أقسام العلوم ومراتبها
يقول محيي الدين: «لقد أجمع رجال التصوف جميعًا على أنه لا تحليل ولا تحريم بعد شريعة رسول الله وخاتم النبيين — صلوات الله عليه؛ وإنما هو فهم يُعطى في القرآن لرجال الله، كما ثبت من حديث عليٍّ، وفيض من العلم يهبه لِمَنْ أطاعه فأحبه فألهمه وجعل له نورًا.
وكما حفظ علماء الظاهر حدود الشريعة، كذلك يحفظ علماء الباطن آدابها وروحها، وكما أُبيح لعلماء الظاهر الاجتهاد في استنباط الأدلة، واستخراج الحدود والفروع، والحكم بالتحليل والتحريم على ما لم يَرِدْ فيه نصٌّ، وترك أمره للاجتهاد والاستنباط؛ فكذلك للعارفين أن يستنبطوا آدابًا وأذواقًا ونهجًا للمريدين والعابدين.»
وإذن؛ فللتصوف علومه واجتهاداته التي يتفرد بها، ولتلك العلوم أثرها ومكانتها ومقامها في التشريع والآداب الإسلامية.
ثم يعطف محيي الدين لتوضيح رسالته على العلوم وأقسامها، وأثر العقل فيها، ومكانة الأحوال والأسرار منها، فَيُقَسِّم العلوم إلى ثلاثة أقسام: علم العقل، وعلم الحال، وعلم الأسرار؛ وهذه هي جماع المعارف كافة، وما سواها من فروع، فمنضوٍ تحت أعلامها.
علم العقل
فعلم العقل، هو كل علم يحصل نتيجة نظر في دليل، بشرط الحصول على وجه ذلك الدليل وشبهه؛ ولهذا يقولون في النظر: منه صحيح ومنه فاسد، ومنه علم الفلسفة وسواه من العلوم النظرية.
وعلامة هذا العلم أو من خصائصه أنك كلما بسطت عبارته حسُن واتضح معناه، وعذُب عند السامع، وَقَبِله منطقه.
علم الأحوال
والعلم الثاني: هو علم الأحوال، ولا سبيل إليه إلا بالذوق أو المشاهدة، ولا يقدر عاقل على أن يَحُدَّه، أو يقيم على معرفته دليلًا ألبتة، وهو علم يتلوَّن مع صاحبه بلون ذوقه، أو بلون مشاهداته، كالعلم بحلاوة العسل ومرارة الصبر، ولذة الجماع والعشق والوجد والشوق، عند الناس كافة، أو كحالات المتصوفة في أحوالهم ومقاماتهم وما يتذوقونه من لذائذ روحية.
فهو علم من المُحال أن يعرف أحد حقيقته إلا أن يتصف بحالاته ويتذوقها، أو شبهها من جنسها في عوالم الذوق والروح.
وشرط هذا العلم سلامة الإدراك والبراءة من الآفات، فإن مَنْ يغلب على طعم فمه المرارة يجد العسل مرًّا، وهو ليس كذلك.
وهذا العلم يُترك لأصحابه، فلا يتحدث به إلا مَنْ ذاقه، ولا يجوز إنكار الذوق على مَنْ ذاق، بل لا يلتذ بسماع حالاته على تعدد ألوانها إلا أصحاب الأذواق السليمة.
علم الأسرار
وهو العلم الذي فوق طور العقل وإدراكاته، وهو علم المتصوفة، أو العلم اللدني، وهو الحكمة التي يؤتيها الله مَنْ يشاء، وأساسها الفيض والنفْثُ في الرُّوع؛ ولذلك يتسارع إلى صاحبه الإنكار؛ لأنه من طريق الإلهام، وأكثر علوم الكُمَّل من هذا القبيل، وهو صفة أساسية للنبي ومنحة وخلعة على الولي.
وهو نوعان: نوع منه يُدرك بالعقل، وهي العلوم التي يمكن تحصيلها بالعقل والفكر، كالقسم الأول من هذه الأقسام، ولكن العلم به هنا لم يحصل عن نظر ولا عن تفكر، ولكنه ملازم لمرتبة العلم التي يعطاها.
والنوع الآخر من علوم الأسرار على ضربين: ضرب منه يلتحق بعلم الأحوال، ولكن على مقامٍ أعلى وحالة أشرف، والضرب الآخر من علوم الأخبار، وهي التي يدخلها الصدق والكذب، إلا أن يكون المخبر به قد ثبتَ صدقُه وعصمتُه فيما يخبر به ويقوله، كإخبار الأنبياء بالجنة وما فيها، فقوله: إن ثمة جنةً مثلًا من علم الخبر، وقوله في القيامة: إن فيها حوضًا أحلى من العسل من علم الأحوال، وهو علم الذوق، وقوله: كان الله ولا شيء معه، وما يشابه ذلك، من علوم العقل المدركة بالنظر.
أما علم الأسرار، فالعالم به يعلم العلوم كلها ويستغرقها، فلا علم أشرف من هذا العلم المحيط الحاوي على جميع المعلومات، وما بقي إلا أن يكون المخبر به صادقًا معصومًا، وعلى العاقل اللبيب الناصح لنفسه ألَّا يرمي ما يُرَدُّ إليه من هذا العلم، ولكن يقول: هذا جائز عندي أن يكون صدقًا أو كذبًا.
وكذلك ينبغي للعاقل، إذا أتاه هذا العلم من غير المعصوم، وإن كان صادقًا عند الله فيما أخبر به، ولكن كما لا يلزم السامع له بتصديقه، لا يلزمه تكذيبه، ولكن يتوقف ويتأمل، فإن كان ما أتى به لا تُحِيله العقول بل تجوِّزه، ولا يهدر ركنًا من أركان الشريعة، ولا يُبطِل أصلًا من أصولها، أو أتى بأمرٍ جوَّزه العقل، وسكت عنه الشارع؛ فلا ينبغي له أن يرده أصلًا، بل له الخِيَرة في الأمر، فإن كانت حالة المخبِر به تقتضي العدالة، لم يضرَّه القبول، بل هو الأولى. فكما أننا نحكم في الأرواح والأموال بشهادة الشهود، نقبل ونحكم بصدق مَنْ يأتي بهذه العلوم بشروطها التي ذكرناها. وإن كان المخبر بها غير عدل في علمنا ننظر، فإن كان الذي أخبر به حقًّا بوجه ما من الوجوه الصحيحة قبلناه، وإلا تركناه في باب الجائزات، ولم نتكلم في قائله بشيء مسيء؛ فإنها شهادة مكتوبة نُسأل عنها. قال تعالى: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ.
والصوفية — رضوان الله عليهم — أو أصحاب علم الأسرار؛ إنما يأتون لنا بأسرار وحِكَم من أسرار الشريعة، مما هي خارجة عن قوة الفكر والكسب، ولا تُنال أبدًا إلا بالمشاهدة والإلهام وما شاكل هذه الطرق.
ومن هنا نفهم، وعلى هذا الضوء ندرك قول الرسول — صلوات الله عليه: «إن يكن في أمتي محدَّثون فمنهم عمر.» أي: يأتون بالحديث المنطوي على العلم والحكمة، وبقوله في أبي بكر الصديق: «ما فضلكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا قيام؛ وإنما بما وَقَر في صدره من هذا الدين.»
ثم يقول محيي الدين: هذه هي علوم الأسرار، التي اختُص بها الأخيار، ولو لم يقع الإنكار لهذه العلوم في الوجود، وكان الناس كلهم أصحاب عقول سليمة لم يُفِد قول أبي هريرة: «حفظتُ عن رسول الله وعاءين من علم: أما أحدهما فبثَثْتُه، وأما الآخر فلو بثثتُه لقُطع مني هذا الحلقوم.» وقول ابن عباس في قوله — تعالى: اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ: لو ذكرت لكم تفسيره لرجمتموني. وفي رواية: لقلتم: إني كافر.
تلك هي أقسام العلوم عند محيي الدين، وفيها تنطوي معارف البشر كافة من علوم ظاهرة وباطنة؛ فعلم العقل: هو علم الأدلة، علم الجدل والإقناع، علم التفكر والنظر، وبدايته ونهايته محددة، ومعارفه حولها القيود والسدود؛ لأنه خاضع لإدراكات العقل، وقانون الفكر؛ ولهذا جاء منه الصحيح والفاسد، لاختلاف العقول وتباينها، وهو علم مباح للناس كافة، كما رزق الناس كافة العقول.
أما علم الأحوال، فهو علم التجربة والذوق، لا يعرفه إلا مَنْ جرَّب أو ذاق، كمقامات المتصوفة ودرجات أحوالهم، أو حالات النفس من الرضا والغضب، أو تذوق الحواس للمرارة والحلاوة، وشرطه صحة الأداء عند صاحبه حتى لا يفسد حكمه على الأشياء.
وهو علم وسط بين علوم العقل وعلوم الأسرار؛ ولهذا يشترك فيه المتصوفة وغيرهم، لكل إنسان ما ذاق وشاهد؛ وليس لأحد أن يصدر حكمًا على ما يذوق أو يشاهده صاحب هذا العلم؛ لأنه إنما يذكر ما ذاق خاصة، وما شاهد وحده.
أما العلم الثالث: علم الأسرار، فهو علم المتصوفة وحدهم، علم المشاهدة والمكاشفة، العلم الجامع المحيط الشامل للمعارف كافة، العلم الذي هو للأنبياء أصلًا، وللأولياء خلعة منحة. وعلى العاقل ألَّا ينكر، بل عليه أن يتقبَّله بالقبول الحسن، ما دام لا يتعارض مع أصل من أصول الشريعة، ولا يهدم ركنًا من أركانها، بل هو يشرح الأصول ويدعم الأركان، ومن هذا الفيض كانت معارف محيي الدين، والمعترض على هذه العلوم بلا دليل متهور ناقص العقل، محروم من الفهم والخير.
علم التجليات
ويستطرد محيي الدين، فيضيف لهذه العلوم تتمة تكمل بها، أو إنْ شئتَ فهو يحدثنا عن المقام الذي تتنزل منه المعارف على أربابها.
والمتصوفة يؤمنون بأن المعارف أصيلة في النفس البشرية لا دخيلة عليها؛ لأن العلوم كافة من الله، هو مانحها، وهو — سبحانه — واهبها ومفيضها، عَلَّمَ آدم الأسماء كلها، ويعلِّم مَنْ يشاء.
يُصَوِّر لنا محيي الدين الكون في صورة جميلة منسقة، منظمة متماسكة، يشد بعضها بعضًا بناموس وقانون إلهي محكم، ومن قانون هذا الكون: الحركة الدائمة، وهذه الحركة، كما هي في الكون مصدر وجوده، أو كما يقول: إن الخلق مع الأنفاس يتجدد. هي أيضًا في الإنسان مصدر أحواله ومعارفه، يقول محيي الدين: «العالم في حركة دائبة، وللإنسان أحوال متقلبة، حتى ليحدث التقلب بين كل نفسين، ومرد هذه الحركة في الكون إلى قوله — تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ.
وأعلى العلوم هي مرتبة العلم بالله — سبحانه، وأعلى الطرق إلى العلم بالله: علم التجليات، ودونها علم النظر. وعلم التجليات هو الذي نزل فيه: وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا، أي: زدني من كلامك ما تزيدني به علمًا بك.
والتجلي أشرف الطرق إلى تحصيل العلوم، وهي علوم الأذواق، ولكل شيء ظاهر وباطن، وكذلك نفس الإنسان لها ظاهر وباطن؛ فهي تدرك بالظاهر أمورًا، وتدرك بالباطن أمورًا.
والتجلي يأتي للنفس البشرية بحسب حالتها واستعدادها؛ فتقع الزيادة في علوم الأحكام إن كان من علماء الشريعة، وفي علوم موازين المعنى، إن كان منطقيًّا، وفي علوم ميزان الكلام إن كان نحويًّا، وكذلك صاحب كل علم.
أما الصوفي، فتقع له الزيادة في عالم الحقائق والمعاني، في العلوم الإلهية، وعلوم الأسرار، وعلوم الباطن، وما يتعلق بعلوم الآخرة، وتلك منحة المنح لهم.»
ثم يقول محيي الدين: «إن تلك الهبات الروحية الهابطة من مقام التجلي على كُلٍّ بحسب علمه، تجعل الإنسان في زيادة علم أبدًا، من ناحية ما تعطيه حواسه وتقلبات خواطره، ولكن أغلب الناس لا ينتفعون بهذه العلوم؛ لأن الظن والشك والوسوسة تفسدها، كما تذهب بها الظلمة، ولا يسلم دائمًا إلا أهل الله الذين برئوا من الظنة والشك، وليست للوسوسة عليهم سلطان، ولا للظلمات إلى حياتهم من سبيل؛ فهم في نطاق الرحمة والعناية، وفي زيادة دائمة متلاحقة من العلوم والمعارف.»
ثم يقول: «ولكل رجل من أهل الله، سُلَّمٌ يخصُّه، يرقى فيه في معارج التجليات، ولا يرقى معه غيره في ذلك السلم.
ولسلم المعارف درجات، أولها: الانقياد، وآخرها: الفناء، وما بين هاتين الدرجتين: أنوار، وأسرار، وفيوضات، وهبات لدنية.»
ويربط محيي الدين على أفواه مَنْ يريد أن يتطرق من هذا القول إلى الظنة، ورمي المتصوفة بالباطل من القول؛ فيمسك بالميزان القسط قائلًا: «إن الأمر الإلهي التشريعي انتهى بانتهاء الأنبياء، وخُتِمَ بخير الرسل، فما بقي للولي العابد العالم إلا المناجاة الإلهية، التي لا أمر فيها؛ وإنما سمرًا وحديثًا ومحبةً ورضًا، فكل مَنْ قال من أهل الكشف: إنه مأمور بأمر إلهي في حركاته وسكناته، مخالف لأمر شرعي محمدي تكليفي؛ فقد التبس عليه، أو زَجَّ بنفسه بيننا وليس منا.»