مكانة محيي الدين من العلم اللدني
ومنذ قرعتِ الدعوة المحمدية أسماع الدنيا بالخير والهدى إلى يومنا، على كثرة العابدين الذاكرين المتطهرين في محاريب المحبة والصفاء، المنقطعين إلى ربهم، المتهجدين لخالقهم في تلك الرقعة المحمدية التي تشغل قلب الدنيا، والتي ضمت شتيتًا من الأمم، وألوانًا من الشعوب، والتي أنجبت العباقرة والأئمة، لم يعرف تاريخ تلك الأمة رجلًا ثانيًا يزاحم محيي الدين في قمته الشامخة، في علوم الكشف والفيض والهبات، والعطايا الربانية.
يقول الشعراني في اليواقيت والجواهر: «إن كلام محيي الدين إن نظر فيه مجتهد في الشريعة، ازداد علمًا إلى علمه، واطلع على أسرار في وجوه الاستنباط، وعلى تعليلات صحيحة لم تكن عنده، أو لغوي، أو مقرئ، أو معبِّر للمنامات، أو عالم بالطبيعة، أو متحدث، أو خبير بالطب، أو عالم بالهندسة، أو نحوي، أو منطقي، أو صوفي، أو عالم بالحديث وطرقه، وبعلم الأسماء والحروف وأسرارها، وجد لديه من العلم ما يذهل العقل ويحيِّره، فهو يفيد هذه العلوم وغيرها علومًا لم تخطر قطُّ على بال إنسان.»
ولقد أشار الشعراني إلى نحو ثلاثة آلاف علم منها في كتاب له أسماه: «تنبيه الأغبياء إلى قطرة من بحر علم الأولياء»، ويقول الشعراني أيضًا: «إن كلام محيي الدين ومرتبة علومه بالنسبة لغيره من الصوفية، كمرتبة إكسير الذهب بالنسبة إلى مطلق الذهب.»
ومحيي الدين تقف العقول على أبوابه متحيرة ذاهلة؛ فأمواج عبابه طاغية صخابة، ثم هادئة رقراقة، ولكنها في ضجيجها أو في صفائها، عميقة الغور عمقًا مهما غاصت العقول بحثًا عن نهايته؛ فهي أبدًا ترتد معترفة بالعجز، شاهدة بالقصور.
ومرجع هذا أن علوم محيي الدين مزاج عجيب من علوم الدين والدنيا؛ فهو يحدثك عن صفات الله — عز وجل — وأسرار أسمائه الحسنى، وما أُودع في عوالم الحروف والكلمات من آيات وآيات، ثم يحدثك عن خواص المعادن وأسرار مزجها وتحولها، وذارتها وموازينها، ثم يَثِب إلى الكواكب والأجرام السماوية وسيرها وحركاتها ونواميسها، ثم يعود بك إلى البحار وخصائصها وجواهرها وعوالمها، ثم يعطف بك على دروب الروح ومعارجها، وينتقل إلى النفس والهوى والجوارح، ثم إلى الأديان والشرائع، مقارنًا وشارحًا، ثم إلى العَمَاء الأوَّل الذي خُلق منه الكون، والماء الذي تَكَوَّن منه كل شيء حي، وفجأة إلى العالم الأخروي وصراطه وموازينه وملائكته وبعثه ونشوره، ثم إلى دنيا الطب وعجائب الأدوية، والنباتات وخواصها، وقبل أن تفيق يأخذ بأذنك ليعطيك درسًا في الهندسة والمثلثات والزوايا والدوائر؛ فأنت معه أبدًا على جناحي طائر من عالم مسحور، عنيف الحركة، جبار السرعة، يُسمعك تسبيح الملائكة وأحاديث الملأ الأعلى في الآفاق العليا، واصطخاب الأمواج وتلاطمها في أعماق المحيطات في طرفي لحظة واحدة.
فإذا دار رأسك من هذه السرعة الرهيبة، وعجز عقلك عن متابعة كل هذه الفيوضات العلمية المتباينة؛ ففهمت شيئًا وغابت عنك أشياء، أسمعك أشعاره وحدثك بالمقامات والأحوال، وناجاك بقصص الصالحين والأولياء، وسرد عليك النكت البيانية والدقائق النحوية، والرقائق الصوفية، وما وقع فيه الفقهاء، وما تورَّط فيه المفسرون، وما أُغلق على المتكلمين، وما أُلبس على المعتزلة والأشاعرة. فإذا استرددتَ أنفاسك اللاهثة قليلًا، قذف بك عنيفًا جامحًا إلى دنيا جديدة، على صورة عالمنا شكلًا، وعلى نقيضه معنى، فهناك الصفاء والجمال والخير الساري والثمر الشهي، الذي يَثِب إلى يدك، والأرض التي تُطْوَى تحت قدمك، والقصور التي صاغها الخيال، والنظم الرحيمة الكريمة التي لا يشقى بها إنسان، وفي تلك النشوة التي تحس بها جميلة ساحرة، يأخذك إلى مشكلات الجوهر الفرد، وكروية الأرض، ونظرية الموازنة، أو ما يُسَمَّى اليوم بالنسبة، وقوة التفجر أو ما يُسَمَّى اليوم بالذرة، فإذا خارتْ قواك، فلم تستطع التطواف مع محيي الدين في كتبه؛ فاعلم بأنك في بداية الشوط وما قطعتْ في ساحاته إلا خُطًى ضئيلة كليلة.
فإذا تفكرت فيما مرَّ بك، تذكرت أمرًا عجبًا، أنك مع رجل يعرض عليك ألوانًا من الفكر، وألوانًا من العلم، وألوانًا من المعارف لا تمُتُّ بصلة إلى علوم سابقة، ولا تمت بنسبة إلى أقلام مبدعة كاتبة، إنها لَمِن نَبْع محيي الدين وحده؛ فمحيي الدين لا يذهب في معارفه وعلومه مذاهب غيره، بل هو قمة شامخة، قائمة وحدها، أو كما يقول الإمام النووي: «تلك أمة قد خلت، لم تماثلها أمة من قبل، وما أحسب أن أمة تخلفها.»
يقول محيي الدين: «ما عندنا بحمد الله تقليد لأحد؛ إنما هو فهم في القرآن أُعطيتُه، ومدد من رسولي اختصصتُ به، وفيض من ربي أكرمني بأنواره.»
ومع هذا فقد استمسك محيي الدين بميزان الشريعة؛ لأنه كما يقول: «مَنْ رمى بميزان الشريعة من يده لحظة هلك.» ويهتف مع مسمع الدنيا: «لقد كتبتُ ما كتبت، وأنا أقر — بحمد الله تعالى — أني لم أذكر أمرًا غير مشروع، وما خرجتُ عن الكتاب وَالسُّنَّة في شيء، بل منهما استمددتُ، وبهما أنير طريقي.»