الاتجاه شمالًا
رأسُ الرجاء الصالح
٢١ ديسمبر. منتصف الصيف. على شاطئ كيلبي في أوليفانتسبوس، دفنَت نعَامةٌ رأسها في الرمال. ظننتُها تأكل الذباب. كان الشاطئ على بُعد بضعة كيلومترات جنوبًا عن منزلي في سكاربورو، على الساحل الغربي لشِبه جزيرة كيب بجنوب أفريقيا. كان ظَلِيمًا لا نعَامة، له ساقان رشيقتان مائلتان إلى اللون الوردي، وعنقٌ طويل مفتول، وذيل كَثٌّ من الريش الأسود والأبيض. كان يُشبِه الملِكة فيكتوريا وهي تتأهَّب للسباحة. وفوق ذلك الطائر «عدَّاء الشاطئ» كان ثَمة ثلاثة طيور صغيرة سريعة الحركة، تحلِّق وهي تُصارِع هبَّةَ هواءٍ ساخن مُعبَّقة بمُلُوحة المحيط الأطلنطي ومَشوبة برمال الشاطئ. كانت تطير بمحاذاة الشاطئ تُجاه الجنوب صوبَ رأس الرجاء الصالح. إنها سُنونوات: عرفتُ ذلك من اللطخة التي تُشبِه جُرحًا غائرًا تجلَّط الدم فيه عند عُنقها، وصوت رفرفة جناحَيها الحادَّين ذوَي اللون الأزرق اللامع، وذيلها المتشعِّب إلى شُعبتَين طويلتَين. كانت تطير بحيوية جمَّة كعادتها دائمًا وأبدًا.
كتبَ ألبير كامو في كتابه «الصيف في الجزائر» أنَّ «المُدن المُطلَّة على البحر مفتوحة على السماء وكأنها ثَغر، أو جُرح». مساءَ اليوم نفسِه، وأنا جالسٌ في شرفة المنزل الذي أعيشُ فيه مع زوجتي كلير، الجنوب أفريقية (زوجتي الوحيدة، التي يُصادَف أنها من جنوب أفريقيا)، تطلَّعنا نحو الغرب، إلى شمس منتصف الصيف الغاربة فوق المحيط الأطلنطي من الضاحية التي نسكن فيها في كيب تاون. كان ثَمة مزيدٌ من السُنونوات، وفي تعرُّفي عليها لم أرَ طيورًا أعرفها فحسب، بل رأيتُ أيضًا كيف أنَّ من الصعب رؤية جوهر الأشياء رأيَ العين. كان ثَمة سربٌ متفرِّق يتحرك جنوبًا بين منزلنا والمحيط، وهو سربٌ مكوَّن من ستة من سُنونوات الحظائر (وهو الاسم الشائع الآن للطيور التي طالما كنت أدعوها ببساطة «سُنونوات») والعدد نفسُه من السُّنونوات المخطَّطة الأكبر. كنت أعرف أن سُنونوات الحظائر قد تركت الشتاءَ خلفها في أوروبا. وأعرفُ أن السُّنونوات المخطَّطة الأكبر هي طيورٌ مهاجرة داخل القارة الأفريقية تتناسل (في فترةِ ما بين شهرَي سبتمبر ومارس) في أنحاء جنوب أفريقيا، ثم تقضي شتاءها في أقصى الشَّمال في أنجولا والكونغو وتنزانيا. وبصفتي مُراقِبَ طيور كثيرَ التَّرحال، يحيا في عالَم مشوَّش منقلب رأسًا على عقب، كنت أبذل قصارى جهدي محاولًا أن أقرأ ذلك العالَم قراءةً صحيحة، لكن وأنا أنظر إليها لم يَسعني إلا أن أُفصحَ عن أصْلي، وأُقرَّ بأن رأسي، كما النَّعامة، مدفونٌ في موضعٍ ما بالرمال.
كانت سُنونوات الحظائر تحلِّق على ارتفاع منخفض بمحاذاة شريط اليابسة بين الأمواج المتكسرة المشوبة بالطحالب والشاطئ ذي الرمال البيضاء. كانت تبدو — كعادتها دومًا — وكأنما تبحث عن شيءٍ ما. كل تحوُّل مفاجئ وانحدار في مسار تحليقها بَدَا تعديلًا؛ ضَربًا من التصحيح تسهم فيه كلُّ رفرفة جناح لمسار أجسادها الرقيقة التي تُشبِه الإبرةَ ذات اللونَين الأزرق والأسود. لم يتبقَّ كثيرٌ من اليابسة تحتها في الاتجاه الذي تحلِّق فيه، ربما عشرة كيلومترات من الشاطئ وشبه الجزيرة الصخرية. أخبرتُها أنه لا يوجد شيءٌ حيث هي متَّجِهة سوى حُطام السفن وعظام الحيتان وبحر بارد، تليه ثلوجٌ أشَدُّ برودة، لكن لا شيء على الإطلاق كي تتطلع إليه، وأنه أحرى بها في ذلك المساء الانقلابي أن تعودَ على عقبَيها وتشُدَّ الرِّحال إلى ديارها.
قلتُ «ديارها». لقد نسيتُ مَوطئَ قدمي على الخريطة. فالانقلابُ الشتوي في جنوب أفريقيا يحدُث في شهر يونيو. تلك السُّنونوات موجودة حيث يجب أن تكون في ديسمبر، في عُقر ديارها. لكن في تلك اللحظة لم يَسَعني إلا أن أراها مُغترِبةً عنها. بعيدة عن ديار هي دياري أنا أيضًا (يُصادَف أنها بريطانيا؛ حيث الوجهة التي تقصدها بعضُ سُنونوات رأس الرجاء الصالح شتاءً للتناسل)، ديارٌ جعلني منظرُ تلك الطيور أحنُّ إليها، مع أني أجلسُ بجوار زوجتي خارجَ منزلنا.
•••
إنَّ رؤية سُنونوات رأس الرجاء الصالح تلك في منتصف الشتاء بالنسبة إليَّ (إذ كنت قد غادرت بريطانيا منذ يومَين)، وفي منتصف الصيف بالنسبة إلى كلير (التي قُدِّر لها أن تقضي أعياد الميلاد المجيدة في الطقس الحار دائمًا)، وأيًّا كان الموسم بالنسبة إلى الطيور هناك (أوان عدم التناسل، أو أوان نسول الريش، أو أوان الانطلاق في الآفاق المفتوحة)؛ تُزعزِع ما عرفتُه طوال حياتي، أو ما كنت أظن أني أعرفه، عن الطيور وآلية تفاعلها مع العالَم. سمعتُ نفسي أنطقُ كلمة «ديار»، فضحكتُ بصوتٍ مسموع على أثرِ ما تبيَّن لي من سذاجتي.
في وقتٍ سابق لعام ١٩٦٥، راقبَت الشاعرةُ إليزابيث بيشوب طائرَ طِيطَوى في مكانٍ مألوف لها بمحاذاة ساحل المحيط الأطلنطي بين نوفا سكوشيا والبرازيل. وكتبَت قصيدة عن ذلك الطائر.
إنها قصيدةٌ متمعِّنة عن جِدٍّ. وأعتقدُ أن الطائر المنشود هو المَدرَوان، مع أنه يصعب تحديد أي نوع من طيور الدريجة هو (ذلك هو الاسم الذي يطلقه مراقبو الطيور الأمريكيون على الطيور الشاطئية الصغيرة). تُستهَلُّ القصيدة على شاطئ البحر وأمواجه المتكسِّرة.
كنت أظن ذلك أيضًا عن نفسي، لكن في الغالب ما كنت أبحث عنه وأحاول اقتفاءَ أثرِه لم يكن «شيئًا» مجهولًا، بل كان بالأحرى طيور الطِّيطَوى نفسَها، أو السُّنونوات. ذلك أنها كانت، منذ بداية مسيرتي في مراقبة الطيور، بوصلتي التي أهتدي بها. وإذا كنت أعرفُ مسالك الحياة ودروبها، فإنَّ الفضل في ذلك يرجع بالأساس إلى طيور الطِّيطَوى والسُّنونوات. فبفضلها، سمعتُ أيضًا زئير العالَم وزمجرته، وعرفتُ شيئًا يسيرًا عن اختلاجاته واضطراباته.
•••
كانت الطيور التي رأيتُها تتَّجه جنوبًا، ولكن قريبًا جدًّا ستبدأ كلُّ السُنونوات في رأس الرجاء الصالح التحليقَ إلى الشَّمال، ثم ستُغادِر أفريقيا في النهاية قاصدةً أوروبا. إنها تسافر في أوانها الذي تُقرِّره، فتُحلِّق طَوال النهار على ارتفاع متر أو نحو ذلك عن الأرض، وتقتاتُ على الذباب في أثناء ذلك. ويتبيَّن لها أن الأوان الذي تُقرِّره لنفسها هو الأوان المناسب، فتصل إلى حيث تريد أن تكون في الموعد المحدَّد. هذا ما يحدث في الأغلب. في مطلع العام الجديد، يسافر أولُ فوج من سُنونوات الحظائر عبر البحر المتوسط إلى أوروبا الجنوبية. وذلك الحدث يمكن أن نعتبره أحدَ تباشير الربيع.
يتحرَّك الربيعُ شَمالًا عبْر أوروبا بسرعة مُقارِبةٍ لسرعة تحليق السُّنونوات؛ إذ إنها السرعة المواتية لرَكب الحياة. في يناير، تكون درجة الحرارة المتوسطة في منطقة جبل طارق إحدى عشرة درجةً مئوية. وفي يوليو، تكون درجة الحرارة المتوسطة في اسكندنافيا الشَّمالية إحدى عشرة درجةً مئوية. وعند حوالَي عشر درجاتٍ مئوية، يبدأ العُشب وغيره من الزروع والنباتات في الاخضرار، ويفقس بيضُ الحشرات الصغيرة، كالذباب وغيره، وتبدأ كلُّها في الخروج إلى الحياة. عند درجة الحرارة تلك، يُؤذَن لموسم النمو والولادة أن يبدأ. ويمكن للسُّنونوات أن تعيش فيه.
يتحرَّك خطُّ التساوي الحراري هذا عند ١٠ درجات مئوية — وهو خطٌّ على الخريطة يصل بين النقاط التي تتساوي درجات حرارتها — شَمالًا عبر أراضي القارة الأوروبية قادمًا من البحر المتوسط إلى المحيط المتجمِّد الشَّمالي بسرعةِ خمسين كيلومترًا تقريبًا في اليوم في الفترة بين الانقلابَين الشتوي والصيفي. يمكن القول إنه يتحرَّك أربعة كيلومترات في الساعة لمدة اثنتَي عشرة ساعةً في اليوم. ومن ثمَّ، يتحرك الربيع شَمالًا بسرعة المشي العادية تقريبًا. يُقال عن آكِلات العشب المهاجرة وراء العشب الأخضر إنها «تركب الموجة الخضراء»؛ ونحن أيضًا بوسعنا أن نفعل مثلها. في أوروبا، في أي وقت بين منتصف الشتاء ومنتصف الصيف، إذا بدأتَ المشي في الساعة السادسة صباحًا في مكانٍ تبلغ درجة حرارته عشر درجاتٍ مئوية، ثم اتجهت شَمالًا لمدة اثنتَي عشرة ساعة، فسينتهي بك اليومُ في مكانٍ يتماثل في درجة حرارته وظروفه الموسمية مع المكان الذي انطلقتَ منه. وستكون حينها مسافرًا مع الربيع.
بالطبع، ثَمَّة جبالٌ في أوروبا يحدث عندها انحرافٌ في درجات الحرارة — تسلُّقها يعني العودةَ بالزمن المَوسمي إلى الوراء — وهنالك تأثيراتُ المناخ القارِّي التي تجعل الربيع يحلُّ على السواحل قبل الأراضي الداخلية. ثم مَن ذا الذي يستطيع الاستيقاظ في السادسة صباحَ كل يوم والانطلاقَ شَمالًا دون أي معوِّقات؟ كما أن الشَّمال لا يكون على الأرجح شَمالًا مطلقًا. وكلُّ ربيع يحلُّ في أيام تختلف من سنة لأخرى على أية حال. أوَلسنا أنفسنا نتلاعب بحماقةٍ بمنظِّم درجة الحرارة (الترموستات) ونعبثُ بالزمن (يُقدَّر أن نسبةً تصل إلى ٢١٫٢ بالمائة من طيور العالَم مهدَّدة بالانقراض بسبب التغيُّر المناخي)؟ توجد تلك التعديلات وغيرها من التصحيحات التي ينبغي أخذها في الاعتبار، لكن حتى إن كان تقدُّم الخُضرة حقيقةً يُدرِك أهميتَها البشر، وحتى إن كان تقدُّمها مُعرَّضًا للخطر — إذ تزداد احتمالية الربيع الصامت عامًا بعد عام — نتيجةً لمكائدنا الشريرة، فلا شك أن قدوم الربيع سيظل يتحقق كأمرٍ مفروغ منه لا محالة.
بإمكاننا أن نَزيد من الشِّعر بيتًا. كان لدى الإغريق القدامى لفظتان للزمن: «كرونوس» التي تعني الزمن التسلسلي، و«كيروس» التي تُرجمَت إلى «الأوان» أو «الوقت المناسب». كان صاحبُ «سِفر الجامعة» يدرك ذلك الفرق. تقول خادمةٌ عن هِيرمُيوني الحُبلى في مسرحية «حكاية الشتاء» لشكسبير: «لقد صادفها الأوان المناسب». الأوانُ المناسب غير قابل للقياس، لكن من الجيد أن تحُلَّ فيه. مَن منَّا لن يجرِّب السَّفر عبْر الزمن لو استطاع إليه سبيلًا لكي يبحث عن مزيد من الأوان المناسب، ومستبدِلًا بمنتصف الشتاء الفلكي بعضَ أيام مَطلع الربيع في الجنوب، أو فارًّا من حَر الصيف، الذي تبطؤ فيه جميعُ المحرِّكات، متجِهًا إلى مكانٍ أبعدَ في الشَّمال كي يُبقِي تروسَ الربيع دائرة؟
وبما أننا نعرف هِبَاتَ الطبيعة تلك التي تتكرَّر سنويًّا، وندركها على طول رحلتنا ذات الوجهة الواحدة في الحياة، لِمَ إذَن لا نحاول أن نرافق الربيعَ في رحلته لأطولِ وقتٍ ممكن، لِمَ لا نحاول الانطلاق من حيث يبدأ، ثم نواكب خطواته، نجوب غُرفة خضراء متنقلة، ونسافر تحت الشمس، مثل طيور السُّنونو المهاجرة من أفريقيا؟
•••
تزداد قيمة الربيع في ناظريَّ مع كل عام يمرُّ مُدنيًا إياي من خريف عمري. وتزداد رغبتي شيئًا فشيئًا في أن يُحرِّكني ويهُزَّني ويُوقِظني. أجل، لكلِّ شيءٍ أوان، غيرَ أنني كلما صقلتني الخبرة تأكَّد لي أن الربيع هو الأوانُ المنشود. بالطبع لنا في كل أوان فائدة، ونحن نحتاج إلى نقيضِ الربيع بقدرِ ما يحتاج هو إلينا؛ إذ إن كلَّ «دورات» الحياة يجب أن تأخذ مجراها. ولكن لأننا، نحن البشر، لا نسير إلا في اتجاهٍ واحد لا رجعةَ فيه، لا يسعنا فيما يبدو إلا أن نزداد فهْمًا وتقديرًا لباكورة الأشياء وبداياتها، للربيع.
في وقتٍ ما في أواخر عَقدي الثالث، أدركتُ أنَّ صباحي قد ولَّى. لم يكن ذلك اكتشافًا عويصًا — إذ لا يسعنا أن نحيا دون أن ندنو من الموت — لكن إن كان قد هزَّني ذلك، فالسبب هو أني قضيتُ كلَّ ربيع خَبرتُه أرصدُ بشغفٍ وحماسةٍ ما أسماه دي إتش لورانس «صباحَ العالَم»؛ حيث رحتُ أترقَّبُ وصول الطيور المهاجرة من الجنوب وأراقبُها؛ تلك الطيور التي تُشعِرني عودتُها بالتجدُّد والترحاب وانصلاح الحال في آنٍ واحد.
منذ أن ناهزَ عمري الأربعين، بدأتُ أشعر في أحيانٍ كثيرة أني صِرتُ على مشارف نهاية الفصل، حتى ونحن في مارس وأبريل ومايو. من أعلى تلَّة العمر، رحتُ أتلفَّت أمامي وخلفي — حيث تمتزج ذكرياتي ورغباتي، كما قيل — فيزداد حنيني. وإذا أردتُ استدعاءَ دموعي حسرةً على ذلك، أتذكَّر تلك الأيام التي مضى عليها عشرون عامًا أو نحو ذلك، حين اكتشفَ ابنايَ الصغيران — في الأوان المناسب لهما — أنَّ للزمن نهاية، وعرَفا — مثلما رأيتُ على وجهَيهما — أنهما أيضًا سيَموتان يومًا ما. حين نصنعُ الحياة فإننا نصنعُ الموت أيضًا؛ لا سبيلَ لأن يحدث غير ذلك. أفضلُ ما فعلتُه على الإطلاق هو أني كنت طرفًا في مجيء أبنائي إلى الحياة. وذلك أيضًا هو أقسى شيءٍ فعلتُه.
من شأن كيتس أيضًا أن يستدعي دموعي. ففي أنشودته عن البُلبل، في ظلام ليلة ربيعية هانئة ذات لونٍ بنفسجي ناعم، يتحدَّث عن عدم قدرته على رؤية «الأزهار الموجودة عند [قدمَيه]». ولاحقًا، حين اشتدَّ به المرض، وعَلِم أنه على أعتاب الموت، تحدَّث عن رغبته في البقاء على قيد الحياة حتى يشهد مجددًا «أزهارَ ربيع [وطننا] النضِرة». وبالفعل شهدها مرةً أخيرة، لكن وهو على فراش الموت في روما، في خريف العام نفسِه، وحين سمعَ صديقه جوزيف سيفرن يصفُ مكان قبره، قال كيتس إنه «بدا وكأنه يشعر حقًّا بالأزهار تنمو فوقه». وبحلول منتصف شتاء العام تدهورت صحته، كان «يلفظ الدم من فمه كي يتسنَّى له التِقاطُ أنفاسه»، وبعد انتصاف ليل العام بقليلٍ قضى نحبه. كان الفصل يبدأ من جديد، لكنه لم يستطِع أن يرافقه، أو أن «يقطف» أزهاره. تُوفِّي يوم ٢٣ فبراير عام ١٨٢١، لمَّا بدأ النهار يطول، مع بارِضِ ربيعِ روما الجديد.
•••
حتى عندما أكون في منتصف الصيف في جنوب أفريقيا في نهاية كل عام ميلادي، أحاول أن أجلب لوالدتي في إنجلترا حيث منتصف الشتاء بعضَ الأزهار. فلا شيءَ أحَبُّ إليها من باقة من أزهار النرجس البري في عيد الميلاد المجيد.
أمي هي التي ألهمتني عنوان كتابي هذا. ففي أعياد الميلاد المجيد الماضية، عندما كنت أقيم مع والديَّ، كانت كثيرًا ما تطلب إليَّ أن أخرج لإحضار شيء من «خُضرة» الطبيعة ويُنُوعها. فقد كنا في منتصف الشتاء الكئيب نشتاق إلى شيءٍ من حيوية الربيع ونضارته. كانت مائدتُنا تفتقر إلى وجود نباتاتٍ خضراء. في بعض الأحيان كنت أُضطرُّ إلى شرائها، وفي أحيان أخرى — أحيان أفضل — كنت أخرجُ ومعي مِقصُّ تقليم وأقصُّ من نبات البَهْشية واللَّبلاب، والطَّقسوس والدِّبْق إن استطعت، وكذلك أي شيء لا يزال به من الخُضرة ما يرمز إلى حياة العام الماضي، وحياة العام الآتي. لم نكن مسيحيين أو وثنيين أو حتى بستانيين ماهرين، بل أردنا فحسب أن ننعم بشيءٍ من الخُضرة في منزلنا ترقُّبًا للوقت الذي يكون فيه الكساءُ الأخضر شحيحًا وأندرَ ما يكون.
نحن نُهدي الأزهار إلى المرضى ونضعها بكمياتٍ كبيرة فوق التوابيت والقبور لأنها ترمز إلى الحياة، وإلى أفضل الأوقات، وإلى بدايات الأشياء لا إلى نهاياتها. قلت إنَّ الخُضرة بريئة لكنها أيضًا مُسيَّرة بدقة دائمة؛ الأوراق الخضراء التي تأكلها بقرةٌ بُنية تصنع حليبًا أبيضَ مثل ريش البَلَشون، نبتةٌ صغيرة ورقيقة لكنها الأقوى والأبلغ دلالة، إنها تنمو وتزدهر، مثل شُعلة أُوقدَت في صباح العالَم، يكاد نورها يضاهي الشمس في سطوعها. ومن هذا المنطلَق أرى أنَّ الخُضرة هي مرادفُ الربيع.
•••
إننا نترقَّب حلولَ ذلك الفصل أكثر من غيره. ودائمًا ما نبقى مُنتبِهِين لأماراته. وكأنما، كما قال هنري ديفيد ثورو (في تدوينةٍ دوَّنها في شهر مارس في دفتر مذكِّراته): «إنَّ المرءَ ليُدفئ يدَيه بمَدِّهما نحو الشمس الساطعة وفركهما». بعضُنا واتَته فرصةٌ للسفر سَعيًا وراء الربيع، كما فعلَ كيتس أيضًا، ناشدًا منه فائدةً ما كالصحة مثلًا؛ لكن أغلبنا لا يبرح مكانه، ولا يملك إلا أن يظل حيث هو. وهكذا، يأتي الربيعُ إلينا بنفسه. ولا بأسَ في ذلك. لكن ربما يتسنَّى لنا مرةً أو مرتَين في حياتنا أن نرتحل معه لننعم به لفترةٍ أطول. وذلك أفضل. من الأفضل أن ينعم المرءُ بالربيع لفترةٍ أطول. حاولتُ فعلًا أن أفعل ذلك. «نهضتُ على قدميَّ»؛ أُحبُّ ذلك التعبير. كي أُرافقَ الفصل في ترحاله، آمِلًا أن أجدَ وتيرةً أشعرُ أنها تتناغم مع إيقاعاته الأشمل وتتَّسق معها. أُحبُّ كذلك الفكرة الإيحائية وراء ما يدعوه الموسيقيون وزنَ الإيقاع أو مقياسَه، وحاولتُ أن ألتزمَ بمقياس إيقاع الربيع بينما أحافظ على نغمته ولا أشذُّ عنها.
•••
وُلِدتُ في مايو، ومثلما أخبرتني أمي، فقد قضيتُ أغلبَ ما تبقَّى من الربيع في الهواء الطلق أتأمَّل روعة السماء من داخل عربة أطفال، بينما كان الربيع يتدفَّق في أرجاء الحديقة الخلفية لمسقط رأسي في ضواحي ليفربول. منذ ذلك الحين، وعلى مدى خمسين عامًا، وأنا مُراقِب طيور، كانت مشاهدة الطيور الجديدة أثناء قدومها في الربيع وتدوين ملاحظات عنها هو ما استقيتُ منه أولَ مفهوم لي عن جموح الوقت. وكانت القائمة الثانية للطيور والتي بدأتُها بعد القائمة الأولى (التي ضمَّنتُها جميعَ الطيور التي رأيتُها في حياتي)، هي قائمة دوَّنتُ فيها كلَّ فصلٍ من فصول الربيع التي واكبت تواريخَ أول رصدٍ من جانبي لطائرٍ مهاجر في الربيع أو لزائرٍ صيفي يحُلُّ ضيفًا على إنجلترا. كانت قائمة «أول رصد بالعام»، وما زلتُ أضع الأحرُف الأولى لهذه العبارة «أ-ر-ع» بجانب أول شفشافة، أو أبلق، أو خرشنة بمدينة ساندويتش أرصدُها في دفتر ملاحظاتي. وهو ما يفعله كثيرٌ من مراقبي الطيور.
قال خوسيه أورتيجا إي جاسيت: «قُل لي اهتماماتك، أقُل لك مَن أنت.» وقال ألبرت أينشتاين: «أَمعِن النظر في الطبيعة يَزدَدْ فهمُك لكل شيء.» الحقيقة هي أن تلك الطيور المهاجرة في الربيع والمغزى من رِحلاتها تهمُّني أكثرَ من الأنواع المستوطنة التي انضمَّت إليها. مَنبعُ تلك الأهمية الإضافية هو أن تلك الطيور المهاجرة أرتني شيئًا أحسبُه يُشبِه مودَّة الغرباء، أو ما أسمَته إيميلي ديكنسون في قصيدة لها «نَشوة الأُنس»؛ أحدُ أسبابها كذلك هو أن لتلك الطيور ديارًا أخرى، فمعظمها قادمٌ من أفريقيا، التي كانت «حاضرةً» في حياتي كلها بصورٍ شتَّى، أحيانًا كالسفينة الأم، وأحيانًا كسلطانية مَرق، وأحيانًا كفُلك. ثَمة سطر في رواية نادين جورديمير «المحافِظ» يصف «النضارة» التي يلاحظها المرءُ على محبوبته مقارنةً بما قبل علاقتهما. وأنا أرى هذا الأمر في تلك الطيور المتشاركة.
•••
يقول دبليو إس ميروين في قصيدته «المُستهَل» عن طيور السُّنونو: «كلُّ ما لم أعرفه قبلًا كان يبتدئُ من حَوْلي.» سُنونوات الحظائر نفسُها تنعم بالربيع طوال العام؛ إذ ترتحل مستبدلةً بربيع نصف الكرة الشَّمالي ربيعَ الجنوب. فهي ترتحل «داخل» الربيع، وكأنما تحمله معها؛ وبذلك يكفي سُنونو واحد لكي يبشِّر بقدوم الصيف، فالسُّنونو هنا يعني الصيف، مع أني كنت أفضِّل أن تكون كلمة «الربيع» هي المستخدَمة عِوضًا عن الصيف.
أعرفُ أنه ثَمة أربعة فصول في السنة الأوروبية. وثَمة أربع حجيرات في القلب، وأربع تربيعاتٍ لأطوار القمر، وأربع رياح، وأربعة تلاميذ للمسيح، وأربعة اتجاهاتٍ في البوصلة، وأربعة من عازفي الآلات الوترية في الرباعية الوترية، وهناك «الرباعيات الأربع» التي عُنيَت بالزمن، وهي أربع قصائد رباعية لإليوت. لكني لا أرى العام إلا على أنه منقسم إلى شطرين، ولطالما رأيتُه كذلك. فأنا أستشعره هكذا: ربيعٌ آتٍ، وخريفٌ ماضٍ، ستةُ أشهُر راحلة تليها ستةٌ آتية، ستةُ أشهُر سِمان تليها ستةٌ عِجاف، ستةُ أشهُر من فترات النهار الطويلة الممتدة تليها ستةٌ تطول لياليها، ستةُ أشهُر من الاخضرار واليُنوع تليها ستةُ أشهُر من القحولة والذبول، ستةُ أشهُر من النضارة تليها ستةٌ من الأفول؛ في الخريف تتداعى الأشياء، وفي الربيع تعود إلى طبيعتها، فتتدفَّق الدماء من القلب وإليه، وتتحرك عقارب الساعة لتُعلِن مُضيَّ لحظة وقدومَ أخرى، شهيقٌ يتبعه حتمًا زفير، سُنونوات تظهر وأخرى تختفي.
أرى الصيفَ كلمةً تصف التِقاءَ نهاية الربيع ببداية الخريف. وهذا رأيي أيضًا في الشتاء؛ هو ملتقى الخريف بالربيع. يأتي وصفُ جوهر مسرحية «حكاية الشتاء» لويليام شكسبير على لسان راعي غنم وجدَ طفلةً لقيطة (طفلة هِيرمُيوني التي ولَدتها بعد تمام حملها)، وفي اللحظة نفسِها يشاهد فلَّاحٌ آخر (ابنُ الراعي) دُبًّا يقتل وَصيَّ الطفلة. يقول الراعي: «لقيت أنت أشياءَ محتضرة، ولقيتُ أنا أشياءَ وليدة.» تلك «الأشياء» جزءٌ من الدوران الأعظم؛ إذ تدور الكرة الأرضية بإيقاعٍ تتزامن فيه عجلةُ الحياة والموت والميلاد في كل مكان، وتكون متصلة ومتناغمة. ويمكننا أن نرى ذلك على أنه الطريقة التي يُبتدأ بها الربيعُ بالنسبة إلى بعض أشكال الحياة قبل رحيل الخريف، وكيف يلتهم الخريفُ الربيعَ قبل انتهاء أوانه.
صحيحٌ أنَّ الربيع لن يكون ربيعًا دون الخريف. فجزءٌ مما يمنح الربيعَ جوهره هو أنَّ نقيضَه الذي سبقه سيَعقُبه أيضًا. الربيع يعني دُنوَّ الموت بقدرِ ما يعني مُولِّد أشياء جديدة. وصحيحٌ كذلك أنه لا عِلَّة بالشتاء بطبيعة الحال، ربما باستثناء أن رئتَيك تمتلئان برطوبته، أو أن أصابعك تصبح باردة كاللفت الذي عليك أن تقطِّعه. العديدُ من الأزهار تحتاج إلى «ذكرى شتوية» كي تَنبُت. وجميعنا يحتاج، بطريقة أو أخرى، إلى «الارتباع»، وهو ما يستلزم بدوره أن نجتاز الظلامَ كي نخرج إلى النور.
•••
إنَّ مجرد رؤيتي سُنونوات الحظائر الستة تلك أثناء تحليقها جنوبًا في ديسمبر نحو أحد طرَفَي الأرض الصالحة للسُّكنى في رأس الرجاء الصالح؛ حيث تحلِّق على ارتفاع منخفض فوق أجَمات شجيرات «الفنبوس» والأزهار، وتلتقط ذبابَ عُشبِ البحر الذي يحوم حول النعام، قد أثار في داخلي تساؤلاتٍ عِدَّة. أين ديارها؟ ومَن يملكها؟ وهل في وُسعِ أحد أصلًا أن يَدَّعي امتلاكه لطائر؟ ماذا أستشفُّ عن الجنوب بمعرفتي أنها متجِهة إليه؟ الآن وقد صِرتُ أسكنُ في الجنوب بقدرِ ما أسكنُ في الشَّمال، كيف أرى حالي أنا والطيور وقد صار يربطنا سفرُنا البعيد وما نتقاسمه من «ذكرى ثرية عن خطِّ طولٍ معلوم» (اقتباسًا من بيت شعرٍ كتبَه روبرت لويل عن إليزابيث بيشوب)؟
يعني ذلك أن تَسلُك، مثلما قد يفعل طائرُ سُنونو، شبه جزيرة كيب في جنوب أفريقيا حتى بلدية نوردكاب في النرويج، ثم تحمل معك شيئًا من آخِر حظيرة نرويجية حمراء قبل المحيط المتجمِّد الشَّمالي إلى المنزل (قبل الأخير) قبل القارة القطبية الجنوبية. إنها هجرةٌ دائمة تستمرُّ مدى الحياة. أن تلتقط، في عامٍ واحد، الذبابَ الذي أثارته حيواناتُ الظبي الأفريقي الضخم والجِمَال والدِّببة البُنية وأيائل الرَّنَّة بقوائمها. أن ترى، فوق الأمواج في سكاربورو، بجنوب أفريقيا، خرشنةً قطبية ربما تكون قد صادفتها من قبل، فوق أحد الخلجان قرب مدينة ترومسو أو تحلِّق إلى ما وراء مدينة سكاربورو بشَمال يوركشاير.
أن تعرف آلية العالَم، بمعايشته.
أن تحمل في داخلك شيئًا من ربيعٍ أزلي، شيئًا مما وصفه أوسيب ماندلشتام في قصيدةٍ له بأنه «أزيز الأرض، وحسيسها.»
كلُّ ما يلي ذلك يَتَّبع تلك السُّنونوات، ويمكن القول بأنه جاء مُقتفيًا أثرها. فهي إحدى الأمارات الأكثر تأكيدًا على أن الأرض حيَّة. فمنها تعلَّمتُ أن أُحبَّ العالَم، وبمراقبتي لها وهي تحلِّق ومحاولتي مصاحبتها في سفرها، ازداد العالَمُ الذي تعرفه تلك الطيور وتحيا فيه جَمالًا وبهاءً في ناظري.
أخُصُّ في ذلك الكتاب السُّنونوات بكلماتٍ كثيرة — وأخُصُّ الحميراوات بكلماتٍ أكثر. حاولتُ قدْرَ استطاعتي أن أجعل القدْر الأكبر منه عن الطيور، وغيرها من مظاهر الربيع الطبيعية، لكنه بالطبع عني أنا أيضًا. عرَف جون بوكستون أنَّ ذلك ما يحدث حين يراقبُ عالِمٌ الطيور؛ وعرَفَت إليزابيث بيشوب أن ذلك ما يحدث حين يفعل شاعرٌ الشيءَ نفسه.
إنَّ الأمر لا يتعلق بالطيور وحدَها هنا. في الربيع، يحبُّ الجميعُ بطريقة أو بأخرى أن يخرج في رِحلاتٍ طويلة. جميعُنا نُقدِم على «تنظيفة الربيع» بطريقة أو بأخرى. أنا مهتم بمعرفة الكيفية التي يبتغي بها الآخرون الربيع؛ معرفة ما كانوا ينشُدونه فيه وما وجدوه حقًّا. الشِّعر بمثابةِ ضربٍ من الربيع بالنسبة إلى الأدب؛ ومن ثَمَّ كان لا بد لي أن أُضمِّن الكتابَ قَبَسًا منه. تتحرك الموسيقى بسرعةٍ عبر الزمن، وقد حاولتُ الإصغاء إلى بعض الأغاني المتأثرة بالفصول. بعضُ الناس قضَوا حياتهم يرتحلون، كما الطيور المهاجرة، وقد كنت أتوق إلى سماع قصص رِحلاتهم. بعضُهم عَلِقَ على الحدود، ولكن البعض الآخر نجحَ في اجتيازها. تسافر اللوحات المنقوشة على الأحجار عبر الزمن بدقة الملاحظات الميدانية لعالِم طبيعة، ولكن أيضًا كما تبحر أحلامُنا في أذهاننا. بعض الناس جمعوا الأحجار نفسَها لاستخدامها كأدواتٍ لتسجيل الوقت؛ وبعضهم وجدَ تجاويفَ في الأحجار ربما يُلائمهم استخدامها كتوابيت تحوي أجسادهم. البعض كان صانعًا للربيع، وأولئك وَدِدتُ لو التقيتُهم أو التقيتُ رفاتَهم. وهنالك جُثثٌ ترقد في المستنقَعات قد صنعت ذلك الفصل. والبعض أفصحَ عنه بالأزهار، وأولئك وَدِدتُ لو شاركتُهم مباحثاتِهم في علم النبات. أمَّا أنا فقد اكتسيتُ بأعشابي الخاصة. أراني دارسو فصولَ الربيع التي ولَّت كيف اكتشفت أوروبا طريقةً للعيش في ذلك الفصل حين كان الجميعُ حديثي عهدٍ به. وأرشدني العلماءُ كيف أنظرُ في جوهر أيل أو دُب بُنِّي أو سُنونو. وضبط اختصاصيُّو علم الأحياء الزمني ساعتَي. ورغم وجود طرُق جيدة كثيرة لمعرفة الوقت، فإنني دائمًا ما أعودُ إلى الطيور.
•••
يتحدَّث هذا الكتاب عن الخُضرة التي هي الربيع، الذي يتكوَّن في معظمه من الطيور، وهي ليست خضراءَ في ذاتها، لكني أراها راياتٍ خضراء تُرفرِف في أرجاء الفصل. سبقَ أن كتبت عن الطيور والمساحات الخضراء. فهي جُلُّ ما أعرفه. من خلالها أرى العالَم وأستشفُّ حقيقته، وبها يشتد عضدي وأصلُ إلى بُغيتي. يعتمد تفكيري بشأن الطيور على إدراكِ ما أنظرُ إليه أو معرفةِ شيءٍ يسير عنه؛ فإدراكي يتكرَّر ويصبح إعادة إدراك: رؤية الطيور نفسِها، كالسُّنونوات، وهي تُعاوِد الظهور عامًا بعد عام. كان كتابي الأول «السماء الممتدة» عن الطيور والسماء التي تسكنها، ومَوطنها المُحدَّد (أرثي لحال النعامة التي لا تطير في أوليفانتسبوس، أو البطاريق الأفريقية، على الجانب الآخر من شبه جزيرة كيب)، وهي مساحة من الحياة نتطلع إليها، ونسكن بالقرب منها إلى حدٍّ ما، لكننا لا نستطيع وُلوجها بالكامل. وكان كتابي الثاني «الحقول الأربعة» يتحدَّث عن السير في الأرض، والآثار (مظاهر التدخل البشري المتمثلة في المساحات الخضراء وغيرها) التي تركناها على سطحها، تلك المادة الأساسية التي نقِفُ عليها، لكنه تناولَ أيضًا ما يكمُن تحت ذلك السطح، مُبتدأُ كلِّ شيء ومُنتهاه الحَتمي. أمَّا هنا في هذا الكتاب، فإنَّ حديثي كلَّه يدور حول الطيور وعلاقة ذلك بالزمن وبتحرُّكات الطيور نفسِها. إنني أُشاركُ وقتي مع الطيور لأنها تجعلني أرتحل عن نفسي دون أن أشعر بالغربة لمرور الوقت. فقد كانت الطيور المهاجِرة تفعل ما تفعله قبل أن أكون شيئًا، وستظل تفعله بعدما أصيرُ عدَمًا. العنصر الأساسي وراء كل شيء هنا هو النار (ضوء الشمس، أولًا وقبل كل شيء، وسقوطه على الأرض)؛ يوضِّح هذا الكتاب أيضًا كيف أن موضوعات كتابي الأول ينتهي بها الحال في الأرض التي يتحدَّث عنها كتابي الثاني، والأهم من ذلك كلِّه أنه يتحدَّث عن جَمال العالَم وبهائه حين تتحرَّك تلك الكائنات الحيَّة في صباح العالَم وهي لم تمُتْ بعد.
يقول ديلمور شوارتز: «الزمن هو النار التي فيها نحترق». أتفقُ كثيرًا مع ذلك الشاعر الكئيب؛ فنحن حين نرتكب أقصى ما في وسعنا من الفظائع من افتعال الحرائق والتلاعب بالزمن، في عالَم نعلم أننا شوَّهناه كثيرًا بالفعل، إنما نسير فيما يبدو نحو مَحرقة للكوكب ككلٍّ. ولكن يستمر عطاءُ الطبيعة النفيس (الذي يفوق الهِبَة)، المتمثل في نار الربيع، ذلك الفتيل الأخضر الذي يشتعل في صباح العالَم، الذي يحترق لأجل الحياة، لا لأجل الهلاك. وهناك أيضًا الطائر ذو الذيل الناري — وهو الاسم الذي عرَف به جون كلير وآخرون طائري المُفضَّل؛ الحميراء. وكان جَمَال هذا الطائر الصغير بمثابة النار التي أشعلت «جذوة» الحماسة داخلي لتأليف هذا الكتاب.
•••
بدأ الغموضُ المحيط بالسُّنونوات التي رأيتُها عند منزلي في شبه جزيرة كيب يتكشَّف. أجرينا بعضَ الاستخبارات؛ فقد تعقَّبت جواسيس في السماء تلك الطيور المهاجرة؛ إذ وضعنا حلقاتٍ في أقدام تلك الطيور التي تجوب السماء وحدَّدنا مواقعها الجغرافية. وما زالت معرفتُنا في ازدياد، لكننا ما زلنا غير قادرين على استيعاب رِحلات تلك الطيور؛ إذ تقِفُ أذهانُنا عاجزةً أمامها ونبذل أقصى ما في وسعنا للتعامل مع الواقع ومعالجته. فما تَخلَّينا عنه في تطوُّرنا هو ما تحيا به تلك الطيور، وهذا ما يجعلنا نراها بديعةً على الرغم من غرابتها في نظرنا. ليس القصد أن نوجِّه تلك الطيور ونَسُوسها على أي حال. في الماضي كنا لا نعرف عنها سوى أنها تغيب في ظلام الشتاء وتعود منه في الربيع. وتلك كانت معجزة. أما الآن فقد صِرنا نعرف أكثر ولم نعُدْ نصدِّق بالمعجزات، لكننا ما زلنا غير قادرين على فهْم رِحلات الطيور بقدْرِ فهْمنا لما سواها؛ ومن ثَم فإنها لا تزال تشحذ مخيِّلاتنا، وتهذِّب عواطفنا، وتُرشدنا السبيلَ إلى إدراك العالَم. قال هوراس في قصيدته «الربيع» التي كتبَها عام ٢٣ قبل الميلاد (ترجمها روبرت لويل إلى الإنجليزية): «تعود الطيور مُتألقةً وتتمازج في الهواء». وقال روبرت بيرنز عام ١٧٨٣: «أول سُنونو يُحلِّق بخفة في سِربه»، وهكذا يفعل.
•••
كنت الشخصَ البائسَ ضِمن أربعة أصدقاء خرجوا للتجوُّل سيرًا على الأقدام في الجبال شَمال كيب تاون، بعد عيد الميلاد المجيد مباشرةً الذي رأيتُ فيه السُّنونوات العائدة إلى ديارها. كان هدفُنا هو النزول في نهر ويتلز، وهو شِعبٌ نهري ضيِّق في بعض أجزائه، حتى إن المرء يُضطرُّ إلى أن يَثِب أحيانًا فوق الصخور في وسط المجرى وأن يسبح أحيانًا أخرى. وهذا لا يمكن أن يحدث إلا في ذروةِ صيفٍ جافٍّ وفي أوج حرارته. كانت تجربة بديعة؛ كان بوسعنا أن نشرب من مياه النهر الصافية الباردة بينما نسبح في مجراه، وكانت أزهارُ ديسا ذات اللون الأحمر الزاهي وأزهار الدلَبُوث المُخمَلية الحمراء (الاسم العِلمي لهما هو «ديسا يونيفلورا» و«جلاديولوس كارديناليس») تُنير ضِفَّتَيه المتشرِّبتَين بالماء. وشدَت طيورُ سُمْنة الصخور التي تسكن شبه جزيرة كيب بأغرودتها الشجيَّة البسيطة، وهي لديَّ في مرتبة الحميراء الشَّرفية. لكن بعد يوم، جُنَّ جنون ركبتي اليسرى، فتثاقلتُ في خُطاي عن رفاقي حتى كِدتُ أقف مكاني تمامًا. شجَّعتني الوراور الأوروبية على المُضي قُدمًا، كانت تصنع ما يُشبِه أزيزَ محطة الإذاعة العالمية بنداءاتها عبر موجات الراديو القصيرة فوقنا، ربما كانت طيورًا مستوطنة تتكاثر أو ربما كانت طيورًا مهاجرة من شتاء أوروبا إلى صيف جنوب أفريقيا. كانت تصطاد النحل الذي شجَّعه الأخدودُ الرطب الذي لولا هو لما أقدَم على المجيء إلى ذلك المكان المُقفِر المُتصدِّع. وكان ثَمة سُنونوات — سُنونوات حظائر — مرَّت فوقي وأنا أنزلق فوق صخرة مُبتلة في النهر مُصدِرًا صوتَ انسحاقٍ مُدوٍّ. بعدها، وأنا مُستلقٍ على المِحفَّة أو التابوت المتنقِّل الذي صنَعتُه لنفسي من حقيبة ظهري، نظرتُ لأعلى إلى الصدع بين حافَتَي الوادي فوق رءوسنا فرأيتُ السُّنونوات تطير فوق المجرى المائي للنهر وكأنما تشقُّ طريقَها في دَرْز تاجي؛ الدَّرْز التاجي للجبل، أو ربما دَرْزي أنا. كنت أعرفُ أني هالكٌ لا محالة، لكني نِمتُ في الهواء الطَّلْق لليلة أخرى على طُنُف صخري، واستيقظتُ مرتَين فإذا بي ألمحُ في كل مرة شِهابًا يمرق فوق الوادي. تساءلتُ إنْ كان وميض ذلك الضوء الخاطف قد نفذَ إلى نومي فأيقظني؛ إذ يبدو لي أنه ربما فعل ذلك. وبينما أنا مُستلقٍ هناك أنظرُ إلى أعلى، تذكَّرتُ أني كنت أحلم بالسُّنونوات. في حُلمي، كنت مُحبَطًا من افتقاري إلى اللياقة التي تؤهِّلني للوثب بين الصخور، لكن الطيور جاءت لإنقاذي، وبمرورها فوقي رفعتني بطريقةٍ ما من ذلك الصدع الأرضي وأعانتني على المُضي قُدمًا.