صِلَاته بالملوك
محيي الدين هو بين رجال التصوف، صاحب الملوك، كما يُلَقَّب في التصوف بالسلطان، ويُعطى مقام السلطنة، وهو في خلقه وشمائله، وعزيمته ومواهبه مَلِك من ملوك الروح لا يُطاوَل ولا يُسامَى.
ولقد اتصل محيي الدين في مطلع شبابه بملك مراكش، وصادقه وصافاه وعمل معه وله، ثم هبط إلى مصر؛ فأحبه واليها وأكبره والتمس منه الصحبة والبقاء، فسمح له بالصحبة وأبى البقاء.
ولم تقُم صِلاته بالملوك على الزُّلفى والتملُّق، فما ينبغي لرجال الله هذا وحاشاه منه، وهو مَنْ هو في أنواره ومقاماته، بل قام محيي الدين لديهم مقام كلمة الحق، مقام المربي المرشد، مقام العالم الأمين على رسالته؛ فلا تأخذه في الحق لومة لائم، فهو الناصح أبدًا، الناصر للحق في لفتاته وإشاراته.
يقول محيي الدين: «كانت لي كلمة مسموعة عند الملك الظاهر صاحب مدينة حلب، ابن الملك الناصر لدين الله صلاح الدين بن يوسف بن أيوب، فرفعتُ إليه من حوائج الناس في مجلس واحد مائة وثمان عشر حاجة قضاها كلها، وكان منها: أني كلمته في رجل أظهر سرَّه وقدح في ملكه، وكان من جملة بطانته، وعزم على قتله.
فلما كلَّمتُه في شأنه أطرق، وقال: حتى أُعَرِّف المولى ذنب هذا المذكور، وأنه من الذنوب التي لا تتجاوز عنها الملوك، فقلت له: يا هذا، تخيَّلتَ أن لك همة الملوك، وأنك سلطان. والله ما أعلم في العالَم ذنبًا يُقاوِم عَفْوِي، وأنا واحد من رعيتك، وكيف يقاوم ذنبُ رجلٍ عَفْوَك في غير حدٍّ من حدود الله، إنك لدنيء الهمة؛ فخَجِل وسرَّحه وعفا عنه، وقال لي: جزاك الله خيرًا من جليس، مثلك مَنْ يجالس الملوك. وبعد ذلك المجلس ما رَفَعْتُ إليه حاجة إلا سارع في قضائها من غير توقُّف كانت ما كانت.»
وإنه لموقف عظيم من رجل عظيم لدى ملك عظيم، يدل في إشراق ووضوح على مكانة محيي الدين لدى الملك الناصر، حتى ليلقِّبه بالمولى، وحتى لَيرمي محيي الدين في وجهه بأعنف كلمة تُوجَّه إلى ملك؛ فيصفه بنقص الهمة، ولا يغضب الملك العظيم، بل يخجل، ثم يعفو عن الذنب الذي لا تعفو عن مثله الملوك، ثم يقول: جزاك الله خيرًا، فمثلك مَنْ يجالس الملوك.
وبهذا الخلق، هزَم هؤلاء الملوكُ أوروبا مجتمعة متكاتفة في ساحات الشام وميادينه.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصل الاهتمام السلطاني الغالب بأمر الله — أدام الله عدل سلطانه — إلى والده الداعي له محمد بن العربي، فَتَعَيَّنَ عليه الجواب بالوصية الدينية، والنصيحة السياسية الإلهية، على قدر ما يعطيه الوقت ويحتمله الكتاب، إلى أن يُقَدَّر الاجتماع ويرتفع الحجاب.
فاحذر أن أراك غدًا بين أئمة المسلمين من أخسر الناس أعمالًا، الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ولا يكون شكرك لما أنعم الله به عليك من استواء ملكك بكفران النعيم، وإظهار المعاصي، وتسليط النوَّاب السوء بقوة سلطانك على الرعية الضعيفة، فإن الله أقوى منك، فيحتكمون فيهم بالجهالة والأغراض، وأنت المسئول عن ذلك. فيا هذا، قد أحسن الله إليك؛ فأنصف المظلوم من الظالم، ولا يغُرَّنَّك أن الله وَسَّعَ عليك سلطانك، وَسَوَّى البلاد لك ومهدها مع إقامتك على المخالفة والجور، وتعدِّي الحدود؛ فإن ذلك الاتساع مع بقائك على مثل هذه الصفات بإمهال من الحق لا إهمال، وما بينك وبين أن تقف بأعمالك إلا بلوغ الأجل الْمُسَمَّى، وتصل إلى الدار التي سافر إليها أباؤك وأجدادك.
يا هذا، ومن أشد ما يمر على الإسلام والمسلمين — وقليل ما هم — رفع النواميس والتظاهر بالكفر، وإعلاء كلمة الشرك؛ فتدبَّر كتابي ترشُد إن شاء الله، ما لزمت العمل به والسلام.
هذه هي لغة العلماء إلى الملوك، علماء الله لا علماء الدنيا.
ويروي لنا محيي الدين أنه كان يسير في رفقة من أصحابه؛ رجال العلم والتقوى، ونظر فرأى الخليفة قادمًا، فقال لأصحابه: مَنْ بدأه منكم بالسلام، أوقعتُ به لديه؛ فإن السُّنَّة أن يُسلِّم الراكب على المترجل، وما تعوَّد الخليفة ذلك.
ووصل الخليفة إليهم، فلم يُلقُوا إليه بالسلام، وتعجَّب الخليفة؛ ولكنه نظر فرأى محيي الدين، فألوى بزمام دابته، وقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقالوا: وعليكم السلام ورحمته وبركاته.
وتبسَّم الخليفة، وقال: رحمكم الله، لقد أحيَيْتُم سُنَّةً محمدية كريمة، وعلمتموني واجبًا.
قال الفيروز آبادي صاحب القاموس: لقد رأيتُ إجازة بخط الشيخ، كتبها للملك الْمُعَظَّم صاحب حلب، ورأيت في آخرها: «وأجزتُ له أيضًا أن يروي عني كتبي وجميع مؤلفاتي، ومن جملتها كذا وكذا حتى عَدَّ نيِّفًا وأربعمائة مؤلف، منها: التفسير الكبير، الذي وصل فيه إلى قوله — تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا.»
وتلك الوثيقة التاريخية؛ التي ينقلها لنا الفيروز آبادي، تدل على تلمذة الملوك له، وحرصهم على اقتناء مؤلفاته التي أرْبَتْ على أربعمائة مُؤَلَّف.
يقول محيي الدين: «وإياك وصحبة الملوك، إلا أن تكون مسموع الكلمة عندهم؛ فتنفع مسلمًا أو تدفع عن مظلوم، أو ترد سلطانًا عن فعل ما يؤدي إلى الشقاء عند الله.»
ولقد وَفَّى محيي الدين بقوله وشروطه؛ فعاش في حدود تلك الكلمات الغالية، فكان شفيعًا لعامة المسلمين عند الملوك، مدافعًا عن المظلومين، ناصرًا للحق والدين، رادًّا للملوك عن فعل ما يؤدي إلى الشقاء عند الله.
وتلك رسالة لا ينهض بها إلا رجال الروح والإيمان، من أمثال محيي الدين، وَمَنْ في الناس كمحيي الدين؟