مغامرة نظَّارة الأنف الذهبية
أعترف أنني حين أنظر إلى مجلَّدات المخطوطات الثلاثة الضخمة التي تضَمُّ أعمالنا في عام ١٨٩٤، أجِد صعوبةً بالغة في أن أختار مِن هذه المادة الغَنيَّة قضايا تكون مُثيرةً في حدِّ ذاتها، وفي الوقت نفسه تُعبِّر أصدقَ تعبيرٍ عن القُدراتِ الخاصة التي اشتُهر بها صديقي. وبينما أُقلِّب الصفحات أجِدُ ملاحظاتي على قصة العَلَقة الحمراء الكريهة وقصة وفاة كروسبي المصرفيِّ المُريعة. وأجد أيضًا ذكرًا لمأساة أديلتون ومحتويات التلِّ الجنائزي البريطاني الأثري الفريدة. جاءت قضية تقسيم الإرث بين سميث ومورتيمير خلال هذه الفترة أيضًا، وكذلك واقعة تعقُّب أوريه، قاتل البوليفار، والقبض عليه — وهي بطولة فاز هولمز من ورائها بخطاب شُكرٍ بخطِّ يد الرئيس الفرنسي ووسام جوقة الشرف. كلُّ واحدةٍ من هذه الوقائع تكفي لبناء قصة، لكنني لا أرى أيَّ واحدةٍ منها جمعت عناصر التشويق الفريدة التي اجتمعت في واقعة يوكسلي أولد بليس، التي لم تشمل وفاة الشاب ويلوبي سميث المؤسفة فحسب، وإنما ما تَبِعَ ذلك من تطوُّراتٍ ألقَت بظلالٍ مُثيرة للاهتمام حول دوافع الجريمة.
ذات ليلةٍ من ليالي أواخر نوفمبر هائجة العواصف، كنت أنا وهولمز جالِسَين في صمتٍ طوال المساء، حيث انكبَّ هو على فكِّ شفرة ما تبقَّى من نقوشٍ أصلية على أحد الرُّقوق الممسوحة مُستخدِمًا عدسةً قوية، بينما انهمَكتُ أنا في قراءة بحثٍ حديث حول الجراحة. وفي الخارج أخذت الرياح تَصفِر في شارع بيكر، والأمطار تَطرُق النوافذ بعُنف. وممَّا بعث على التعجُّب، الشعور بقبضة الطبيعة الفولاذية في أعماق المدينة، بينما تَمتدُّ صنائع البَشَر من حولنا على طول عشرة أميالٍ على الجانبَين، وأن تُدرِك أن لندن بأَسرها لا تعدو أن تكون مُجرَّد أكوام ترابٍ مُتناثِرة في الحقول في مواجهة قوى الطبيعة البدائية الهائلة. حين سِرتُ إلى النافذة وألقيتُ نظرةً على الشارع الخالي، رأيتُ انعكاس أشعَّة المصابيح المُتقطِّعة على الطريق المُوحِل والرصيف اللامع. وكان ثمَّةَ عربة أجرة وحيدة تخوض طريقها وسط المياه آتيةً من نهاية شارع أوكسفورد.
قال هولمز، وهو يضع عدسته جانبًا ويَلفُّ الرَّقَّ الممسوح: «حسنًا يا واطسون، إنه لَمِن حُسن الحظ أننا لسنا بحاجةٍ للخروج الليلة. يَكفيني ما تكبَّدتُ من مشقَّةٍ في هذه الجلسة وحدها. يا له من عملٍ مُجهِدٍ للعينَين! وحسبَ ما استطعتُ قراءته، إنها ليست إلا حسابات لأحد الأدْيِرَة التي تعود إلى النصف الثاني من القرن الخامس عشر. مهلًا! مهلًا! مهلًا! ما هذا؟»
وسط هزيز الريح سمعنا وقْعَ حوافر خيلٍ وصريرَ عجلةٍ طويلًا حين احتكَّتْ بحافَةِ الرصيف، فقد توقَّفتْ عربة الأجرة التي رأيتُها عند باب منزلنا.
حين رأيتُ رجُلًا يخرج منها فصِحت: «ما الذي قد يُريده؟»
قال هولمز: «يريد! إنه يريدنا. ونحن يا عزيزي المسكين واطسون بحاجةٍ لمَعاطِف ورابطات عُنقٍ وأحذيةٍ مطاطية لنَرتديَها فوق الأحذية العادية، وكل المَدَد الذي اخترعه الإنسان لمقاومة أحوال الطقس. ومع ذلك انتظر قليلًا! ها قد غادَرَت عربة الأجرة مرةً أخرى! فما زال الأمل موجودًا. لو كان يُريدنا أن نذهب لَبَقِيَ عليها. انزل سريعًا يا صديقي العزيز، وافتح الباب، فقد خَلَد كلُّ أهل الدار الكرام إلى الفراش منذ وقتٍ طويل.»
لم أجد صعوبةً في التعرُّف على زائر مُنتصَفِ الليل حين سقط ضوء مصباح البَهْو على وجهه. إنه الشاب ستانلي هوبكنز، أحد المُفتِّشين الواعِدين، الذي أبدى هولمز اهتمامًا فعليًّا شديدًا بمَسيرته المِهنيَّة عدَّةَ مرات.
سألني هوبكنز بتلهُّف: «هل هو بالداخل؟»
جاء صوت هولمز من الدور العُلويِّ قائلًا: «اصعَد يا سيِّدي العزيز. أرجو ألا تكون حاملًا لنا خُططًا في مثل هذه الليلة.»
ارتقى المفتش الدَّرَج وسطع ضوء المصباح على مِعطَفه اللامع الواقي من المطر، الذي ساعدتُه على خلعِه بينما أشعل هولمز الحطب في مِصبَع المِدفأة.
قال هولمز: «والآن يا عزيزي هوبكنز، فلتقترِب حتى تُدفِئ أصابع قدمَيك. وتفضل هذا السيجار لتُدخِّنه بينما يُعدُّ لك الطبيب وصفةً تحتوي على ماءٍ ساخن وليمونة؛ فهذا دواء مُناسب في مثل هذه الليلة. لا بدَّ أن شيئًا مُهمًّا هو الذي أحضرك إلينا في مثل هذه العاصفة.»
«بالتأكيد يا سيد هولمز؛ فقد شهِدتُ صخبًا في فترة ما بعد الظهيرة حقًّا! هل قرأتَ شيئًا عن قضية يوكسلي في الطبعات الأخيرة؟»
«لم أرَ اليوم شيئًا أحدَثَ من القرن الخامس عشر.»
«حسنًا، لقد كانت فقرةً فحسب، وكانت خطأ تمامًا؛ لذا فلم يَفُتْكَ شيء. لكنني لم أتوانَ. لقد وقعَت الحادثة جنوبًا في كِنت، على بُعد سبعة أميالٍ من مدينة تشاتام وثلاثة أميالٍ من خطِّ السكك الحديدية. وصلتني برقيَّةٌ بالأمر في الثالثة والربع، فوصلتُ إلى يوكسلي أولد بليس في الخامسة، وأجريتُ تحرِّياتي ثم عدتُ إلى محطة تشارينج كروس في آخر قطار، ومن هناك استقللتُ عربة أجرة إليك مُباشَرةً.»
«أعتقد أن هذا معناه أن القضية مُلتبِسة عليك.»
«هذا معناه أنني لا أستطيع الوقوف على تفاصيلها. فهي من أعقد القضايا التي تناولتُها حسبما أرى حتى الآن، ورغم ذلك فقد بدَتْ لأول وهلةٍ في غاية البساطة، حتى إنه لا مجال للإخفاق فيها. لا يُوجد دافع يا سيد هولمز — وهذا ما يُزعِجني — فلا أستطيع أن أضع يدي على الدافع. لقد قضى رجل نَحْبَه — لا مجال لإنكار ذلك — لكن حسبما أرى، لا يُوجَد سبب على وجه الأرض يدفع أحدًا لإلحاق الأذى به.»
أشعل هولمز سيجاره واتَّكأ إلى الخَلْف في مِقعده.
ثم قال: «حَدِّثنا عن القضية.»
قال ستانلي هوبكنز: «تُوجَد لديَّ كافَّة الحقائق واضحة. كل ما أريده الآن هو أن أعرف ما تعنيه. سأحكي لك القصة التي استطعتُ استخلاصها حتى الآن: منذ عدَّة سنواتٍ استحوذ رجل مُسِنٌّ يُدعى البروفيسور كورام على هذا المنزل الريفي، يوكسلي أولد بليس. كان مُعتلَّ الصحة يُلازِم الفراش نصفَ الوقت، وفي النصف الآخر إما يسير بصعوبةٍ في أرجاء المنزل مُتَّكئًا على عصًا أو يدفعه البُستانيُّ على كرسيٍّ بعَجَل في أرجاء المكان. وهو يتمتع بِحُبِّ العدد القليل من الجيران الذين يَزورونه، ويُذاع عنه في الجِوار أنه رجل واسع الثقافة. وقد اقتصر سكان منزله على مُدبِّرة منزل مُسِنَّة، السيدة ماركر، وخادمة تُدعى سوزان تارلتون. عَمِلت الاثنتان معه منذ مجيئه إلى المنزل، ويبدو أن كِلتَيهما على خُلق. ولمَّا كان هذا البروفيسور قد عكَفَ منذ عامٍ على تأليف كتابٍ تَثقيفيٍّ لِذا رأى من الضروري الاستعانة بسكرتير. لم يُحالِفه التوفيق في أول اختيارَين، أما الاختيار الثالث، السيد ويلوبي سميث، وهو شاب حديث التخرُّج، فيبدو أنه كان يتمتَّع بما يُريده ربُّ العمل من مواصفات. تَمثَّل عمله في كتابة ما يُمليه عليه البروفيسور طوال الصباح، وكان يُمضي المساء في البحث عن مراجِعَ وفِقراتٍ مُرتبطة بعمل اليوم التالي. لا يُوجَد ما يَشين هذا المدعو ويلوبي سميث، سواءٌ حين كان صبيًّا في أبنجهام أو شابًّا في كامبريدج. لقد اطَّلعتُ على شهاداته فوجدتُ أنه كان منذ البداية شخصًا مُحترَمًا وهادئًا ومُثابرًا، لا تَشوبه شائبة على الإطلاق. ورغم ذلك فهذا هو الشابُّ الذي لقِيَ حتفَه هذا الصباح في مكتب البروفيسور، في مُلابساتٍ لا تُشير إلا إلى جريمة قتل.»
عصفت الريح وأصدرَت صرصرةً خارج النوافذ، فاقتربتُ أنا وهولمز من المِدفأة بينما كان المُفتِّش الشابُّ يتقدَّم وئيدًا وخطوةً خطوةً في قِصَّته الفريدة.
قال: «لو بحثتُ في إنجلترا بأكملها فلن تَجِدَ منزلًا يفوق هذا المنزل في التحفُّظ والخلوِّ من المؤثِّرات الخارجية. فقد تمَرُّ أسابيع دون أن يَجتاز أحد منهم بوابة الحديقة. أما البروفيسور فقد كان مُنهمِكًا في عمله ولا يشغله شيء آخر. لم يكن الشاب سميث يعرف أحدًا في الحي؛ فقد عاش على غِرار ربِّ عمله. لم تكن تُوجَد وسيلة لتنقُّل السيدتين من المنزل. والبُستاني مورتيمير، الذي يدفع الكرسيَّ ذا العجل، جنديٌّ مُتقاعد من الجيش — وهو رجل عجوز فاضل ممَّن شاركوا في حرب القِرم — لا يعيش في المنزل، وإنما في كوخٍ من ثلاث حُجُراتٍ في الجهة الأخرى من الحديقة. لن تجِدَ سوى هؤلاء الأفراد داخل منزل يوكسلي أولد بليس. وفي الوقت نفسه تقَعُ بوابة الحديقة على بُعد مائة ياردةٍ من الطريق الرئيسي بين لندن وتشاتام. وهي تُفتح بمِزلاج، ولا يُوجَد ما يُعِيق أيَّ أحدٍ من الدخول.
سأعطيك الآن شهادة سوزان تارلتون، وهي الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يُعطيَ قولًا جازِمًا في هذه المسألة. وقع الأمر وقت الضُّحى، بين الساعة الحادية عشرة والثانية عشرة. وكانت هي مشغولةً في ذلك الوقت بتعليق بعض الستائر في حجرة النوم الأمامية في الطابق العلوي. أما البروفيسور كورام فكان في فراشِه؛ فهو نادِرًا ما يَستَيقِظ قبل الظهيرة حين يكون الطقس سيِّئًا. كذلك كانت مُدبِّرة المنزل مشغولةً في بعض الأعمال في الجزء الخلفيِّ من المنزل. أما ويلوبي سميث فقد كان في حجرته التي يَستخدمها كحُجرة جلوس، لكن الخادمة سَمِعتْه في تلك اللحظة وهو يَعبُر الممرَّ وينزل إلى حُجرة المكتب التي تقع في الطابق أسفلها مُباشرةً. هي لم ترَه، لكنَّها تقول إنها لا يُمكِن أن يَختلِط عليها وقْعُ أقدامه السريعة الثابتة. لم تَسمع صوت باب المكتب وهو يُغلَق، لكن بعد دقيقةٍ من ذلك تقريبًا دوَتْ صرخةٌ مُريعة في الغرفة السُّفلية. كانت صرخةً خَشِنة ومَبحوحة وغريبةً وغير طبيعية، حتى إنه لَيتعذَّر القول ما إن كانت صادرةً عن رجلٍ أم امرأة. وفي نفس الوقت، ارتطم شيء ثقيل بالأرض اهتزَّ له هذا المنزل القديم، ثم سادَ صمتٌ مُطبِق. ظلَّت الخادمة مُتجمِّدةً من الفزع للحظة، ثم استجمعت شجاعتها وهُرِعت إلى الطابق السفلي. كان باب غرفة المكتب مُغلقًا ففتحَته. وحين دخلَت وجدَت السيد الشاب ويلوبي سميث مُمَدَّدًا على الأرض. في البداية لم تَستَطِع أن ترى به إصابة، لكن حين حاولَت رفعه عن الأرض رأت الدماء تَدفَّقُ من أسفل عُنقه. كان عُنقه مطعونًا وبه جُرح صغير جدًّا لكنه شديد العُمق حتى إنه قطَعَ الشَّريان السُّباتي. وجدَت الأداة التي استُخدِمت في إحداث الإصابة مُلقاةً بجانبه على السجادة. كانت إحدى تلك السكاكين الصغيرة المُستخدَمة في فتح شمع الأختام التي تُوجَد على مناضِد الكتابة القديمة الطراز، وكانت ذات مِقبَضٍ عاجِيٍّ وشفرةٍ قاسية. كانت إحدى الأدوات المكتبية الموجودة ضمن أدوات مكتب البروفيسور.
ظنَّت الخادمة أول الأمر أن الشاب سميث ميِّتٌ بالفعل، لكن حين سكبَت بعض الماء من إبريقٍ زجاجيٍّ فوق جبهته فتح عينيه للحظة، وتَمتمَ قائلًا: «البروفيسور، لقد كانت هي.» والخادمة على استعدادٍ لأن تُقسِم بأن تلك كانت الكلمات التي نطق بها بالضبط. حاول بِجدٍّ أن يقول شيئًا آخر، ورفع يده اليمنى في الهواء، ثم خرَّ صريعًا.
في الوقت نفسه جاءت مُدبِّرة المنزل هي الأخرى إلى موقع الحادث، لكن بعد فوات الأوان فلم تستمع إلى الكلمات التي تلفَّظَ بها الشاب وهو يُحتضَر. تركت سوزان مع الجُثَّة وهُرعَت إلى حُجرة البروفيسور، فوجدَته جالسًا في الفراش في اضطرابٍ فظيع؛ حيث كان ما انتهى إلى سَمعِه قد أقنَعَه بوقوع مكروهٍ ما. والسيدة ماركر على استعداد لأن تُقسِم بأن البروفيسور كان لا يزال مُرتدِيًا ملابس النوم. وفي الواقع كان من المُستحيل له أن يَرتديَ ملابسه دون مُساعدة مورتيمير، الذي كانت لدَيهِ أوامر بأن يأتي إليه في الساعة الثانية عشرة. قال البروفيسور إنه سمِع صرخةً قادمة من بعيد، وهذا جلُّ ما يَعرفه. ولا يُوجَد لديه تفسير لكلمات الشاب الأخيرة: «البروفيسور، لقد كانت هي!» ولكنه يعتقد أنها كانت ناتجةً عن الهَذَيان؛ فهو يرى أن ويلوبي سميث ليس له أعداء في الحياة، ولا يستطيع أن يُعطيَ مُبرِّرًا للجريمة. وكان أول إجراء يُقدِم عليه أن أرسل البُستاني مورتيمير لاستدعاء الشرطة المحليَّة. وبعد ذلك بقليلٍ استدعاني قائد الشرطة، ولم يتمَّ تحريكُ أيِّ شيء عن مَوضعه قبل أن أصِل إلى هناك، وصدَرَت أوامر صارمة بألا يسير أحد في الطرق المؤدِّية إلى المنزل. كانت فرصةً رائعة لتطبيق نظرياتك يا سيد شيرلوك هولمز. في الواقع لم يكن يَنقُصُني أيُّ شيء.»
قال صديقي بابتسامةٍ ساخرة: «ما عدا السيد شيرلوك هولمز. حسنًا، فلتُحدِّثنا عن نظريتك. ما الذي استنتَجتَه مِن كل هذا؟»
قال: «أولًا لا بدَّ أن أطلب منك يا سيد هولمز أن تُلقي نظرةً على هذه الخريطة التقريبية التي ستُعطيك فكرةً عامة عن موقع غرفة مكتب البروفيسور والنِّقاط المُختلفة في القضية. فهي ستُساعِدك في مُتابَعة تحرِّياتي.»
ثم فرد الخريطة التقريبية، التي رسمتُ ما يُشبِهها هنا، ووضعَها فوق رُكبَتَي هولمز. نهضتُ ووقفتُ خلفَ هولمز وأخذتُ أتفحَّصها من فوق مَنكِبَي هولمز.
«إنها تقريبية فحسب بالطبع، ولا تحتوي إلا على النقاط التي تبدو لي ضرورية، أما الباقي فسَتراه لاحِقًا بنفسك. والآن، لنَفترِض أولًا أنَّ الجاني دخل المنزل، فكيف دخل أو دخلت؟ لا شكَّ أنه عن طريق مَمشى الحديقة والباب الخلفي، اللذَين يُؤدِّيان مباشرةً إلى غرفة المكتب؛ فأيُّ طريقٍ آخر كان سيُصبح شديد التعقيد. ولا بدَّ أن الهروب حدَثَ عبر هذا الطريق أيضًا؛ فالمَخرجان الآخران من الحُجرة كان أحدهما تَعترِضُه سوزان حين ركضتْ هابطةً الدَّرَج، والآخر يُؤدِّي إلى مَخدَع البروفيسور مباشرةً؛ لذا وجَّهتُ اهتمامي في الحال إلى مَمشى الحديقة الذي كان مُتشبِّعًا بمياه الأمطار التي هطلَت حديثًا، ومن ثَمَّ قد تظهر عليه أيُّ آثار أقدام.
أوضحَت لي المُعاينات أنني أتعامَل مع مُجرمٍ حَذِرٍ ومُحنَّك. فلم أجد آثار أقدامٍ في الممشى. رغم ذلك لا يُوجَد مجالٌ للشكِّ في أن أحدًا ما قد مرَّ على شريط الحشائش الذي يَحدُّ الممشى، وأنه فعل ذلك لتَفادي تركِ أثر. لم أستطع أن أجد أيَّ شيءٍ على سبيل الأثر الواضح، لكن بدا أن شخصًا ما وطئ الحشائش وعبَر عليها بكلِّ تأكيد. ولا بدَّ أنه القاتل؛ فالمكان خلا من الجميع بمن فيهم البُستاني ذلك الصباح، والأمطار لم تبدأ في الهطول إلا ليلًا.»
قال هولمز: «لحظة واحدة. إلى أين يؤدِّي هذا الممشى؟»
«إلى الطريق.»
«كم يبلغ طوله؟»
«نحو مائة ياردة.»
«لا بدَّ أن تكون قد وجدتَ آثار أقدامٍ في الجزء الذي يمرُّ فيه الممشى عبر البوابة. أليس كذلك؟»
«للأسف، هذا الجزء من الممشى كان مُغطًّى بالقرميد.»
«حسنًا، ماذا عن الطريق نفسه؟»
«لا؛ لقد تحوَّل إلى مُستنقَع.»
«وا أسفاه! حسنًا، تلك الآثار التي على الحشائش هل كانت مُقبِلةً أم مُدبِرة؟»
«استحالت معرفة ذلك؛ فلم تُوجَد أبدًا آثار مُحدَّدة.»
«هل كانت الأقدام كبيرةً أم صغيرة؟»
«لم يُمكِن تحديد ذلك.»
صدرت عن هولمز صيحةٌ دلَّتْ على نفاد صبره.
قال: «لا تزال الأمطار تنهَمِر والإعصار يَضرِب منذ ذلك الحين. وهكذا سيُصبِح الآن من الأصعب معرفة هذا أكثر من قراءة هذا الرَّق. حسنًا، حسنًا، لا حِيلةَ لنا في الأمر. وماذا فعلت يا هوبكنز بعد أن تأكدتَ أنك غير مُتأكدٍ من أيِّ شيء؟»
«أعتقد أنني تأكَّدتُ من أشياء كثيرةٍ يا سيد هولمز. فقد عرفتُ أن أحدًا ما قد دخل المنزل بحذَرٍ من الخارج، ثم تفحَّصتُ الدهليز، فوجدتُه مفروشًا بحصيرٍ مصنوع من ألياف جوز الهند ولم تَظهَر عليه آثار من أي نوع؛ مما أخذَني إلى حُجرة المكتب نفسها، التي وجدتُها قليلة الأثاث. وكانت القِطعة الأساسية فيها هي مِنضدة كتابةٍ كبيرة ذات صوانٍ ثابت. يتكوَّن هذا الصوان من صفَّيْن من الأدراج يتوسَّطهما خزانة صغيرة. كانت الأدراج مفتوحةً والخزانة مُوصدة. ويبدو أن الأدراج كانت تُترَك مفتوحةً دائمًا، فلم يكن يُوجَد فيها شيء ذو قِيمة. وكان ثمَّةَ بعض الأوراق المُهمَّة في الخزانة، لكن لم يبدُ أن أحدًا قد عبَثَ بها. ويؤكد لي البروفيسور أنه لم يَفقِد شيئًا؛ فمِن المؤكَّد أنه لم تقع حادثة سرقة.
سأنتقِل الآن إلى الحديث عن جُثَّة هذا الشاب: لقد عُثر عليها بالقُرب من الصوان، على يساره مباشرةً، كما حدَّدتُ في هذا الرسم. سُدِّدَت الطعنة إلى الجانب الأيمن من العُنق ومن الخلف إلى الأمام؛ لذا فمن المستحيل أن يكون هو مَن ألحقها بنفسه.»
قال هولمز: «إلا إن كان سقط على السكين.»
قال هوبكنز: «بالضبط. فقد طرأتْ هذه الفكرة على بالي، لكنَّنا وجدْنا السكين على بُعد عدَّة أقدامٍ من الجثة؛ لذا يبدو هذا مُستحيلًا. ثم تبقى أمامنا كلمات الشاب في أثناء احتضاره. وأخيرًا، لدينا ذلك الدليل الشديد الأهمية الذي وجدْنا القتيل قابضًا عليه بيده اليُمنى.»
أخرج ستانلي هوبكنز من جيبه كيسًا ورقيًّا صغيرًا، ثم فتَحه وأخرج نظَّارةً أنفيَّة ذهبية، يتدلَّى منها شريطٌ من الحرير الأسود مقطوع من أحد طرفَيه. وأضاف قائلًا: «كان ويلوبي يتمتَّع ببَصرٍ حاد. فلا شكَّ في أن هذه النظَّارة نُزعت من وجه القاتل أو جسمه.»
تناول شيرلوك هولمز النظَّارة بيده وتفحَّصها بأقصى درجات الانتباه والاهتمام، ثم وضعها على أنفه، وحاول أن يقرأ بها، ثم ذهب إلى النافذة وحدَّق في الشارع بها، وأمْعَن النظر فيها تحت الضوء الكاشف للمصباح، وأخيرًا جلس إلى المِنضدة وهو يَضحك ضحكةً خافِتة وكتب عدَّةَ سطورٍ على ورقة، ثم رماها إلى ستانلي هوبكنز.
قال هولمز: «هذا أقصى ما أستطيع أن أفعلَه من أجلك. ربما تأتي منه فائدة.»
المطلوب: امرأة ذات أسلوب مُهذَّبٍ وترتدي ملابس سيدة راقية. لديها أنفٌ عريض بدرجةٍ ملحوظة، وعيناها تَقترِب إحداهما من الأخرى على كِلا جانبَيه. ولديها جبهةٌ مُجعَّدة، ونظرة مُحدِّقة، وربما مَنكِبان مُستديران. تشير الدلائل إلى أنها لجأتْ إلى صانع النظَّارات مرَّتَين على الأقلِّ خلال الشهور القليلة الماضية. ولن تتأتَّى صعوبةٌ في مُلاحقتها؛ لما كانت نظارتها ذات مَتانةٍ مُميَّزة ولعدم كثرة صانعي النظارات.
ابتسم هولمز لدهشة هوبكنز، التي لا بدَّ أنها انعكستْ على ملامحه.
قال هولمز: «لا شكَّ في أن استنتاجاتي بسيطة للغاية. فمن العسير ذِكر أيِّ شيءٍ آخر يُمكنه أن يُعطينا مجالًا أدقَّ للاستدلال على الفاعل من النظارة، خاصةً مع نظَّارةٍ مُميَّزة كهذه. أُخمِّن أنها خاصة بامرأةٍ من رِقَّتِها، وكذلك بالطبع من الكلمات الأخيرة للرجل عند احتضاره. أما بالنسبة لكونها شخصيَّةً راقية وأنيقة المظهر، فالنظارة كما ترى ذات إطارٍ أنيق من الذهب الصافي، وليس من المعقول أن يكون الشخص الذي يَرتديها حقيرًا في نواحٍ أخرى. وستجد أن الماسكات واسعة جدًّا على أنفك، مما يدلُّ على أن أنفَ السيدة عريضٌ للغاية عند طرفها. عادةً ما تكون هذه الأنوف قصيرةً وغليظة، لكن هناك عدَدٌ كافٍ من الاستثناءات يمنَعُني من أن أكون جازمًا أو مُصرًّا على هذه النقطة من الوصف. وعلى الرغم من أن وجهي رفيع فإنني أجدُ صعوبةً في أن أرى بعينيَّ من وسط هذه النظارة أو حتى الاقتراب من الوسط؛ لذا فعينا هذه السيدة تَقتربان بشدَّة من أنفها. كذلك ستُلاحظ يا واطسون أن النظارة مُقعَّرة وذات متانةٍ غير مُعتادة. ولا ريب أن السيدة التي عانت من ضعفٍ حادٍّ بالبصر طوال حياتها ستكتَسِب الصفات الشكلية التي تظهر على الجبهة والجفنين والمنكبين مع ضعف البصر.»
هنا قلتُ: «أجل، يُمكنني استيعاب كل الحُجَج التي سُقتَها، لكن رغم ذلك أقرُّ أنه يتعسَّر عليَّ فهم كيف توصَّلتَ لمسألة زيارة صانع النظارات مرَّتَين.»
تناوَل هولمز النظارة بيده.
وقال: «ستُلاحظ أن المِشبكَيْن مُبطَّنان بشرائطَ صغيرةٍ من الفلِّين لتخفيف الضغط على الأنف. أحدُهما زال لونه واهترَأَ بعضَ الشيء، أما الآخر فجديد. ومن الواضح أن أحدهما قد سقط واستُبدل به آخر جديد؛ ولذلك يُمكنني استنتاج أن القديم من بينهما لم يمضِ على وجوده أكثر من بضعة أشهر. ولمَّا كانا مُتطابقين بالضبط، أَحدُس أن السيدة عادت إلى المُنشأة نفسها من أجل الحصول على الثاني.»
صاح هوبكنز مُنتشيًا من فرط الإعجاب: «يا للهول! هذا مُذهل! كيف كانت في مُتناول يدي كلُّ هذه الأدلَّة دون أن أُدرك؟ ورغم ذلك كنتُ أنوي أن أتفقَّد صانعي النظارات في لندن.»
«ستفعل ذلك حتمًا. والآن، هل لديك أي شيء آخر عن القضية لتُخبرَنا به؟»
«لا شيء يا سيد هولمز. أعتقد أنك الآن أصبحت تعرف كل ما أعرف، وربما أكثر. لقد أجرَينا تحرِّياتٍ عن رؤية أي غُرَباء على طرُق البلدة أو في محطة السكك الحديدية. ولم نستدِلَّ على أيِّ حالة. ما يُحيِّرني هو انعدام الغرَض من الجريمة؛ فلا يُمكن لأحدٍ أن يفترض ولو دافعًا خافتًا.»
«آه! لا يُمكنني مساعدتك في هذا، لكن أعتقد أنك تُريدُنا أن نذهب إلى هناك غدًا.»
«إن كنتُ لا أُثقِل عليك بطلبي يا سيد هولمز، فإن ثمَّةَ قطارًا يُغادِر محطة تشارينج كروس إلى تشاتام في السادسة صباحًا، وسنصِل إلى يوكسلي أولد بليس بين الساعة الثامنة والتاسعة.»
«سوف نَستقلُّه إذن. فقطعًا تحتوي قضيَّتُك على عناصرَ مُشوِّقةٍ للغاية، وسيسرُّني أن أُحقِّق فيها. حسنًا، لقد قارَبت الساعة على الواحدة، ويُفضَّل أن نَخلُد للنوم لبضع ساعات. أعتقد أن باستطاعتك تدبُّر أمورك على الأريكة أمام المِدفأة. سأوقِد مصباحي الكحوليَّ وأعطيك قدَحًا من القهوة قبل أن نذهب.»
في اليوم التالي سكنَت العاصفة، لكن الطقس كان قارِس البرودة في الصباح حين شرَعنا في رحلتنا. رأينا شمس الشتاء الباردة وهي تُشرق فوق مُستنقَعات التايمز الكئيبة وألسِنة النهر الطويلة البائسة المنظر، التي ستَظلُّ تُذكِّرني بمُطاردتنا لأحد سكان جُزر أندمان، في بدايات مَسيرتنا المِهنية. وبعد رحلةٍ طويلة ومُرهِقة تَرجَّلنا في محطةٍ صغيرة على بُعد أميالٍ من تشاتام، وتناولنا فطورًا سريعًا بينما كانوا يُجهِّزون لنا عربةً صغيرة يجرُّها حصان في النُّزُل المحلي، وهكذا كُنَّا مُستعدِّين للعمل حين وَصلْنا إلى يوكسلي أولد بليس أخيرًا، حيث قابلنا شرطيًّا عند بوَّابة الحديقة.
«حسنًا يا ويلسون، هل لديك أيُّ أخبار؟»
«لا يا سيدي، لا شيء.»
«ألم يُبلِّغ أحدٌ عن رؤية أيِّ غُرَباء؟»
«لا يا سيدي. إنهم مُتأكدون في المحطة من عدم قدوم أو ذهاب أي غُرَباء أمس.»
«هل أجريتَ تحرِّياتٍ في الأَنْزال والمَهاجِع؟»
«أجل يا سيدي؛ فنحن لم نغفَل عن أيٍّ منها.»
«حسنًا، إن المسافة حتى تشاتام سَيرًا على الأقدام ليست كبيرة، ويستطيع أيُّ أحد أن يُقيم هناك، أو يَستقلَّ القطار دون أن يُلاحظه أحد. هذا هو مَمشى الحديقة الذي حدَّثتُك عنه يا سيد هولمز. أقسِم أنني لم أجد عليه آثارًا أمس.»
«على أيِّ جانبٍ من الحشائش كانت الآثار؟»
«هذا الجانب يا سيدي. على هذه الحافَّةِ الضيِّقة من الحشائش بين الممشى وحوض الزهور. لا يمكنني رؤية الآثار الآن، لكنها كانت واضحةً لي حينذاك.»
قال هولمز وهو ينحني فوق إطار الحشائش: «أجل، أجل؛ لقد مرَّ عليه أحدٌ ما. لا بدَّ أن السيدة التي نبحث عنها كانت مُنتبِهةً لخطواتها. أليس كذلك؟ وإلا كانت ستترك أثرًا على الممشى من جانبٍ وعلى الجانب الآخر كانت ستترك أثرًا أوضح على حوض الزهور الهش.»
«نعم يا سيدي، لا بدَّ أنها كانت رابِطَةَ الجَأْش.»
رأيتُ نظرةَ انهماكٍ تَغشى وجهَ هولمز.
«تقول إنَّها لا بدَّ أن تكون جاءت من الخَلْف من هذا الاتجاه؟»
«نعم يا سيدي، لا يُوجَد طريق آخر.»
«على هذا الخطِّ من الحشائش؟»
«بالضبط يا سيد هولمز.»
«كان أداءً مُميَّزًا جدًّا، مُميَّزًا جدًّا. حسنًا، أعتقد أننا قَتلْنا الممشى بحثًا. فهيَّا نمضي قدُمًا. أعتقد أن باب الحديقة هذا يُترَك مفتوحًا دائمًا. أليس كذلك؟ من ثَمَّ لم تتكلَّف هذه الزائرة سوى أن تَعبُره. لم تكن فكرة القتل في ذهنها، وإلا كانت تزوَّدَت بسلاحٍ ما بدلًا من الاضطرار لالتقاط هذا السكين من على مِنضدة الكتابة. وقد سارت في هذا الدهليز دون أن تترُك أثرًا على حصير ألياف جوز الهند. ثم وجدت نفسها في غُرفة المكتب. كم من الوقت بقِيَت هناك؟ لا سبيل لدينا لتحديد ذلك.»
«دقائق قليلة فحسب يا سيدي؛ فقد فاتَني إخبارُك أنَّ السيدة ماركر، مُدبِّرة المنزل، كانت تؤدِّي أعمال التوضيب هناك قبل ذلك بوقتٍ غير طويل؛ نحو رُبع ساعةٍ حسب قولها.»
«حسنًا، لدينا إذن حدٌّ زمني. فقد دخلت السيدة المَعنيَّة هذه الحجرة. وماذا فعلت؟ ذهبت إلى مِنضدة الكتابة. من أجل ماذا؟ ليس لأجل شيءٍ في الأدراج. إن كان ثَمَّةَ ما يستحقُّ أن تأخذه فلا بدَّ أنها كانت ستجِدُه مُوصَدًا عليه. لا، فما كانت تسعى إليه كان في ذلك الصوان الخشبي. مهلًا! ما هذا الخَدْش الذي على واجهته؟ فلتُشعِل عود ثِقابٍ يا واطسون. لماذا لم تُخبرني بهذا يا هوبكنز؟»
أخذ هولمز يتفحَّص هذه العلامة التي كانت على الجزء النحاسي على يمين ثُقب المفتاح وامتدَّت نحو أربعِ بُوصاتٍ حيث كشَطتِ الطِّلاء عن السطح.
«لقد لاحظتُها يا سيد هولمز. لكن من المألوف أن تجِدَ خدوشًا حول ثُقب المفتاح.»
«هذا حديث، حديث جدًّا. انظر لِلَمَعان النحاس في مكان الخدش. فلو كان الخدش قديمًا لاكتسب لون السطح. انظر إليه من خلال عدستي. ها هو الطلاء أيضًا يبدو مثل جانبَي أُخدُود. هل السيدة ماركر هنا؟»
دخلتِ الحجرة سيِّدة عجوز حزينة الوجه.
«هل أزلتِ الغُبار عن هذا الصوان صباح أمس؟»
«نعم يا سيدي.»
«هل لفت نظركِ هذا الخدش؟»
«لا يا سيدي، لم أرَه.»
«إنني مُتأكد من ذلك، فمِنفَضَة الغبار كانت ستمسَح تلك الذرَّات من الطلاء. من لديه مفتاح هذا الصوان؟»
«يحتفظ البروفيسور به في سلسلة ساعة الجيب.»
«هل هو مفتاح عادي؟»
«لا يا سيدي؛ إنه مفتاح مخصوص.»
«حسنًا، يُمكنكِ الذهاب يا سيدة ماركر. والآن قد أحرَزْنا تقدُّمًا قليلًا. دخلت السيدة المَعنيَّة الحجرة، وتوَجَّهتْ نحو الصوان، وحاولت فتحَه أو فتَحتْه بالفعل. وفي أثناء انشغالها في ذلك، دخل الشابُّ ويلوبي سميث إلى الحجرة. وقد أدَّى تَعجُّلها في سحب المفتاح لذلك الخدش على الباب. وحين أمسك بها التقطَتِ السكين الذي كان أقربَ ما وصلت إليه يدُها وضربته حتى تتحرَّر من قبضته، فكانت الضربة قاتلة. هكذا سقط هو وفرَّتْ هي بالغرض الذي جاءت من أجله أو بدونه. هل الخادمة سوزان هنا؟ هل كان أحد يستطيع الهروب من ذلك الباب بعد الصرخة التي سمِعتِها يا سوزان؟»
«كلَّا يا سيدي؛ هذا مُستحيل. كنتُ سأراه في المَمرِّ قبل أن أنزل الدَّرَج. كما أن الباب لم يَنفتِح مُطلقًا، وإلا كنتُ سأسمعه.»
«حسنًا، هذا يَحسِم أمر هذا المخرج. لا شكَّ إذن أن السيدة خرجَتْ من الطريق نفسه الذي دخلت منه. عرفتْ أن هذا الممرَّ الآخر لا يُؤدِّي إلا إلى حُجرة البروفيسور. ألا يُوجَد مخرج من ذلك الطريق؟»
«لا يا سيدي.»
«سنمضي فيه ونذهب للتعرُّف على البروفيسور. مهلًا يا هوبكنز! هذا أمر في غاية الأهمية بلا شك؛ فدهليز غرفة البروفيسور مُغطًّى أيضًا بحصيرٍ من ألياف جوز الهند.»
«حسنًا، وماذا في ذلك يا سيدي؟»
«ألا ترى لذلك أيَّ علاقة بالقضية؟ حسنًا، حسنًا، لن أُلحَّ في الأمر. لا شكَّ في أنني مُخطِئ في هذا الشأن، وإن كان يبدو لي أن له دلالة مُعيَّنة. تعالَ معي لتُعرِّفَني على البروفيسور.»
اجتَزْنا الممرَّ الذي كان طوله نفس طول الممر المؤدي إلى الحديقة. وكان في نهايته دَرَج صغير يؤدِّي إلى باب. طرَق مُرشدُنا الباب ثم أدخلَنا إلى مَخدع البروفيسور.
كانت غرفةً شديدة الاتِّساع، تحتوي على عددٍ لا يُحصى من المُجلَّدات التي فاضت بها الرفوف وتكدَّست في أكوامٍ في الزوايا أو تناثَرَت في أرجاء الغرفة عند قواعد الخِزانات. وعلى الفراش الذي توسَّط الحجرة، رأينا مالك المنزل مُستنِدًا إلى وسائد. كان مظهره مُميزًا على نحوٍ قلَّما صادفتُه في حياتي. فحين أدار وجهه باتِّجاهنا وجدتُه وجهًا هزيلًا ويُشبِه وجه النسر، وكانت عيناه داكِنتَين ثاقِبتَين تقَعان داخل تجويفَين غائرَين أسفل حاجبَين ناتِئَين كثيفَين. اشتعل الشيب في كلٍّ من شعرِه ولحيَتِه، باستثناء وجود لونٍ أصفر غريبٍ شابَ لحيته حول فَمِه الذي أشعل فيه سيجارة وسط كُتلة مُتشابكةٍ من الشَّعر الأبيض. وهكذا وجدْنا هواء الحُجرة مُعبأً بدخان التبغ الكَرِيه الرائحة. وحين مدَّ يده لمصافحة هولمز لاحظتُ أنها كانت صفراء أيضًا من النيكوتين.
قال البروفيسور مُتحدِّثًا لغةً إنجليزية مُنتقاة وبلكنةٍ مُتكلَّفة بعض الشيء: «هل تُدخِّن يا سيد هولمز؟ تفضَّل سيجارة. وأنت يا سيدي؟ أستطيع أن أوصيكما بتجربتها؛ فشركة «أيونايديس» في الإسكندرية تصنعها لي خِصِّيصى. إنهم يُرسِلون إليَّ ألفًا في كل مرة، لكنني للأسف أُضطَرُّ إلى طلب دفعةٍ جديدة كل أسبوعَين. هذا سلوك سيِّئ جدًّا يا سيدي، لكن ليس للرجل المُسنِّ سوى مُتَعٍ قليلة. التبغ وعَمَلي، هما كل ما تبقَّى لي.»
أشعل هولمز سيجارة، وسدَّدَ بعض النظرات السريعة في أنحاء الغرفة.
صاح الرجل العجوز قائلًا: «ليس لديَّ سوى التبغ وعملي، ولكن الآن لم يبقَ لي إلا التبغ. وا أسفاه! يا له من باعثٍ مُؤسفٍ للانقطاع عن العمل! مَن كان يتوقَّع حدوث مثل هذه الكارثة؟ كان شابًّا جديرًا بالاحترام! أؤكِّد لك أنه أثبت أنه مُساعدٌ ممتاز بعد شهور قليلة من التدريب. فما رأيك في القضية يا سيد هولمز؟»
«لم أَصِلْ إلى رأيٍ بعد.»
«سأكون مدينًا لك إن استطعتَ أن تُزيل الغموض عمَّا التبس علينا؛ فمثل تلك الضربات كفيلة أن تقضيَ على رجلٍ مسكين مُكرِّسٍ نفسه للكُتب ومعلول الصحَّة مثلي. يبدو أنني فقدتُ قدرتي على التفكير. أما أنت فرجل عملي. إنك مُطَّلِع على الأحوال العامة؛ فهذا جزء من الرُّوتين اليومي لحياتك؛ فأنت تستطيع أن تُحافِظ على تَوازُنك في كل حالات الطوارئ. ولا شك أننا محظوظون لوجودِك بجانبنا.»
بينما كان البروفيسور الهَرِم يتحدَّث كان هولمز يقطع جانبًا من الغرفة جَيئةً وذهابًا. ولاحظتُ أنه كان يُدخِّن بسرعةٍ غير مُعتادة. فبدا جليًّا أنه شارك مُضيفنا حبَّه للسجائر السكندرية الطازجة.
قال الرجل الهَرِم: «أجل يا سيدي، إنها ضربة قاصمة. تلك هي درَّة أعمالي — كَومة الأوراق التي على المِنضدة الجانبيَّة هناك. إنها تحليل للوثائق التي عُثِر عليها في الأديرة القِبطية في سوريا ومصر. هذا العمل سيكون له أثر عميق على القواعد الراسخة للأديان السماوية، لكن مع اعتلال صحَّتي لا أعلم إن كنتُ سأتمكَّن من إنهائه أم لا، ولا سيما بعد أن خسرتُ مساعدي. عجبًا يا سيد هولمز؛ لقد فُقتَني سرعةً في التدخين.»
ابتسم هولمز.
ثم قال وهو يأخذ سيجارة أخرى من العبوة — وكانت سيجارته الرابعة — ويُشعلها من عقب السيجارة التي انتهى منها: «إني ذوَّاقة. لن أُزعجَك باستجوابٍ آخر يا بروفيسور كورام، فأنا أُدرِك أنك كنتَ في الفراش وقتَ وقوع الجريمة، ولم تَستَطِع أن تعرف عنها شيئًا. سأطرح عليك هذا السؤال فقط: ما الذي قصدَه هذا المسكين بكلماته الأخيرة: «البروفيسور، لقد كانت هي»؟»
هزَّ البروفيسور رأسه.
ثم قال: «سوزان فتاة ريفية، وأنت تعلم الغباء المُستحكِم في هذه الطبقة. يُخيَّل لي أن الفتى المسكين تَمتَمَ ببعض الكلمات غير المُترابطة وهو يَهذي، فحوَّرتْها لتلك الرسالة الخالية من المعنى.»
«فهمت. أليس لديك تفسير للمأساة؟»
«قد تكون حادثة؛ ربما انتحار، لكنني فقط أقول هذا بينَنا؛ فالشباب لديهم متاعب خفيَّة، فربما تكون علاقةً عاطفية لم نسمَع بها قط، فهذا افتراض أرجَحُ من جريمة القتل.»
«ماذا عن النظارة؟»
«آه! أنا لستُ سوى رجل علم، رجل أحلام، ولا أملك تفسيرًا للأشياء العملية في الحياة، لكنني ما زلتُ أُدرِك يا صديقي، أن تذكارات الحبِّ قد تأخذ أشكالًا غريبة. لتأخذ سيجارة أخرى على أيِّ حال؛ فيَسرُّني أن أرى مَن يُقدِّر قيمتها هكذا. مروحة، قفاز، نظارة. من يدري ما الغرض الذي قد يَحمِلُه رجل ما أو يعتزُّ به كتذكارٍ حين يضع نهايةً لحياته؟ يتحدث هذا السيد عن آثار أقدامٍ على الحشائش، لكن يجوز الخطأ في هذا الأمر على أيِّ حال. أما بالنسبة للسكِّين، فربما سقطت بعيدًا عن الرجل البائس حين وقع. قد يكون كلامي ساذَجًا لكن يبدو لي أن ويلوبي سميث لقِيَ حتفه بيده.»
بدا هولمز مذهولًا من النظرية التي طُرحت عليه، وظلَّ يَذرَع الحجرة ذهابًا وإيابًا، مُستغرقًا في التفكير ومُستنفدًا سيجارةً تلو الأخرى.
ثم قال أخيرًا: «أخبرني يا بروفيسور كورام، ماذا يُوجَد في تلك الخزانة التي في الصوان؟»
«أشياء لا تُفيد أيَّ لِص. أوراق عائلية وخطابات من زوجتي المسكينة وشهادات من جامعاتٍ كرَّمتني. ها هو المفتاح. يُمكنك أن تراها بنفسك.»
التقط هولمز المفتاح ونظر إليه للحظة؛ ثم أعاده إليه.
قال هولمز: «لا؛ لا أعتقد أنه سيُساعدني. أُفضِّل أن أنزل لحديقتك في هدوءٍ لأُقلِّب الأمر برمَّته في رأسي؛ فنظرية الانتحار التي طرحتَها تستحقُّ بعض التفكير. نرجو أن تقبل اعتذارنا عن تطفُّلنا عليك يا بروفيسور كورام، وأعدك بألا نُزعجك حتى بعدَ الغداء؛ فسنأتي مرةً أخرى في الساعة الثانية، ونُبلغك بأيِّ شيء قد يكون حدَث في خلال هذه المُدة.»
كان هولمز شاردَ الذهن على نحوٍ غريب حين ذَرَعْنا ممشى الحديقة جَيئةً وذهابًا صامتين لبعض الوقت.
في النهاية سألته: «هل لديك مفتاح لحلِّ اللُّغز؟»
قال: «الأمر يتوقَّف على تلك السجائر التي دخنتُها. قد أكون مُخطئًا تمامًا. ستعطيني السجائر البرهان.»
صحت: «عزيزي هولمز، كيف بحقِّ السماء؟»
«حسنًا، حسنًا، سوف ترى بنفسك. وإن لم يكن، فلم يقَع أيُّ ضرر. وبالطبع لا يزال لدينا خيطُ صانع النظارات لنَرجِع إليه، لكنني حين أجدُ طريقًا مُختصرًا أتَّبِعه. آه، ها هي السيدة ماركر الطيبة! هيا ننعم بخمس دقائق من الحديث المُفيد معها.»
قد أكون ذكرتُ من قبلُ أن هولمز يَتبع أسلوبًا خاصًّا متودِّدًا مع النساء حين يحلو له، وأنه سريعًا ما يُرسي أواصِرَ من الثقة معهن. هكذا استغرق نصف الوقت الذي حدَّده في اكتساب ثقةِ مُدبِّرة المنزل، وبادلها الحديث كما لو كان يَعرفها منذ سنوات.
«نعم يا سيد هولمز، كما تقول يا سيدي. إنه يدخِّن بشراهةٍ بالفعل، طوال النهار وأحيانًا طوال الليل يا سيدي. حين تدخل حجرته في الصباح قد يُخيَّل لك أن ضباب لندن قد غَشِيَها. يا للسيد سميث الشاب المسكين! فهو أيضًا كان مُدخِّنًا، لكن ليس في شراهة البروفيسور. إن صحته، حسنًا، لا أعلم إن كانت ضعيفةً بسبب التدخين أم لا.»
قال هولمز: «آه! لكن التدخين يُضعِف الشهيَّة.»
«لستُ على دِرايةٍ بهذا الأمر يا سيدي.»
«أعتقد أن البروفيسور قليل الطعام.»
«حسنًا، يُمكنني أن أشهد بأنه مُتقلِّب.»
«أراهن أنه لم يَتناوَل الفطور هذا الصباح، ولن يتناوَل الغداء بعد كل السجائر التي رأيتُه يدخنها.»
«حسنًا يا سيدي، أنت مُخطئ في هذا؛ فقد تصادف أنه تناوَل فطورًا كبيرًا بدرجةٍ ملحوظةٍ هذا الصباح. ولا أذكر متى تناول فطورًا بهذا الحجم، وطلَبَ صحنًا كبيرًا من شرائح اللحم على الغداء. وهذا أثار دهشتي، إذ إنِّي منذ دخلتُ تلك الحجرة ورأيتُ السيد سميث الشاب مُستلقِيًا على الأرض وأنا لا أُطيق النظر إلى الطعام. حسنًا، تختلف الناس في طباعها؛ فالبروفيسور لم يَدَعِ الحادثة تقضي على شهيته.»
بدَّدْنا الصباح في الحديقة. كان ستانلي هوبكنز قد ذهب جنوبًا للقرية للتحقيق في بعض الشائعات عن سيدةٍ غريبة رآها بعض الأطفال على طريق تشاتام في صباح اليوم السابق. وأما صديقي فبدا أنه فقَدَ كل طاقته المعهودة. فلم أره قطُّ يتولَّى قضيةً بهذا الفتور، حتى الأخبار التي عاد بها هوبكنز بعثوره على الأطفال ورؤيتهم لسيدة مطابقة تمامًا لوصف هولمز، وترتدي نظَّارةً، فشلَتْ في إثارة أيِّ اهتمامٍ لديه، لكنه أبدى انتباهًا أكبر حين تطوَّعت سوزان، التي قدمت لنا طعام الغداء، وأخبرتنا بأنها تَعتقِدُ أن السيد سميث كان قد خرج للتريُّض صباح أمس، وأنه عاد قبل وقوع المأساة بنصف ساعة فقط. لم أَستَطِع أن أرى دلالة تلك الواقعة لكنني لاحظتُ أن هولمز كان يدمِجُها مع المُخطَّط العام الذي رسمه في ذِهنه. وفجأة هبَّ من مقعده ونظر في ساعته، وقال: «إنها الثانية يا سادة. ينبغي أن نصعد ونُناقِش الأمر صراحةً مع صديقنا البروفيسور.»
كان الرجل العجوز قد انتهى للتوِّ من غدائه، ودلَّ صحنُه الفارغ على الشهيَّة المفتوحة التي نسبَتْها إليه مُدبِّرة منزله. لا شكَّ في أنه بدا غريب الشكل حين استدار ناحيتنا بشعره الطويل الأبيض وعينيه المُتَّقدتَين، والسيجارة المُشتعلة دائمًا في فمه. كان قد ارتدى ملابسه وجلس على مِقعدٍ ذي ذارعين بجانب المِدفأة.
قال البروفيسور، وهو يدفع علبة السجائر المعدنية الكبيرة التي كانت على المِنضدة المُجاورة له ناحية رفيقي: «حسنًا يا سيد هولمز، هل حللْتَ هذا اللغز؟» مدَّ هولمز يده في اللحظة نفسها، فسقطت العلبة فوق الحافَّة بينهما. جَثَونا جميعًا لالتقاط السجائر المُبعثرة من أماكن يتعذَّر الوصول إليها لمُدَّة دقيقة أو دقيقتَين، وحين نهضنا مرةً أخرى لاحظتُ أن عينَي هولمز تلمَعان وأن الدِّماء صعدت لوجنتَيه. ولا أرى على وجهه علامات المعارك هذه إلا في وقت الأزمات.
قال شيرلوك: «نعم، لقد حللته.»
حدَّقتُ أنا وستانلي هوبكنز في اندهاش. ارتجفَت ملامح البروفيسور العجوز العجفاء ولاحَتْ عليها نظرةٌ ساخِرة.
ثم قال: «حقًّا! في الحديقة؟»
«لا، هنا.»
«هنا! متى؟»
«في لحظتنا هذه.»
«لا بدَّ أنك تمزَح يا سيد شيرلوك هولمز. إنك تضطرُّني إلى أن أقول لك إن المسألة أخطر من أن تُعالَج بهذا الأسلوب.»
قال هولمز: «لقد تأكدتُ من كل حلقات السلسلة التي رسمتُها يا بروفيسور كورام، وصرتُ على يقينٍ من صِحَّتها، لكنني ما زلتُ غيرَ قادرٍ على معرفة دوافعك أو الدَّور الذي مارسته بالضبط في هذه الحادثة الغريبة. وعلى الأرجح سأسمَع هذا منك في خلال دقائق قليلة. وفي غضون ذلك سأُعيد على مَسامعك ما حدث؛ حتى تَعرِفَ المعلومات التي ما زلتُ أحتاج إلى معرفتها.»
«دخلت أمس سيدةٌ ما حُجرةَ مكتبك، وجاءت بِنِيَّةِ الاستحواذ على وثائقَ مُعيَّنة كانت في صوانك، وكان لديها مفتاح خاصٌّ بها. وسنَحت الفرصة لي لتفحُّص مفتاحك، ولم أجد به التغيُّر الطفيف في اللون الذي لا بدَّ أن يكون قد أحدَثه خدشُ الطلاء. من ثم لم تكن شريكًا في الجريمة. وحسب ما استنتجتُ من الأدلَّة لقد جاءت بدون علمك لكي تَسرِقَك.»
نفث البروفيسور سحابةً من الدخان من شفتيه، وقال: «هذه معلومات في غاية الإثارة والإيضاح. هل لديك المزيد لتُضيفه؟ لا شك أنك تستطيع أن تقول ما حدث لهذه السيدة ما دُمتَ تقصَّيتَ أثرها لهذه الدرجة.»
«سأُحاول فعل هذا. لقد أمسك بها سكرتيرك في البداية، فسدَّدتْ إليه طعنةً حتى تهرُب. وأنا أميل إلى اعتبار هذه الكارثة حادِثًا مؤسفًا؛ فأنا مُقتنع بأن هذه السيدة لم تكن تنوِي إلحاقَ مثل هذه الإصابة الخطيرة به؛ فالقاتل لا يأتي بلا سلاح. ولمَّا انتابَها الهَلَع ممَّا اقترفتْهُ هُرِعت بلا هُدًى من مَوقِع المأساة. ولكنها لسوء الحظ فقَدَت نظارتها في خِضمِّ الاشتباك. وبما أنها قصيرةُ النظر للغاية فقد كانت عاجزةً دونها؛ ولهذا ركضَت حتى نهاية الدهليز، الذي ظنَّتْ أنه الدِّهليز نفسه الذي جاءت منه؛ فكلاهما مفروش بحصيرٍ من ألياف جوز الهند، ولم تُدرِك أنها أخذتِ المَسلك الخطأ وأنَّ خطَّ الرجوع قد قُطِع عليها إلا مُتأخِّرًا. فماذا كانت ستفعل؟ فلم تستطع أن تعود، ولم تستطع أن تبقى حيث كانت. فلا بدَّ أن تمضي قدُمًا، وقد فعلتْ ذلك. فقد صعدَت الدَّرَج، وفتحت بابًا، لتَجِدَ نفسها في حُجرَتك.»
جلس الرجل العجوز فاغِرًا فاه مُحدِّقًا بِشدَّة في هولمز، وقد انطبعَتْ على ملامحه المُعبِّرة علامات الدهشة والخوف. وأخيرًا، هزَّ كتفَيهِ وأغرَقَ في ضحكٍ مُصطنَعٍ بشيءٍ من الصعوبة.
قال البروفيسور: «لا بأسَ بكلِّ هذا يا سيِّد هولمز، لكن ثَمَّة ثَغرة صغيرة في نظريَّتك الرائعة؛ فقد كنتُ في حُجرَتي في هذا الوقت، ولم أترُكها طوال النهار قط.»
«أُدرِك ذلك يا بروفيسور كورام.»
«هل تقصد إذن أنَّني كنتُ مُستلقيًا على هذا الفراش ولم أشعر بدخول سيدة إلى حجرتي؟»
«لم أقُل هذا مُطلقًا؛ فقد شعرتَ بدخولها، وتحدَّثتَ معها، وعرَفتَها، وساعدْتَها في الهروب.»
ارتفع صوت البروفيسور بالضَّحكِ مرةً أخرى، ثم نهض وقد اتَّقدتْ عيناه كجَذْوَتَين من النار.
صاح البروفيسور: «يا لك من مجنون! إنك تهذي. أنا ساعدتُها في الهرب؟ وأين هي الآن؟»
قال هولمز: «إنها هناك.» وأشار إلى خزانة كُتب مرتفعةٍ في زاوية الحجرة.
رأيتُ الرجل العجوز يرفع ذراعيه في استسلام، وقد تشنَّجَ وجهه المُتجهِّم تَشنُّجًا فظيعًا، ثم استلقى إلى الخلفِ في مقعده. في الوقت نفسه انفتح باب خزانة الكُتب التي أشار إليها هولمز على مصراعيه، واندفَعَت سيدة منها إلى الحجرة، وصاحت بلهجَةٍ أجنبيةٍ غريبة قائلة: «أنتَ على حق! أنت على حق! أنا هنا.»
كان لونها ضاربًا إلى السَّمار من الغُبار وكانت مُغطَّاةً بنسيج العنكبوت الذي التصق بها من جُدران المكان الذي كانت تَختبِئ فيه، كذلك تلطَّخَ وجهها بالسخام. على أيِّ حال فملامحها لم تكن جميلةً في الأساس؛ إذ كانت تتمتَّع بالصِّفات الشكلية نفسها التي تنبَّأ بها هولمز، بالإضافة إلى ذقنٍ طويل حاد. ظلَّتْ واقفةً في ذهولٍ ترمش بعينيها لتتبيَّن مَن نحنُ وأين نقِف لِما كانت مُصابةً به من ضَعف بصرٍ ونتيجة لانتقالها من الظلام إلى الضوء. ورغم كل هذه المثالب، لاحَ على أسلوب السيدة نُبلٌ من نوعٍ خاص، وبدا رُقِيٌّ ما في ذَقنها الحادِّ ورأسها المرفوع؛ ممَّا فرض شيئًا من الاحترام والإعجاب. وحين وضع ستانلي هوبكنز يده على ذراعها وأعلنَ القبض عليها، أبعدَتْه برفقٍ ولكن بكبرياءَ طاغيةٍ أجبرتْه على إطاعة رغبتِها. وهنا استلقى العجوز إلى الخلْف في مقعده، بوجهٍ مُرتَعِش، وأخذ يُحدِّق إليها بعيْنَين استبدَّ بهما القلق.
«حسنًا يا سيدي، لك الحقُّ في إلقاء القبض عليَّ. استطعتُ سماع كل شيء من حيث كنتُ أقف وأعلم أنكم عرفتم الحقيقة، وأنا أُقِرُّ بكلِّ ما حدث. أنا من قتلتُ هذا الشاب، لكن أصاب مَن قال منكم إنها كانت حادثة؛ فلم أكن أُدرِك حتى أن ما بيدي كان سكِّينًا، فقد انتزَعتُ — يائسةً — أيَّ شيءٍ من على المِنضدة وضربتُه به حتى يُفلتَني. إن ما أقوله لكم هو الحقيقة.»
قال هولمز: «إنني مُتأكِّد من صِدق ما تقولينه يا سيدتي، لكني أخشى أنكِ لستِ على ما يُرام.»
امتُقعَ وجه السيدة، وزاد من شُحوبه الغبار الذي اكتسى به، ثم جلَسَتْ على حافَةِ الفراش واستأنفَتْ كلامها.
قالت: «ليس أمامي الكثير من الوقت هنا، لكن سأُخبرُكم بالحقيقة الكاملة: أنا زوجة هذا الرجل. وهو ليس إنجليزيًّا، وإنما رُوسي، لكن لن أخبِرَكم باسمه.»
ولأولِ مرَّةٍ حرَّك الرجل العجوز ساكنَه وصاح: «أستحلِفكِ بالله يا آنا! أستحلفكِ بالله!»
رمَقَتِ السيدة البروفيسور بأشدِّ ازدراءٍ وقالت: «لماذا أنت مُتمسِّك بشدَّةٍ بهذه الحياة البائسة يا سرجيوس؟ فهي ألحقَتِ الأذى بكثيرين ولم تَجلِبِ الخير لأحد، حتى أنت. على أيِّ حالٍ لن أكون أنا من يُنهي حياةَ عجوزٍ واهنٍ قبل مشيئة الله. يكفي ما أصاب رُوحي منذ عبَرتُ عتبة هذا المنزل الملعون. لكن ينبغي أن أتكلَّم قبل فَوَات الأوان.»
«أخبرتُكم أيها السادة أني زوجة هذا الرجل. حين تزوَّجنا كان هو في الخمسين وكنتُ فتاةً حمقاء في العشرين. كان ذلك في إحدى مُدن روسيا، في إحدى الجامعات. لن أذكر اسم المكان.»
همس الرجل العجوز مرةً أخرى: «أستحلِفك بالله يا آنا!»
قالت السيدة: «كنَّا إصلاحيَّيْن، وثورِيَّيْن، ومُناصِرَيْن للعدَمِيَّة أنا وهو وغيرُنا كثيرون. ثم جاءت أوقات عصيبة حين قُتِل أحد ضباط الشرطة، فأُلقِيَ القبض على كثيرين، وغابت الأدلة، وعندها خانني زوجي وخان زُملاءه حتى يُنقِذ حياته ويَحصُل على مكافأة كبيرة. فقد أُلقِيَ القبض علينا جميعًا بناءً على اعترافه. وهكذا تمَّ إعدام البعض وأُرسل آخرون، وأنا منهم، إلى سيبيريا، لكن لم تكن عقوبتي مدى الحياة. أما زوجي فقد جاء إلى إنجلترا بمكاسِبِه التي حصل عليها بطريقةٍ غير شرعية، وعاش في هدوءٍ منذ ذلك الحين، وهو يعلم جيدًا أنه — إن عرَفَتِ الرابطة بمكانه — لن يمرَّ أسبوع قبل أن تأخذ العدالة مجراها.»
مدَّ العجوز يدًا مُرتجِفةً وتناوَل سيجارة، ثم قال: «صارت حياتي بين يديكِ يا آنا. طالما كنتِ كريمةً معي.»
قالت السيدة: «لم أخبركم بعدُ بمدى خِسَّته. فكان من بين زملائنا في الجماعة صديق مُقرَّب لي. كان نبيلًا وكريمًا ومُحبًّا — كل الصفات التي افتقر إليها زوجي — وكان يبغَض العُنف. كنا كلُّنا مُذنِبين — إن كان فيما فعلناه ذنب — ما عداه. وطالما كتب إلينا خطاباتٍ لكي يُثنِيَنا عن المُضيِّ في ذلك الطريق. كان من المُمكن أن تُنقِذَه هذه الخطابات من المصير الذي لاقاه، وكذا مُذكِّراتي التي كنتُ أسجِّل فيها يوميًّا مشاعري تجاهَه ووجهات النظر التي تبنَّاها كلٌّ منَّا، لكن زوجي عثر على المُذكِّرات والخطابات واحتفظ بهما. لقد أخفاهما وحاول جاهدًا أن يُودِيَ بحياته بأن يشهَدَ عليه زورًا، لكنه فشل في مسعاه. ومع ذلك أُدين أليكسيس وحُكِم عليه بالنفي إلى سيبيريا، حيث يعمل حاليًّا في مَنجمٍ للملح. تأمَّلْ ما اقتَرفْتَهُ يا أيها الشرير. والآن، في هذه اللحظة، أليكسيس الرجل الذي لا تَستحقُّ أن تنطق اسمه بلسانك، يَعمل كالعبيد ويعيش مثلهم. ورغم أن حياتك في يدي سأتركك لتعيش.»
قال العجوز وهو ينفثُ دخان سيجارته: «طالَما كنتِ امرأةً نبيلةً يا آنا.»
ما كادت السيدة تنهض حتى سقطَتْ ثانيةً وقد أفلتت منها صرخةُ ألمٍ قصيرة.
وقالت: «لا بدَّ أن أكمِل القصة حتى النهاية: حين انتهتْ عقوبتي قرَّرتُ أن أحصل على المذكِّرات والخطابات التي ستضمَنُ الإفراج عن صديقي حين أُرسلها إلى الحكومة الروسية. عرفت أن زوجي قد جاء إلى إنجلترا، وبعد شهور من البحث اكتشفتُ مكانه. كنتُ أعلم أن المذكرات ما زالت بحوزته؛ إذ وصَلني منه خطابٌ ذات مرةٍ حين كنتُ في سيبيريا يوَبِّخني مُقتبسًا بعض الفقرات من صفحاتها، لكنَّني كنتُ على يقينٍ من أن طبيعته الميَّالة للانتقام ستمنَعُه من إعطائها لي طواعِية، وأنني يجب أن أحصل عليها بنفسي. وبهذا الهدف استعنتُ بمحقِّقٍ من مكتب تحرِّيات، ودخل منزل زوجي باعتباره سكرتيرًا — كان هذا سكرتيرك الثاني يا سيرجيوس — ذلك الذي رَحَل سريعًا. لقد اكتشف أن الأوراق مُخبَّأة في الخزانة، وأتاني ببصمَة المفتاح، لكنه رفض أن يفعل أكثر من ذلك، فأعطاني خريطةً للمنزل، وأخبرني أن حُجرة المكتب تخلو دائمًا من الناس في الصباح؛ بما أن السكرتير يعمل هنا بالأعلى. هكذا في النهاية استجمعتُ شجاعتي وجئتُ لأُحضِرَ الأوراق بنفسي. وقد نجحْتُ، لكن ما الثمن؟!
بعد أن أخذتُ الأوراق مُباشرةً، وبينما أوصِد الخزانة أمسك بي السكرتير الشاب. وكنتُ قد رأيتُه ذلك الصباح بالفعل؛ إذ التقيتُ به على الطريق وسألته عن المكان الذي يعيش فيه البروفيسور كورام، دون أن أعلم أنه يعمل لديه.»
قال هولمز: «بالضبط! بالضبط! حين عاد السكرتير أخبر رئيسَه بشأن السيدة التي التقى بها. وبينما كان يلفظ أنفاسه الأخيرة حاول أن يُبلغَ رسالة بأنها هي السيدة نفسها التي تحدَّث معه عنها للتو.»
قالت السيدة بلهجةٍ آمِرة ووجهٍ مُتقلِّص، كأنها تعاني من الألم: «ينبغي أن تترُكَني أتحدَّث. حين سقط هُرِعتُ من الحُجرة، وأخطأتُ اختيار الباب فوجدتُ نفسي في حجرة زوجي، الذي قال إنه سيُسلِّمني للشرطة، فأخبرته أنني سَأشِي به إن فعل ذلك، فإن سلَّمَني للسلطات سأسلِّمُه للرابطة، لكن لم يكن حِرصي على الحياة من أجلِ نفسي وإنما حتى أُحقِّقَ هدفي. عرف أنني سأنفِّذُ ما قلتُه، وأن مصيره مُرتبط بمصيري؛ ولهذا السبب وحده تَستَّر عليَّ؛ لذلك أقحمَني في ذلك المخبأ المُظلم، أحد الآثار المُتبقِّية من زمنٍ غابر، والذي لا يعلم أحدٌ غيره بوجوده. وكان يتناول وجباته في حجرته حتى يستطيع أن يُعطيني جزءًا من طعامه. واتفقنا على أن أهرُب ليلًا حين تُغادِر الشرطة المنزل، على ألَّا أعود مرةً أخرى، ولكنك عرفتَ خُططنا بطريقةٍ ما.» ثم أخرجَتْ من صدرِ فُستانها رزمةً صغيرة، وقالت: «هذه كلماتي الأخيرة. ها هي رُزمة الأوراق التي ستُنقِذُ أليكسيس. أعهد إليك بها بحقِّ شرفك وحُبِّك لتحقيق العدالة. فلتأخُذها! وسلِّمها للسفارة الروسية. الآن أدَّيتُ واجبي، وسوف …»
صاح هولمز: «امنعوها!» ووَثَب عبر الحُجرة ليَنتزِع قِنِّينةً صغيرةً من يدها.
قالت السيدة وهي تفقد قُواها وتَستلقي على الفراش: «فات الأوان! فات الأوان! فقد تناولتُ السمَّ قبل أن أترُك مخبئي! أشعر بدوار! إنني أُحتضَر! أرجو منك يا سيدي ألا تنسى الرُّزمة.»
قال هولمز في رحلة عودتنا إلى البلدة مُعلِّقًا على ما حدث: «إنها قضية بسيطة، لكن بها بعض العِبَر؛ فقد توقَّفَت على النَّظارة الأنفيَّة منذ البداية، فلا أعتقد أنَّنا كُنَّا سنصِل إلى الحلِّ لولا تمسُّك الرجل المُحتضَر بها لحُسن الحظ. ومن قوة النظارة اتَّضح لي أن صاحبها يكاد لا يرى دونها ويكون عاجِزًا حين يفقدها. وحين طلبتَ منِّي أن أصدقَ أنها سارتْ على خطٍّ رفيعٍ من الحشائش دون أن تتعثَّرَ علقتُ قائلًا إنه أداء جدير بالاهتمام، إن كنتَ تَذكُر. ولكن ما استقرَّ في ذهني هو استحالة ذلك، إلا في حالة كان معها نظارة أخرى، وهذا بعيد الاحتمال؛ لذا اضطُرِرتُ إلى التفكير في فرضية أنها ظلَّتْ داخِل المنزل. وحين لاحظتُ التَّشابُه بين الدهليزين اتَّضَح لي أنها يُمكنها ارتكاب مثل هذا الخطأ بسهولة، وفي هذه الحالة كان بديهيًّا أن تدخل حجرة البروفيسور. لذلك كنتُ في أشدِّ حالات الانتباه لأيِّ شيءٍ يؤكد هذا الافتراض، وفتَّشتُ الحجرة بدقَّةٍ بحثًا عن أيِّ شيءٍ يصلُح كمكانٍ للاختباء. ولمَّا بدا البساط مُتَّصلًا ومُثبتًا بإحكامٍ استبعدتُ وجود بابٍ سحري. وخطر لي كذلك احتمالُ وجود كوَّةٍ وراء الكتب؛ فمثل هذه الأشياء شائعة الاستخدام في المكتبات القديمة كما تعلم. لفتَ انتباهي أن الكتب كانت مُكدَّسةً على الأرض في جميع المواضع، لكن خزانة الكتب تلك تُركت خاوية، فخالَجَني شكٌّ أن هذا قد يكون الباب. لم أستطع رؤية علاماتٍ تُرشدني، لكن البساط كان ذا لونٍ بنيٍّ ضاربٍ إلى الرمادي مما يَجعله مُناسبًا للمُعاينة؛ ولذلك دخَّنتُ عددًا كبيرًا من تلك السجائر المُمتازة، وأسقطتُ الرماد في أنحاء المساحة الموجودة أمام خزانة الكتب المُشتَبه بها. كانت خدعةً بسيطة ولكنها كانت فعَّالة للغاية. ثم نزلتُ إلى الطابق السفلي وتحقَّقت، في وجودك يا واطسون، دون أن تُدرِكَ فحوى مُلاحظاتي، من أن استهلاك البروفيسور كورام للطعام قد زاد — كما هو مُتوقَّع حين يتكفَّل بإطعام شخصٍ آخر. ثم صعدنا إلى الحجرة مرةً أخرى، حيث تيسَّر لي رؤية الأرض جيِّدًا حين أسقطتُ علبة السجائر، واستطعتُ أن أرى بوضوحٍ — من الآثار التي على رماد السجائر — أن السيدة المُختبِئة خرجتْ من مَخبئها في غيابنا. حسنًا يا هوبكنز، لقد بلغْنا تشارينج كروس، ويُمكنني تهنِئتُك على النهاية المُوفَّقة لقضيتك. لا شكَّ في أنك ستذهب إلى المركز الرئيسي. وأعتقد يا واطسون أننا سنذهبُ معًا إلى السفارة الروسية.»