عم «عابد» … هل ينضم للشياطين؟
لم يكن هناك شيء غير عادي، بعض الرجال وبعض النساء وصلوا، ووقفوا على الشاطئ في انتظار المراكب التي كانت تقترب بسرعة، زادت الحركة في المقهى القريب وازداد الضوء فيه، قال أحد الواقفين: إنهم محظوظون فالرياح معهم!
ردَّ الآخَر: إن المد أيضًا معهم، وإلا اضطُرَّت المراكب إلى البقاء حتى الصباح.
كان الشياطين يستمعون إليهم في اهتمام، في نفس الوقت كانت المراكب تقترب، وصوت الماكينات يأتي واضحًا، كانت أضواء خافتة تزحف على سطح الموج مع اقتراب القافلة، فيبدو المنظر وكأنه لوحة مرسومة بعناية، فجأة لمع جسم رمادي في الماء ثم اختفى، وصاحت «خديجة»: هل رأيتموه، لقد ظهر واختفى بسرعة.
ثم أضافت بعد لحظة: سوف يظهر مرة أخرى، فترقَّبوا الضوء على سطح الماء.
مرَّت لحظات، ثم فجأةً ظهر «درفيل» بلونه الفضي يقفز خارج سطح الماء ثم يغوص مرة أخرى.
قالت «خديجة»: هل شاهدتموه؟
ردَّت «هدى»: نعم، لقد كان واضحًا تمامًا!
قال «باسم»: لعله «درفیل» واحد، هو الذي يقفز ثم يختفي!
قالت «خديجة»: وربما أكثر من واحد، فأنت لا تستطيع تمييزهم من بعض!
وصل أول مركب للصيد، مركب كبير، اختفى صوت الماكينات، وبدأ صوت الرجال، نادى أحدهم: عليُّ بن عيسى هل أنت موجود؟ ردَّ واحد من الشاطئ: موجود يا ريس!
قفز الرجال في الماء القليل قرب الشاطئ، ثم بدأت كميات السمك تظهر، كميات كبيرة، كانوا يحملونها في طاولات خشبية، همسَتْ «هدى» في أذن خديجة: إنني لا أرى أباكِ بينهم!
ردَّت «خديجة»: لعله في المركب الآخَر!
توالى وصول المراكب، وتوالى وصول الصيادين، فجأةً هتفَتْ «خديجة»: هذا أبي.
جاء صوت هادئ عميق: «خديجة»، هل أنت هنا؟
ردَّت بفرح: نعم يا أبي، ومعي أصدقاء في انتظارك!
قال الرجل: مرحبًا بهم!
وعندما وصل إليهم، حيَّاهم في حرارة، وقال ضاحكًا: لقد رأيتُ نورًا على الشاطئ، ولم أكن أظن أنكم هنا!
ابتسم «أحمد»: وشكره على تحيته الرقيقة.
فقال الرجل: هيا الآن إلى الدار، وسوف ألحق بكم!
في الوقت الذي كانت الكلمات تدور بين «أحمد» و«عابد بن حسن» (والد «خديجة»)، كان بقية الشياطين يراقبون ما يدور، لكنهم لم يشاهدوا شيئًا غير عادي، طاولات السمك، يحملها الرجال إلى داخل القرية، ولا شيء آخَر.
قالت «خديجة»، هيا بنا ننتظر أبي!
تحرك الشياطين في اتجاه البيت، وقد استغرقوا في التفكير، كانت «هدى» قد أخذَتْ «خديجة» وسبقتهم حتى تعطيهم فرصة للحديث دون أن تشعر «خديجة» بشيء.
قال «باسم»: هل شاهد أحدكم شيئًا غير عاديٍّ؟
ردَّ «بوعمير»: لا شيء، ولا أظن أنهم المقصودون!
قال «مصباح»: أظن أنهم لن يكشفوا أنفسهم أمام الجميع، فلا بد أن هناك أعمالًا أخرى.
سأل «باسم»: ما رأيك؟
ردَّ «أحمد»: رأيي أن المسألة ليست بهذه البساطة، وأظن أننا يجب أن نُشرك والد «خديجة» معنا!
هتف «بوعمير» بسرعة: كيف؟
أجاب «أحمد»: إن المعلومات التي لدينا تتعلَّق باﻟ «درافيل» وكيف يستخدمونها في جلب المخدرات، ولن يعطينا معلوماتٍ كافيةً غيرُه، فالمؤكد أن الصيادِينَ الطيِّبِينَ لا يشكُّون في شيء، لكن إذا طرحنا شكوكنا ولفتنا نظره فإن الأمور سوف تتجه اتجاهًا آخَر.
سكت لحظةً ثم أضاف: حتى لا نسبق الحوادث، دعونا الآن نصل إلى البيت ثم نرى!
صمت الشياطين، واستمروا في طريقهم حتى البيت، وهناك أدخلتهم «خديجة» في قاعة واسعة مفروشة بطريقة عربية، وابتسمَتْ قائلة: هذا مكانكم، أمَّا «هدى»: فسوف تنام معي!
وقالت بسرعة: هل تسمحون لي ﺑ «هدى» ونترككم وحدكم، وسوف يأتيكم أبي.
نظرَتْ «هدى» إلى «أحمد»، بسرعة، الذي قال بنظرة فهمتها، ثم أضاف مبتسمًا: على ألا تخرجا وحدكما في الصباح!
تمنَّت لهم «خديجة» نومًا هادئًا، ثم انصرفت هي و«هدى». كانت الوسائد تملأ المكان، فاختار كلٌّ منهم ما يحتاجه منها، وما كادوا يتمدَّدون، حتى جاء صوت «عابد»: هل نام الأصدقاء؟
ردَّ «أحمد»، بسرعة: نحن في انتظارك يا عم «عابد»!
ظهر عم «عابد»: وقد غطَّت وجهه ابتسامة عريضة، قائلًا: أظن أن الوقت متأخر، وأنتم في حاجة إلى النوم، فقد عرفتُ أنكم وصلتم منذ مدة، وأقترح أن نؤجل حديثنا للغد!
قال «أحمد» مبتسمًا: كما تريد، نحن فقط كنا نتمنى الحديث معك!
ابتسم «عابد»، وقال (وهو يأخذ وسادة ويجلس عليها): إذن، فسوف يسعدني ذلك كثيرًا.
ثم قال ضاحكًا: هاتوا ما عندكم، أعرف أن أسئلتكم كثيرة، لكني على استعداد لها!
ابتسم «أحمد»: وقال: هل نطلب أن يكون ما نقوله سرًّا بيننا!
ظهرَتِ الدهشة على وجه الرجل، وقال: إذا كان هناك ما يحتاج لأن نخفيه.
أخذ «أحمد» يشرح لعابد قضيتهم كاملة، والدهشة تملأ الرجل لحظةً بعد أخرى، وعندما انتهى «أحمد» من كلامه، قال «عابد»: هذا كلام خطير جدًّا، إنكم يا أبنائي تفتحون عيوني على أشياء لم تكن تلفت النظر، فنحن — الصيادِينَ — نعتبر علاقة «الدرفيل» بالصياد علاقة عادية، كأنها علاقة بين صديقَينِ، لكن ما تقولونه يجعلني أعيد النظر!
كان الشياطين ينظرون إليه، وقد شرد واستغرق في التفكير، لكن «بوعمير» قطع الصمت متسائلًا: ألا يفعلون ذلك في الليل!
نظر له «عابد» لحظةً ثم أجاب: إن الحراسة مشددة على طول الساحل يا بني، ولا يستطيع أحد أن يفعل شيئًا.
قال «أحمد»: ألم تلحظ شيئًا غير عادي في علاقة «الدرافيل» بهؤلاء الصيادين الغرباء؟
ظلَّ الرجل ينظر إلى «أحمد» لحظةً ثم قال: دعني الليلة أفكِّر، إن كلامك قد أدار رأسي حتى إني لا أعرف ماذا أقول الآن؟
ثم فجأةً وقف وهو يقول: فليكن ما بيننا سرًّا، إنني لا أعرف كيف أشكركم على مهمتكم، وغدًا سوف يكون لنا حديث طويل، تصبحون على خير!
ثم غادر «عابد» المكان، ظل الشياطين في حالة صمت، وقد دارَتْ أسئلة كثيرة في رءوسهم، صمتُ الرجل وشروده، وتأجيله للحديث حتى الصباح، قطع «أحمد» الصمت قائلًا: أقترح أن ننام الآن، وغدًا تكون لنا جولة أخرى!
جذبَ كلٌّ منهم غطاءه وتمدَّد فوق الوسائد، شرد «أحمد» يفكِّر: هل كانت مفاجأة فعلًا، أم أن «عابد» ادعى الدهشة فقط؟ وهل أصابَ عندما أخبره بالحقيقة؟ فقد ينكشف موقفهم.
ظلَّت الأسئلة تُلِحُّ على رأس «أحمد»، لكنه في النهاية قرَّر أن ينام، فالقلق لن يحل مشكلة.
كان «أحمد» أول مَن استيقظ، فتح عينيه ونظر إلى النافذة، كان ضوء الصباح يتسلل من بين الزجاج الملوَّن، فيعطي انعكاسات جميلة، بينما كان بقية الشياطين لا يزالون نائمين.
فجأةً جاء صوت «عابد»، يقول: هل أنتم نائمون يا أبنائي؟
ردَّ «أحمد»، بسرعة: لا يا عم «عابد» نحن مستيقظون!
وقبل أن يظهر «عابد» كان الشياطين جميعًا قد استيقظوا، في دقائق كانوا قد اغتسلوا، وجاءت «خديجة» و«هدى» بالفطور، وجلس الجميع يأكلون، فجأةً سأل «مصباح»: هل يتحدث هؤلاء الصيادون الغرباء العربية؟
ردَّ «عابد»: نعم يا ولدي يتحدثونها بطلاقة!
سأل «باسم»: من أين هم؟
ردَّ «عابد»: يقولون إنهم من أمريكا اللاتينية، وإنهم يتنقلون من مكان إلى مكان وراء الصيد!
سأل «أحمد»: وهل تسمح لهم السلطات بذلك؟
ردَّ «عابد»: نعم، ولكن في حدود القانون!
فجأةً وقف «عابد» وقال: سوف أترككم لبعض الوقت، فما زلت أبحث عن إجابة لأسئلتكم بالأمس، وأرجو أن أعود بها!
انصرف «عابد» واستغرق الشياطين في تناول فطورهم، لكن «أحمد» تردَّد في خاطره سؤال: هل سيعود «عابد» وحده، أم أنه سوف يصحب بعضًا من هؤلاء الصيادِينَ الغرباء معه؟!
وتردَّد السؤال مراتٍ، ولم يَصِل معه إلى إجابة.