محيي الدين والفِرَق الإسلامية
فإذا فرغ محيي الدين من وضع العلامات، التي تُرشد إلى الطريق الأعظم الْمُوَصِّل إلى الله، وهو طريق الطاعة والعبادة، والصفاء، والمحبة، وأوضح لنا حق الله، وحق الناس، وحق النفس على صاحبها، بتزكيتها وتطهيرها وتوجيهها إلى فاطرها وموجدها، عطف على الفرق الإسلامية التي احترفتِ الجدل وتعبدتْ في محاريبه؛ فتفرقت بها السبل، وركضت مع الأهواء، فركبتْها حُمَّى الكلام والنقاش، فحولت الإسلام من القلوب إلى الألسن والعقول، حولته إلى صراع وخصام، وتقاتل وتبارز بالألفاظ، وضربت على فطرته وصفائه الأول، بسحب مظلمة مرعدة، أخذت على المسلمين حياتهم؛ فانصرفوا من محاريب التقوى والعمل والإيمان إلى منابر الخصومات والجدل والكلام، وأسلمهم الجدل إلى تلاحٍ وعناد لم تحل عقدته، وإلى فُرقة لم يُجمع شملها؛ لأنهم ضربوا بألسنتهم في بيداء لا حدود لها، وسبحوا في محيط صَخَّاب، لا نهاية لعبابه وغضبة أمواجه، وهل ينتهي القول ما دام للجدل بابًا، بل أبوابًا، في مشاكل: القضاء والقدر، وخلق أفعال العباد، وصفات الله — سبحانه، وما إلى تلك المعضلات من شبيهات ومثيلات؟
الجَدَلُ والإسلام
ولقد حرَّم الإسلام الجدل ونهى عنه؛ لأن الجدل لا يصاحبه اليقين ولا يعرف التسليم، بل هو علامة من علامات الشك، أو كما يقول ابن عربي: «إيمان بما تبتكر العقول من ألوان وصور، لا بحقائق الإيمان كما جاء بها الفرقان.»
ولقد حذَّر الرسول — صلوات الله عليه — أصحابه وَمَنْ آمن به من الجدل وعواقبه، ونهى وأغلظ في الأمر بتجنُّب البحث وراء القضاء القدر وسرهما؛ لأنه يُسلِم إلى ظلمات من الشكوك، لا نور معهما ولا يقين. وطلب من أتباعه التفكر في آيات الله، لا في ذاته وصفاته وإلا هلكوا.
ومع هذا، فقد ألوى المسلمون بأعناقهم عن سُنَّة نبيهم، وضربوا في شعاب الجدل والبحث، وأثاروا في أفق الإسلام غبارًا لا يزال يخنق، ولا يزال يرمي بالضحايا.
عن أمامة قال: قال رسول الله ﷺ: «ما ضل قوم بعد هدًى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل.» (رواه الترمذي).
وعن عمر بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: خرج رسول الله — صلوات الله عليه — على أصحابه ذات يوم وهم يتراجعون في القدر، فخرج مغضبًا حتى وقف عليهم، فقال: «يا قوم، بهذا ضلَّتِ الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم، وضَرْبِهم الكتابَ بعضَه ببعض، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض، ولكن نزل القرآن فصدَّق بعضه بعضًا، ما عرفتم منه فاعملوا، وما تشابه فآمنوا به.» (رواه مسلم).
وعن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله ﷺ، ونحن نتنازع في القدر؛ فغضب حتى احمرَّ وجهه، ثم قال: «أبهذا أُمِرْتُمْ؟ أمْ بهذا أُرسلتُ إليكم؟ إنما هلك مَنْ كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمتُ عليكم ألَّا تنازعوا.»
وعن أبي الدرداء وأبي أمامة وأنس بن مالك قالوا: خرج علينا رسول الله ﷺ، ونحن نتنازع في شيء من الدين؛ فغضب غضبًا شديدًا لم يغضب مثله، ثم انتهرنا، وقال: «يا أمة محمد، لا تُهَيِّجوا على أنفسكم.» ثم قال: «أبهذا أمرتكم؟ أوليس عن هذا نهيتُكم؟ إنما هلك مَنْ كان قبلكم بهذا.»
ذلك هو البيان الذي لا بيان بعده، لا تُضرَب آيات القرآن بعضها ببعض جدلًا وعنادًا، وإنما عمل بما تعرف، وإيمان بما تشابه؛ فلا تنازُع يعقبه الفشل، ولا تخاصم وتنابز وبغضاء تورث الهلاك، ولا يُهَيِّج المسلم على نفسه غضبًا من الله، بذلك اللحن البغيض، من القول المسموم.
هكذا كان محمد — صلوات الله عليه — وصحبه — رضوان الله عليهم، حتى فتحت علينا فِرق الجدل وعلماء النظر وأئمة الكلام، أبواب هذا الجحيم.
جاء في كتاب «أعلام الموقعين»: «وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانًا، ولكن — بحمد الله — لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسُّنَّة كلمة واحدة، من أولهم إلى آخرهم، لم يسوموها تأويلًا، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلًا، ولم يبدوا لشيء فيها إبطالًا، ولا ضربوا لها أمثالًا، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، تلقوها بالقبول والتسليم وقابلوها بالإيمان والتعظيم.»
صفات الله تعالى
جاء القرآن الكريم بكثير من صفات الله — سبحانه وتعالى — تقف لديها العقول، كقوله — تعالى: يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ، ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ.
وجاءت الأحاديث النبوية الصحيحة بالكثير أيضًا من تلك الصفات، التي توهم العقول الضعيفة التجسيم والتشبيه، كقوله — صلوات الله عليه — كما جاء في الصحيحين: «لا تزال جهنم يُلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض.»
وقد فهم الصدر الأول — رضوان الله عليهم — بأن كل هذه الصفات حق؛ لأن الله — سبحانه — كما سَمَّى نفسه، وكما وصف نفسه، والقاعدة التي احتكموا إليها: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله؛ فكل ما أوجب نقصًا أو حدوثًا أو مشابهةً، فإن الله — سبحانه — مُنَزَّه عنه؛ لأنه — تعالى — مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه.
وقد علم الرسول — صلوات الله عليه — ما يساور النفوس من وسوسة وإلقاء بسوء؛ فقفل باب الجدل والتأويل والبحث والنظر في هذه الصفات ومدلولاتها، فأوصى أصحابه بقوله: «تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا.» وفي رواية أخرى: «تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله.»
تلك وصية إمامنا الأعظم — صلوات الله عليه، ومع هذا فقد أراق المسلمون من المداد حول صفات الذات، وحول التجسيم والتنزيه، وما إلى التجسيم والتشبيه والتنزيه من صفات ونعوت؛ طوفانًا أغرق الأمة الإسلامية، وما نظفتْ أثوابها بعدُ من سَوَاده، ولا طهرتْ من آثاره.
فقد شهد العراق والشام والحجاز، صياحًا من الشيعة والرافضة، بأن اليد والجسم والأعضاء التي وردتْ في القرآن لله — سبحانه وتعالى — هي نعوت حقيقة لأعضاء جسدية ربانية. تعالى الله عَمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.
وجاء المعتزلة، فتنادَوْا بتنزيه الله — سبحانه — عن تلك الصفات، وأخذوا يصرفون كل ما يفيد التجسيم إلى المعنويات، أو إلى صفات أخرى تليق — في زعمهم — بالله سبحانه، كقولهم: الاستواء على العرش، بمعنى الاستيلاء واليد بمعنى القدرة، وهكذا.
أو كما يقول محيي الدين: «إن المعتزلة والأشاعرة أيضًا، تخيَّلتْ أنها لما تأولتْ قد خرجت من التشبيه الذي تعيبه على الْمُجَسِّمة، وهي ما فارقتْه إلا أنها انتقلتْ من التشبيه بالأجسام إلى التشبيه بالمعاني، المحدثة المفارقة للنعوت القديمة في الحقيقة والحد.»
وجاء ابن عربي، والجدل في عنفوانه والحوار مستعرُ الأُوار في العالم الإسلامي بين شتيت الفرق والمذاهب، حول صفات الذات، بين الْمُجَسِّمة وَالْمُشَبِّهة وَالْمُنَزِّهة؛ فأرسل صيحة جبَّارة ببطلان كل هذه الآراء وخروجها عن صراط الدين السوي المستقيم، وبضرورة الرجوع إلى ما كان عليه السلف الصالح من: إيمان وتسليم بكل ما ورد في القرآن كما ورد، وكما وصفه الله — سبحانه؛ لأن الْمُجَسِّمة قد ألْحَدوا؛ إذ أثبتوا لله — سبحانه — صفات كصفات البشر تفيد المشابهة، وهو — تعالى — ليس كمثله شيء.
وَالْمُنَزِّهة من المعتزلة والأشاعرة، قد أَوَّلوا تلك الصفات، وَحَمَّلوها معاني ارتضتْها عقولهم؛ فنجَوْا من التشبيه الْمُجَسِّد ليقعوا في التشبيه المعنوي، ثم هذه الصفات المعنوية التي ابتدعوها، أليس من الجائز أن تكون خاطئة؟ والعقل يصيب ويخطئ، فإذا كانت خاطئة، فقد نسبوا لله — تعالى — ما لم يقله.
يقول محيي الدين: «اعلم أن الخير كله في الإيمان بما أنزل الله، والشر كله في التأويل، فَمَنْ أَوَّل فقد أحرج إيمانه، وما كان ينبغي له ذلك، وفي الحديث: «كذَّبني عبدي، وما كان ينبغي له ذلك.» فلا بد أن يُسأل كل مُؤَوِّل عَمَّا أَوَّله يوم القيامة، ويقول له — تعالى: كيف أُضيفُ إلى نفسي شيئًا فتنزِّهني عنه، وَتُرَجِّح عقلك على إيمانك، وَتُرَجِّح نظرك على علم ربك؟! فاحذر يا أخي أن تُنَزِّه ربك عن أمرٍ أضافه إلى نفسه على ألسنة رسله؛ فإن العقل يخطئ في الإلهيات فلا يُعَوَّل عليه.» ثم يقول: «ومن العجيب أن الإنسان يعتمد على عقله في أن يقلِّد ربه صفات، ولا يأخذ بما أخبر عن نفسه — تعالى — في كتابه وَسُنَّة نبيه؛ فهذا من أعجب ما طرأ في العالم من الغلط، وكل صاحب فكر أو تأويل فهو تحت هذا الغلط بلا شك.
ومن العجب: أن الله — تعالى — يخبر بشيء عن نفسه في كتابه المحكم، فيأتي الإنسان بعقله القاصر صاحب الآفات والعلل، فيقول: إن عقلي يرد ذلك، وفكري لا يحتمل ذلك؛ وإنما يجب التأويل! أليس قبول ما أخبر به الله عن نفسه، أولى من قبوله من فكره؟ وأليس عاقبة هذا التأويل المعتمد على الفكر والعقل، أن يصوغوا من خيالهم وتفكيرهم خالقًا غير ما في كتاب الله؟»
ويتابع محيي الدين حملته القوية على المعتزلة، فيقول ناصحًا وموجهًا: «اعلم أن من الأدب عدم تأويل آيات الصفات، ووجوب الإيمان بها مع عدم الكيف كما جاءت؛ فَإِنَّا لا ندري إذا أَوَّلنا: هل ذلك التأويل مراد الله فنعتمد عليه، أم ليس هو بمرادٍ له فيرده علينا؟ فلهذا التزمنا التسليم في كل ما لم يكن عندنا فيه علم من الله — تعالى، فإذا قيل لنا: كيف يعجب ربنا، أو كيف يفرح مثلًا، أو كيف يغضب، كما ورد في القرآن والأحاديث؟ قلنا: إنا مؤمنون بما جاء من عند الله على مراد الله، وَإِنَّا مؤمنون بما جاء من عند رسول الله على مراد رسول الله، وَنَكِل علم الكيف في ذلك كله إلى الله وإلى رسوله، وهذه كانت طريقة السلف؛ فلا تأويل ولا تجسيم ولا تشبيه؛ وإنما ليس كمثله شيء.»
ثم يقول: «اعلم أن جميع ما وصف الحق — تعالى — به نفسه من: خلق، وإحياء، وإماتة، ومنح وعطاء، ومكر واستهزاء، وفرح وتعجب، وغضب ورضا وتبشبش، وقدم ويد وعين وأعين، وغير ذلك، كله نعت صحيح لربنا؛ فإننا ما وصفناه به من عند أنفسنا؛ وإنما هو — تعالى — الذي وصف بذلك نفسه على ألسنة رسله قبل وجودنا؛ وهو — تعالى — الصادق وهم الصادقون بالأدلة العقلية. ولكن ذلك على حد ما يعلمه — سبحانه وتعالى — وعلى حد ما تقبله ذاته، وما يليق بجلاله، لا يجوز لنا رد شيء من ذلك، ولا نكيِّفه ولا نقول بنسبته إلى الله، إلا على الوجه الذي أراده، وعلى غير الوجه الذي ينسبه إلينا، ونعوذ بالله أن نضيف ذلك إلى الله على حد علمنا نحن به، فَإِنَّا جاهلون بذاته في هذه الدار، وفي الآخرة لا ندري كيف الحال.
وما جنح صاحب العقل إلى التأويل إلا لينصر جانب العقل والفكر على جانب الإيمان؛ فإنه ما أَوَّل حتى توقف عقله في القبول، فكأنه في حال تصديقه لله غير مصدق له، فإيمانه في حال تأويله؛ إنما هو إيمان بما أَوَّل، لا بما أتى به الخبر.»
صفات الله عند العارفين
يقول محيي الدين: «إن العقلاء وأصحاب الأفكار اختلفت مقالاتهم في الله — تعالى — على قدر نظرهم، فالله الذي يُعبد بالعقل مجردًا عن الإيمان كأنه — بل هو — إله موضوع؛ بحسب ما أعطاه نظر ذلك العقل؛ فاختلفت حقيقته بالنظر إلى كل عقل، وتفاوتت العقول، وكل طائفة من أهل العقول تُجَهِّل الأخرى بالله، وإن كانوا من النُّظَّار الإسلاميين المتأوِّلين؛ فكل طائفة تُكَفِّر الأخرى، والرسل من عهد آدم إلى محمد — عليه السلام — ما نُقل عنهم اختلاف فيما ينسبونه إلى الله من النعوت، بل كلهم على لسانٍ واحدٍ في ذلك، والكتب التي جاءوا بها، كلها تنطق في حق الله بلسانٍ واحدٍ ما اختلف فيها اثنان، بل يُصَدِّق بعضهم بعضًا مع طول الأزمان وعدم الاجتماع.
وكذلك المؤمنون بهم على بصيرة؛ فهم المسلمون الْمُصَدِّقون الذين لم يُدخلوا نفوسهم في تأويل، فهم أحد رجلين: إما رجل آمن وسلَّم، وجعل علم ذلك إليه إلى أن مات وهو المقلِّد، وإما رجل عمل بما علم من فروع الأحكام، واعتقد الإيمان بما جاء به الرسل؛ فكشف الله عن بصيرته، وَصَيَّره ذا بصيرة في شأنه، كما فعل بنبيِّه — عليه السلام — وأهل عنايته، فكاشف وأبصر ودعا إلى الله على بصيرة، كما قال في حق نبيه — صلوات الله عليه — مخبرًا: أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي؛ وهؤلاء هم العلماء بالله العارفون، وإن لم يكونوا رسلًا ولا أنبياء، فهم على بينة من ربهم في علمهم به، وبما جاء من عنده، وكذلك وصف نفسه بكثير من صفات المخلوقين من المجيء والإتيان، والغضب والفرح، والتجلِّي للأشياء، والوجه واليد، والرضا والكراهة، في كل خبر صحيح ورد في كتاب أو سُنَّة نبيه، والأخبار أكثر من أن تُحْصَى، مما لا يقبلها إلا مؤمن بها من غير تأويل، أو بعض أرباب النظر من المؤمنين، بتأويل اضطره إليه إيمانه.
فانظر مرتبة المؤمن ما أعزَّها! ومرتبة أهل الكشف ما أعظمها! حيث لحق أصحابها بالرسل والأنبياء، فيما اختُصوا به من العلم الإلهي الذي لا يدخله الشك ولا الريب؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، وما ورثوا دينارًا ولا درهمًا، بل ورثوا العلم بقوله ﷺ: «إنما نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة.»
العقل لا يدرك الله
فإذا أوضح لنا محيي الدين مكانة العلماء العارفين بالله، الذين يؤمنون بربهم إيمانًا يقينيًّا، لا يعرف الشك ولا التأويل، أخذ يحدد وظائف العقل البشري، ثم أوضح أنه لا يستطيع إدراك صفات الله — تعالى — وما يتعلق بها؛ لأنه لا مشاركة بينه وبين خالقه. فقال: والعقل البشري لا يدرك الله — تعالى؛ لأن العقل البشري يعلم أو يدرك ما بينه مشاركة في النوع أو الجنس أو الطبيعة، وإنما يُدرَك الله بالقلب والكشف والوحي، فانظر إلى ما وصف الله به نفسه في كتابه، تعرف لُباب التوحيد.
ثم يقول: «لقد نظرنا بقوة العقل، وما أعطاه العقل الكامل، بعد جده واجتهاده الممكن؛ فلم نصل إلى المعرفة به — سبحانه — إلا بالعجز عن معرفته؛ لأَنَّا طلبنا أن نعرفه كما نطلب معرفة الأشياء كلها من جهة الحقيقة التي الأشياء عليها، فما عرفنا إلا أن ثَمَّ موجودًا ليس له مثل، ولا يُتصوَّر في الذهن ولا يُدرَك، فكيف يضبطه العقل؟ وهذا مما لا يجوز مع ثبوت العلم بوجوده؛ فنحن عالمون بالوجود وهو العلم الذي طُلب منا، ولما كان — تعالى — لا يُشابِه شيئًا من المخلوقات، ولا يُشبِهه شيء منها؛ كان الواجب علينا أوَّلًا كما قيل لنا: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ، أن نعلم ما العلم. قال — صلوات الله عليه: «إن الله احتجب عن الأبصار، وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم.» فأخبر ﷺ أن العقل لم يدركه بفكره. ولا بعين بصيرته، كما لم يدركه البصر.
هكذا فليكن التنزيه ونفي المماثلة والتشبيه، وما ضلَّ مَنْ ضل من المشبِّهة إلا بالتأويل، وحمل ما وردت به الآيات والأخبار على ما يسبق منها إلى الأفهام من غير نظر فيما يجب لله — تعالى — من التنزيه؛ فقادهم اعتمادهم على العقل إلى الجهل المحض والكفر الصراح، ولو طلبوا السلامة وتركوا الآيات والأخبار على ما جاءت من غير عدول منهم فيها إلى شيء ألبتة ووكلوا علم ذلك لله ورسوله، وقالوا: لا ندري؛ لكان يكفيهم قوله — تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فمتى جاءهم حديث فيه تشبيه، فقد أشبه الله شيئًا وهو — سبحانه — قد نفى التشبيه عن نفسه، فما بقي إلا أن ذلك الخبر له وجه من وجوه التنزيه يعرفه الله — تعالى، فَمَنْ أوَّل أو شَبَّه؛ فقد تعدَّى على الله — سبحانه، قال — تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ. وما قدروا الله حق قدره لما يسبق إلى العقول الضعيفة من التشبيه والتجسيم عند ورود الآيات والأخبار، التي تعطي مِن وجهٍ ما مِن وجوهها ذلك، ثم قال بعد هذا التنزيه الذي لا يعقله إلا العالِمون: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ، عرفنا من اللسان العربي أن يقال: فلان في قبضتي، ويريد أنه تحت حكمي، وإن كان ليس في يدي منه شيء ألبتة، ولكن أمري فيه ماضٍ وحكمي عليه قاضٍ، مثل حكمي على ما ملكتُه حسًّا وقبضتُ عليه. ومن ذلك أيضًا: التعجُّب والضحك والفرح والغضب، فالتعجب إنما يقع من موجود لا يعلم ذلك المتعجَّب منه ثم يعلمه فيتعجب، وهذا محال على الله.»
ذلك هو الفيصل في معركة التشبيه والتنزيه بين المعتزلة وَالْمُجَسِّدة ورجال الحديث، الفيصل في ذلك الجدل والحوار الذي شغل العالم الإسلامي في القرن السادس؛ حتى أُوقِدتْ نار الحرب بسببه في ربوع الشام، وهو الرجوع إلى منهج الصحابة — رضوان الله عليهم — في الصدر الأول؛ فلا جدال ولا حوار، وإنما إيمان بما جاء به القرآن على ما جاء، ولله — سبحانه — صفات الكمال والإجلال، وليس كمثله شيء، فهو مخالف للحوادث وللصفات وللأفعال مخالَفة مادية ومعنوية؛ فلا تشبيه ولا تأويل للتنزيه، فالتشبيه كما يقول محيي الدين: تثنية المشبَّه، والتنزيه تحديد المنزَّه، وكلاهما باطل لا يليق.
وبذلك أغلق محيي الدين بابًا من أبواب جهنم فُتح على العالم الإسلامي، وأطفأ خصامًا طال مداه واشتد خطره، وعاد بجمهرة الأمة من الجري وراء هذه الأوهام إلى حقائق الدين الثابتة، إلى الإيمان والتسليم والانقياد لمنطق القرآن، وَسُنَّة الرسول — عليه السلام.
ومحيي الدين يقول: «هذا هو حد الإيمان الواجب على المؤمنين كافة، أما مَنْ يريد بعد ذلك، أو فوق ذلك فهمًا لما يُراد من حقيقة صفات الله — سبحانه — فليس سبيله العقل والفكر؛ وإنما هو الإلهام من الله — تعالى. يقول: فإذا خلع الله — تعالى — على عبده مِن علمه، أعلمه من طريق الإلهام بمراده من تلك الآية أو الحديث، وهو من علوم العارفين.»
القضاء والقدر – أفعال العباد
فإذا انتهى محيي الدين من صراعه مع الفرق الإسلامية المختلفة، حول صفات الذات والتشبيه والتنزيه والتأويل، انتقل إلى ميدان آخر من مشكلات الفكر ومعضلاته، مشكلة القضاء والقدر، وخلق أفعال العبد ونصيبه من عمله، وهو ميدان لَعِب فيه التأويل والجدل والحوار أيضًا دورًا كبيرًا خطيرًا.
ومسألة الكسب: اعترف رجال الأصول بأنها من أدقِّ مسائلهم وأغمضها، وأعصاها على الفكر والعقل؛ هل الإنسان مُجبَر على ما يفعل، مُقَدَّر له ما يكسب؟ وإذن؛ فعلامَ الجزاء والعقاب؟ أمِ الإنسان مُخَيَّر يصنع نفسه، ويخلق الحوادث، ويُسهِم في تكييف ما قُدِّرَ له؟
وقد تلقَّف رجال الفكر والنظر هذا الإشكال فداروا به حول عقولهم، ودارتْ عقولهم به؛ فراحوا يُشقِّقون الأحاديث حوله، ويبتدعون الحلول والأقاويل، ولكنهم أبدًا يجدون أنفسهم في حلقة مفرغة تأخذ بأعناقهم، يبدءون من حيث ينتهون، وينتهون من حيث يبدءون؛ فما سَلِم لهم رأيٌ ولا خَلَص لهم فكرٌ.
هتف رجال الجَبْر بأن كل شيء من الله، والإنسان آلة مجبورة مقصورة على ما تفعل، لا إرادة لها ولا تصريف، كالقلم في يد الكاتب والمنشار في يد النجار، وراحوا يضربون الأمثال للناس، حتى إذا قيل لهم: فكيف إذن يُعاقَب هذا المجبور المقهور على ما يفعل؟ صمتَ منهم اللسان وأغضوا الطرف حيرة وارتباكًا.
وقالت المعتزلة: هذا لا يليق؛ لأن فيه نسبة الظلم إلى الله — تعالى، وهو — سبحانه — العادل الذي تسمو عدالته على الريب والظنون، وابتدعوا لهذا شيئًا عجبًا، هو أن القضاء والقدر مُعلَّق يقع عند العمل، وإرادة الإنسان هي الحَكَم بين حدوث الفعل أو عدمه، ولكن هل أغنى قولهم من الحق شيئًا؟ وهل أشفى النفوس من الريب والشكوك، وتلك النفوس تشهد بأن كل شيء لله، ومن الله، بهذا نطق القرآن، وجاءت الأحاديث.
أما المتصوفة فقد نهجوا مسلكًا وسطًا، هو نهج السلف الصالح، كل شيء من الله هذا حق؛ ولكن الإنسان مُكَلَّف؛ وهو لهذا يُعَاقَب، وكل إنسان يَسَّره خالقه لِمَا خُلق له في علم الله الأزلي؛ وهو لهذا محل للعقاب والثواب.
وبهذا لم يَدُرِ المتصوفة مع الجدل، ولم تركض عقولهم مع شهوة الحوار، بل سلَّموا الأمر لله مع الأدب؛ فما يصيب الإنسان من خير فمن الله، وما يصيبه من سوء فمن نفسه التي علم الله خصائصها منذ الأزل، فَيَسَّرها لاستعدادها وطاقتها، وما انطوت عليه.
آمن رجال التصوف بأن كل شيء من الله، وأنه خالق الأشياء وخالق أسبابها، وأنه — سبحانه — يكون عند السبب وحاصله ونتيجته، وأن حكمة الله فوق عقولنا.
عن جابر — رضي الله عنه — قال: جاء سُراقة بن جعشم فقال: يا رسول الله، بَيِّن لنا ديننا كأننا خُلقنا الآن، فيمَ العملُ الآن؟ أفيمَا جفَّتِ الأقلام، وجَرَتْ به المقادير؟ أم فيمَا يستقبل؟ قال: «لا، بل فيمَا جفَّتْ به الأقلام وجرتْ به المقادير.» قال: ففيمَ العمل؟ قال: «اعملوا فكلٌّ مُيَسَّر لما خُلق له، وكل عامل بعمله.» (أخرجه مسلم).
هذا هو القول الفصل، والنبأ اليقين: كلٌّ مُيَسَّر لما خُلق له، في علم الله المحيط بالأشياء عند حدوثها وقبل وجودها.
يقول الشعراني — رواية عن الشيخ طاهر الصوفي: «هذه مسئلة مَنْ تأملها وكرر النظر فيها علم غموض معانيها، وصعوبة مراقيها؛ وملخص الأمر: أن مَنْ زعم أن لا عمل للعبد أصلًا فقد عاند وجحد، وَمَنْ زعم أنه مستبد بالعمل فقد أشرك وابتدع، وما بقي مورد للتكليف إلا ما يجده العبد في نفسه من الاختيار للعمل وعدمه.»
ويقول محيي الدين: «إنما أضاف الله — تعالى — الأعمال إلينا؛ لأننا محل الثواب والعقاب، وهي لله حقيقة، ولكن لما شهدنا الأعمال بارزة على أيدينا وادعيناها لنا، أضافها الله — تعالى — إلينا بحسب دعوانا؛ ابتلاء منه لأجل الدعوى، ثم إذا كشف الله — تعالى — عن بصيرتنا، رأينا الأفعال كلها لله — تعالى — ولم نَرَ إلا حسنًا؛ فهو — تعالى — فاعل فينا ما نحن العاملون، ثم مع هذا المشهد العظيم لا بد من القيام بالأدب، فما كان من حَسَنٍ شرعًا أضفناه إليه خلقًا وإلينا محلًّا، وما كان من سيِّئ أضفناه إلينا بإضافة الله — تعالى؛ فنكون حاكين قول الله — تعالى؛ وحينئذٍ يُرينا الله — عز وجل — وجه الحكمة في ذلك الْمُسَمَّى سوءًا، فنراه حسنًا من حيث الحكمة، فيبدل الله سيئاتنا حسنات، تبديل حكم لا تبديل عين.»
ذلك هو الأدب العالي في التعبير، وذلك هو اللائق بالمؤمن أن يسلم لله بكل شيء، وأن يعلم في الوقت نفسه بأنه خُلق ليكون محلًّا لجريان الأحكام الإلهية بحسب الحكمة الإلهية؛ فما كان حسنًا فهو إلى الله يُنسب، وما كان سوءًا أضفناه إلى أنفسنا محلًّا، وإلى الله — سبحانه — خَلقًا، ولو تأمل الإنسان قليلًا لعرف الحكمة، ولرأى الشيء الذي ظنه سيئًا جميلًا نافعًا؛ وحينئذٍ بفضل تسليمه وإيمانه يبدل الله سيئاته حسنات، تبديل حكم لا تبديل عين، وذلك هو الفضل العظيم، وتلك حكمة لا يدركها إلا الرجال من عباد الرحمن.
ثم يقول: «اعلم أن الله — تعالى — ما أضاف الفعل إلى العبد إلا لكونه — تعالى — هو الفاعل حقيقة، من خلف حجاب جسم العبد؛ فلم يكن الفعل إلا لله — تعالى، غير أن من عباد الله مَنْ أشهده ذلك، ومنهم مَنْ لم يُشهِده ذلك. قال — تعالى: فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ. فالقِسْم الذي هداه الله هو الذي حفظه من دعوى الفعل لنفسه حقيقة، وأما القسم الذي تحق عليه الضلالة فهو الذي حارَ ولم يدرِ، وهم القائلون بالكسب وبخلق الأفعال.
قال إبليس: يا رب، كيف تُقَدِّر عَلَيَّ عدم السجود لآدم، ثم تؤاخذني به؟ فقال — جَلَّ وعلا: متى علمتَ أني قَدَّرتُ عليك الإباية عن السجود، أبعد الإباية منك أم قبلها؟ فقال: بعدها. فقال: وبذلك آخذتك.»
ما يجري في الكون جفَّتْ به الأقلام، هكذا يقول الرسول؛ لأن «كل مُيَسَّر لما خُلق له» بحسب علم الله القديم الأزلي، ولا يظلم ربك أحدًا.