المفاجأة … إجابة «خديجة»!
كانت الساعة تقترب من الثالثة عصرًا، عندما نزلت الطائرة مطار «الدار البيضاء» في المملكة المغربية، وعندما غادروا المطار، كانت سيارة سوداء ماركة «ستروين» في انتظارهم، فكر «أحمد» لحظة ثم قال: ينبغي ألا ندخل «أصيلة» بهذه السيارة، فسوف نلفت إلينا الأنظار!
ردَّ «مصباح»: هذه وجهة نظر صحيحة، فالمفروض أننا سوف نندَسُّ بين الصيادين، ولهذا ينبغي أن نَصِلَ إلى هناك بالأتوبيس!
قالت «هدى»: إذن، علينا أن نركب إلى ميناء طنجة، ثم نركب الأتوبيس من هناك إلى «أصيلة»، فهي لا تبعد عنها سوى أربعين كيلومترًا.
استقلَّ الشياطين السيارة «الستروين» السوداء إلى «طنجة»، كان الطريق ممتعًا، والسيارة تنهب الأرض، كانت الجبال تحيط بشريط الأسفلت الأسود، وكانت الجبال كلها مكسوة بخضرة جميلة.
قال «بوعمير» وهو يلقي بنظره بعيدًا خارج زجاج نافذة السيارة: لم أرَ أجمل مما رأيتُ اليوم.
ابتسمت «هدى» وسألت: ماذا تقصد؟
قال «بوعمير»: منظر المدن المغربية من الطائرة تبدو كأنها طيور النورس البيضاء، وقد رقدت وسط الخضرة!
علَّقت «هدى»: هذا وصف شاعر!
ردَّ «بوعمير»: إنها الحقيقة، هذه المدن البيضاء الجميلة تجعل الإنسان يشعر بالحب لها حتى قبل أن يتعامل معها!
ثم أضاف بعد ذلك: أتمنى أن أقوم برحلة داخل المغرب أرى فيها هذا الجمال الذي لم أستمتع به طويلًا!
ابتسمت «هدى» وقالت: إذن، فأنت مدعوٌّ لهذه الزيارة، ولو أنها ليست زيارة، فأنت في بلدك.
قال مبتسمًا: هذا حقيقي … إنني أشعر بالقرب من مدينتكم.
قالت «هدى»: ومدينتك أيضًا.
ثم استغرق الشياطين في تأمل الطبيعة الجميلة حولهم، لكن ذلك لم يستمر، فقد قالت «هدى»: إننا نقترب من «طنجة»!
وعندما وصلت السيارة وسط المدينة النظيفة تمامًا، قال «أحمد»: ينبغي أن ننزل هنا.
ثم سأل بسرعة: هل يبعد موقف الأتوبيس كثيرًا.
قالت «هدى»: خمس دقائق فقط سَيْرًا على الأقدام.
غادر الشياطين السيارة، وقطعوا المسافة وسط المدينة في اتجاه شاطئ المحيط الأطلنطي، الذي يقع عليه الميناء الكبير، كان الجو بديعًا، ونسمات باردة نوعًا تبعث في النفس النشاط، لم يشعر الشياطين بالغربة في المكان، فالناس يتحدثون العربية بلكنة خاصة ومفهومة، وعربات صغيرة منتشرة تبيع الحلوى، وحدائق ممتدة بامتداد الشاطئ …
قال «أحمد»: إنها تذكرني بالإسكندرية!
ابتسم «باسم» وقال: إنها ميناء هي الأخرى!
وصلوا إلى موقف الأتوبيس، كانت أصوات الباعة ترتفع مع أصوات المنادِينَ على الأتوبيس، اتجهوا إلى حيث يقف أتوبيس «أصيلة»، فقد كان هناك عدد آخر من الأتوبيسات يصل إلى أماكن أخرى، أخذوا أماكنهم فيه، ولم تمضِ دقائق حتى كان الأتوبيس يتحرك في اتجاه «أصيلة».
نظر «أحمد» من نافذة الأتوبيس، وقال: إن الشارع العربي لا يختلف من مكان إلى مكان … فالشارع في دمشق يمكن أن نجده في «القاهرة» أو «الرباط» أو «بني غازي» أو «عمان»، ولهذا لا يشعر العربي بالغربة في أي مكان عربي!
علَّق «مصباح»: هذه حقيقة، وهي ملاحظة جديرة بالتأمل!
مرة أخرى ظهر الطريق الأسفلتي، والخضرة التي تكسو الجبال إلى امتداد البصر، مرَّت حوالي ثلث ساعة، فقالت «هدى»: إننا نقترب من «أصيلة»، فبعد عشر دقائق سوف نكون في قلب القرية، مرَّت الدقائق سريعة، وبدأت تظهر ملامح القرية، كانت عبارة عن مدينة صغيرة تمتد على ساحل المحيط الأطلنطي … الشوارع نظيفة تمتد الخضرة من مساحات كثيرة منها، توقَّف الأتوبيس فنزل الشياطين. قالت «هدى»: إن لي صديقة تُدعى «خديجة»، وأهلها يحترفون حرفة الصيد.
لمعت أعين المجموعة وقال «باسم»: ولماذا تُخفين؟!
ابتسمت قائلة: أردتُ أن تكون مفاجأة، وإذا كان الزعيم قد اختار أحدًا غيري لكنتُ قد فجَّرْتُ المفاجأة حتى آتي إلى هنا.
قال «أحمد»، مبتسمًا: لقد اختصرتِ كثيرًا من جهودنا!
ابتسم «بوعمير»، وقال: إذن، علينا بالآنسة «خديجة» سريعًا!
تقدمتهم «هدى» خروجًا من وسط القرية إلى شاطئ المحيط … صاح «باسم» فجأة: ما هذا الجمال؟
ثم أشار بيده، وتبعته أعين الشياطين، كانت هناك قلعة قديمة تقف في روعة على شاطئ المحيط وقد التفَّ حولها سور ضخم.
قالت «هدى»: سوف نمرُّ من أمامها إلى حيث بيت «خديجة».
كانت الشمس قد بدأت تميل إلى الغروب، وانتشر اللون الأحمر فوق الأشياء، ووصلوا إلى صحن القلعة. وقف «باسم» مشدوهًا وهو يرفع وجهه إلى المبنى الذي يرتفع إلى عدة أدوار …
قالت «هدى»: هنا في هذه الساحة تُقام المهرجانات الفنية.
هتف «باسم»: إنه اختيار بديع للتاريخ والفن معًا!
كان «أحمد» مستغرقًا في مشاعر رقيقة، كان يشعر بالمتعة لتلك اللوحات الطبيعية المتتالية، فقد نزلت قدماه أرض المغرب من قبل، ابتسمت «هدى» وقالت: ينبغي أن نذهب إلى «خديجة» … وسوف نعود هنا كثيرًا.
تحرَّك الشياطين يقطعون ساحة القلعة حتى خرجوا منها. وبدأت خطواتهم تتجه إلى الشوارع الضيقة التي تتكون منها القرية، عند أول بيت وقف «باسم» صائحًا: هل هذا هو البيت؟!
كان البيت الذي يشير إليه تحفة معمارية جميلة، غطَّت واجهته مربعات القيشاني الملونة … ويبدو الطابع العربي واضحًا فيه، ردَّت «هدى»: نعم بيت، وكل البيوت في قريتنا هكذا، تبدو كأنها عمل فني!
قال «مصباح»: أشعر أننا داخل حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة …
ابتسمت «هدى» وقالت: لا أظن أنا سوف نقضي أيامنا في مشاهدة طِرْزِ البيوت.
ثم أضافت: إنني أكرِّر الدعوة لكم جميعًا، لقضاء عدة أيام هنا!
استمر الشياطين في طريقهم خلف «هدى»، وهم يمرون بين البيوت في حواري ضيقة … قالت «هدى»: عادة تكون شوارع المدينة والقرى الساحلية هكذا ضيقة وملتوية حتى تحمي الناس من رياح البحر.
عند بيت أبيض، واجهته أيضًا من القيشاني الملون، وقفَتْ «هدى»، فوقف الشياطين، طرقَتِ الباب في هدوء، ولم تمضِ لحظة حتى فُتح الباب، وأطلَّ منه صبي صغير، سألته «هدى»: «خديجة» موجودة؟
ردَّ الصبي: مَن أنتِ؟
ردَّت «هدى»: «هدى» … قل لها إن صديقتكِ «هدى» بالخارج.
قال الصبي مبتسمًا: إذن، تفضَّلوا حتى أستدعيها!
دخلت «هدى» وتردَّدَ الشياطين، نظرَتْ إليهم باسمةً وقالت: تفضلوا؛ فنحن لسنا أغرابًا على أي بيت هنا!
كان الصبي قد اختفى، ولم يكد الشياطين يدخلون صحن البيت، حتى كان صوت يهلِّل: عزيزتي «هدى» إنني لا أصدق!
كان الصوت صوت خديجة، فتاة في مثل سن «هدى»، رقيقة الملامح، سمراء، مبتسمة، طويلة الشعر، أنيقة الثياب البسيطة، احتضنت «هدى» في إعزاز، ثم نظرَتْ إلى الشياطين قائلة: أهلًا بكم في بيتكم.
ردَّ الشياطين تَحِيَّتها، وقالت «هدى»: هؤلاء أصدقائي وزملائي؛ «أحمد» من مصر.
قاطعتها «خديجة» صائحة: من مصر، إذن أهلًا … وسهلًا.
نظر «أحمد» إلى «هدى»، فهذه أول مرة يعرف أحدٌ أسماءهم الحقيقية، إلا أن «هدى» ردَّتْ بابتسامة وقالت: لا بأس في بلادنا أن نظهر كما نحن، فهذه مسألة لا تلفت نظر أحد.
ثم قدَّمت بقية الشياطين، رحَّبت بهم خديجة كثيرًا، ثم قالت: كنتُ أتمنى أن يكون والدي هنا حتى يستقبلكم، لكنه في البحر.
سألت «هدى»: للصيد كالعادة.
وجاءت المفاجأة في إجابة «خديجة»، إجابة لم يكن يتوقعها الشياطين؛ حتى إن أعينهم قد لمعَتْ من الدهشة.