مملكة التصوف
مملكة التصوف، أو عالم الأنفاس، مملكة أشبه بالأحلام الجميلة، أو الأماني الحلوة، التي يتصورها الأصفياء من رجال الفكر عن العالم السعيد، أو المدينة الفاضلة، التي يعيش الخيال على ضفافها، مرحًا طروبًا في آفاق من النور والإشراق، لا مسَّ فيها من ألَمٍ، ولا لُغوبَ فيها من شقاء؛ وإنما عبادة وذكر وصفاء، وطهارة ومحبة وإخاء.
وتلك المملكة الروحية قد ينكرها الماديون، الذين استُعبِدوا للحياة؛ فأذلَّتْهم واتخذتْهم مطايا لشهواتها، وعبيدًا لأباطيلها.
وقد يخاصمها الجهلاء الذين خدعتْهم أنفسهم، فظنوا بالصوفية ظن السوء، حتى حسبوها هذه العمائم المكورة، واللِّحى المرسلة، والمسابح ذات البهجة والحركة.
وقد يسخر منها المتعالمون، الذين يرمون الصوفية بالزور من القول، والإثم من اللحن، فهم متهَمون لديهم: تارة بالتحلُّل والانحلال، وتارة بالضعف والهوان.
وقد يلمزها أهل السفسطة الذين يمضغون الحقد، ويقتاتون بالموجدة، والذين يتعبَّدون بالجدل، ويعيشون في محاريبه.
قد تنكرها تلك الطوائف، ولكنها رغم أمانيهم مملكة مشرقة بالرحمة، محلاة بالطهارة، سعيدة بالعبادة، منيرة بالمحبة، مؤمنة عابدة عن يقين ومشاهدة، آملة بربها أبدًا، متهجدة في محاريبه، تسمر وتتغنَّى بلحنِ أُنسه، وأغاريد حَمْده، وآيات نِعَمه، وسبحات وجهه التي أشرقتْ بها السموات والأرض، إنهم ليعيشون في دنيا لا نعرفها، دنيا أُطلقتْ فيها الأرواح من قيودها، وتحررتْ من أثقالها؛ فانطلقتْ ترفرف حول الملأ الأعلى، وتحوم حول العرش وسدرة المنتهى.
وسر الخطأ في فهم التصوف؛ إنما نشأ من الإسراف في تعظيم الدنيا وإكبار متاعها وتضخيم لذائذها، لقد أكبروها وأجلُّوها حتى نسُوا الآخرة، ونسُوا الله فأنساهم أنفسهم، وأقبلوا على الدنيا يركضون، فتركها لهم وأنساهم ما خُلقوا له؛ فانطلقوا يرتعون ويتخاصمون، ويتقاتلون على الفتات، وسيف القَدَر فوق رءوسهم، حتى غرقوا في بحار الدم، واحترقوا بالشهوات وتقلبوا في شقاءٍ لا ينفد.
أما الصوفية فحياتهم كما قال حارثة الأنصاري في الحديث المشهور؛ حينما سأله الرسول — صلوات الله عليه: كيف أصبح؟ فقال: مؤمنًا بالله حقًّا، فقال له: «انظر؛ فإن لكل قول حقيقة.» قال: «يا رسول الله، عزَفَتْ نفسي عن الدنيا، فأسهرتُ ليلي، وأظمأتُ نهاري؛ فكأني بعرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة، كيف يتزاورون فيها، وإلى أهل النار كيف يتعاوون فيها.»
فقال له — صلوات الله وسلامه عليه: «أبصرتَ فالْزَمْ.»
كان الفتى الأنصاري يعيش في الدنيا ولا يراها؛ لهوانها وضآلة شأنها وتافِهِ متاعها، كان يعيش وعينه على عرش ربه وجلال خالقه؛ ساجدًا متعبدًا، ويحيا بقلب مُعرِض عن الدنيا مُعَلَّق بآخرته، حتى لكأنه يرى عرش ربه بارزًا، وحتى لكأنه يرى أهل النار وهم يتقلَّبون في لظاها، وأهل الجنة وهم ينعمون بريَّاها، وكذلك الصوفية. يعيشون على نور اليقين والمشاهدة، لقد أطلقوا الروح في ساحات المحبة والمناجاة؛ فظفرتْ أرواحهم بقوًى عظمى، مستمدة من الصفا الرضا.
وإذا كانت الحضارة الحديثة، قد ظفرت بفتوحات هائلة في ميادين العمل والمادة؛ فأنتجت مصانعها عجائب الرادار، وآيات الأثير والكهرباء، فإن المتصوفة قد ظفروا في عالم الأرواح بفتوحات وفيوضات، وقوًى وأسرار، تتضاءل حيالها فتوحات المادة وفيض مصانعها.
لقد ظفروا بفتوحات وفيوضات فتحتْ لهم أبواب السعادة والجنة، وسُخِّرتْ لهم قُوى المادة وعجائبها، وقوى الروح وأسرارها، امتلأتْ أيديهم بتلك الكنوز؛ فامتطَوْها للمعارف والعلوم، وأطلقوها للخير والسلام، وأذاعوها للهُدَى والإيمان، فلم يدمِّروا عمارًا، ولم يبثُّوا شقاءً، ولم يزرعوها لَهَبًا ونارًا.
ولمملكة التصوف أقسامها وأسرارها، ومراتبها وحُكَّامها، وملوكها وأمراؤها وأولو الأمر فيها، ولمملكة التصوف نُظُمٌ ودساتير وآداب ومُثُل، وحظوظ مقسمة، وأرزاق موهوبة، ونمارق مصفوفة، وعجائب مبثوثة، ومعارف لدنِّيَّة وهبات ربانية، ونفحات نبوية، ومعارج سماوية، وعجائب تُذهل العقول؛ ولكنها تُرضي القلوب، وفي رضاء القلوب نعيم الإيمان ورضاء الرحمن.
فلنتوجه بقلوب راضية صافية، ولنسبح باسم العلي الكريم، ولنتوكل عليه، ثم لنمسك بمصباح محيي الدين، وهو أقوى المصابيح الكاشفة لحقائق تلك المملكة وأسرارها، ثم لندخل معه إلى ساحاتها وعجائبها.