وأخيرًا جاءت لحظة الصدام!
كانت اللحظة التالية مثيرةً جدًّا؛ فها هما الآن مع «الماء الثقيل» في سيارة واحدة، أي أنهما يملكان المغامرة في أيديهما، لكن «أحمد» كان يقول في نفسه: مَن يدري ماذا يمكن أن يحدث الآن!
كان لحظتها يفكر في إرسال رسالة إلى رقم «صفر»، يشرح له الموقف، فهو يرى أمامه صندوقَين كبيرَين، يجلس حولهما الجنود، وهذان الصندوقان من المؤكد أنهما يُخفيان «الماء الثقيل»، لكن ماذا يمكن أن يحدث؟! ألقى نظرة سريعة على الطريق، كانت هناك سيارة عسكرية أخرى، تبدو قريبة منهما، فكر: لا بد أنها لحراسة عربة «الماء الثقيل»، وهذا يجعل المغامرة صعبة، ومن الضروري أن هناك اتصالًا بين السيارتَين، نظر إلى «فهد» الذي كان مستغرقًا في حديث حول كأس العالم مع أحد الجنود الموجودين، فكَّر: هل يُرسل الرسالة الآن؟
ألقى نظرة سريعة على الجنود، كان واضحًا أنهم مهتمون بحديث «فهد»، وضع يده في جيبه، ثم ضغط زرَّ جهاز الإرسال، وبدأ يُرسل الرسالة، كانت رسالة طويلة، ولذلك كان يُرسل جزءًا منها، ثم ينتظر قليلًا، ثم يرسل جزءًا آخر. كان يخشى أن يلفت نظرَ أحد، وعندما انتهَت الرسالة، قال في نفسه: إن الحراسة قوية، ومن المؤكد أننا لن نستطيع هزيمة هؤلاء جميعًا!
انتظر لحظة، كان «فهد» يُلقي خلالها عليه نظرةً سريعة، في الوقت الذي يظل يتحدث فيه عن كأس العالم، ويشرح خطط الفِرَق، والجنود ينظرون إليه مستمعين بحديثه. كان «فهد» قد اهتم بالمباريات من أولها، في نفس الوقت كان يقرأ كلَّ ما ينشر عن كل فريق، وخطة لعبِه، وكانت وجهة نظره أن الحياةَ كلَّها مباراة في كرة القدم، وكل واحد لا بد أن تكون لديه خطة حتى ينجح، وكانت خطة «فهد» أن يُشغلَ الجنود أطول وقت ممكن حتى يستطيعَ «أحمد» أن يتصرف.
فجأة، جاء ردُّ رقم «صفر»، استقبله «أحمد» على جهاز الاستقبال بالطريقة الشفرية، ولأن الرسالة كانت مطولة، فقد استغرقَت وقتًا، وعندما انتهى منها، شعر بالارتياح، فقد نظم الزعيم كلَّ الخطوات، نظر إلى «فهد» الذي كان يضحك في هذه اللحظة، وهو يتحدث عن ضربة الجزاء التي أضاعها «مارادونا»، وهو يلعب أمام فريق «يوغسلافيا»، ابتسم «أحمد»؛ فقد فَهِم أن «فهد» يحقِّق خطة ذكية في نفس الوقت، نظر له نظرة مستقيمة، جعلَت «فهد» يغرق في الضحك.
فقد فَهِم ماذا يريد «أحمد»، ظهرَت الدهشة على وجوه الجنود، حتى إن أحدهم قال: هل أعجبك أن «مارادونا» قد أضاع ضربة الجزاء؟!
ردَّ «فهد»: ما أضحكني هو أن فريق الأرجنتين فاز بالمباراة في النهاية!
قال الرجل: فعلًا، كانت مسألة غريبة!
قال واحد آخر: إنها مسألة حظ!
ردَّ «أحمد»: الإنسان يحتاج لبعض الحظ في حياته، وتحوَّلَت المناقشة من كرة القدم إلى معنى الحظ وضرورته، ودوره في حياة الإنسان، وتحدَّث «أحمد» طويلًا في هذه المسألة، لكن «فهد» قطع استرسال «أحمد» في الحديث؛ فالحكايةُ كلُّها أنه يريد أن يُشغلَ الجنود عن «أحمد»، وفَهِم «أحمد» ذلك، لكنه لم ينسحب من المناقشة بسرعة، حتى لا يلفتَ نظرَ أحد، وحتى يظلَّ الجنودُ مقتنعين أنهما من مشجعي كرة القدم.
عندما بدأ «فهد» حديثَه عن مباراة البرازيل والأرجنتين، كان «أحمد» قد بدأ في تنفيذ رسالة رقم «صفر»، وضع يدَه في جيبه، وأخذ يُرسل رسالةً إلى الشياطين. كانت رسالة شفرية تقول: «١٠ – ٢٨ – ٢٦ – ١٥ – ٢٥» وقفة، «١٣» وقفة، «٢٦ – ٥ – ٢٦» وقفة، «١١ – ٢٢» وقفة، «١٠ – ٢٨ – ١٥ – ١ – ٢٢ – ٣٠» وقفة، «٢٧ – ١٣» وقفة، «١٠ – ١٨ – ٥ – ٢٤ – ٨»، انتهى … مرَّت دقيقة.
ثم جاءه الرد، أخفَى ابتسامة؛ فقد عرف أن الشياطين عند النقطة المحددة، وعرف أن رقم «صفر» قد أرسل إليهم. فكَّر، هل تبدأ المغامرة عند النقطة المحددة حيث ينتظر الشياطين، أو أنهم سوف يستمرون مع العربة حتى المحطة الأخيرة؟ إن رقم «صفر» قد ترك لهم الموقف ليتصرفوا فيه حسب الحاجة.
ألقى «أحمد» نظرةً على الجنود، كان الحديث لا يزال كما هو، ألقى نظرة سريعة على سيارة الحراسة، كانت تأتي في أعقاب عربة «الماء الثقيل». فكَّر، لا بد أنها مجهزة تجهيزًا كاملًا، ولا بد أنها تحمل أعدادًا من الجنود المزيفين.
تنهَّد «أحمد»، كانت اللحظة حرجة تمامًا … قال في نفسه: إنهما سوف يغادران السيارة عند أقرب نقطة من مدينة روما، وهذا يعني أنهما سوف يكونان بعيدَين عن شحنة «الماء الثقيل». إن الموقف لا بد أن يُحسَم قبل مغادرة العربة … أخذ يُدير الموقف في عقله، حتى يصلَ إلى القرار النهائي، إنه يرى أن الطريق مزدحم بالسيارات من كل نوع، أتوبيسات ونقل وملاكي وأجرة.
وهذا يعني أنهما لن يستطيعَا الاشتباك مع هؤلاء المزيفين، وسط هذا الزحام؛ لأن ذلك يمكن أن يتسبب في كارثة، وهذا يعني أنهما يجب أن ينتظرَا حتى تخرج العربة من الطريق الرئيسي إلى الطريق الآخر … في اتجاه إمارة «موناكو»، وهذا يعني أنهما سوف يغادران العربة، ويكون بقية الشياطين قد انضموا إليها. إذن فإن عليهما أن يتتبَّعَا عربةَ «الماء الثقيل» عن بُعد، حتى تحينَ اللحظة المناسبة، كان الموقف معقَّدًا تمامًا، لكن حَسْم الأمر كان ضروريًّا، فجأة، شعر بدفء جهاز الاستقبال، وضع يده عليه، وعرَف أنه يستقبل رسالة، ظلَّ يتتبَّعها بيده، ويحلُّ رموزها، وعندما انتهَت، قال في نفسه: لقد تصرَّف الشياطين بشكل جيد.
فقد كانت الرسالة من الشياطين. فكَّر لحظة، ثم أخذ يُرسل رسالة إلى عميل رقم «صفر» في روما، طلب سيارة تنتظر عند النقطة «ن»، وهي النقطة التي سيغادر فيها العربة هو و«فهد».
قال في نفسه: أتمنى ألَّا تتأخر السيارة … نظر إلى «فهد» لحظة … ثم جاءه ردُّ العميل يقول إن السيارة سوف تكون هناك في الوقت الذي حدَّده فعلًا، أخفى ابتسامة، ثم بدأ يُنصت إلى الحديث الدائر بين «فهد» والجنود المزيفين. كان الحديث قد تغيَّر، ولم يَعُد يدور حول كأس العالم وكرة القدم، ولكنه يدور حول المغامرة، كان أحدهم يقول: إن المغامرة تجدِّد حياة الإنسان، وتعطيه قدرةً على سرعة التصرف، بجوار أنها تمنحه الكثير من المعلومات.
تدخَّل «أحمد» في الحديث، وتساءل: هل تعني المغامرة، أو الرحلات؟!
نظر له الرجل لحظة، ثم ابتسم وقال: إنه سؤال ذكي، ودقيق!
ثم أضاف بعد لحظة: إنني أقصد المغامرة؛ لأنها تضمُّ الرحلات أيضًا.
ابتسم «أحمد» وقال: هل يعني هذا أن المجرم مغامر؟
نظر له الرجل لحظة، ثم انفجر في الضحك، وأخيرًا قال: إنه مغامر بشكل أو بآخر!
قال «أحمد» مبتسمًا: أعتقد أن المغامِر هو مَن يحقِّق متعةً خاصة، دون أن يضرَّ الآخرين!
ظهرَت الدهشةُ على وجهِ رجلٍ منهم ضخم، وقال بصوت خشن: إن هذا تعريف بديع! وأنا أوافقك؛ فهناك فرقٌ واضح بين المجرم وبين المغامر فعلًا!
فجأة، صرخَت فرامل العربة، بدأت تخفيض سرعتها، قال أحدهم: يبدو أنكما سوف تغادران العربة، لقد كانت رحلة ممتعة بصحبتكما!
ابتسم «فهد» وهو يقول: أو مغامرة طيبة!
ضحك الرجل الضخم وهو يقول: إنها مغامرة فعلًا!
فُتحَت نافذة خلفية في كابينة العربة، وجاء صوت السائق يقول: معذرة، فسوف يختلف طريقنا الآن.
وهذه أقرب نقطة إلى روما.
حيَّا «أحمد» و«فهد» الرجال، ثم قفزَا من السيارة، واتجهَا إلى الكابينة يشكران السائق ومَن معه، وتمنَّيَا لهما سفرًا طيبًا، وقال «أحمد» في النهاية: أتمنى أن نلتقيَ مرة أخرى!
ابتسم السائق وقال: وأنا أيضًا أتمنى هذا … إلى اللقاء!
ردَّ «أحمد» مبتسمًا: إلى اللقاء!
تحرَّكَت العربة، بينما كان «فهد» و«أحمد» ينظران إليها، وهما يرفعان أيديَهما بالتحية للجنود المزيفين، الذين كانوا يردون تحيتهما أيضًا، وعندها اختفَت العربة في ظلمة الليل، فلم يَعُد يظهر منها سوى الضوء الخلفي الأحمر، وهمس «فهد»: إن سيارة العميل لم تَصِل بعدُ!
ولم يكَد يُكمل كلماته، حتى كانت سيارة سوداء صغيرة تقترب منهما، ثم تتوقف أمامها.
فجأة، انفتح الباب، اقترب منها «أحمد» ينظر مَن بداخلها، فلم يجد أحدًا، لكنه سَمِع صوتًا يقول: مرحبًا، أرجو أن تكون السيارة قد وصلَت في موعدها!
قفز الاثنان داخلها، وجلس «فهد» إلى عجلة القيادة، ابتسم «أحمد» وقال: إنها لا تحتاج إلى سائق، عليك أن تضبط الرادار الموجود بداخلها، ثم تتركها لتوصلك إلى حيث تريد!
ابتسم «فهد» وقال: إن ذلك في الأمور العادية، لكن في المغامرة، فإن وجود السائق ضروري!
ضحك «أحمد» وقال: هيَّا إذن! مارِسْ هوايتك في قيادة السيارة …
ضغط «فهد» قدمَ البنزين، فانطلقَت السيارة بسرعة، فتح «أحمد» الراديو، ثم أخذ يُدير الموجات حتى التقط رسالةً تقول: «الحوت أمامنا»!
ابتسم، وقال «فهد»: إن الشياطين على الطريق!
فجأة، تردَّد ضوءٌ أمامهما، فعرف أنهم الشياطين، ظلَّت السيارة في تقدُّمِها السريع، حتى ظهرَت العربة، كانت تبدو من الخلف، أما سيارة الحراسة فقد كانت تتقدَّمها.
قال «أحمد»: الآن يجب أن تبدأ المغامرة!
ابتسم «فهد»، وقال: يكفينا أن الجزء الأول من المغامرة قد انتهى بخدعة!
أرسل رسالة إلى الشياطين يقول فيها: «عند النقطة «ﻫ»، يجب استخدام كرات الدخان، حتى يتم الهجوم.»
ثم نظر إلى «فهد»، وقال: إن مسئوليتنا هي عربة «الماء الثقيل»، أما الشياطين فسوف تكون مهمتهم سيارة الحراسة.
وبعد قليل، كانت المغامرة قد بدأ تنفيذها؛ فقد جاءت لحظة الصدام!