بين التصوف والفلسفة
التقى محيي الدين في مطلع شبابه بابن رشد، فسأله ابن رشد: هل القمة التي وصل إليها الفلاسفة بالعقل والفكر، هي القمة التي وصل إليها المتصوفة بالتصفية والتجرد والذكر؟ فقال له محيي الدين: نعم، ولا. وبين «نعم ولا» تطير الأرواح.
نعم، لأن العقل قد يهدي إلى الله، ويدرك ويلمس أسرار الكون وعجائبه وآياته، ولكن العقل المجرد مع وصوله إلى تلك القمة ينحدر وينزلق، ويضل في المتشابهات، ويضل في تفهُّم ذات الله — سبحانه، فضلًا عن ابتعاده عن التعبد والتطهر، وتحلله من الكمالات الشرعية والعبادات الربانية. أو كما يقول محيي الدين في حديثه عن ابن رشد: كان بيننا حجاب رقيق، فكنتُ أراه ولا يراني.
ولا جدال في أن الفلسفة قد وثبتْ بالمعارف الإنسانية والعلوم النظرية وَثَبَات لها أثرها ومكانتها في الفكر الإنساني، ولكن الفلسفة قد ضلَّتْ في الإلهيات؛ لأن ما وراء الطبيعة من فوق مدارك العقل، ولا أمان فيها إلا لطريق الوحي والإلهام.
يقول الغزالي في مقدمة كتابه «تهافت الفلاسفة»: «إن الفلاسفة من عهد أرسطو إلى عهدنا هذا، قد بنَوْا مذاهبهم في الإلهيات على ظنٍّ وتخمين، من غير تحقيق ويقين، ويستدلون على صدق علومهم الإلهية بظهور العلوم الحسابية والمنطقية، ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين، نقية من التخمين، كعلومهم الحسابية والمنطقية؛ لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية والمنطقية.»
وهو قول صريح في أن الفلسفة قد وصلتْ إلى معارف يقينية في علوم الحياة؛ ولهذا اتفقت العقول على صحة هذه المعارف ولم تختلف فيها؛ وإنما وقع الخطأ وإنما وقع الاختلاف في علوم الإلهيات وما وراء الطبيعة؛ ولهذا لم يتفق الفلاسفة على رأي واحد في تلك المعارف، فبين أرسطو وأفلاطون على ما بينهما من صِلات وتلمذة، خلاف ظاهر ملموس في نظرتهم إلى حقيقة الخالق، وحقيقة اتصاله وهيمنته على مخلوقاته، وحقيقة صفاته وعلمه بالكليات والجزئيات، وإلهامه للأصفياء من عباده والمختارين من رسله.
اختلفوا في النهج والطريقة، كما اختلف الفلاسفة قاطبة حول هذه المعرفة، بينما رجال الله من الأنبياء والرسل والأولياء والمتصوفة، قد اتفقوا — كما يقول محيي الدين — من لدن آدم إلى يومنا على نهج واحد في الإيمان بالله، وما يجب له وما يتصف به، شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ.
والتصوف هو بلا ريب فلسفة الإسلام، والمتصوفة هم فلاسفة الإسلام بالتعريف المحمدي والحدود الربانية.
عَرَّفَ الكِنْدي الفلسفة: بأنها العلم بجميع الأشياء. وَعَرَّفها الفارابي: بأنها العلم بالموجودات بما هي موجودة. وقال الشيرازي: إن الفلسفة استكمال النفس الإنسانية بمعرفة حقائق الموجودات على ما هي عليها، والحكم بوجودها تحقيقًا بالبراهين، لا أخذًا بالظن والتقليد. وإن شئتَ قلت: نَظْم العالم نظمًا عقليًّا على حسب الطاقة البشرية لتحصل السعادة العظمى.
ويقول ابن سينا في «فصل ماهية الحكمة»: الحكمة: صناعة نظر يستفيد منها الإنسان تحصيل ما عليه الوجود كله في نفسه، وما الواجب عليه عمله، مما ينبغي أن يكتسب فعله؛ لتشرف بذلك نفسه وتستكمل، ويصير عالَمًا معقولًا مضاهيًا للعالَم الموجود، وتستعد نفسه للسعادة القصوى، وذلك بحسب الطاقة البشرية.
فالفلسفة إذن — كما عَرَّفها الفلاسفة — هي علم العلوم، أو العلم الجامع المحيط، أو العلم الذي يفلسف المعارف، أو العلم الذي يبحث في حقائق الأشياء، ويتلمَّس أسبابها وعللها؛ لتستكمل النفس معارفها، فتحصل على السعادة العظمى.
هذه هي تعريفات الفلسفة، وهي بذاتها تعريفات التصوف، وإنما الخلاف في النهج والطريقة.
والفلاسفة يعتمدون على عقولهم وأفكارهم، ويؤمنون بالتصفية والتجرد، بل لقد جعل أفلاطون وفلاسفة مدرسة الإسكندرية التجرد والتصفية أساسًا لمعارفهم وفلسفتهم، والفلسفة الإشراقية بأسرها تقوم على التجرد والتصفية.
وهي قربى واضحة للتصوف، واعتراف صريح بطريقته ونهجه؛ وإنما التصوف الإسلامي يمتاز باعتماده على الدين والوحي، واستمداد معارفه في الإلهيات من الدين وما أتى به الوحي؛ ولهذا سَلِمَتْ فلسفتُه من الخطأ في الإلهيات، فامتاز بأنه الفلسفة العالية الوحيدة التي ظفرت بالمعارف وآمنت في الإلهيات؛ بينما ضل وأخطأ سواها.
ولسنا نأتي ببِدْع من القول إذ نقول: إن التصوف هو الفلسفة الكاملة الْمُبَرَّأة من الخطأ والضلال، وإن المتصوفة هم فلاسفة الإسلام بمعنى الفلسفة الإسلامية الكاملة؛ فأهداف الفلسفة كلها تنطوي تحت أجنحة المتصوفة، ولهم بعد ذلك الصفاءُ والطاعة، والسجداتُ المؤمنة في محاريب الرضا والمحبة.
يقول مصطفى بن عبد الله جلبي — المشهور باسم حاجي خليفة — في كتاب «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون»: «وأما حكمة الإشراق فهي من العلوم الفلسفية بمنزلة التصوف من العلوم الإسلامية، كما أن الحكمة الطبيعية والإلهية منها بمنزلة علم الكلام فيها. وبيان ذلك: أن السعادة العظمى والمرتبة العليا للنفس الناطقة هي معرفة الصانع بما له من صفات الكمال والتنزه عن النقصان، وبما صدر عنه من الآثار والأفعال في النشأة الأولى والآخرة، وبالجملة: معرفة المبدأ والمعاد، والطريق إلى هذه المعرفة من وجهين: أحدهما: طريقة أهل النظر والاستدلال، وثانيهما: طريقة أهل الرياضة والمجاهدات. والسالكون للطريقة الأولى؛ إن التزموا ملةً من ملل الأنبياء — عليهم الصلاة والسلام — فهم المتكلمون، وإلا فهم الحكماء المشَّاءون، والسالكون إلى الطريقة الثانية؛ إن وافقوا في رياضتهم أحكام الشرع؛ فهم الصوفية، وإلا فهم الحكماء الإشراقيون.»
ويقول ابن حزم في كتابه: «الفصل في الملل والنحل»: «الفلسفة على الحقيقة إنما معناها وثمرتها والغرض المقصود من تعلمها، ليس هو شيئًا غير إصلاح النفس بأن تستعمل في دنياها الفضائل وحسن السيرة المؤدية إلى سلامتها في المعاد، وحسن سياستها للمنزل والرعية، وهذا نفسه لا غيره هو غرض الشريعة.»
ويقول ابن رشد في كتابه: «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»: «وينبغي أن تعلم أن مقصود الشرع إنما هو تعليم العلم الحق، والعمل الحق؛ والعلم الحق: هو معرفة الله — تعالى — وسائر الموجودات على ما هي عليه، وبخاصة الشريفة منها، ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي. والعمل الحق: هو امتثال الأفعال التي تقيد السعادة، وتجنب الأفعال التي تقيد الشقاء، والمعرفة بهذه الأفعال هو الذي يُسَمَّى العلم العملي — أي: الفلسفة.»
تلك هي الصلات بين الفلسفة والتصوف؛ فغاية الفيلسوف أن ينجلي لعقله الكون بمعارفه وأسراره، وغاية الصوفي أن تنزل على قلبه إلهامات المعرفة العامة الشاملة عن طريق العبادة، والفيلسوف يرى أن هذه غاية الغايات، أما الصوفي فيرى غاية الغايات رضا الله، والفوز بلقائه ونعيمه في الآخرة.
ولقد تنبَّه لهذا التشابه في الأهداف بعض رجال الاستشراق، حتى إن «ماسنيون» اعتبر الكندي والفارابي وابن سينا من متصوفة الإسلام.
وقد أصاب ماسينيون هنا وأخطأ: أصاب؛ إذْ تنبَّه لأن التصوف تنطوي تحته المعارف الفلسفية كافة، وأخطأ لأنه لم يتنبَّه إلى أن أساس التصوف وقوامه هو العبادة والصفاء، والتمسك الكامل بالشريعة المحمدية وآدابها ومناهجها. وهي الشريعة التي انحرف عن شروطها كثير من الفلاسفة، ولا أُبرِّئ من هذا الانحراف الكندي والفارابي وابن سينا، الذين جعلوا العقل الكامل في مرتبة الوحي، وجعلوا حجة العقل آية يحتكمون إليها حتى في أحكام الإسلام، وهو ما يبرأ منه التصوف وينكره ويحاربه.
ولقد تعرض المتصوفة للفلاسفة، في معارك متعددة دارتْ رحاها حول الإلهيات، وهي التي أخطأتْ فيها الفلسفة وضلَّتْ؛ لاعتمادها على العقل، وعدم تقيدها بالدين.
وتعرض بعض الفلاسفة للمتصوفة، منكرين عليهم الزهد والاستغراق في العبادة، والنفور من الدنيا وتهوين شأنها، واتخاذهم التطهير والتصفية والتجرد طريقًا للوصول إلى المعارف والعلوم النظرية والربانية، ولكن الكثرة الغالبة من رجال الفلسفة لم تنكر التطهر والتجرد والتصفية كمعراج إلى العلوم؛ وإنما قالوا: إنه ليس بالطريق السلطاني المباح للناس.
يقول ابن رشد: وأما الصوفية فطرقهم في النظر ليست طرقًا نظرية، أعني مركبة من مقدمات وأقيسة؛ وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات، شيء يُلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية، وإقبالها بالفكرة على المطلوب، ويحتجون لتصحيح هذا بظواهر من الشرع كقوله — تعالى: وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا. وأشباه ذلك من الآيات التي يستدلون بها كثيرة، ونحن نقول: إن هذه الطريقة وإن سلَّمْنا وجودها، فإنها ليست عامة للناس.
هذا ما يقوله ابن رشد، وهو اعتراف كامل للمتصوفة بصحة النهج، واعتراف كامل من رجل من أعلام الفلسفة الذين يؤمنون بالعقل والتجربة بأن التجرد والتصفية طريق للعلم والمعرفة، وهو ليس عامًّا للناس وليس معراجًا لكل متعبد زاهد، وما قال الصوفية غير هذا.
والأبلغ من هذا في الدلالة على صدق النهج الصوفي، الذي يلمزه كثير من المتعالمين جهلًا وطيشًا، أن فلاسفة اليونان أنفسهم، وهم أساتذة الفلسفة، قد سلكوا إلى المعرفة نهجًا صوفيًّا.
يقول طاش كبرى زاده في كتابه «مفتاح السعادة»: «ثم اعلم أن أفلاطون الحكيم كان يُعَلِّم بعضًا من تلاميذه بطريق التصفية، وإعمال الفكر الدائم في جناب القدس، وَسُمُّوا بالإشراقيين؛ لأن فيوضاتهم كانت إشراقًا نفسيًّا، وبعضًا منهم بطريق البحث والنظر، فَسُمُّوا المشائين.»
وإذن؛ فالفلسفة تؤيد التصوف في أن التصفية والتجرد والتطهر، يُكسب الروح إشراقًا تصل به إلى المعارف كافة.
وإذن؛ فهناك قربى وثيقة بين التصوف والفلسفة، إذا جُرِّدت الفلسفة من ضلالها فيما وراء الطبيعة؛ لأنها اعتمدتْ على العقل دون الشرع في فهم الإلهيات، وليس هذا للعقل، وما ينبغي له أن يلج في معارج أعلى من طاقته، ومن فوق إمكانياته وطبيعته.
يقول محيي الدين: «اعلم أن الفلاسفة ما ذُمَّتْ لمجرد ذلك الاسم، وإنما هو لما أخطئوا فيه من العلم المتعلِّق بالإلهيات؛ فإن معنى الفيلسوف: المحب للحكمة، والحكمة غاية كل عاقل.»
ثم يقول: «إياك أن تبادر إلى إنكار مسئلة قالها فيلسوف وتقول: هذا مذهب الفلاسفة؛ فإن هذا قول مَنْ لا تحصيل له؛ إذ ليس كل ما قاله الفيلسوف يكون باطلًا، فعسى أن تكون تلك المسألة مما عنده من الحق، وقد وضع الحكماء من الفلاسفة كتبًا كثيرة مشحونة بالحكم والتبرؤ من الشهوات، ومكايد النفوس وما انطوتْ عليه من خفايا الضمائر؛ فكل ذلك علم صحيح موافق للشرائع، فلا تبادر يا أخي إلى الرد في مثل ذلك، وتمهَّل وأثبت قول ذلك الفيلسوف، حتى تُحِدَّ النظر، فقد يكون ذلك حقًّا موافقًا للشريعة.»
وتلك آية من آيات السماحة الفكرية التي يمتاز بها محيي الدين، بل يمتاز بها كل رجال الحقائق، وذلك هو موقف المتصوف المنصف من الفلسفة، لا ينكر منها إلا ما أنكر الشرع، ويقبل منها ما يقبله الشرع؛ فميزان المتصوفة القسط الذي يزنون به كل ما يرد إليهم: هو الشريعة، وهو ميزان لا يضل صاحبه أبدًا.
وعند محيي الدين: أن الفلسفة كانت شريعة إدريس — عليه السلام، وإنها من المعارف السماوية، وإنه أعمل فكره كثيرًا ليصل إلى سر ما أصابها من ضلال في المعاني الإلهية، فيقول: «لقد دخلتُ الخلوة وعملتُ على الاطلاع على الحقيقة الإدريسية، فرأيت الخطأ إنما دخل على الفلاسفة من التأويل؛ وذلك لأنهم أخذوا العلم عن إدريس — عليه السلام، فلما رُفع إلى السماء، اختلفوا في شريعته، كما اختلف علماء شريعتنا، فأحلَّ هذا ما حرَّم ذلك وبالعكس، ثم جرتْ بهم الأيام فارتكبوا هذه الأخطاء في فهم الإلهيات.»
وهي نظرة إلى الفلسفة ما أحسبها لغير محيي الدين، وهي تحل إشكالًا من مشاكل الفكر، كيف نشأت الفلسفة كيف تكونت علومها؟ لقد كانت شريعة سماوية لإدريس — عليه السلام، ثم اختلف أتباعه بعد رفعه في ميراثهم، وتجادلوا وأوَّلوا وحرَّفوا الكلم عن مواضعه؛ فسلمتْ علوم النظر، وتطرق الخطأ والضلال إلى ما وراء الطبيعة.
ولهذا يرى محيي الدين: أن ما سَلِم من علوم الفلسفة هو ميراث لكل صوفي؛ لأنه من المعارف الصحيحة، والمعارف الصحيحة ينالها المتصوفة بمنهجهم التعبدي القائم على الطاعة والتجرد، وبالفيوضات الربانية القائمة على المحبة والرضا.
والفلسفة الحقة: غايتها الحكمة، والحكمة ضالة كل مؤمن، وهدف كل صوفي، فالمتصوف الإسلامي هو صاحب العلم المحيط الشامل لجميع الحقائق، هو الفيلسوف العالمي الذي جمع المعارف كافة، وتميَّز بإيمان يمشي في مواكب الأنبياء، وهدى الرسل، ورضاء الله ومحبته.