سبقت الشعب المختار حتى في معرفة الله؛ دليلًا ضد الوحي. فالطفل الذي يبدأ في تلقِّي التربية يتقدم بخُطًى وطيدة ولكن موثوق منها. ويلحق فيما بعد ببعض الأطفال الأكثر استعدادًا منه. يلحق بهم ثم يتقدم عليهم باستمرار.
وسبْقُ بعضِ الشعوب بني إسرائيل في معرفة الله في تحقيق التقدم ليس دليلًا ضد الوحي؛ وذلك لأن الوحي يربِّي الشعوب تربيةً راسخة؛ ولذلك فإنه يحتاج إلى وقت أطول. ثم بعد ذلك يسير على نحوٍ أسرع، ويسبق غيره من الشعوب الأخرى. فالوحي يحرِّر وجدانه مرة واحدة وإلى الأبد، ويُعلن استقلال العقل والإرادة، ويكشف عن الواقع الذي يعيش فيه الإنسان، وبالتالي يسمح بقيام العلم، وبترشيد الحياة، وبالاعتماد على جهد الفرد وعمل الجماعة. في حين أن الشعوب الأخرى، ولو أنها تسبق الشعب الموحى إليه في البداية، إلا أنها تتخلف عنه في النهاية؛ نظرًا لأن تحررها الداخلي لم يكن كاملًا، ولأن تربيتها لم تتمَّ على أسس راسخة، ولأنها تظل متأرجحة بين شتى الاتجاهات والمذاهب تجرِّب هذا وذاك، ولا تنتهي إلى اختيار واحد نظرًا لغياب وحيٍ يعطيها بؤرتها، ويوجِّهها نحو طريقٍ سويٍّ واحد.
٢٢
وعلى هذا النحو، فإنه بغضِّ النظر عن ظهور فكرة الإله الواحد التي تظهر في كُتُب العهد القديم أحيانًا وتختفي أحيانًا أخرى، فإني أقول: على الأقل، لا تظهر عقيدة خلود نفس ولا عقيدة الثواب والعقاب المرتبطة بها في حياة مستقبلة. ولا يكون ذلك حجة لنفي المصدر الإلهي لهذه الكتب كما لا يمنع من التصديق بكل المعجزات والنبوات الموجودة فيها. لنفترض غياب هذه العقيدة في العهد القديم، بل ولنفترض أيضًا كذبها، بل ولنفترض أن ليس للإنسان حياةٌ أخرى إلا هذه الحياة الدنيا، أيُصبح وجودُ الله من جرَّاء ذلك أقلَّ يقينًا؟ أيكون الله بذلك أقل حرية؟ أيكون كثيرًا على الله أن يأخذ بين يدَيه مباشرة المصائر الدنيوية لشعب ما من الجنس البشري الفاني؟ إن المعجزات التي حققها الله أمام اليهود، والنبوات التي آمنهم عليها ليست مرسلةً لبعض اليهود الفانين المعاصرين لهذه الحوادث فحسب؛ فإن مقاصد الله تعمُّ الشعب اليهودي كله والجنس البشري قاطبة الذي قد يخلد في هذه الحياة الدنيا عندما يفنَى كلُّ يهودي بمفرده، وكل إنسان على حدة.
وإذا كانت فكرة الإله الواحد موجودة وجودًا نسبيًّا في العهد القديم، تظهر مرة وتختفي مرة أخرى فإن عقيدة خلود النفس ووجودها في حياة أخرى بعد الموت، ووقوع ثواب أو عقاب كانت غائبة تمامًا عن العهد القديم. ولم تنشأ هذه العقيدة في التراث اليهودي إلا متأخرًا بعد الأَسْر البابلي في القرن السادس قبل الميلاد؛ وذلك لأنه التطلع نحو المستقبل لا ينشأ إلا في مجتمع مضطهد مغلوب على أمره. وهذا لا يعني نفْيَ المصدر الإلهي للكتاب المقدس أو يمنع من التصديق بالمعجزات والنبوات الواردة فيه. فلو لم تظهر هذه العقيدة في العهد القديم، بل إننا لو تحققنا من كذبها وأن ليس للإنسان حياة أخرى بعد الموت، فإن ذلك كلَّه لا يطعن في وجود الله، لا يسلبه حريته، ولا يجعله أقلَّ قدرة في التحكم في الدنيا وفي توجيه مصائر الناس. فالمعجزات والنبوات تُثبت المصدر الإلهي للكتاب، ليس لمَن عاصروها من بني إسرائيل وحدهم بل لكل الشعوب في كل زمان ومكان؛ لأن مقاصد الوحي عامة وشاملة موجهة إلى الجنس البشري قاطبة (انظر الفقرة ١٧).
ومحاولة لسنج هنا إثبات المصدر الإلهي للكتاب عن طريق النبوات والمعجزات محاولة مؤقتة؛ لأنه فيما بعد سيرفض المعجزات كدليل صدقٍ على الوحي، ولن يرضى إلا ببرهان العقل، كما أنه سيُعلن نهاية النبوات وبداية نور العقل الطبيعي، وأن دين الوحي هو دين الطبيعة.
ويبدو أن لسنج هنا يجعل من فكرة الإله الواحد حجرَ الزاوية في كلِّ وحي. في حين أن باقي الأفكار؛ مثل خلود النفس، ووجود حياة أخرى بعد الموت، ووقوع الثواب والعقاب؛ أفكارٌ تالية في الأهمية وليست محورية في الوحي. وهو ما فعله علماء أصول الدين المسلمون عندما وضعوا فكرة الإله الواحد ضمن العقليات أي اليقينيات. أما خلود النفس، والحياة الأخرى والثواب والعقاب فأدخلوها ضمن السمعيات أي الظنيات.
٢٣
نقول مرة أخرى إن غياب هذه المعتقدات في كُتُب العهد القديم لا تدل على شيء ينفي مصدرها الإلهي؛ كان موسى رسول الله بحقٍّ مع أن شريعته لا تعرف إلا الجزاءات التي توقع علينا في حياتنا الدنيوية، فلماذا البحث أبعد من ذلك؟ لم يُبعث موسى إلا لشعب إسرائيل وحده بل والذي كان موجودًا آنذاك، وكانت رسالته متفقة تمامًا مع معارف الشعب الإسرائيلي وقدراتهم وميولهم اتفاقًا كاملًا بل ومع مصيره في المستقبل. حسبنا ذلك الآن.
والدليل على ذلك رسالة موسى ومصدرها الإلهي، ومع ذلك فإنها لا تحتوي على عقيدة خلود النفس والحياة الأخرى، ولم تعرف إلا الجزاء الدنيوي الذي يقع في هذه الحياة الدنيا، وهي رسالة متفقة مع معتقدات بني إسرائيل ومعارفهم وميولهم، ومن ثَم فهي رسالة خاصة لشعب خاص في مكان محدد وزمان معين. مما يدل على أن الوحي يسير طبقًا لتطور الجنس البشري وظروفه الخاصة في الزمان والمكان.
٢٤
وكان على فاربرتون أن يقف عند هذا الحدِّ دون أن يتعدَّاه. ولكن هذا الرجل العالم قد تطرَّف تطرُّفًا كبيرًا فلم يكفْه القول بأن غياب المعتقدات لم تخلع عن بعثة موسى صفتَها الإلهية، بل أراد أن يجعل من ذلك البرهان بعينه على صفتها الإلهية. ويا ليته بحَث عن هذا البرهان في تكيُّف هذا القانون مع حاجات هذا الشعب، بل لجأ إلى نوع من المعجزة التي استمرت دون انقطاعٍ منذ موسى حتى المسيح، وهي أن الله قد جعل من كلِّ يهودي سعيدًا أو شقيًّا وفقًا لطاعته للقانون أو لعصيانه له، فهذه المعجزة في رأيه قد حلَّت محلَّ هذه المعتقدات التي يمكن لأي دولة أن توجد بدونها. وهذا البدل يدل لأول وهلة على ما قد ينفيه غياب هذه المعتقدات.
٢٥
ما أروع ذلك! لم يستطع فاربرتون أن يتحقق من هذه المعجزة الدائمة أو أن يجعلها ممكنة مؤيدًا إياها بواقعة ما. هذه المعجزة التي يجعلها جوهرَ الثيوقراطية اليهودية؛ لأنه لو استطاع ذلك لكان من المستحيل يقينًا التغلب على هذه المشكلة بالنسبة لي على الأقل. فما قد يُثبت الصفة الإلهية لرسالة موسى يجعلنا في نفس الوقت نشكُّ فيما أراد الله أن يُطلعَنا عليه الآن، ولكن يقينًا دون أن يجعلَه أكثرَ غموضًا.
ولم يُثبت فاربرتون هذه المعجزة، ولم يُعطِ دليلًا على وجودها، وهي المعجزة التي يجعلها أساس النظام الثيوقراطي اليهودي. وحتى لو استطاع إثباتها فإن ذلك لن يحلَّ المشكلة وهي إثبات المصدر الإلهي لرسالة موسى عن طريق شريعته الدنيوية، بل ويجعلنا نشك فيما لم يُطلعنا الله عليه حتى الآن (مثل خلود النفس، والجزاء الأخروي) دون أن يجعلَه أكثر غموضًا مما هو عليه الآن.
٢٦
سأوضح موقفي بإلقاء الضوء على ما يقابل الوحي (وهو التربية). إن أيَّ كتاب أوَّلي للأطفال لا يجب أن يحتويَ على أية حقيقة علمية أو فنية، بل يجب على المربِّي أن يتركها جانبًا؛ لأنها تفوق مقدرة الأطفال الذين يكتب لهم. بل وليس من حقِّه أن يضعَ في هذا الكتاب ما من شأنه أن يعوق تقدُّمَ الأطفال أو يمنعهم من تعلُّم هذه الحقائق الكبرى، بل يجب أن تظلَّ جميعُ الطرق المؤدية لها مفتوحةً دائمًا. فإذا نحن أبعدناهم ولو عن طريق واحد وكنا السبب في إعاقة تقدُّمِهم لكان العيب في الكتاب وحده الذي أوقعنا في خطأ جوهري.
ويمكن تفسير غياب عقيدة خلود النفس والحياة الأخرى بعد الموت وما فيها من جزاء بالرجوع إلى صنوان الوحي وهو «التربية». فلا يجب أن يعطيَ الطفل ما يفوق قدراته العقلية وما لا يعجز عن فهمه وهو في هذا السنِّ المبكر. كما لا يجوز إعطاؤه ما يعوق تقدُّمه وما يوقف نموَّه الطبيعي، بل يجب تربيته بحيث يظل السبيل أمامه مفتوحًا حتى يستطيع أن يكتشف من نفسه فيما بعد من حقائق كبرى لم تُعطَ إليه من قبل عندما لم تكن قواه العقلية قادرةً عليه بعدُ. فإذا ما أبعدناه عن أحد هذه السبل فإننا نكون قد أعقْنا تقدُّمَه، ويكون الخطأُ خطأَنا نحن وخطأ مناهجنا وكُتُبنا التربوية.
٢٧
وعلى هذا، اختلفت عقيدة خلود النفس والجزاءات في الحياة الأخرى من أسفار العهد القديم، هذه الكتب الأولية للشعب الإسرائيلي الغليظ الذي لم يتعود بعدُ على التفكير. ولكن هذه الكتب لم تحتوِ على أشياء من شأنها أن تعوق تقدُّمَ الشعب الذي لأجله دُوِّنت هذه الكتب، وهو في طريقه نحو هذه الحقائق الكبيرة. وأيُّ شيء كان يمكن أن يعوق تقدُّمَه — حتى لا نقولَ أكثر من ذلك — أكثر من هذا الوعد بالجزاءات الدنيوية الفريدة، خاصة وأن الوعد قد أُعطيَ ممن يفي بكل ما يَعِد، وممن لا يمنع شيئًا؟
ولهذا السبب حُذفت عقيدة خلود النفس والجزاءات الأخروية من أسفار العهد القديم؛ لأن الشعب اليهودي كان ما زال في مرحلة الطفولة، وغير قادر على إدراك مثل هذه الحقائق النظرية التي تفوق قدراتِه على الفهم والإدراك. وفي نفس الوقت لم تحتوِ هذه الأسفار على ما من شأنه يعوق تقدُّمَ هذا الشعب حتى يظلَّ الطريق أمامه مفتوحًا لإدراك مثل هذه الحقائق الكبرى، فلم تَعُقْ تقدُّمَه عقيدةُ الجزاءات الدنيوية والوعود التي أعطاها الله لهم، وهو الذي يفي بكل ما يَعِد به.
وتدل الجملة الاعتراضية — ولا نقول أكثر من ذلك — على أن لسنج يرى أن عقيدة الجزاءات الدنيوية تعوق تقدُّمَ الشعب؛ وذلك لأنها تمنعه من إدراك الحقائق النظرية والقِيَم الإنسانية من حيث هي مستقلة تحتوي على صدْقِها ودوافع الإيمان بها من الداخل، وليس من الخارج. وتطوُّر الإنسانية من الجزاء دنيويًّا أم أخرويًّا إلى إدراك الحقائق والإيمان بها لذاتها قد حقَّق تقدُّمًا هائلًا في الجنس البشري.
وواضح أن لسنج هنا من أنصار الحُسن والقُبح العقليَّين كما هو الحال عند المعتزلة ضد الأشاعرة الذين يمثِّلون عقيدة الجزاء الدنيوي والأخروي في اليهودية والمسيحية، وبالتالي تمثِّل المعتزلة تقدُّمًا أكبر في تطوُّر الوعي الإنساني مما تمثِّله الأشاعرة.
٢٨
ومن ثَم إذا كانت القسمة الجائرة لخيرات الدنيا — ويبدو أن الفضيلة والرذيلة لا يدخلان في الحساب — لا تُعطي أقوى دليل على خلود النفس وعلى وجود حياة أخرى يمكن أن تحلَّ فيها هذه العقيدة فإن الذهن الإنساني يقينًا بدون هذه العقيدة لم يستطع بعدُ أن يصلَ إلى براهين أفضل وأقوى، وربما لن يستطيع ذلك أبدًا. فما الذي كان يمكن دفعه إلى البحث عن براهين أفضل؟ أهو مجرد حبِّ الاستطلاع؟
ولكن هناك ظلم واقع في الحياة الدنيوية، وهناك قسمة جائرة لخيراتها ونعيمها. فإن لم يدفع ذلك إلى الإيمان بخلود النفس والجزاء الأخروي حتى يتحقق العدل كتعويض على ما قد حدث في الدنيا من ظلم فأي برهان أقوى من ذلك يمكن التوصل إليه؟ وما الدافع إلى البحث عن براهين أخرى أكثر من حبِّ الاستطلاع والبحث المجرد.
وهنا يبدو أن لسنج من أنصار التفسير النفسي بل والتحليل النفسي للمعتقدات الدينية، فنحن نؤمن بحياة أخرى نظرًا لأن حياتنا الدنيا بؤس وشقاء، ونحاول أن نعوض عنها بحاجة أخرى فيها النعيم والهناء، وتؤمن بالجزاء الأخروي لأن الجزاء الدنيوي لم يتحقق. فنال الشقيُّ السعادةَ والهناء، ونال المحسن الظلم والطغيان. تؤمن بالمستقبل المشرق؛ لأن حاضرنا مظلم، فالحياة الدنيا وما يحدث فيها أساس الإيمان بالحياة الأخرى.
فإذا ما حدث — ولو افتراضًا — أن عاش الإنسان في حياته سعيدًا، في عالم يسوده العدل، فإنه لن يجد تعويضًا عما فقده في عالم آخر، وإذا استطاع إنسان أن يحقق السعادة والعدل على الأرض «بالفعل» فإنه لن يتخيل عالمًا آخر يتحقق فيه ما لم يتحقق على الأرض بالوهم والتمني. فالعلاقة بين العالَمَين علاقة عكسية، إذا تحقق مضمون الأول لا يتحقق الثاني، وإن لم يتحقق الأول تحقق الثاني.
٢٩
وقد يحلو لهذا الإسرائيلي أو ذاك أن يطبِّق على كلِّ فردٍ الوعدَ والوعيد اللذَين وجَّههما الله للدولة «اليهودية» كلها. وربما اعتقد اعتقادًا راسخًا أن التقيَّ يجب أن يكون سعيدًا في هذا العالم، وأن الشقيَّ يتحمل أوزاره عاجلًا أم آجلًا، وأنه يُصبح سعيدًا من جديد إذا ما تخلَّى عن أوزاره.
ويبدو أن مؤلف «سِفْر أيوب» قد قصد إلى هذا وأن تدوينه يوحي بهذا المعنى.
وقد يقع الجزاء الدنيوي لا على الجماعة بأكملها، مثل عقاب الدولة بهدمها أو ثوابها بنصرتها، بل أيضًا يقع على كل فرد على حدة؛ إذ ينال المطيع ثوابه كما ينال العاصي عقابه، وهذا هو مضمون سِفر أيوب وما يبشر به.
والحقيقة أن الجزاء الفردي لم يظهر في الفكر الديني إلا متأخرًا؛ إذ لم يعرف بنو إسرائيل إلا الجزاء الجماعي عقابًا أم ثوابًا مما يتفق مع الروح القبلية، ولم يظهر ويصبح أساس الإيمان إلا في الإسلام. «وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه» (١٧: ١٣). «وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا» (١٩: ٨٠).
٣٠
بيدَ أنه كان من المستحيل أن تؤيدَ الخبرةُ اليومية هذا الاعتقاد؛ فقد كان دائمًا مصير الشعب الذي حصل على مثل هذه الخبرة ألَّا يعرف أبدًا هذه الحقائق التي كان يجهلها قبل ذلك، وألَّا يُسلِّمَ بها. فإذا كان الإنسان التقي في نهاية الأمر سعيدًا، وإذا كانت السعادة تتضمن ألَّا يعتريَه القلق من الموت ليعكِّرَ صفْوَه، وأن يأتيَه الموت بعد أن يبلغ من العمر أشُدَّه، وبعد أن يُشبع رغباتِه في الحياة، فكيف يمكنه أن يرجوَ حياة أخرى؟ وكيف يمكنه أن يفكر في شيء لا يرجوه؟ وإذا لم يفكر التقي في هذه الموضوعات فمَن ذا الذي سيفكر فيها؟ أيكون هو الجاحد الذي وقع تحت طائلة العقاب من جراء آثامه والذي إذا ما لعن هذه الحياة فإنه يلفظ راضيًا كلَّ حياة أخرى.
ولكن الخبرة اليومية لا تؤيد مثل هذا الاعتقاد، ومَن تحدثُ له هذه الخبرة كثيرًا ما لا ينتهي إلى مثل هذا الاعتقاد. فمَن عاش تقيًّا سعيدًا ونال ثوابَه الدنيوي فلماذا يرجو حياةً أخرى ينال فيها جزاء أخرويًّا؟ ومَن عاش عاصيًا شقيًّا ونال عقابَه الدنيوي فلماذا يرجو حياةً أخرى ينال فيها عقابًا أخرويًّا؟
٣١
وكان الأمر أخفَّ وطأة عندما أنكر هذا الإسرائيلي أو ذاك خلودَ النفس والجزاءات في الحياة الأخرى إنكارًا صريحًا بحجة أن القانون لا ينصُّ على شيء من ذلك. فإنكارُ فردٍ ما لهذه الحقائق — حتى ولو كان سليمان نفسه — لا يؤدي إلى إعاقة تقدُّمِ روح الشعب. وفي هذا دليل واضح على أن هذا الشعب قد خطَا خطوةً كبيرة نحو الحقيقة. وما يُنكره فردٌ واحد كثيرًا ما يأخذه كثيرون غيره في الاعتبار. وعندما يُؤخذ شيءٌ في الاعتبار ولم يكن من قبلُ موضعَ اهتمام أحد فإن ذلك يعني قطعَ نصف الطريق نحو المعرفة.
فإنكار الجزاء الأخروي أخفُّ وطأةً حتى ولو أنكر ذلك سليمان نفسه؛ إذ لا يعوق هذا الإنكار تقدُّم الشعب أو يجعله أقلَّ قدرة على إدراك الحقائق. ولكن إنكار الشعب لذلك لا يمنع من إيمان بعض الأفراد به. فإذا حدث ذلك يصبح الطريق نحو المعرفة سهلًا وميسرًا، وتكون الإنسانية قد قطعت من قبل نصف الشوط.
٣٢
ولنعترف كذلك أنه لا بد من طاعة بطولية للقوانين الإلهية؛ لأنها قوانين إلهية فحسب، وليس لأن الله قد وعد هنا وهناك بإثابة المطيعين. فالطاعة واجبة سواء ساورَنا الشكُّ تمامًا في حصول جزاءات في حياة أخرى أو لم نكن على ثقة تامة من حصولنا عليها في هذه الحياة الدنيا.
وتتطلب طاعة القوانين الإلهية لذاتها، بصرف النظر عما تَعِدُ به من جزاء حسي، قدرة بطولية خارقة كما تتطلب درجة أعلى في تطوُّر الجنس البشري؛ لأنها تعتمد على إدراك القِيَم الذاتية لهذه القوانين. وهذا لا يتأتَّى إلا بنور العقل، وهو ما لا يكتمل إلا باكتمال الإنسانية وهي في طورها الأخير في تقدُّمها وارتقائها نحو الكمال.
٣٣
فإذا تربَّى هذا الشعب على هذه الطاعة البطولية لله، ألَا يكون في ذلك قدره؟ ألَا يكون أقدر من غيره من الشعوب على تحقيق مقاصد الله؟ عندما يطيع جنديٌّ رئيسَه طاعةً عمياء، وعندما يعتقد في حكمته، فأي مهام لا يقوم بها هذا الرئيس معه؟
فإذا ما تربَّى شعب على هذه الطاعة البطولية لله يكون أقدر من غيره من الشعوب على الرقي والتقدم، ويكون أقدر من غيره على تحقيق مقاصد الله، ويصبح مصيرُ هذا الشعب في هذا التحقيق، وقدَرُه في هذه الطاعة. يستطيع الشعب بثقته في الله، والله بثقته في الشعب أن يقوم بإنجاز ما يُطلَب منه، كما يستطيع المرءوس مع رئيسه إذا توافرت الثقة المتبادلة بينهما أن يقومَا معًا بإنجاز كلِّ ما يطلبه الرئيس من المرءوس.
٣٤
وما زال الشعب اليهودي يعبد في «يهوفا» الله الأعظم قدرة أكثر من عبادته لله أحكم الآلهة. فكان إلهًا غيورًا يخشاه أكثر مما يحبه. وهذا دليل على أن تصوره لله الواحد الأسمى ليس هو التصور الذي ينبغي لنا أن نأخذ به. ثم أتى عصرٌ أصبح فيه تصور الله أرحب آفاقًا وأكثر نُبْلًا، وأقرب إلى الصواب. ولذلك استعمل الله وسيلة طبيعية للغاية إذا أعطاه مقياسًا أفضل وأدق كي تكون لديه فرصة لتقدير أسلم.
وقد تصور هذا الشعب الله من حيث هو قدرة وإرادة أكثر مما تصوره من حيث هو عقل وحكمة (انظر الفقرة ١٥). فالله هو الأقوى والأقدر وليس هو الأعلم والأحكم. وهذا يدل على أنه شعب بدائي في حاجة إلى قوة قاهرة أكثر مما هو في حاجة إلى علم وحكمة كما تصور الله على أنه إله غيور؛ وذلك لأن الشعب ذاته غيور من غيره، ينافس غيره من الشعوب في الرزق وفي خصوصية العلاقة مع الله. كما تصور الله على أنه غيور من الآلهة الأخرى. ينافسها في القدرة والعظمة.
وعلاوة على ذلك، كانت علاقة الشعب بالله علاقة خشية ورهبة وليست علاقة حب ومحبة؛ ولذلك نتيجة طبيعة الله القادر القاهر أن يخشاه الناس. فإذا ما تطورت الإنسانية، تغيَّر هذا التصور، وأتى تصورٌ آخر، أرحب آفاقًا وأوسع شمولًا، وتغيَّرت العلاقة من علاقة الخشية والخوف إلى علاقة أخرى أكثر إنسانية وأكرم عنصرًا.
٣٥
وبينما لم يستطع اليهود حتى الآن أن يقارنوا إلههم إلا من الأوثان الصمِّ لجيرانهم من الشعوب الصغيرة «الغليظة» التي كانون يغارون منها باستمرار، بدءوا مقارنته عندما وقعوا أسرَى الفُرس الحكماء بالموجود الأسمى كما تصوره العقل المتمرس وكما يجله.
وبدأ الشعب بمقارنة إلهه القادر، القاهر، الغيور مع تصورات أخرى عرفها عندما وقع في أسْر الفُرس وعندما انتابه الغيرة من آلهتهم، فكان احتكاكه بغيره من الشعوب وسيلة لتقدُّمه بمقارنة ما لديه من تصورات بدائية مع ما لديهم من تصورات أرقى. وكان الفرس أكثر حكمة منه، وكان تصورهم لله أكثر نبلًا وأقرب إلى العقل من تصوُّرِه الفظِّ الغليظ.
٣٦
لقد أرشد الوحي العقل، والآن يُنير العقل مرة واحدة.
وهنا يظهر دور العقل في الوحي. فكما أرشد الوحي العقل، وأنار له طريقَه ووضعه في الطريق الصحيح كذلك يُنير العقل الوحي، ويعطي له تفسيره الصحيح، ويحفظه من ألاعيب المفسرين، ويحميه من أهوائهم وأغراضهم. هناك إذن خدمة متبادلة بين الوحي والعقل؛ إذ يدفع الوحي العقل في البداية، ويُظهره، ويكشف عنه، ويقصر له الطريق. ثم يقوم العقل بالحفاظ على الوحي ويحميه من كلِّ تشويه له أو تضليل به. فلا غنى لأحدهما عن الآخر؛ فالعقل دون وحيٍ يطول عليه الطريق ويشتد، والوحي دون عقل يخاطر بالاعتداء عليه دون أمل أو حماية.
٣٧
وكان هذا أول مثال للخدمات المتبادلة التي يمكن لكليهما (العقل والوحي) أن يقومَا بها. ولن يجد أبوهما المشترك في ذلك ما يُدهشه؛ لأنه لا قوام للواحد منهما بدون الآخر.
٣٨
وبعد أن أرسل هذا الطفل إلى الخارج رأى أطفالًا آخرين أكثر علمًا، وأقومَ حياة فسأل نفسَه خجلًا: لماذا لا أعلم أنا أيضًا كلَّ هذا؟ لماذا لا أحيَا أنا أيضًا كذلك؟ ألم يكن باستطاعة أحد وأنا في منزل أبي أن يُعلمني كلَّ هذا وأن يُشجعني عليه؟ حينئذٍ التجأ من جديد إلى كُتُبِه الأولية التي نفر منها منذ وقت طويل، وأراد أن يبحث فيها عن مصدر شقائه. ولكن انظر! ها هو يُدرك أن الخطأ لا يأتي من الكتب بل الخطأ يقع على عاتقه هو إن كان قد أمضى حياته في جهل وشقاء.
فإذا ما قارن الشعب نفسه بغيره من الشعوب ووجدها أكثرَ علمًا وأقوم حياةً منه فإنه يتساءل عن سبب جهله ورذيلته. لماذا لم يُعلِّمه الله كلَّ ما تعلمه الشعوب الأخرى. ثم يلجأ إلى كُتُبه المقدسة فيجد فيها إجابة عن تساؤلاته، ويرى أن ما فيها من العلم والحكمة كافيًا كي يجعلاه على قَدَم المساواة مع غيره من الشعوب إن لم يسبقها، فيقرؤها من جديد، ويعلم أن الخطأ ليس من الكتاب أو من المعلم، بل من نفسه هو الذي نفر من هذه الكتب أولًا ولم يُعِرْها انتباهًا أو أساء فهمَها. وهنا أيضًا يقوم العقل بدوره في إعادة تفسير الكتاب بحثًا عن العلم والفضيلة.
٣٩
وهكذا لم يعتبر اليهود إلههم أكبر آلهتهم الوطنية فحسب — على منوال الاعتقاد الفارسي الخالص — بل عرفوا فيه أيضًا الله، واستطاعوا أن يجدوه في كُتُبهم المقدسة، وأن يُعلِّموا الفكرةَ للآخرين بسهولة أكثر مما كانت عليه، وعبَّروا عن فزعهم من أيِّ تصور خاطئ لله — شأنهم في شأن الفرس — أو على الأقل كما تُبيِّنه لهم كتبُهم المقدسة. ولا عجب أن رضي الملك قورش عن دينهم بالرغم من أنه أقل قيمة من دين الصابئة الخالص، ولكنه على أية حال أكبر قيمة من الوثنية الفظة التي توطنت في البلاد التي تركها اليهود.
ومن ثَم تجاوز الشعب فكرة الإله الوطني التي كانت سائدةً أيضًا عند الفُرس إلى فكرة الإله الواحد. ثم وجدها في الكتب المقدسة، واستطاع تعليمها للناس بسهولة ويُسْر أكثر مما هي عليه ففي الكتب المقدسة، وكان يفزع كالفرس من أي تصور خاطئ لله يقع فيه أو يقع فيه غيرهم. لذلك رضي الملك قورش عن الشعب بالرغم من أنه كان أقلَّ صفاء من دين الصابئة القائم على التوحيد الخالص وممارسة الفضيلة وحب الخير؛ لأنه كان أفضل من الوثنية الغليظة التي كانت سائدة في المناطق التي عاش فيها اليهود ثم تركوها.
تطور الشعب وأصبح قادرًا على إدراك فكرة الله الواحد ثم حب الفضيلة لذاتها، وممارسة الطاعة بصرف النظر عن الجزاء الدنيوي والأخروي، وهو ما انتهتْ إليه فلسفة التنوير في اليهودية والمسيحية على حدٍّ سواء، الإيمان بالله وحب الخير، وهو ما أعلنه الإسلام قبل ذلك بعشرة قرون في الآيات المشهورة التي تقرؤها إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ….
٤٠
وبعد أن اكتشف اليهود من جديد كنوزَهم الخاصة المجهولة عادوا إلى أنفسهم. وأصبحوا شعبًا آخر همُّه الأول الإبقاءُ على هذه التجربة التي أنارتْهم مدة طويلة، وقضوا بسرعة على كل آثار الانحراف والوثنية. فإذا كان من الممكن عصيان الإله الوطني فمن المستحيل عصيان الله الحق بمجرد تحقُّق الإنسان من وجوده.
وبعد اكتشاف الكتاب المقدس، وبعد إنارته بالعقل وتفسيره بالنور الطبيعي أدرك الشعب عظمةَ التجربة، تجربة الوحي، ومدى مساهمته في تقدُّمه ورقيِّه، فحاول الاستفادة منه من جديد، والقضاء على آخر معاقل الوثنية في وجدانهم، والانتقال من الإله الوطني والخوف من عصيانه إلى الله الواحد المجرد واستحالة عصيانه ما دام الإنسان قد اكتشف وجوده وصدَّق به.
٤١
وقد حاول علماء اللاهوت العثور على تفسيرات عديدة لهذا التحول الأساسي للشعب اليهودي، وأحد هذه التفسيرات الذي كشف عن عيوب التفسيرات الأخرى يجعل السبب الحقيقي في نهاية الأمر هو «التحقق المباشر لكل النبوات التي حصلوا عليها وحفظوها فيما يتعلق بسببهم في بابل، وتحرُّرهم بعد ذلك منه». ولكن لا يمكن اعتبار هذا السبب أيضًا صحيحًا إلا بعد افتراض وجود تصور خالص للألوهية، فكان على اليهود أولًا الاعتراف بأن الله وحده هو القادر على إجراء المعجزات وعلى الإخبار بالمستقبل مع أنهم كانوا يعطون هذه القدرات أيضًا للآلهة المزيفة. وهذا يبيِّن لنا أنه لم يكن للمعجزات والنبوات حتى الآن إلا تأثيرًا طارئًا وعابرًا عليهم.
وقد اختلف علماء اليهود في معرفة سبب هذا التحول الذي طرأ على الشعب اليهودي، وأحدها هو تحقق النبوات والمعجزات في العهد القديم فيما يتعلق بتاريخهم خاصة في واقعة الأسْر البابلي. فاكتشفوا أن الوحي صادق، وأن كتابهم صحيح؛ فقد قصَّ عليهم من قبل ما حدث، وقرءوا فيه تاريخهم.
ولكن هذا السبب يتطلب الإيمان بالله الواحد القادر على إجراء النبوات والمعجزات مع أن الشعب كان يؤمن أيضًا بقدرة الآلهة الأخرى على القيام بمثل ذلك: مما يدل على أنه لم يكن للنبوات والمعجزات إلا تأثيرًا عابرًا عليهم، وعلى أنها لم تساهم في إحداث هذا التحول في شعورهم.
٤٢
ومما لا شك فيه أن اليهود وحدهم من بين الكلدانيِّين والفُرس قد عرفوا عقيدة خلود النفس وتعرَّفوا عليها من خلال اتصالهم بالمدارس الفلسفية اليونانية في مصر.
وقد عرف اليهود عقيدة خلود النفس من خلال اتصالهم بالمدارس الفلسفية اليونانية في مصر، أي أنهم عرفوها متأخرين للغاية عندما انتقلت الثقافة اليونانية من أثينا إلى الإسكندرية إبَّان نشأة المسيحية.
ولكن عقيدة خلود النفس كانت موجودةً في الحضارات الشرقية القديمة وجودًا ذاتيًّا من غير اتصال خارجي كما هو الحال في حضارة مصر القديمة. أما في اليهودية فقد دعت الحاجة إليها خلال الأسْر البابلي، وتمت الصياغة النظرية لها من خلال الفكر اليوناني أولًا ثم من خلال الفكر الإسلامي ثانيًا.
٤٣
ولكن لم يكن لهذه العقيدة في الكتب المقدسة نفس المكانة التي لوحدة الله وصفاته، فأنكر هذا الشعبُ الحسيُّ العقيدةَ الأولى إنكارًا مشينًا، وأراد البحث عن العقيدة الثانية. وكان لا بد لذلك من تمهيدات لم يتمَّ منها إلا إشارات وتلميحات. فكان من الطبيعي ألَّا تكون عقيدة خلود النفس اعتقاد الناس كلهم بل كانت وما زالت اعتقاد فرقة معنية.
وليس لعقيدة خلود النفس في الكتاب المقدس نفس المكانة التي لله وصفاته؛ وذلك لأن الطابع الحسي الغليظ للشعب كان أكبرَ مانع من تصور خلود النفس الذي يتطلب قسطًا كبيرًا من الروحانية والشفافية لم يتوافر لدى اليهود. ولكنه عكف على البحث عن الله وصفاته قدْرَ وسْعِه بتغليبه صفات القدرة والإرادة على صفات العلم والحكمة لما كانت الإنسانية في بدايتها كما هو الحال مع الطفل الذي يرهب القدرة ويقدرها.
ومع ذلك، كانت هناك إرهاصات لعقيدة خلود النفس في صورة إشارات وتلميحات جعلت البعض يؤمنون بها، وهم البقية الصالحة التي نجحت فيها تجربةُ الوحي، فتميَّز شعورهم عن شعور الجماعة.
٤٤
وأعني بالتمهيد لعقيدة خلود النفس مثلًا وعيدَ الله بعقاب الأبناء حتى الجيل الرابع والخامس من أجل آثام آبائهم؛ فقد كانت مهمة تعويد الآباء على تذكُّر سلالتهم البعيدة دائمًا والشعور بالمصائب التي قد يجهلونها على هؤلاء الأبرياء.
وتتمثل الإرهاصات لعقيدة خلود النفس في توعُّد الله عقابَ الأبناء حتى الجيل الرابع والخامس من أجل آثام الآباء حتى يتعود اليهود على تذكُّر أسلافهم وعلى التخوف مما قد يقع على أبنائهم الأبرياء من عقاب؛ وذلك حتى يتمَّ ارتباط الفرد بماضيه عند أسلافه وبمستقبله عند أبنائه من أجل أن يشعر بالاستمرارية في وجوده الذي لا يبدأ بمولده، ولا ينتهي بمماته بل هو سابق على مولده لدى أجداده ولاحقٌ على مماته لدى أبنائه.
٤٥
وأعني بالتمليح ما قد يُثير مجردَ حبِّ الاستطلاع ويبعث على التساؤل مثل هذا التعبير الذي نقابله دائمًا، «الْتقَى بأسلافه» والمقصود بذلك أنه قد مات.
ويوجد التلميح في بعض آيات الكتاب؛ مثل «الْتقَى بأسلافه»، أي مات. وذلك حتى يرتبط الإنسان بماضيه ويشعر بأن وجودَه سابقٌ على ميلاده، وأن هناك اتصالًا بينه وبين الآخرين، وبأن حياته أشمل وأوسع من الحياة الدنيا المحددة بالميلاد والوفاة.
٤٦
وأعني بالإشارة ما يحتوي بصورة ما على نواة الحقيقة التي لم تُكشَف بعدُ، والتي ستظهر بعد ذلك مثل النتيجة التي ينتهي إليها المسيح من عبارته «إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب». ويبدو لي أنه في الإمكان إدخال هذه الإشارة لتكوين برهان يقيني.
أما الإشارة فهي ما تحتوي على نواة الحقيقة التي لم تظهر بعدُ، أي أنها تدل على بداية الطريق كما هو الحال في عبارة المسيح «إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب»، أي أن الله واحد شامل للماضي والحاضر والمستقبل، ولديه تكمن النفوس، وعنده تبقى الأرواح.
٤٧
وتكون لهذه التمهيدات والتلميحات والإشارات الكمال الإيجابي لأي كتاب أولي. أما هذه الصفة التي تحدَّثت عنها سابقًا، وهي عدم إعاقة نموِّ الأذهان أو إيقافها وهو في طريقها نحو الحقائق التي لم تنكشف بعد؛ فهي التي تكون الجانب السلبي في هذا الكمال.
هذه الإرهاصات والتلميحات والإشارات تكون الكمال الفعال لأي كتاب تربوي أولي، فلا يوجد كتاب تربوي يبغي تربية الناس على الحقائق إلا ويمهِّد لها. ويشير إليها، ويُلمح لوجودها. وهذا هو الجانب الإيجابي في كتاب التربية. ومما يدل على أنه كتاب كامل لم يغفل أن يشير إلى هذه الحقائق على قدر مستوى الطفل. أما الكمال السلبي فيه فهو عدم وجود ما يعوق نموَّ الأذهان أو ما يوقفها وهي في طريق اكتشاف هذه الحقائق. أي أن الكاتب الكامل في التربية هو الذي يدفع نحو اكتشاف الحقائق بالإشارة والتلميح إليها كما أنه هو الذي يقضي على معوقات نموِّ الذهن حتى يقدر بطبيعته على اكتشاف هذه الحقائق بما أنها حقائق عقلية يمكن اكتشافها بالنور الطبيعي، وحقائق طبيعية موجودة في الإنسان وليست مضافة إليه أو زائدة عليه.
٤٨
ولنُضِف على هذا طريقة العرض والأسلوب:
(١) عرض الحقائق المجردة التي لا يجب نسيانها كأمثال وحالات خاصة مليئة بالمعاني، ويتم سرْدُها كوقائعَ حدثت بالفعل. وهكذا تم تصوير الخلق في صورة يوم ناشئ، ومصدر الشر الخلفي في قصة الشجرة المحرمة، ومصدر تعدُّد اللغات في قصة بناء برج بابل وهكذا.
وكل كتاب تربوي أولي لا يعرض الحقائق بطريقة محددة؛ إذ لا يستطيع فهْمَها إلا مَن بلغوا قدرًا كافيًا من التعقل، وقدرة على إدراك الأمور النظرية. ولكنه يعرضها بطريقة المثل. فالأمثال تُقرِّب الحقائق المجردة إلى الأذهان، وتُصوِّرها في صورة حسية واقعية. وتشمل الأمثال كلَّ ضروب التشبيه في الكلام من استعارة وكناية وغيرها. ولكن خطورة الأمثال هي في تفسيرها الحرفي، وفي الاعتقاد بأن هذه الأمثال قد حدثت بالفعل، وبأنها المقصود بالكلام، وليست مجردَ حواملَ للمعنى، ووسائلَ لتقريبه إلى الأفهام. فقد تم تصوير الخلق في صورة يوم ناشئ، وتم تصوير مصدر الشر في صورة الشجرة المحرمة، وتم تصوير مصدر متعدد اللغات في صورة بناء برج بابل وسقوطه. فإذا ما وقع عالم الكتاب المقدس في التفسير الحرفي لهذه الصور فإنه يقع في التشبيه والتجسيم، ويقضي على المعنى المجرد المطلوب تقريبه إلى الأفهام. ومن ثَم كان التفسير الرمزي أو الروحي ضروريًّا من أجل الذهاب إلى المعاني التي تم التعبير عنها بالأمثال والصور والرموز، وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (الآية ٢٩: ٤٣).
٤٩
(٢) أما الأسلوب فمرة يكون مسطحًا ساذجًا، ومرة شاعريًّا مملوءًا بالتكرار، ولكنه تكرار من شأنه شحْذ الذهن لأنه يعني في بعض الأحيان أشياء مختلفة مع أنه يقول نفس الشيء أو يكرر، مع أنه في الواقع يعني شيئين مختلفَين.
أما أسلوب الكتاب فإنه مرة يكون مسطحًا ساذجًا لا عمق فيه ولا فن كأن الكتاب يقرر وقائع تتحدث عن نفسها، ويُخبر بأشياء يعلمها الناس، ولا يحتاجون إلى التعبير عنها في قضايا، ومرة أخرى يكون شاعريًّا فنيًّا، يبدأ ثم يعيد، ويكرر المعاني بصور عدة حتى يمكن التأثير على النفوس على اختلاف طبائعها وعلى تعدُّد حالاتها النفسية. والتكرار في الشعر لا وجود له، والمترادفات في اللغة أيضًا ليست متطابقة تطابقًا كاملًا؛ إذ يمكن التعبير عن نفس الشيء بتعبيرَين متماثلَين، كلٌّ منها يوحي بظلال مختلفة من المعاني وعلى درجات متفاوتة من التركيز على أحد منها. كما يمكن التعبير بعبارتَين مختلفتَين عن شيء واحد، وهما في الحقيقة يعنيان نفس الشيء. فالأسلوب الشعري أسلوب تصويري والتكرار أحدُ طرقِه للتأثير على النفوس.
ولا يصرح لسنج بما يصرح به عادة علماءُ نقد الكتاب من أن هذا التضارب في الأسلوب يوحي بأن الكتاب لم يؤلِّفه مؤلف واحد، ولم يُكتَب في عصر واحد، ولم يُدوَّن في ظروف واحدة، ولم يُؤلَّف لجمهور واحد. ولكن يبدو أن لسنج هنا اقتصر على جانب النقد الأدبي دون التعرض إلى جانب النقد التاريخي، وتغلَّبت شخصية الأديب على شخصية الباحث.
٥٠
وهذه هي الصفات الحميدة لأي كتاب أوَّلي للأطفال أو لشعب لم يتعدَّ مرحلة الطفولة.
فالكتاب إذن من حيث مضمونه: الإله القوي، الجزاء الحسي، غياب خلود النفس والجزاء الأخروي، ومن حيث صورته: الأسلوب التصويري القائم على الأمثال يتفق مع شعب لم يتجاوز مرحلة الطفولة بعد؛ لأن هذا الكتاب يكون أقرب إلى الكتب الأولية التربوية للأطفال.
٥١
ولكن كل كتاب أوَّلي لا يلائم إلا سنًّا معينًا، ويضرُّ الطفل إذا ما أُجبر على تعلُّم كتاب تعدَّاه سِنُّه بمدة طويلة. يجب إذن إضافة بعض الأشياء من أجل تحقيق منفعة حتى ولو ضئيلة، وضم أكثر مما يستطيع أن يستوعب. كما يجب إظهار التعليمات والإشارات، وإبراز معاني الأمثال والتركيز على بعض التعبيرات، وهذا ما يجعل ذهْنَ الطفل مدققًا، منقِّبًا، باحثًا عن الدقيقات، بل ويجعل الطفل ولوعًا بالأسرار، سريع الثقة يحتقر كلَّ شيء سطحي وضَحْل.
وكل كتاب أوَّلي للتربية يجب أن يكون ملائمًا لسنِّ الطفل ولا يتجاوزه حتى لا يضارَّ الطفل بفرض أشياء عليه لا يفهمها أو يفهمها فهمًا خاطئًا. ومع ذلك يجب إعطاء الطفل بعض التلميحات والإشارات على هذه الحقائق حتى تسترعيَ انتباهه، وتُثيرَ رغبته، وتدفعَه إلى البحث عما وراء ذلك من حقائق. وهذا من شأنه شحْذ همة الطفل، وتربيته على البحث والتنقيب والذهاب إلى ما وراء الأمور، والانتقال من الرمز إلى الدلالة، ومن اللفظ إلى المعنى، ومن الحس إلى المجرد.
٥٢
وهكذا تناول الربانيُّون كُتُبَهم المقدسة، وهذه هي الصورة التي وضعوها في ذهن شعبهم.
ويمكن استعمال هذا الأسلوب في تفسير الكتاب المقدس كما فعل الربانيون؛ وذلك بتفسيره تفسيرًا رمزيًّا من أجل الكشف عن الحقائق النظرية (الربانيون هم علماء الشريعة اليهودية في فلسطين في زمن المسيح، وليس لهم صفة دينية مثل الأحبار والكهان).
٥٣
وكان لزامًا أن يأتيَ مربٍّ أفضل ينتزع هذا الكتاب الأوَّلي من بين الطفل بعد أن أصبح الكتاب فارغَ الفحوى، فأتى المسيح.
ولكن تأتي لحظة لا يُصبح فيها هذا التفسيرُ الرمزي مجديًا وذلك للقدرات المحدودة للرمز والتفسير. ومن ثَم، تنبثق الروح ذاتها متجاوزة كلَّ الرموز والأشكال والصور، ويبرز المضمون ذاته بلا صورة، وهذه هي لحظة ظهور المسيح.
٥٤
وبعد أن اختار الله من بين البشر هؤلاء الذين ارتبطوا فيما بينهم باللغة والحكم والمصالح وبعلاقات أخرى طبيعية أو سياسية أصبح هذا الجنس من الجنس البشري الذي أراد الله أن يجعله موضوعَ تربيتِه ناضجًا للمرحلة الثانية الكبرى من التربية.
فبعد أن تمت التربية في المرحلة الأولى عن طريق اختيار جماعة معينة من البشر ترتبط فيما بينها باللغة والمصلحة والنظام السياسي نجحت التربية، وأصبحت الإنسانية مؤهلة للانتقال إلى المرحلة الثانية. وفي هذه اللحظة تبلغ الإنسانية مرحلة كافية من النضج بحيث تستطيع الانتقال من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية من تطورها.
٥٥
أعني أنه أصبح لدى هذا الجزء من الجنس البشري تعوُّدٌ كافٍ على استخدام العقل؛ حيث أصبحت بواعث السلوك الخلقي أكثرَ نبلًا وأكثر كرامة من بواعث الآلام والجزاءات الدنيوية التي كانت حتى الآن هي العنصر الموجِّه للسلوك. أصبح الطفل صبيًّا، وبجانب الحلوى واللعب ظهرت الرغبة الناشئة في أن يكون حرًّا كريمًا، سعيدًا مثل إخوته الكبار.
وفي هذه اللحظة تعودت الإنسانية بما فيه الكفاية حتى أصبحت قادرةً على إدراك القِيَم الخُلُقية لذاتها بصرف النظر عما ينتج عنها من جزاءات دنيوية التي كانت قبل ذلك الدافع الأول على السلوك. كَبِر الطفل، وأصبح صبيًّا، وبجانب الحلوى واللعب أو العصا والعقاب ظهرت لديه رغبةٌ صادقة في أن يكون حرًّا كريمًا سعيدًا مثل إخوته الكبار، وشعر بأنه إنسان يُدرك الأمور لذاتها. ويسلك طبقًا لإدراكه الذاتي.
٥٦
ومنذ زمن بعيد كان أفضل الناس في هذا الجزء من الجنس البشري هم الذين تعودوا على أن يكون الباعث على سلوكهم مشابهًا لهذه البواعث النبيلة. وقد قام اليونان والرومان بكل شيء كي تستمرَّ ذكراهم بعد هذه الحياة عند مواطنيهم.
وكان أقرب الناس إلى مثل هذا السلوك القائم على البواعث النبيلة هم اليونان والرومان؛ فقد كان الدافع على سلوكهم هو بقاء ذكراهم الطيبة في نفوس مواطنيهم. فالروح اليونانية والرومانية تمثِّل نضجًا كافيًا في تطور الإنسانية تجعلها قريبة من المرحلة الثانية.
ويوحي لسنج هنا ويبشِّر بقدوم هيجل وفلسفته في التاريخ انتقالًا من الشرق القديم إلى اليونان والرومان حتى تصلَ في النهاية إلى الأوروبيِّين وعلى رأسهم الجرمان، موطن فلسفة التنوير أو فلسفة الروح.
٥٧
وقد حان الآن أن ندخل في حسابنا حياة أخرى حقيقية بعد الحياة الدنيا، لها تأثير في سلوكنا.
وفي هذه المرحلة الثانية تظهر الحياة الأخرى كحقيقة لها أثرٌ في سلوكنا في هذه الحياة الدنيا بعد أن غابت في المرحلة الأولى. وهنا يبدو الطابع الأخروي والعملي للمسيحية على الطابع الدنيوي الحسي لليهودية.
٥٨
ولذلك كان المسيح هو أول مَن بشَّر بخلود النفس بطريقة عملية تدعو للثقة.
لذلك دعا المسيح إلى عقيدة خلود النفس بطريقة عملية مقنعة، بل إنه جعل شعار بشارته «إن ملكوت السموات قريب» في مقابل المرحلة الأولى التي لم تعلم إلا الحياة الدنيا وكان شعارها أرض الميعاد في ملكوت الأرض.
٥٩
فهو أولًا معلم جدير بالثقة. هو جدير بالثقة لأنه — فيما يبدو — قد تحققت النبوات فيه. وهو جدير بالثقة نظرًا للمعجزات التي أجراها. وهو جدير بالثقة لبعْثه بعد الموت، وكان ذلك تأكيدًا لكل عقيدته. ولن أُجيبَ هنا عما إذا كنا نستطيع الآن أن نُبرهنَ على هذا البعث وعلى هذه المعجزات، بل ولن أتناول هنا شخصَ المسيح؛ فقد كانت لهذه المسائل أهميتها في عصرها نظرًا للقبول الذي حاذتْه عقيدته. أما اليوم فقد فقدت هذه المسائل كثيرًا من أهميتها، ويكفي البحث عن حقيقة هذه العقيدة.
والمسيح معلم موثوق فيه؛ لأن النبوات قد تحققت فيه، ولما أجراه من معجزات، ولبعْثه بعد الموت. كلُّ ذلك كان تأكيدًا لعقيدته. أما البرهنة على هذه العقائد: النبوات والمعجزات والبعث، فهي مسائل تاريخية خالصة لم تَعُد تصلح لهذا الزمان بل كانت لها أهميتها قديمًا، ولكنها الآن لا أهمية لها. يهمُّنا الآن فقط هذه العقيدة أي المسيحية وما تُقدِّمه للبشرية من تربية للجنس البشري، وأثرها في تطور الإنسانية. لا يهم في الدين إذن حوامله المادية وشوائبه التاريخية أو حتى مذاهبه العقائدية، بل مقدار ما يقدِّمه للوعي الإنساني من إحساس بالاستقلال والكمال.
وهنا يأتي دورُ لسنج الناقد التاريخي للكتاب ويتحقق من صحة النصوص الدينية ويُبيِّن مدى صحة العقائد والتعبير عنها في نصوص الكتاب. وهذا موضوع أكاديمي خالص لا شأن له بالموضوع التربوي الإنساني الخلقي.
٦٠
المسيح معلِّم عملي. فافتراض عقيدة خلود النفس كنظرية فلسفية، والرغبة فيها، والإيمان بها شيء، وتوجيه السلوك ظاهرًا وباطنًا طبقًا لها شيء آخر.
وأهم ما يميز المسيحية أنها عقيدة عملية، وأن المسيح معلِّم عملي لا تهمُّه البراهين النظرية على عقيدة خلود النفس كفلسفة خالصة بل يهمُّه أثر هذه العقيدة في الحياة العملية على سلوك الناس.
٦١
كان المسيح على الأقل أول مَن بشَّر بهذه العقيدة. فقد اعتقدت أممٌ كثيرة قبله في ترتُّب عقاب على السيئات في حياة أخرى، أي على الأفعال التي تضرُّ بالمجتمع المدني (الدولة)، والتي وضعها المجتمع المدني تحت طائلة العقاب. أما المسيح فهو الوحيد الذي بشَّر بالصفاء الداخلي للقلب أملًا في حياة أخرى.
وقد آمنت شعوب أخرى بهذه العقيدة قبل المسيحية، ورتَّبت الجزاءات الأخروية ثوابًا أم عقابًا على الأفعال التي يأتيها الإنسان في هذا العالم. ولكن المسيح وحده هو الذي بشَّر بهذه العقيدة في صفائها تعبيرًا عن الأمل في حياة أخرى، وبصرف النظر عما يتم فيها من ثواب أو عقاب.
٦٢
وقد قام تلاميذه بنشر هذه العقيدة بإخلاص. وإن لم يكن لهم فضلٌ آخر سوى نشْر حقيقة بين شعوب عديدة أراد المسيح قصْرها — فيما يبدو — على اليهود وحدهم، فإنه يجب لذلك اعتبارهم من بين محبِّي الجنس البشري والمحسنين إليه.
وقد قام تلاميذ المسيح بنشر هذه العقيدة لدى الشعوب الأخرى، تلك العقيدة التي أراد المسيح قصْرَها فيما يبدو على اليهود وحدهم، وبالتالي يمكن اعتبار التلاميذ من محبِّي الجنس البشري قاطبة وممن أدوا إليه خدمات جليلة.
ولكن لسنج هنا لا يقدِّم دليلًا على أن المسيح أراد قصْرَ هذه العقيدة على اليهود وحدهم وعلى أن الحواريين كانوا أكثرَ شمولًا من المسيح، وإلا كان المسيح نبيًّا لليهود وحدهم وليس لكافة الجنس البشري قاطبة. في حين أن الحواريين كانوا رسلًا للبشر أجمعين، وبالتالي يكون الحواريون أعظم من المسيح، وهذا ما لا يمكن إثباته.
٦٣
ولكنهم خلطوا بهذه العقيدة الكبيرة تعاليمَ أخرى أقل وضوحًا في صحتها، وأقل نفعًا في أولويتها. ولكن أكان من الممكن أن يحدث خلاف ذلك؟
لن نحقد عليهم، ودعْنا نبحث بالأحرى وبروح جادة عما إذا لم تكن هذه التعاليم التي أُضيفت هي السبب في هذه الصدمة التي أعطت للعقل الإنساني اتجاهًا جديدًا.
ولكن الحواريين بقدر ما لهم من إيجابيات في نشر عقيدة خلود النفس لدى الجنس البشري قاطبة، فإن لهم سلبيات أيضًا تتمثل في أنهم خلطوا هذه العقيدة البسيطة العملية بتعاليم أخرى أقل بساطة، وأكثر تعقيدًا، وأقل نفعًا، وأكثر تجريدًا من العقيدة الأولى. ولا يعني ذلك أيَّ حقد على الحواريين أو أيَّ غضب منهم؛ وذلك لأن رُبَّ ضارة نافعة، وأن هذه التعاليم الزائدة قد صدمت العقل البشري وجعلتْه يتجه اتجاهًا جديدًا. وهنا يبدو أن لسنج يُثبت أن فلسفة التنوير لم تكن فعْلَ المسيحية بل ردَّ فعلٍ على التعاليم الزائدة التي أضافها الحواريون ممثلة في العقائد النظرية المعقدة التي لا ترقى إلى مرتبة اليقين الداخلي الذي يمكن إدراكه بالقلب. وهنا يقف لسنج مع سبينوزا في رفضهما لتعاليم الحواريين على أنها معقدة ونظرية وظنية عكس ما بشَّر به المسيح من تعاليم بسيطة وعملية ويقينية؛ ومن ثَم فالحواريون ليسوا رسلًا بل هم بشرٌ عاديون حاولوا نشْرَ التعاليم بطريقتهم الخاصة، وبأسلوبهم الخاص، وبفهمهم الخاص، وهذا هو أحد دروس فلسفة التنوير شارك فيه ريماروس ولسنج وسبينوزا وظل حتى القرن التاسع عشر عند شتراوس ورينان.
٦٤
وعلى أقل تقدير، تُبيِّن التجربة بوضوح تام أن أسفار العهد الجديد التي ضُغطت فيها هذه التعاليم بعد ذلك قد كوَّنت وما زالت تُكوِّن ثاني الكتب الأولية وأفضلها للجنس البشري.
العهد الجديد إذن هو الكتاب الأوَّلي الثاني لتربية الجنس البشري لأن تعاليم المسيح قد حُفظت فيه.
٦٥
وعلى مدى ألف وسبعمائة سنة شغلت هذه الكتبُ الذهنَ الإنساني أكثر من أية كُتُب أخرى، وأنارتْه أكثر مما أنارته الكتب الأخرى، على الأقل عن طريق هذا النور الذي وضعه الذهن الإنساني نفسه فيها.
وقد شغل العهد الجديد الذهن الإنساني منذ نشأة المسيحية حتى الآن على مدى سبعة عشر قرنًا (حتى عصر لسنج)، فأنار الذهن الإنساني كما أناره هناك. هناك إذن أثرٌ متبادل بين الوحي والعقل، فبقدر ما يُنير الوحي العقل ويُرشده بقدر ما يُنير العقل الوحي ويفسره (انظر الفقرة ٢٦).
٦٦
وكان من المستحيل أن ينتشر أيُّ كتاب آخر هذا الانتشار، وبهذه الدرجة بين شعوب متباينة. ومما لا نزاع فيه أن عكوف عقليات مختلفة على دراسة هذا الكتاب قد ساهم في تقدُّم الذهن الإنساني أكثر مما لو كان لكل شعب كتابه الأوَّلي الخاص.
وقد انتشر العهد الجديد بين عديد من الشعوب كما لم ينتشر أيُّ كتاب آخر. وعكفت أذهان كثيرة على دراسته، وكانت السبب في تقدمها، وكان ذلك أفضل مما لو كان لكل شعب على حدة كتابه الأوَّلي الخاص به. فانتشار العهد الجديد بين عديد من الشعوب، ودراسته بأذهان متعددة حقَّق نوعًا من الشمول في الفكر والعالمية في الفهم، وأصبح الإنسان واحدًا أمام كتاب واحد وبذهنٍ واحد.
٦٧
وكان من الضروري أن يعتبر كلُّ شعب هذا الكتاب على أنه يحتوي أقصى ما يستطيع الصبي أن يصل إليه من حقائق حتى لا يتجاوزه إلى أشياء أخرى لم يتهيأ لها ذهنُه بعد، فتضره أكثر مما تنفعه.
٦٨
شيءٌ آخر مهمٌّ للغاية: أنت أيها الإنسان الأكثر استعدادًا عندما تَصِل إلى آخر صفحات هذا الكتاب الأوَّلي، وينفذ صبرك، وتتحرق شوقًا، احترس من أن يُدرك زملاؤك الأضعف منك ما ستراه أنت فيما بعد أو ما بدأتَ في رؤيته من قبل.
فإذا ما استطاع إنسان أن يتجاوز هذا الكتاب إلى شيء آخر فإنه يجب أن يحرص على ألَّا يُطلع الآخرين على ما وصل إليه حتى لا يضرَّهم بل يجب عليه الانتظار حتى يرتقوا ويُدركوا بأنفسهم ما استطاع هو أن يُدركَه بنفسه.
٦٩
واعكفْ مرة أخرى على كتابك الأوَّلي حتى يلحق بك زملاؤك الأضعف منك، وتحقَّق من أن ما تراه حتى الآن من جدل فارغ أو منهج زائف ليس شيئًا أكثر من ذلك.
وعلى الإنسان أن يعكف على الكتاب حتى يلحق به زملاؤه، وحتى يُدرك عيوب الجدل الفارغ، والمنهج الزائف؛ وذلك بإعمال عقله البسيط وحتى يمكن لهذا العقل أن يتجاوز ما لديه من معارف ناقصة.
٧٠
وقد رأيت — والجنس البشري ما زال في طفولته — في عقيدة الله الواحد أن الله أيضًا يوحي مباشرة بحقائق العقل البسيطة أو على الأقل يسمح ويرضى بتعلُّم حقائق العقل البسيطة هذه باعتبارها حقائق أوحى بها مباشرة كي تكون أسرع انتشارًا وأثبت بنيانًا.
ولما كان الله يوحي أيضًا بحقائق العقل البسيطة مباشرة مثل تصور الله الواحد والجنس البشري ما زال في طفولته ولقدرة الشعور الفردي على التميز عن الشعور الجماعي، ولوجود البقية الصالحة سابقة باستمرار على غيرها في قدراتها النظرية والعملية فإن الله يسمح أيضًا بتعلُّم هذه الحقائق العقلية البسيطة باعتبارها حقائق وحي حتى تكون أسرع انتشارًا، وأرسخ ثبوتًا، وأقوى دعائمَ في الذهن الإنساني. وظيفة الوحي هنا التثبيت في الأعماق، والإسراع في الزمن.
٧١
فإذا نظرت إلى الجنس البشري وهو في سنِّ الصِّبا يمكنك أن تلاحظ نفس الشيء بالنسبة لعقيدة خلود النفس؛ فقد بشَّر بها الكتاب الثاني من الكتب الكبيرة الأولية بوصفها وحيًا، ولم يتعلَّمها أحدٌ نتيجة استدلالات عقلية.
بشَّر الوحي في الكتاب الثاني، والإنسانية في سنِّ الصبا، والجنس البشري في مرحلته الثانية من مراحل تطورها بعقيدة خلود النفس بوصفها وحيًا، ولم يتعلمها أحد بالاستدلالات العقلية بل كانت تعبيرًا عن صفاء الروح وسلامة الطوية.
٧٢
وهكذا لم نَعُد في حاجة إلى العهد القديم لكي نعتقد في وحدة الله. وكذلك بدأنا في أن نعوِّد أنفسنا على الاستغناء عن العهد الجديد كي نعتقدَ في خلود النفس. ألم يكن باستطاعتنا أن نكتشف في هذا الكتاب الأخير حقائقَ أخرى من هذا النوع اعتبرناها ونحن في غمرة من دهشتنا وحيًا لم يتعلم العقل كيف يستنبطها من حقائق أخرى وكيف يربطها بها؟
ومن ثَم، يمكن للإنسانية الاستغناء عن العهد القديم لمعرفة الله الواحد كما أنها يمكنها أيضًا الاستغناء عن العهد الجديد لمعرفة خلود النفس، هل هناك حقائق وحي أخرى في هذا الكتاب الثاني لم يصلها الإنسان، ولم يتعلَّم العقل بعدُ كيف يستنبطها من حقائق أخرى مرتبطة بها؟
وهنا تبدو مكاسب العصر الحديث منذ ديكارت ومنها القدرة على استنباط حقائق جديدة من حقائق أخرى واضحة ومتميزة وقد طبق سبينوزا ذلك في كتاب «الأخلاق» ويشير لسنج هنا إلى نفس المنهج الرياضي.
٧٣
فمثلًا عقيدة التثليث، ألَا تستطيع هذه العقيدة التي وضعت الذهن على الطريق الصحيح بعد أن ظلَّ يتخبط يمينًا ويسارًا أن تجعلَه يُقرُّ بأن الله لا يمكن أن يكون واحدًا، بمعنى أن الأشياء المتناهية واحدة، وبأن وحدانيته يجب أن تكون وحدانية ترنسندنتالية لا تنفي أيَّ نوع من الكثرة؟ ألَا يمكن أن يحصل الله على الأقل على تصور كامل لنفسه أي تصور يوجد فيه كل ما يوجد في الله؟ هل يوجد فيه كل ما هو موجود في الله؟ إذا كان وجوده الضروري وكذلك صفاته الأخرى تصورًا فحسب أو إمكانية ليس إلا، إذا استطاعت الإمكانية أن تستنفد وجودَ كلِّ صفاته الأخرى، فهل يمكنها أن تستنفد وجوده الضروري؟ يبدو لي أنها لا تستطيع ذلك. ومن ثَم، إما أن الله لا يستطيع أن يحصل على تصور كامل لنفسه وإما أن هذا التصور الكامل موجود بالضرورة كوجود الله. صحيح أن الصورة التي لي، التي تعطيني إياها المِرآة ليست إلا تصورًا فارغًا لي؛ لأننا لا نجد إلا أجزاء مني تخرج منها أشعة ضوئية لتسقط على الزجاج. ولكن لنفترض أننا نجد في هذه الصورة كلَّ ما نجده فيَّ دون استثناء، أتظل حينئذٍ تصورًا فارغًا لي أم أنها بالأحرى تكون وجودًا ثانيًا؟ عندما أعتقد أني أرى الله في هذا الوجود الثاني قد لا يكون هناك خطأ من جانبي أكثر من أن اللغة قاصرة عن التعبير عن فكري. ولكن هناك شيء لا يمكن مناقضته وهو أن هؤلاء الذين أرادوا أن يُشيعوا هذه الفكرة ما كان بوسعهم التعبير عنها بطريقة أكثر دقة، وأكثر مهارة إلا من خلال تشبيه الابن الذي خلقه الله من الخلود.
ويضرب لسنج المثل بثلاث عقائد أخرى فضلًا عن عقيدتي الله الواحد، وخلود النفس وهي عقائد التثليث، والخطيئة الأولى، والتكفير بالابن، وهي عقائد تتفق مع العقل كالعقيدتَين السابقتَين مما يدل على أن فلسفة التنوير لم تكن عقلية بما فيه الكفاية، ولم تكن فلسفة تنويرية جذرية. فعقيدة التثليث في رأْي لسنج بعد أن ظلَّ الذهن الإنساني يتخبط فيها يمينًا ويسارًا استطاعت على الأقل وضْعَ الذهن على الطريق الصحيح بتصور الله الواحد، بمعنى أن تناهي الأشياء واحد، وبأن الوحدانية الترانسندنتالية لا تنفي أي تكثر. وهذا تناقض؛ فالوحدانية الترانسندنتالية تنفي أيَّ تعدُّد أو تكثر وإلا كانت وحدة حسية تجريبية مادية ذات مضمون؛ فالترانسندنتالي هو الصوري، الخالص، المجرد، لا المادي، الشائب، العيني. ولا يمكن أن يعني التثليث وجود تصور كامل لله يوجد فيه كل ما يوجد فيه؛ لأن الله حينئذٍ يكون شيئًا ماديًّا ويحتوي على مادة حتى يكون كاملًا، ويكون كماله بإضافة مادة على تصوره وليس من ذاته. ولا يعني التثليث تحويل الله من مجرد الإمكانية إلى إله بالضرورة؛ لأن هذا الانتقال من الإمكانية إلى الضرورة لا يتم في الله؛ فالله لا نقلة فيه ولا حركة، ولكن يظل الله ضرورة لا إمكانية. ولا يعني التثليث وجود صورة متماثلة لله في شيء آخر كما توجد صورة الإنسان في المرآة. فما الحاجة إلى هذا الازدواج في الصورة؟ وكيف يوجد الله في ذاته وخارج ذاته؟ كيف يعكس الله صورته في الأشياء؟ كيف يكون لله وجودٌ أولًا في ذاته ثم وجود ثانيًا في الأشياء؟ ولا يرجع هذا التناقض إلى أيِّ نقص في اللغة؛ فاللغة قادرة على التعبير عن الحقائق النظرية البسيطة، والتثليث ليس كذلك. وإذا كان للتشبيه وظيفة فهي في توضيح المعنى وتقريبه إلى الأذهان، وليس في إيقاع الذهن في التناقض كما هو الحال في تشبيه الابن الذي خلقه الله من الخلود؛ فالله لا يخلق، والابن ليس مخلوقًا، والخلود ليس مادة خلق. وكيف يشارك الابن المخلوق في صفة الخالق وهي الخلود؟
يبدو أن وظيفة العقل هنا في فلسفة التنوير أو على الأقل في بعض جوانبها ما زالت تبريرًا عقليًّا للعقائد وفهمًا نظريًّا لها. ومن هنا يمكن وضْع التنوير الألماني من نوع كانط ولسنج وهردر في جانب، والتنوير الفرنسي من نوع روسو وفولتير في جانب آخر، الأول هو التنوير النسبي، والثاني هو التنوير الجذري. أما التنوير الإنجليزي من نوع تندال وتولاند ومؤسسي الدين الطبيعي فهو أقرب إلى التنوير الجذري.
٧٤
وكذلك عقيدة الخطيئة الأولى. ألَا يُثبت لنا كلُّ شيء أن الإنسان في طوره الأول — وهو أحطُّ أطوار الإنسانية — ليس سيد أفعاله، وذلك ما يمنعه من طاعة القوانين الخلقية؟
والعقيدة الثانية التي يذكرها لسنج ويجعلها في صفِّ الإله الواحد وخلود النفس وهي حقائق الوحي التي يمكن للعقل إدراكها في عقيدة الخطيئة الأولى. ويُبررها لسنج عقلًا فيعتبر أنها تشير إلى أن الإنسانية كانت في أول أطوارها ناقصة، وأن الإنسان لم يكن صاحب أفعاله وبالتالي فإنه لم يكن مهيَّأً للأعمال الخلقية ولطاعة القوانين. وهذا تبرير عقائدي لعقيدة الخطيئة الأولى التي رفضها الجناح الجذري في فلسفة التنوير وعلى رأسه فولتير. فاعتبار الإنسانية في أحطِّ أطوارها تصورٌ تشاؤمي للإنسانية، وحكم على الطبيعة بالفساد، وحكم على الإنسان بالعجز، ونظرة مادية لبداية الإنسان. في حين أن الإنسانية في بدايتها كانت على البراءة الأصلية كما يقول فقهاء المسلمون، كل شيء فيها على الإباحة، وهي قادرة على الحكم على الأشياء بعقلها وبنورها الطبيعي؛ فقد كانت الفطرة نبراسها، والعقل مرشدها.
وينتج عن الخطيئة الأولى أن الإنسان يرث خطايا غيره، دون ما ذنب اقترفه، وتجعل الشر أقوى من الخير في بداية الإنسانية، وتقضي على حرية الاختيار بين الخير والشر، وتجعل الإنسان مجبرًا على فعل الشر بفعل الخطيئة الموروثة فيه؛ فالخطيئة في لحمه وعظمه ودمه، وليست عملًا من أعمال الإدارة الخاضعة للعقل، فهي أقرب إلى الغريزة منها إلى الفعل العاقل. ولما كان الإنسان عاجزًا عن فعل الخير لزم الخلاص؛ فالمسيح هو المخلص من خطيئة آدم، وبالتالي يقف الإنسان محصورًا بين آدم الذي أخطأ فيه والمسيح الذي يخلصه، وهو في كلتا الحالتين لم يفعل شيئًا، وليس مسئولًا عن الخطيئة الأولى عن الخلاص الثاني!
٧٥
وكذلك عقيدة التكفير بالابن. ألا يضطرنا كلُّ شيء في نهاية الأمر إلى أن نتصور أن الله — بالرغم من عجز الإنسان الأصلي — قد فضَّل أن يعطيَ للإنسان قوانين خلقية، وأن يغفر له كلَّ مخالفاته لها من أجل ابنه، أي من أجل موجود يجمع فيه كمالاته الخاصة ويمحي فيه كل نقص بالنسبة إليه أكثر من تصورنا أن الله لا يعطي للإنسان القوانين الخلقية مستبعدًا إيَّاه من أية سعادة خلقية تستحيل بدون هذه القوانين الخلقية؟
والعقيدة الثالثة التي يذكرها لسنج، ويجعلها مشابهةً لعقيدتَي وحدانية الله وخلود النفس هي عقيدة التكفير عن الذنوب عن طريق الابن أو هي عقيدة الخلاص، ويُبررها لسنج أيضًا تبريرًا عقليًّا كما يفعل علماء اللاهوت. فالله بالرغم من هذا العجز الإنساني أمام الخطيئة قد أرسل ابنه الذي جمع كل كمالاته حتى يكفِّر عن ذنوب الناس وخطاياهم من جراء عصيان القوانين الخلقية. وهذا أفضل من عدم إعطاء الناس القوانين الخلقية واستبعادهم من نَيل السعادة الأبدية. وهذه حقيقة مركبة وليست بسيطة؛ لأنه يمكن للإنسان أن ينال السعادة الأبدية عن طريق طاعته للقوانين الخلقية فحسب دون ما حاجة إلى مَن يكفر عنه ذنوبه. ولكن لما كان الإنسان عاجزًا عن طاعة القوانين الخلقية لزم له مكفرٌ عن آثامه، ومخلِّصٌ له من مأساته في شخص المسيح. فالنسق العقائدي متسقٌ ولكن كل عقيدة فيه على حدة ليست حقيقة بسيطة.
٧٦
ولا يعترضنَّ أحدٌ بأن تعقيلًا كهذا لأسرار الدين غير مباح؛ فكلمة سر في عصور المسيحية الأولى كانت تعني شيئًا آخر عما نقصده نحن اليوم، كما أن تحوُّل حقائق الوحي إلى حقائق عقلية شيء ضروري في نهاية الأمر لو كان ذلك في صالح الجنس البشري. فعندما أُوحيَ بهذه الحقائق لم تكن حقائقَ عقل بل أُوحيَ بها كي تصبح كذلك، فهي مثل النتيجة التي يعطيها مدرِّس الحساب للتلاميذ من قبل حتى يمكنَهم إلى حدٍّ ما الاستدلال عليها. فإذا اكتفى التلاميذ بنقل النتيجة فلن يتعلموا الحساب أبدًا، ولن يحصلوا على الغرض الذي من أجله أعطاهم مدرِّسهم الطيب دليلًا يُرشدهم في عملهم.
يقوم لسنج بهذا التعقيل لأسرار الدين ضد اعتراضات المعترضين من المؤمنين واللاهوتيين؛ فالسر بالنسبة للقدماء لا يعني ما يقصده المحدثون. عند القدماء كان السرُّ يتجاوز حدود العقل في حين أنه عند المحدثين يمكن تعقيله وفهمه، وعلى طريقة لسنج يمكن تبريره. إن تحوُّل الأسرار إلى حقائق عقلية شيء ضروري ومسار حتمي في صالح الجنس البشري، ومظهر من مظاهر رقيِّه، وعامل من عوامل تقدُّمِه. فالله أوحى بهذه الحقائق حتى تصبح حقائق عقل وحتى تقوم الإنسانية بجهد مكثف من أجل إظهار قدراتها العقلية وشحْذ همتها وتوجيهها نحو القصد والغاية؛ فالوحي أشبه بنتيجة المسألة الحسابية التي يعطيها المدرِّس للتلاميذ حتى يركزوا جهدهم على الاستدلال عليها، وإيجاد البراهين المثبتة لها. وبدون هذه النتيجة المعطاة سلفًا فإنهم لن يتعلموا الحساب أبدًا.
وهنا يبدو أن عمل العقل عند لسنج هو الاستدلال على نتيجة معطاة سلفًا وليس الانتهاء إلى نتيجة مجهولة، أي أن وظيفة العقل في التنظير والفهم لما هو موجود من قبل وليس اكتشافَ جديد، وهي الوظيفة التي أعطاها لها كلُّ علماء اللاهوت العقلانيِّين. وهنا تصبح فلسفة التنوير نوعًا من اللاهوت العقلي الجديد لا أكثر.
٧٧
ولماذا لا يستطيع دين له مثل هذه الحقيقة التاريخية والهشة — فيما يبدو — أن يُرشدنا إلى أفكار أكثر يقينًا وأكثر دقة فيما يتعلق بالطبيعة الإلهية وبطبيعتنا الخاصة وبعلاقتنا مع الله، وهي الأفكار التي ما كان باستطاعة العقل الإنساني أن يصل إليها بمفرده؟
ويبدو أنه منذ بدايات النقد التاريخي للكتب المقدسة في العصور الحديثة أصبحت الأسس التاريخية للمسيحية هشة، ولم يَعُد بالإمكان التصديق بالمسيحية على أسس تاريخية ظنية بعد اكتشاف التغيير في الكتب المقدسة وتحريفها، زيادة أو نقصانًا أو وضوحًا. كان البديل إذن هو إقامة المسيحية على أسس عقلية خالصة والالتجاء إلى الداخل، أي إلى الإنسان بدلًا من الاعتماد على الخارج أي على التاريخ. كان من الطبيعي أن تقوم فلسفة التنوير بهذه المهمة وهي إعادة تأسيس المسيحية اعتمادًا على النظر العقلي والحصول على أفكار أكثر دقة ويقينًا عن طبيعة الله، وعن طبيعة الإنسان، وعن علاقة الله بالإنسان، والإنسان بالله، وهي أفكار ما كان باستطاعة العقل الإنساني أن يصل إليها بمفرده دون الاستعانة بالوحي.
يجعل لسنج إذن وظيفة العقل تصحيحية تقويمية لشيء موجود سلفًا وإن كان مخلوطًا ومغلفًا دون أن يكون مكتشفًا للحقائق أو واضعًا لها. فالوحي هو الذي يمدُّ العقل بالحقائق ثم يقوم العقل بفهمها الفهمَ الصحيح وتخليصًا مما عَلِق بها من شوائب، ولكنه غير قادر على الوصول إلى هذه الحقائق النظرية بمفرده. وهنا تبدو حدود فلسفة التنوير وموقفها النسبي من العقل، وحلولها الوسط بين العقل والنقل في حين أن الجناح الجذري في فلسفة التنوير في فرنسا وإنجلترا أثبت قدرة العقل على الوصول إلى حقائق الوحي بمفرده دون ما حاجة إلى الوحي، وهو موقف المعتزلة في تراثنا القديم؛ فالمعتزلة حركة عقلانية مشابهة الجناح الراديكالي في فلسفة التنوير، أو أن فلسفة التنوير الجذرية حركة عقلانية مشابهة للمعتزلة في تراثنا القديم.
٧٨
وليس صحيحًا أن النظر العقلي في موضوعات كهذه كان مصدرَ شرٍّ أو أنه قد أضرَّ بمصالح المجتمع المدني «الدولة». لا يجب توجيه اللوم إلى هذا النظر العقلي بل إلى السلطة الغاشمة التي تحرِّم هذا النظر العقلي والتي تحرِّم على أناس يفكرون بأنفسهم أن تكون لهم آراؤهم.
والنظر العقلي ليس شرًّا، ولا يضر بمصالح المجتمع، ولا يهدد كيان الدولة، بل إن تحريمَ السلطة للنظر العقلي ومنْعَها للناس من أن يكوِّنوا آراء خاصة بهم تُهدِّد كيان الدولة، وتقضي عليها. وهنا يتفق لسنج مع ما يسميه سبينوزا حرية الفكر والذي لأجله كتب سبينوزا «رسالة في اللاهوت والسياسة»، وفيها تتم البرهنة على أن حرية التفلسف لا تُمثِّل خطرًا على التقوى أو على سلامة الدولة، بل إن في القضاء عليها قضاء على سلامة الدولة وعلى التقوى ذاتها في آنٍ واحد (انظر ترجمتنا للرسالة).
٧٩
بل على الضد من ذلك، ليس هذا النظر العقلي — مهما كانت النتائج الجزئية المترتبة عليه — إلا أكثر التمرينات ملاءَمة للذهن الإنساني على الإطلاق طالما أن باستطاعة القلب الإنساني، وعلى أحسن تقدير، أن يحبَّ الفضيلة التي تترتب عليها سعادتُه الأبدية.
إن النظر العقلي بمثابة تمرينات للذهن الإنساني، وتدريبات له على إدراك الحقائق النظرية وعلى حبِّ الفضائل التي ترتَّب عليها سعادتُه الأبدية. إنه نوع من مران الذهن حتى يصبح قادرًا على إدراك الحقائق وحتى تكتمل له ملكاتُه.
٨٠
والواقع أنه نظرًا لأن القلب الإنساني بطبيعته يبحث عما فيه فائدته الخاصة فإنه إذا اقتصر عملُ الذهن على الموضوعات التي تتعلق بحاجاتنا المادية فقط فإنه يخشى عليه من أن يصبح خاملًا بدلًا من أن يكون متوقدًا. ولذلك فإنه يريد أبدًا العمل في موضوعات فكرية إذا ما أراد الوصول إلى معرفة التنوير المتكامل، وصفاء القلب، مما يجعلنا قادرين على حبِّ الفضيلة لذاتها.
وإذا اقتصرت موضوعات النظر على المسائل المادية وحدها قد يخمل العقل ولا يتحمس لها. لذلك فإنه يتعامل مع الموضوعات الفكرية حتى يصل إلى درجة الاستنارة الكاملة وصفاء الذهن وحتى يصبح قادرًا على حبِّ الفضيلة لذاتها. وهنا تُعيد فلسفة التنوير الفلسفة اليونانية القديمة التي تجعل مهمة أشرف الملكات الإنسانية وهو العقل إدراك أشرف الأمور وهي الأمور النظرية وأعلاها وهو الله أو الفضيلة أو الخير.
٨١
أم أنه ليس لزامًا على الجنس البشري أن يصل إلى هذه الدرجات العُلَى من التنوير والصفاء؟ كلَّا!
وإنه لمن الضروري أن يصل الإنسان إلى هذه الدرجة القصوى من التنوير والتعقل وإدراك الأمور النظرية وأعلاها شرفًا.
٨٢
كلَّا! يا إلهي الطيب، احفظني من هذا الجحود بك. كل تربية لها غاية سواء كانت تربية الجنس البشري أم تربية الفرد. ومَن يتربَّى فإنه يتربَّى على شيء.
فإذا تم له ذلك تحققت الغاية القصوى من تربية الإنسانية؛ فقد كان هذا التنوير هو الغاية التي سعى إليها الوحي كما أن كمال الفرد هو الغاية المقصودة من تربيته.
٨٣
أليست هذه التطلعات المثيرة للزهو والتي يكشف عنها للتلميذ الشاب أعني الشرف والرفاهية اللذَين يبرقان أمام عينَيه أكثر من وسائل تخلق منه رجلًا قادرًا على القيام بواجبه حتى ولو لم يتمَّ له أن يحقق آماله نحو هذا الشرف وهذه الرفاهية؟
إن ما يتطلع إليه الإنسان من شرف ورفاهية يخلق منه رجلًا قادرًا على القيام بواجبه حتى ولو لم يتحقق ما يتطلع إليه بعد، أي أن الدافع على الرقيِّ هو ما يصبو إليه الإنسان؛ فالغائية هي الدافع على الحركة، وهي العلة الفاعلة، وهو ما ركزت فلسفة التنوير عليه خاصة عند كانط وهردر ولسنج، وعند فلاسفة التاريخ في القرن الثامن عشر في فرنسا خاصة عند كوندرسيه وتورجو.
٨٤
هذه هي غاية التربية الإنسانية. ولكن ألَا يمكن للتربية الإلهية أن تحققها؟ ألا يمكن للطبيعة أن تحقق للنوع ما يحققه الفن للفرد؟ جحود! جحود!
غاية التربية الانسانية هو تحقيق كمالها، وتحقيق ما تصبو إليه من تطلُّعات ولكن هل يقوم الله ذاته بهذا الفعل؟ هل يمكن للطبيعة أن تحقِّق هذا الكمال الإنساني كما يحقق الفن الكمال الفردي؟
٨٥
كلا! سيأتي هذا العصر. سيأتي يقينًا هذا العصر — عصر الاكتمال — الذي لا يحتاج الإنسان فيه أن يطلب من المستقبل دافعًا لسلوكه بمفرد ما يتم اقتناعه بأن هناك مستقبلًا أفضل. حينئذٍ يفعل الخير لأنه خير لأجل الجزاءات التعسفية التي فُرضت قبل ذلك جزافًا كي نُثبت نظرة الإنسان الحائرة، ولكي يتوصل الإنسان إلى الكشف في ماهية الخير عن الجزاءات الحقيقية المنبثقة من طبيعته.
وسيأتي هذا العصر الذي تكتمل فيه الإنسانية ويتحقق هدفها. وفي هذا العصر يُدرك الإنسان القِيَم الذاتية للأشياء، ويفعل الخير لأنه خير وليس من أجل ما يترتب عليه من ثواب، ويمتنع عن الشر لأنه شرٌّ وليس لأجل ما يترتب عليه من عقاب؛ فقد كانت مهمة الجزاءات ثوابًا وعقابًا إدراك طبائع الأشياء، فإذا ما تم هذا الإدراك فقدَتِ الجزاءاتُ وظيفتَها. وهذا ما أدركه المعتزلة من قبل، وجعلوه جوهر الوحي الإسلامي.
٨٦
سيأتي يقينًا عصر «الإنجيل الجديد الخالد» الذي وعدنا به حتى في الكتب الأولية للعهد الجديد.
وهذا العصر سيكون عصرَ الإنجيل الأبدي الذي تحدَّث عنه العهد الجديد، والذي لا يحتاج إلى عقائد ولا إلى أنبياء ولا إلى طقوس أو شعائر ولا إلى كنائس أو معابد. هو الإنجيل الأبدي الذي لا يتغير من عصر إلى عصر، وهو الإنجيل الذي يقوم على العقل وعلى إدراك الأمور البسيطة، وهو ما سماه سبينوزا الدين الشامل الذي تُدرك مبادئه بالنور الفطري.
٨٧
ويجوز أن بعضًا من أشعة هذا الإنجيل الخالد قد بدأت في إضاءة بعض الحالمين في القرنَين الثالث عشر والرابع عشر، إلا أن خطأهم الوحيد كان في اعتقادهم أن زمنه أصبح قريبًا.
٨٨
وقد لا يكون تقسيمهم تاريخ العالم إلى ثلاثة عصور سرابًا خادعًا. ولا شك أنهم كانوا خِلوًا من النوايا السيئة بقولهم إن العهد الجديد أصبح باليًا كما قيل من قبل على العهد القديم، فهم أيضًا لا يرون إلا تطورًا واحدًا وإلهًا واحدًا. وأقول بتعبيراتي الخاصة، إنهم لم يعرفوا إلا خطة واحدة للتربية العامة للجنس البشري.
ولا تحتاج المرحلة الثالثة إلى كتاب مقدس أو إلى شعائر أو إلى عقائد أو إلى مؤسسات أو إلى وقائع تاريخية؛ لأن الدين فيه دين روحاني خالص، وهو الدين «العقلي» عند لسنج الذي تتحقق فيه الغاية القصوى من تربية الجنس البشري.
٨٩
ولكنهم تسرعوا في إدراك الخطة؛ فقد اعتقدوا أن بإمكان معاصريهم الذين لم يتركوا عهد الطفولة إلا منذ هنيهة أن يُصبحوا فجأةً دون أيِّ تمهيد أو أيِّ نور رجالًا جديرين أن يعرفوا ما سموه بالعصر الثالث.
ولكن هؤلاء الحالمين قد تسرعوا في الإعلان عن اكتمال الخطة وتعميق كمال الإنسانية. فالصبي لا يصبح شابًّا ناضجًا إلا بعد فترة من الزمان. وما ظنه يواكيم الفيوري قد تحقَّق في القرن الثالث عشر عصر الروح القدس يراه لسنج وقد تحقق في القرن الثامن عشر، عصر فلسفة التنوير، كما يراه هيجل وقد تحقق في القرن التاسع عشر، عصر المثالية المطلقة، كما يراه هوسرل قد تحقق في القرن العشرين عصر الفينومينولوجيا يكتمل فيها الوعي الأوروبي. فكل فيلسوف يرى أن الإنسانية قد اكتملت في العصر الذي عاش فيه. كما أن الوحي الإسلامي يرى أن الإنسانية قد اكتملت عقلًا وإرادة في أوائل القرن السابع الميلادي.
٩٠
ولهذا السبب هم حالمون. فالحالم ينفذ ببصيرته دائمًا نحو المستقبل ولكنه لا يعرف الانتظار، ويرجو أن يأتيَ هذا المستقبل بسرعة، وأن يأتيَ ذلك من خلاله. يريد في لحظة واحدة أن يحصل على غاية تعمل لها الطبيعة منذ آلاف السنين، وأي شيء سيحصل هو عليه إن لم يأتِ هذا الخير العميم الذي تطلع إليه في حياته، أيعود من جديد؟ أيعتقد في عود له؟ وما أعجب ألَّا يصبح هذا الحلم هو الوحيد الذي لا يدخل في مصاف أحلامهم!
وهذا يرجع إلى طبيعة الحالم المندفع الذي يتطلع إلى المستقبل، ويراه وقد تحقق من قبل في خياله وبأحلامه، ولا ينتظر أن تتحقق الغاية بالفعل. يسبق الحالم الزمن، ويرى المستقبل في الحاضر؛ لأنه يعيش بكيانه في المستقبل، ويريد أن يحصل في لحظة على ما تمهد له الطبيعة وما يكشف عنه التاريخ منذ آلاف السنين.
إنه الخير العميم الذي يجب أن يحصل عليه في حياته، هذا الخير الذي يتهيأ له في عصر الاكتمال. ولكن هذا الخير ليس مبغاه الآن ولا يفكر فيه. إنه يود فقط سبْقَ الزمان. والقفز من البداية إلى النهاية.
٩١
هيَّا أيتها العناية الأبدية تقدَّمي بخطاك الخفية، ولكن لا تسمحي إلا لي لأن خطاك خفية، وأيأس من قدومك، لا تسمحي أن أيأس منك حتى لو اعتقدت يومًا أنك سوف تدورين على عقبَيك. هذا غير صحيح؛ فالمستقيم لا يكون دائمًا أقصر الطرق.
وبالرغم مما يعيبه لسنج على الحالمين في القرن الثالث عشر من تسرُّع وسبْق للزمن إلا أنه يطالب هنا العناية الإلهية بالتقدم أكثر فأكثر على طريقة هردر الذين يجعل من العناية الإلهية تطور الإنسانية، ويحثُّها على الإسراع حتى لا ينال اليأس منه. والإيمان بالتقدم إحساسٌ بالتفاؤل الذي يقضي على أيِّ يأس من تقدُّم الإنسانية حتى ولو دارت الإنسانية على عقبَيها وتأخرت ورجعت إلى الوراء فقد يكون من هذا التأخر بداية لتقدم جديد. فالتقدم لا يسير بالضرورة في خطٍّ مستقيم؛ لأن الخط المستقيم ليس بالضرورة أقصر الطرق بل قد يكون أطولها؛ فالتاريخ الإنساني إمكانية تقدم، وقد تنتابه بعضُ فترات التأخر الوقتية كي يحدث تقدُّم أكثر.
فالتأخر الظاهري قد يشير إلى تقدُّم حقيقي. قد تنطفئ النار ولكنها تسري في الهشيم!
٩٣
ولديك في تقدُّمك الأبدي أشياء تجلبينها معك، وأمامك خطوات جانبية عديدة تقطعينها لماذا لم تنتظم الأشياء بحيث يمكن أن تدور العجلة الكبيرة التي تقود الجنس البشري في حركة بطيئة نحو كماله بدوران عجلات أخرى صغيرة أسرع تعطي كلُّ واحدة منها حركتَها للكل؟
ويحتوي تقدُّم الإنسانية على أشياء أخرى تتحقق بجانب تحقُّق كمالها العقلي والإرادي. قد يعني لسنج بهذا مظاهر المدنية وتحسُّن أساليب الحياة. فالتقدم العقلي هو العجلة الكبيرة، وأساليب الحياة المادية الأخرى مثل الصحة البدنية ورفاهية العيش عجلات صغيرة أخرى تدور مع العجلة الكبيرة. فإذا كان دوران العجلة الكبيرة بطيئًا فإن دوران العجلات الصغيرة أسرع؛ وذلك لصعوبة تحقيق الكمال العقلي وسهولة تحقيق أساليب الرفاهية. ولكن العجلات الصغيرة لا تنفصل عن العجلة الكبيرة بل تستمد منها حركتها.
٩٣
ليس الأمر على خلاف ذلك. هذا الطريق الذي يتقدم فيه الجنس البشري نحو الكمال هو نفسه الذي يجب أن يسلكه إن عاجلًا أو آجلًا كلُّ فرد على حدة. أَيمرُّ بكل هذا في حياة واحدة فقط؟ أيمكن في حياة إنسانية واحدة أن يمرَّ بالحياة المادية لليهودي، والحياة الروحية للمسيحي؟ أيمكن في حياة واحدة أن يتعدَّى هاتين النظريَّتَين؟
وما تُحققه الإنسانية من تقدُّم ثم اكتمال يحققه الفرد أيضًا. فكمال الإنسانية يقتضي كمالَ الفرد. ولكن إذا تحقق كمال الإنسانية على مراحل، من الطفولة إلى الصِّبا إلى الشباب، فهل يتحقق كمال الفرد في حياة واحدة؟ هل يستطيع الفرد أن ينتقل من الحياة المادية لليهودي إلى الحياة الروحية للمسيحي ثم إلى العقلية لفلسفة التنوير يبلغ فيها الإنسان كماله؟
٩٤
كلا! ليس الأمر كذلك. ولكن لماذا لا يستطيع فرد واحد أن يحيا أكثر من مرة في هذا العالم؟
لا يمكن ذلك. ومن ثَم لم يبقَ إلا أن نفترض أن بإمكان الفرد أن يحيَا أكثر من حياة واحدة في هذا العالم!
٩٥
ألَا يبعث هذا الافتراض على السخرية لأنه أقدم الافتراضات؛ لأن الفكرة قد خطرت على الذهن الإنساني قبل أن تُبدِّدَه مغالطات المدرسة وتُضعفه؟
ولكن هذا الافتراض يبعث على السخرية؛ لأنه رواد الذهن الإنساني أولًا، ثم فندته الفلسفة المدرسية؛ وذلك لأنه يقضي على الفردية، وهي ما حاولت فلسفة التنوير إثباتَه.
٩٦
ولماذا لم أحدد بنفسي قبل ذلك الخطواتِ المختلفة على طريق الكمال، هذه الخطوات التي لا يستطيع الإنسان فيها إلا أن يحصل على العقاب والجزاء الدنيوي؟
ولكن مراحل الكمال تحدث في هذا العالم، يمكن تحديد المرحلة التي كان يحصل فيها الإنسان على الجزاءات الدنيوية ثوابًا أم عقابًا وهي مرحلة اليهودية.
٩٧
ولماذا لم أعلم — في حياة أخرى — كل الخطوات التي تقوِّي أملنا في المكافآت الأبدية؟
كما يمكن تحديد المرحلة التي كان يحصل فيها الإنسان على الجزاءات الأبدية وهي مرحلة المسيحية، وهي مرحلة تتم في هذا العالم وليس في عالم آخر.
٩٨
لماذا لا أولد مرات عديدة بحيث أستطيع الحصول على معارف جديدة وقدرات جديدة أجدُّ للحصول عليها؟ هل قمت بالشيء الكثير مرة واحدة بحيث إنه ليس هناك ما يدعوني لتكراره من جديد؟
كما يمكن تحديد المرحلة التي يتم فيها كمال الإنسان وحصوله على المعارف العقلية من ذاته، وهي مرحلة تحدث أيضًا في هذا العالم ولا يحتاج الإنسان لتحقيقها من أن يعيش وأن يموت مرات عديدة.
٩٩
أهذا هو السبب؟ أو لأنني قد نسيت أني كنت على هذه الأرض؟ أفضل لي أن أنسى ذلك! فبتذكُّري أحوالي السابقة لا أستطيع إلا أن أُسيءَ استخدام حياتي الحاضرة. ولكن الذي يجب عليَّ ألَّا أنساه الآن هل ضاعت مني ذِكْراه إلى الأبد؟
فالمراحل الثلاث تتم في هذه الحياة، وتتحقق على هذه الأرض، والرجوع إلى الماضي يجعلني أنسى الحاضر، والحاضر هو الذي تكتمل فيه الإنسانية، ومع ذلك فتاريخ الإنسان جزء منه لأنه تاريخ اكتماله ولا يذهب طيَّ النسيان.
١٠٠
أو لأن هذه الطريقة تجعلني أفقد وقتًا طويلًا، أفقد الوقت، أي فرصة هذه تضيع مني، ألا يوجد الخلود أمامي.
ومع أني أعيش في الحاضر وأتذكر الماضي فإن ذلك لا يعني ضياع الوقت أو فقدانه. وكيف يفقد الإنسان الوقت أو يضيع منه الزمن وهو يعيش إلى الأبد في نطاق الخلود.