ديسمبر ويناير
سوافم برايُر
٢١ ديسمبر. في منتصف الشتاء حين تبلغ فترات النهار غاية القِصر في إنجلترا، أتطلَّع إلى الحصول على أكبرِ قدرٍ ممكن من ضوء النهار المختال وقت الانقلاب الشمسي. ولمَّا اعتبرتُ الشتاءَ لا وجودَ له وأنَّ اليوم هو بداية الربيع، خرجتُ ألتمسُ الفصلَ الجديد في مستهل العام.
غادرتُ المنزل قُبَيل الفجر وسِرتُ باتجاه الشرق صوبَ مقاطعة سافك في طريق زراعي بين حقول الشتاء الجرداء التي ستشهد شروق الشمس. أشرقت الشمسُ بعد تمام الثامنة بثماني عشرة دقيقة. يتحرَّك العالَم في مُفتتَح كل يوم ومنتهاه الظاهرَين، ما بين شروق الشمس وغروبها، بوتيرةٍ سريعة للغاية، تفوق فيما يبدو أيَّ سرعةٍ معهودة. وفي الأغلب لا نلاحظ ذلك؛ لكن في هذين الوقتَين، بوسعنا أن نشعر بدوران كوكبنا بمجرد النظر صوب الضوء. هنا، وعلى مساحة متر مربَّع واحد — فوق بضع رُقَع كِلسية صلبة ناتئة من التربة في أحد الحقول على أطراف منطقة نيوماركت هيث — كان بإمكان المرء أن يشعر بحركة الأرض. إنها حركةٌ عادية وطبيعية ومستمرة ودءوبة؛ فلكل كائن حي سُرعتُه التي يحيا بها، لكن كم كانت الحياة لِتَختلف لو كنا نشعر بدوران عالَمنا على هذا النحو على مدار كل يوم.
كان ثَمة أزهار ثلج على جانب الطريق. بَدَت كلُّ واحدة منها كحبَّة بَرَد تجمَّدت على نَصلِ ساقٍ من العشب. غرَّد طائرُ صَعوٍ من خندق يُغطِّيه الصقيع، فكان بمثابة فِرقة عَزْف متنقلة من عازفٍ واحد. وبَدَت الغِربانُ الواقفة على الأشجار العارية كالحُمْلان السوداء في الهواء الرمادي. واستيقظت الأرانبُ البَريَّة في الحقول البُنية واشرأبَّت بأُذنَيها لأعلى. لم يكن في جَعبة تلك الدقيقة الإضافية من ضوء النهار ما تُريني إياه أكثر مما كان موجودًا بالفعل، غير أنها سمحت لي برؤيته لدقيقةٍ أخرى. يسقط مزيدٌ من الضوء، ولكن كل شيء يبدأ من جديد. اليوم، لم يكن ثَمة ما يُرى سوى ذلك، لكن كان لديَّ دقيقة إضافية لأراه فيها.
إذا اعتبرنا أنَّ الربيع يمتدُّ من منتصف الشتاء إلى منتصف الصيف، فإنَّ ذلك يَعدِل ١٨٣ يومًا من العام. تقريبًا. فالتاريخ المحدَّد للانقلابَين الشمسيَّين يتغيَّر قليلًا؛ تلك الدورة التي لا تتكرَّر بحذافيرها، أو بالأحرى التي لا تتوافق تمامًا مع تقويمنا الذي اخترعناه، هي أحد الاختلالات الجيدة أو المحمودة لعالَمنا، هي حبَّة الرمل التي تخترق محارتنا فتكوِّن فيها اللؤلؤة. ونحن إذ يُجانبنا الصوابُ قليلًا في تصوُّرنا لهذا العالَم — عدم الاتساق الموجود في تقويمنا — إنما نمثِّل بذلك نسخةً من كوكبنا الذي يميل حول محوره ليصنع الفصول. ذلك الخطأ المتفاوِت يُضفي شيئًا من الصَّخَب والحيوية على كلِّ عام. فكلُّ أربع سنوات نُضطرُّ إلى زيادة يوم في السنة الكبيسة. ومن ثَم فإننا نشعر بأن رحلتنا تناظرية، وكأنما نقود سيارةً تعمل بعُلبة تُروس يدوية لا بناقِل حركة تلقائي. وهذا أمرٌ جيد أيضًا.
في الأيام الباردة، يَهرُب الدم من أحد أصابع يدي اليسرى فيَشحبُ لونه وأَفقدُ الإحساس به. يبدو مثل دَرَنة لَدْنة، شيء مكشوف لم يرَ الشمس قط، إصبع رجل ميت أو جزرة بيضاء. وأنا في طريقي هذا الصباح، انفكَّ رِباط إحدى فردتَي حذائي فاضطُررتُ إلى أن أخلع قفَّازي وأجثو على ركبتي فوق الأرض الباردة. وإذا بإصبعي يشبه غُصينًا عديمَ النفع، لا دماءَ فيه. فكَّرتُ في أن أدسَّه في التربة، أن أزرع ذلك الإصبع الميت في الظلام، أن أدفعه تحت الرُّفات الكِلْسية الباردة على السطح حتى أوصله إلى السماد العضوي الأكثر دفئًا ورطوبة الذي يتكوَّن في التربة خلال فترة خمولها. هل يمكن أن أُنبتَ في الآلة اليانعة لتربة الربيع يدًا حيَّة لعامٍ آخر؟
التفتُّ صوبَ المنزل ومشيتُ عائدًا من الأرض التي تُضيئها الشمسُ إلى حيِّز الظل الذي لا يزال متجمِّدًا. على قمة شجرة مُران، وقفَ طائرُ سُمنة دبق يُغرِّد؛ كان ذَكرًا يُعلِن عن نفسه وعن حدوده المكانية. جعلَ جثومُه وتغريده الشجرةَ العارية أسفلَ منه تبدو وكأنها رئةٌ مكشوفة. كانت أغرودته بمثابة موسيقى صيغَت من أشياء قديمة باردة. لو أن بوسع مِصفاة الطبخ أن تغني، لأشْبهَ غناؤها تغريدَ سُمْنة الدبق: ضوء بارد وهواء بارد وماء بارد يمرُّ عبر فولاذ بارد مطروق.
إنها بلا شكٍّ موسيقى شتوية، لكن ما بإمكانك أن تسمعه حقًّا في أغرودة سُمْنة الدبق هو المستقبل. فهي تمتلئ إصرارًا. منذ نوفمبر، قبل الانقلاب الشمسي الحالي، وقبل أن تحُل أبرد الليالي وأقصر فترات النهار بوقتٍ طويل، يتحرَّك هذا الطائر المغرِّد هو وكلُّ ما صَنعه نحو ما سيكون، نحو الغَد، نحو الربيع.
اخرج وجِدْ طائرًا منها: أصْغِ إلى تغريد سُمنة دبق في أقصر نهار بالعام وستَختبر شعورَ إهداءِ غصنٍ ذهبي — تذكار للحياة الدائمة التجدُّد — إلى أولئك الذين يَفصلون في شئون الموت والبعث في عالَم الشتاء السفلي، وستعرف أيضًا كيف أنَّ واحدة من أولئك هي برسيفوني، التي كان وجودها منقسِمًا بين الأرض والعالَم السفلي، لها مهمة سعيدة وأخرى تعيسة؛ فقد كانت حارسة الموتى ولكنها كانت أيضًا صانعة الربيع، الفصل الذي لم يأتِ بعدُ ونظلُّ في ترقُّب دائم لقدومه، لكنه دائمًا ما يأتي — كما نأمُل، بفضلها — لا محالة.
•••
٥ يناير. طقسٌ معتدل. كان لبقايا حلوى بودنج عيد الميلاد السوداء القاتمة بضعةُ مُريدين على مائدة الطيور. طار قرقفٌ أزرق إلى شجيرة الفُرسيثيا المجاورة للباب الخلفي وقضمَ منها زهرةً صفراء جديدة وأمسكَها بقدمَيه. مالَ الطائر الصغير نحو موضع البتر الذي صنعَه وارتشفَ رَشفةً من الرحيق. ثم أرخى قدمَيه فسقطت الزهرة الصفراء الشاحبة التي تشبه البُوق وهي تدور على رقعة العشب الهزيلة. استقرَّ رأس الزهرة المقطوع بجوار زعفرانة بنفسجية اللون تداعت وقد انبسطت بَتلاتها على العشب القصير الشاحب كعقارب ساعة معطوبة. ها قد هلكت بالفعل قبل أن أراها منتصبة، وماتت قبل أن يحل أجملُ وقتٍ في العام، مُخبِرًا بأوانه.
ظهَر ذبابٌ صغير يُشبِه البَرغَش في منتصف النهار فوق ميدان المعركة. كانت درجة الحرارة عشر درجات مئوية.
بويون
٦ يناير. تقع بلدة بويون الكائنة في جنوب بلجيكا في منعطَفٍ حادٍّ في نهر سيموا. في الوقت الحاضر، كانت المياه تتدفق بُنيةً وثقيلة، وكانت البلدة القديمة محصورة في منعطَف النهر مثل حلزونٍ مُتقوقِع بإحكام في قوقعته الدبقة. في سديم الشتاء المُشبَّع ببخار الماء المُخيِّم عليها، سِرتُ في شوارعها برفقة باتريك ماكينيس، الشاعر الذي يكتب عن طفولته هناك، وعن ارتداد أثرها المشوب بالرطوبة خلال حياته. وبما أنَّ تلك الليلة كانت توافق الليلة الثانية عشرة بعد عيد الميلاد (عيد الظهور الإلهي) أو اليوم الذي يليها، أخذنا عتادنا من الكعك والمِزر: جِعَة «أورفال»، المصنوعة بيد رُهبان الترابيست على بُعد ثلاثين كيلومترًا، التي جاءت دون أن تَلفت الأنظار في زجاجاتٍ بُنيَّة لها شكلٌ رشيق يُشبِه ثعلبَ البحر، وعليها مُلصقٌ مرسومٌ عليه سمكةٌ مُتلوية، و«كعكة الملك» وهي كعكة لوز موسمية ضخمة، يُفترَض أنه كانت سيجري تقطيعها وتشاركها في البيت، لكننا التَهمنا حفناتٍ منها في طريقنا كي نتقوَّى بها على المُضي قُدُمًا. جرَت العادة أن يُوضَع بداخل كل كعكة تمثالٌ صغير لجِنِّي أو تميمةٌ لجلب الحظ ترقُّبًا للعام المقبِل. ولكني رحتُ ألتهمُ الكعكة دون أن أدري ماهيَّتها غير مكترث بما فيها.
سِرنا في بويون، التي أسماها باتريك في قصيدة بلجيكية «سيمفونية باللون الرمادي القاتم». تمازجت غِدفانٌ، تفكِّر في الإيواء إلى أعشاشها منذ منتصف النهار فصاعدًا، فوق القلعة الناتئة، فكانت مثل الدخان المتصاعد من قطعةِ فحم مشتعلة ابتلَّت بالماء. لم يكن لها قائد، فلم يلتفت أيٌّ منها إلا لنفسه، حتى مرَّ أعلاها بمسافة كبيرة غرابٌ أسحَمُ اخترقَ نعيقُه حاجزَ الصوت. استثار هذا الأمر ضحكاتِ بعض طيور القِيق الواقفة على أشجار الزان العارية عند منعطف النهر. لم يتحرَّك شيءٌ غيرها، عدا الماء. ولم يغرِّد شيءٌ سواها. كانت لفيفاتٌ من براز الكلاب ترصِّع المَرسى الخاوي كرَحوياتٍ من الحديد الصَّدِئ. بينما كنا نتحاشاها، لمحتُ كتلةً عائمة من شيءٍ بغيض كثيف الوبر يطفو في النهر. كان معي مِنظاري المُقرِّب (كعادتي دومًا)، فرأيتُ نابًا من العاج القذِر يُحرِّك الدفَّة. كان خنزيرًا بريًّا. يمرُّ نهر السيموا عبر منطقة كثيفة الغابات في أعالي منطقة الأردين، وأثناء مروره يُضطرُّ لأن يُقِلَّ معه ركَّابه. ها هو ذا الشيءُ الأضخم والأكثر اكتظاظًا الذي وقعَت عليه عينانا طوال اليوم؛ بدا مثلَ ثمرة جوز هند صامدة، عاقدة العزم على المُضي قُدمًا، لونها أصفر كالبول وبُنيٌّ كالغائط، مع أنه ميتٌ بلا ريب ورأسه شبه متعفِّن. ربما أخطأ الماء الذي يُطابق لون فرائه المُوحِل فغرقَ عند نقطةٍ في أعالي النهر، مع أنه يصعب تخيُّل أن يَلقى خنزيرٌ برِّي مَصرعَه بتلك الطريقة، أو ربما لقيَ حتفه على الشاطئ وتدحرج بطريقةٍ ما لِيَسقط في مجرى النهر، لكن أي سيل جارف أو مدٍّ ذلك الذي يستطيع حملَ خنزير كهذا؟ شهقنا في ذهول حين رأيناه. ثم مضى كشيءٍ دفقَ في ماء المرحاض، مثل نعش زَرِي، أو قُندُس رديء، أو غائط أَوبَر، أو طَوْف «كون تيكي» مهجور، أو مُذنَّب مكسو بالفراء. سَلَكَ منعطَفَ بويون بانحناءةٍ طائشة وكأنه درَّاجة بخارية عتيقة ملحقة بها عربة جانبية تسيرُ بأقصى سرعتها، مُتمرغًا في طُفاحته، ويدور دائمًا في دوامةٍ صنعها هو، كاسحًا بقايا وبرِه، يفعل كل ذلك في صمتٍ تام طيلةَ الوقت، ومتحرِّرًا من كل القيود بينما كانت أعشاش الطيور وأكياس التسوق والحثالة الميتة الطافية تتَّجه نحوه وتتطفَّل عليه بركوبٍ مجاني. ربما بدا أورفيوس بتلك الهيئة الرثة الشديدة الفوضى — حسبما تقول الأسطورة — بعدما زالت عنه جاذبيته، وفشلَ في إنقاذ زوجته، وتجاوز بشعره الآفاقَ، فراحَ يجوبُ النهر بغنائه المتواصل، مُغادِرًا أوروبا. وخرجَ لنا في صورة خنزير برِّي.