النهج الصوفي
يصف الله — سبحانه — الحالة المثلى، والمقام الأعلى للمؤمنين العابدين؛ فيقول — تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا.
فالإيمان الحق: ذكر وفكر، ذكر يُلهم الروحانية والمعرفة، وفكر يدرك الآيات وأسرارها، ذكر بالليل والنهار لفاطر السموات والأرض، وتفكر في آيات الله الكونية، وما اشتملت عليه السموات من نجوم وكواكب وأقمار وشموس، مسخرات بأمره، سابحات بإذنه، مدبَّرات أحكم التدبير بعلمه، وما حَوَتِ الأرض من نبات مختلف الألوان، وثمرات تُسقى من ماء واحد، ويَفْضُل بعضُها بعضًا في الأكل والأريج، ومعادن وكنوز؛ كل له رسالة يؤديها، وسهم نافع في قيام الحياة.
والذكر والتقوى معارج إلى العلم اللدني الرباني: وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ، وتفكر في آيات الله على ضربين: أولهما: يرشد إلى عظمة الحق ويدل عليه. وثانيهما: استنباط ما في تلك الآيات من قوى لخير الإنسانية وهداها ورفاهيتها، وهي علوم الدنيا.
فالمؤمن الكامل مَنْ اكتسب معارفه بالذكر والتقوى، والتأمل والتفكر في الآيات والبينات، مع الاعتصام بميزان الشرع، الذي لا يميل ولا يحيف.
ذلك هو التصوف في مبناه ومعناه، فالتصوف هو الظمأ إلى المعرفة على تعدُّد ألوانها وصورها، الظمأ إلى المثالية في علوم الدين وعلوم الدنيا.
وعلوم الدين غايتها الله — سبحانه — المعبود الواجب الوجود، المحب المحبوب، واهب الحياة وربها، وقيوم السماء وعمادها، يذهب الصوفي إليه بقلبه وروحه ووجدانه، فهو أبدًا الذَاكِر الراكع الساجد الفاني في الطاعة والمحبة، المراقب لله في كل حالاته، كأنه يرى الله مشاهدة مبصرة، فإذا لم يكن يراه فإن الله يراه، ويعلم سره ونجواه.
وعلوم الدنيا، غايتها سعادة الإنسان، وكف الأذى ومنع العدوان، وإشاعة الحب والسلام، وتذكيره في كل لفتة أو خاطرة، بربه وخالقه الذي وهب له الكون، وَسَخَّره بأمره له، ليعطيه من خيراته وكنوزه ما أحب وأراد.
خلق الله الكون لنا، ميدانًا لعقولنا، وساحة لأرزاقنا، وخلقَنا لنفسه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، فلننظر في آيات الكون ونتدبرها، ثم نُسبِّح بحمد الله، ولنَطْعَم من خيرات الأرض ونشكر الله، ولنستنبط من الأرض ما خفي وانطوى في باطنها، ثم لنرفع رءوسنا إلى مُوجِد الأشياء جميعها بالحمد والشكر، ذاكرين أفضاله، مقدرين لنعمه ومِنَنِه.
ذلك هو نهج المتصوفة في الذكر والتفكر، وهذا هو الميزان الذي تُوزن به حياتهم، وتُوزن به أعمالهم ومعارفهم.
فالتقوى طريق للعلم الرباني، والفكر والتفكر معراج إلى مناهل العلوم ومنابعها، والعلم أفضل ما في فضل الله كما يقول محيي الدين؛ فأولياء الله هم العلماء، وما اتخذ الله من جاهل وليًّا أبدًا؛ إنما يخشى الله من عباده العلماء. والعلم يوجب الطاعة، والطاعة تستوجب المحبة من الله، وحب الله يصاحب الفيض والإشراق والإلهام. أو كما يقول الإمام مالك: «ليس العلم بكثرة التلقين والرواية؛ وإنما هو نور يقذفه الله في قلوب مَنْ أطاعوه فأحبهم.»
يقول الإمام الغزالي: «كنت في مبدأ أمري منكرًا لأحوال الصالحين ومقامات العارفين، حتى صحبت شيخي يوسف النساج، فلم يزل يصقلني بالمجاهدة حتى حَظِيتُ بالواردات، فرأيت الله — تعالى — في المنام، فقال لي: يا أبا حامد. فقلت: أوَالشيطان يكلمني؟ قال: لا؛ بل أنا الله المحيط بجهاتك الست. ثم قال: يا أبا حامد، زُرْ مساطرك واصحب أقوامًا جعلتُهم في أرضي محل نظري، هم الذين باعوا الدارين بحبي. قلت: بعزتك ألا أذقْتَني برد حسن الظن بهم. قال: قد فعلت. والقاطع بينك وبينهم: تشاغلك بحب الدنيا؛ فاخرج منها مختارًا قبل أن تخرج منها صاغرًا، فقد أفضتُ عليك أنوارًا من جوار قدسي. فاستيقظتُ فرحًا مسرورًا، وجئتُ إلى شيخي يوسف النساج، فقصصتُ عليه الرؤيا فتبسَّم، وقال: يا أبا حامد، هذه ألواحنا في البداية، بل إن صحبتَني ستكحل بصيرتك بإثمد التأييد حتى ترى العرش وَمَنْ حوله، ثم لا ترضى بذلك، حتى تشاهد ما لا تدركه الأبصار؛ فتصفو من الأكدار طبيعتك، وترقى على طور عقلك، وتسمع الخطاب من الله — تعالى — كموسى: إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.»
ويقول الإمام الغزالي؛ مُتَحَدِّثًا ومدافعًا عن النهج الصوفي: «وماذا يقول القائلون في طريقةٍ أول شروطها: تطهير القلب عَمَّا سوى الله — تعالى، ومفتاحها: استغراق القلب بالكلية في ذكر الله، وآخرها: الفناء بالكلية في الله.
وأول هذه الطريقة: المكاشفات، حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتًا، ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال، إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق.»
وعلى هذا الضوء، نستطيع أن نعرف سر العلم لدى المتصوفة، وعلى هذا الضوء نستطيع أن نتدبر وندرس ذلك التراث العظيم الذي تركه محيي الدين للفكر الإسلامي والمعارف العالمية، من جولات في عوالم الأرواح والقلوب، وكشوف لدنية في أسرار الشريعة ومعارفها، وفيوضات كالبحار الزواخر في الآيات الكونية والنظم الإلهية والأسرار الربانية، المستمدة جميعها من خزائن القرآن وفيوضات العلم اللدني، الذي قوامه الذكر والفكر، والإشراق والرضا.
العلم اللدني
الكشف الباطني والفيض الرباني، هما سر الحياة في محيي الدين، فقد تدفقت معارفه من هذا النبع، وصِيغت علومه من ذلك الفيض، وتميز بين رجال الفكر الإسلامي، بل العالمي، بأنه صاحب النصيب الأكبر والحظ الأوفر من هذا العلم اللدني، أو الحكمة الربانية التي يُؤْتِيْهَا الله مَنْ يشاء من عباده. يقول محيي الدين: «إن المؤمن المتأدِّب بآداب ربه، المحافظ على شريعته، إذا لزم الخلوة والذكر، وَفَرَّغَ فكره ممَّا سواه، وقعد فقيرًا لا شيء له عند باب ربه؛ حينئذٍ يمنحه الله — تعالى — ويعطيه من العلوم والأسرار الإلهية، والمعارف الربانية، التي مَنَّ بها — سبحانه — على عبده الْخَضِر، فقال — تعالى: عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا، وقال — تعالى: وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ، وقال: إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا، وقال — سبحانه: وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ. والنور هو العلم، والفرقان أعلى فيوضات الإلهام.»
آيات بينات محكمات، في حقيقة الفيض الرباني، الذي يفجر الحكمة والعلم في قلب المؤمن العابد الذاكر، الذي يعيش جالسًا على باب ربه خاشعًا، مجردًا خاليًا من كل شيء، متوجهًا إلى الواهب القادر الذي يجعل لِمَنْ قصده نورًا يعيش به، وفرقانًا يمشي على هداه.
ثم يقول محيي الدين: «فحينئذٍ يحصل لصاحب الهمة في الخلوة مع ربه — جلَّت هيبته وعظمت منته — من العلوم ما يغيب عندها كل متكلم على البسيطة؛ لأنها من وراء أحكام العقل، وليست في متناوله ولا طاقته؛ لأنها مِنَّة الوهاب العليم.»
قيل للجنيد: بمَ نلتَ ما نلتَ؟ فقال: بجلوسي تحت تلك الدوحة ثلاثين سنة، دوحة المراقبة والطاعة، والعبودية الكاملة.
وكان أبو يزيد البسطامي يقول في محاججته لعلماء الرسوم: أخذتم علمكم ميتًا عن ميت، وأخذنا علمنا من الحي الذي لا يموت.
ومحيي الدين يصرح في كل ما يكتب بهذه المعاني، فهو يقول: «إن جميع ما أكتبه في تأليفي ليس عن رَوِيَّة وفِكْر؛ وإنما هو عن نفثٍ في رُوعي على يد مَلَك الإلهام.» ويقول في الباب الثالث والسبعين وثلاثمائة من الفتوحات: «وجميع ما كتبته وأكتبه في هذا الباب؛ إنما هو من إملاء إلهي وإلقاء رباني، أو نفثٍ روحاني في روح كياني؛ كل ذلك بحكم الإرث للأنبياء، والتبعية لهم، لا بحكم الاستقلال.» ثم يقول: «وتصانيفي إنما هي من حضرة القرآن وخزائنه؛ فإني أُعطيتُ مفاتيح الفهم فيه والإمداد منه.»
ويقصد محيي الدين من قوله: بحكم الإرث للأنبياء والتبعية لهم قول الرسول — صلوات الله عليه: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل.» أي: في الكشف والعلم، والنفث في الروع، والإمداد، والفيض الإلهي.
والكشف الباطني، أثير حوله الجدل والحوار، في سائر أنحاء الكوكب الأرضي، قديمًا وحديثًا.
فالماديون لا يرون للمعرفة والعلم بابًا إلا الحواس الخمس المتصلة بعالمنا، ويقرِّرون أن لا مصدر فوق هذا تصدر منه المعرفة غير الخيال والتصور. وما كان الخيال والتصور يومًا من الأيام حَكَمًا تُرْضَىْ حكومتُه في المعارف اليقينية، والعلوم الصحيحة الثابتة، وهم شديدو التهكم برجال الدين، والكشف الباطني، ومَنْ سلك مسلكهم من أصحاب الرياضة العقلية، والصفاء الروحي.
أما الصوفية والروحانيون على اختلاف أديانهم وألوانهم ومذاهبهم، فيقرِّرون أن للعلم وسائل باطنية يقرَّها العقل المنصف، ويعترف بها الواقع الملموس المشاهد، أساسها الصلة بين النفس الإنسانية وَالْعَالَم الروحاني، كما يقول الروحانيون، أو بين النفس الإنسانية وخالقها، كما يقول المتصوفة. أو كما يعبر محيي الدين: «إن الله هو المعلم الحقيقي، وَالْمُؤَدِّب الحقيقي للوجود كله، خلقَ الإنسانَ عَلَّمه البيان، ويُؤتي الحكمة مَنْ يشاء، وَعَلَّمَ الْخَضِر، وَمَنْ يسلك نهجه ويقرب قُرْبَه، من لدنه علمًا، وَأَدَّبَ مَنْ اصطفى واختار فأحسن تأديبه.»
فَمَنْ خلصت نفسه من شوائب المادية وظلماتها، وصَفَتْ روحه وتطهرت في محاريب الطاعة، ومناجاة المحبة، ورضي الله عنه فأحبه؛ أُفيضَ عليه من أسرار الوجود وآياته، وإشراقات العلوم وأسرارها ما يعلو على الحواس الخمس، وما تدركه الحواس الخمس، وظفر بمعارف وعلوم يضيق عنها نطاق النطق، كما يقول الغزالي، أو كما يقول أستاذه يوسف النساج، حتى يرى العرش ومَن حوله، ثم لا يرضى حتى يرى ما لا تدركه الأبصار، ثم يرقى حتى يسمع الخطاب كموسى: إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
والمعارف الهابطة من السماء، الْمُفاضة من تحت عرش الرحمن، تتبع الصفاء وتلازمه، كتب الشاعر الروحاني «موسيه» عن نفسه فقال: أنا لا أعمل ولكني أسمع ما أكتب، فكأنَّ إنسانًا مجهولًا يناجيني في أذني. وكان «لامارتين» الذي صقله الحب يقول: لست أنا الذي يفكر؛ ولكن هي أفكاري التي تفكر لي. «وطاغور» زاهد الهند وشاعرها يقول بأنه ينام وهو يعمل في قطعة من الشعر لم تتم، فيستيقظ فيجدها تامة في ذهنه. أما «سقراط» فيلسوف اليونان، فقد تحدَّث إلى تلامذته فقال: إني لأسمع بأذني ما تلقيه إِلَيَّ روح مجهولة، ومنها استمددتُ معارفي. وكان فيلسوف الإسلام «الفارابي» تُحَلُّ له أعظم مشاكله الفكرية في المنام، أما «ابن سينا» فيخطو خطوة أخرى نحو الكمال فيقول: إنه إذا استعصى عليه أمر من أمور الفكر، هرع إلى الصلاة فَصَلَّى وَسَبَّح، فإذا بكل شيء كالصبح المبين. «وأرسطو» قد بنى فلسفته في الدراسات النفسية على الفيض والإلهام.
تلك ثمرات الصفاء، وَهِبَات الروح الجميل المشرق، ولكن الكمال في الفيض والهبات؛ إنما هو لرجال الطاعة والعبادة، والذكر والمناجاة، والرضا والمحبة؛ فأولئك لهم التلقين والمشاهدة والنور والفرقان.
ويأتي بعد ذلك سؤال، لا بد أن يدور به اللسان: هل السالكون لطريق الطاعة والعبادة والذكر والصفاء، يَصِلون جميعًا إلى هذه المعارف الباطنية والعلوم الربانية، والإشراقات والفيوضات والمكاشفات؟
يقول محيي الدين: إن الفتح على قدْر الهمة. وإن شئتَ بلغة العصر، فعلى قدر الطاقة الروحية للعابد الذاكر؛ فطاقات العقول مختلفة، وطاقات الروح أيضًا، وكما تتباين كفاءات العلماء في الدراسة الظاهرية: علوًّا وانخفاضًا، وعبقرية هنا وجمودًا هناك، كذلك تتباين كفاءات المتطهرين العابدين، في الفتح والكشف.