السائح الإسلامي
كان البيت الحرام بعيد الأثر في حياة محيي الدين؛ ففيه كتب الفتوحات، وفي مكة توثقت صلاته بالحجيج الوافد من كل فج يتولى التدريس لهم، ويحملون إلى بلادهم معارفه وعلومه؛ فهو زعيم علماء البيت المعمور، وإمام الوافدين إلى هذا المجتمع العالمي.
وأخيرًا آن له أن يُلبِّي الأمر بالرحيل، ليتم تطوافه بالعواصم الإسلامية؛ فودع الجزيرة العربية المحببة إلى روحه وقلبه، وفارق المدينة والطائف وغيرهما من مهابط الوحي، وملهمات الذكريات الخوالد.
وذهب محيي الدين إلى الموصل، وطاف بعُبَّادها وزُهَّادها، والتقى برجال التصوف فيها، ثم وَلَّى وجهه إلى بغداد، يركع ويتهجد في محاربها ومساجدها، ويُلقي دروس العلم في مدارسها ومعاهدها، ويلوذ به الأئمة ورجال الله.
يقول الإمام عبد الله اليافعي في الإرشاد: «اجتمع محيي الدين في بغداد بالإمام السهروردي، فأطرق كل منهما ساعة ثم افترقا، فقيل لابن عربي: ما تقول في السهروردي؟ فقال: مملوء سُنَّة من مفرقه إلى قدمه. وقيل للسهروردي: ما تقول في محيي الدين؟ فقال: بحر الحقائق وإمام العارفين.»
ثم طوَّف ببلاد الروم، والتقى بملك «قونية» فأجلَّه وأكرمه، ووهب له دارًا، قُدِّرت بمائة ألف درهم، فلما نزلها وأقام بها، مرَّ به سائل فقال له: شيء لله. فقال: ما لي غير هذه الدار فخذها لك، فتسلَّمها السائل، وعاد محيي الدين يملك الدنيا ولا يملك شيئًا.
ثم هبط إلى الشام وهي الأرض التي أحبها ورَغِب أن يموت بها؛ لأن الرسول — صلوات الله عليه — قال: إنها بلد الأبدال والعلماء.
قال شيخ الإسلام المخزومي: «وقد كان الشيخ بالشام كعبة للقاصدين ومثابة للمتفقهين، يتردد إليه العلماء، ويحف به الأدباء، ويلوذ به الأوفياء، يعترفون له جميعًا بجلالة المقدار، وأنه أستاذ المحققين من غير إنكار، وقد أقام بين أظهرهم أمدًا طويلًا، يكتبون مؤلفاته، ويتداولونها بينهم، ويسألونه الدعاء.»
واستقر بدمشق، وأقبلتْ عليه الدنيا، وحُملت إليه عطايا ملوك الأرض وسادتها؛ فكان يتصدق بكل ما يصل إليه حتى لُقب بريح الكرم.
يقول الإمام صفي الدين، في رسالته عَمَّنْ رأى من سادات عصره: «ورأيت بدمشق الشيخ الإمام العارف الوحيد محيي الدين بن العربي، وكان من أكابر علماء الطريق، جميع بين سائر العلوم الكسبية، وما وقر له من العلوم الوهبية، ومنزلته شهيرة، وتصانيفه كثيرة، وكان غلب عليه التوحيد علمًا وخُلقًا وحالًا، خُلقه هو القرآن.
وهو حجة الله الظاهرة وآيته الباهرة.»