أقسام المتصوفة
يقول ابن عربي: «واعلم أن رجال الله في هذه الطريقة، هم الْمُسَمَّوْن بعالَم الأنفاس، وهو اسمٌ يعُمُّ جميعَهم، وهم على طبقات كثيرة، وأحوال مختلفة؛ فمنهم مَنْ تُجمع له الحالات كلها والطبقات، ومنهم مَنْ يُحصِّل ما شاء الله، وما من طبقة إلا لها لقب خاص من أهل الأحوال والمقامات، التي يظهرون عليها في قوله — تعالى: وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ. كل طائفة في جنسها، ومنهم مَنْ يحصره عدد في كل زمان ومكان، ومنهم مَنْ لا عدد له لازم؛ فيقلِّون ويكثرون.
ولأهل الأنفاس مراتب من حيث النظر إلى الذات العلِيَّة، وتختلف حظوظهم باختلاف مراتبهم؛ فمنهم مَنْ حظه من النظر لذة عقلية، ومنهم مَنْ حظه من ذلك لذة نفسية، ومنهم مَنْ حظه من ذلك لذة حسية، ومنهم مَنْ حظه من ذلك لذة خيالية، وهكذا، ثم تُخلع عليهم خلع إلهية، أورثها النظر إليه — سبحانه، ثم يُفاض عليهم من نور الربوبية ما يُكسبهم البهاء والجلال.»
الأقطاب والأئمة والأبدال
ثم يقول ابن عربي: ومن رجال الأنفاس الأقطاب؛ وهم الجامعون للأحوال والمقامات بالأصالة أو النيابية، ولا يكون منهم في الزمان إلا واحد، وهو الغوث أيضًا، وهو سيد الجماعة في زمانه.
ومنهم مَنْ يكون ظاهر الحكم؛ فيحوز الخلافة الظاهرة كما حاز الخلافة الباطنة من جهة المقام؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز والمتوكل، ومنهم مَنْ حاز الخلافة الباطنية خاصة، ولا حكم له في الظاهر، كأحمد بن هارون الرشيد والسبتي والبسطامي؛ وأكثر الأقطاب لا حكم لهم في الظاهر.
ومنهم الأئمة: ولا يزيدون في كل زمان عن اثنين لا ثالث لهما، وهما اللذان يخلفان القطب إذا مات، وهما للقطب بمنزلة الوزيرين.
ومنهم الأوتاد: وهم أربعة في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون، وقد يكون منهم النساء، ولكن يغلب عليهم الرجال.
ومنهم الأبدال: وعددهم سبعة لا يزيدون أيضًا ولا ينقصون، كل واحد منهم على قدم نبي؛ فالأول على قدم الخليل، ثم الكليم، ثم هارون، ثم إدريس، ثم يوسف، ثم عيسى، ثم آدم — عليهم السلام.
وهؤلاء يعلمون علم الكواكب، وأسرار سيرها ونزولها في المنازل الْمُقَدَّرة لها، وقد كان الأبدال بهذه المكانة بالأمور الأربعة التي اشترطها أبو طالب المكي، وهي: الجوع والسهر والصمت والعزلة.
ثم النقباء: وهم اثنا عشر نقيبًا في كل زمان ومكان، لا يزيدون ولا ينقصون، على عدد أبراج الفلك الاثنى عشر برجًا، كل نقيب عالم بخاصة كل برج، وبما أودع الله فيه من الأسرار والتأثيرات، وبأيديهم علوم الشرائع الْمُنَزَّلة، ولهم الاطِّلاع على خبايا النفوس، وإبليس عندهم مكشوف يعلمون من أمره ما لا يعلم من أمر نفسه، ويعلمون أثر الأقدام، فيقولون: هذا قدمُ شقي، وهذا قدمُ سعيد.
ومنهم النجباء: وهم أهل الكشف والاطلاع، والحواريون: ومقامهم التحدِّي والنجدة، والرجبيون: ولهم التجليات والكشوفات.
ومنهم رجال الأنفاس: وهم أهل خشوع لا يتكلمون إلا همسًا، وهؤلاء هم المستورون الذي لا يُعرفون، خَبَّأهم الحق — سبحانه — في أرضه؛ فلا يناجُون سواه، ولا يشهدون غيره، يمشون على الأرض هونًا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا، دأبهم الحياء، إذا سمعوا أحدًا يرفع صوته في كلامه، ترتعد فرائصهم ويتعجبون؛ وذلك لأنهم لغلبة الحال عليهم يتخيلون أن التجلي الذي أورث عندهم الخشوع والحياء يراه كل إنسان، ويرون أن الله قد أمر عباده أن يغضوا أصواتهم عند رسول الله — صلوات الله عليه، فإذا تُلِيَ حديث رسول الله لا يجب رفع الصوت عليه، كما يجب الصمت عند تلاوة القرآن.
ومنهم الظاهرون: وهم قسمان: ظاهرون بأمر الله في الدنيا قائمون بحقوقه، تُخرق العوائد لهم عادة، وظاهرون في العالم الأعلى لا يُعرفون في الدنيا، وهؤلاء لا يرون سوى الله في الأكوان، والأكوان عندهم مظاهر الحق.
وهم أهل طبقات ومقامات، وكل طبقة عاشقة لمقامها، تذب عنه، ومن هؤلاء مَنْ هم في مقامات لا يعرفها إلا مَنْ ذاقها؛ لأنه يعرف عن مشاهدة.
ومنهم أهل الفتوة: وهم رجال القوة الإلهية، آيتهم من كتاب الله: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ، لا تأخذهم في الحق لومة لائم.
ومنهم أهل الصفاء: وهم رجال الحنان والعطف الإلهي؛ آيتهم من كتاب الله: آية الريح السليمانية، تجري بأمره رُخاء حيث أصاب، لهم شفقة على عباد الله مؤمنهم وكافرهم، ينظرون إلى الخلق بعين الجود.
وهكذا يُعَدِّد ابن عربي لنا المقامات والطبقات وهي مئات ومئات، إلى أن يصل إلى طبقة الصوفية، وهؤلاء لا عدد يحصرهم بل يكثرون ويقلِّون، وهم أهل مكارم الأخلاق، وكل مَنْ زاد في خُلقه عليك، فقد زاد في التصوف عليك.
فإذا انتهى محيي الدين من هذا التقسيم، أخذ يحدثنا عن ذروة أهل المملكة أو عالم الأنفاس وهم المَلَامَتِيَّة، وعن خاصة من هؤلاء الرجال، وهم أهل الليل.
المَلَامَتِيَّة
وفي تلك المملكة عباد لله — سبحانه، أَدَّبهم وعلَّمهم واجتباهم، وصان نفوسهم، وطهَّر قلوبهم واصطفاهم لعبادته، هم ذروة تلك المملكة، وقد أسماهم محيي الدين «بالملامتية»، وهم الذين حلُّوا من الولاية في أقصى درجاتها، ونهلوا من العلوم أصفى معانيها، وما فوقهم في تلك المعارج اللدنية إلا درجات النبوة، ومقامهم يُسَمَّى مقام القربة، وهو مقام الانشغال بالخالق عن الخلق. وعلامتهم الاختفاء والانطواء؛ فلا يُعرفون بخرق عادة، ولا يعظَّمون بين الناس، ولا يُشار إليهم بالصلاح الذي تعرفه العامة؛ فهم الأصفياء الأمناء الأبرار أحباب لله، يعرفهم الملأ الأعلى ويُذكَرون في السماء، وهم في الناس الغامضون.
وهم الذين قال فيهم رسول الله — صلوات الله عليه — عن ربه — عز وجل: «إن أَغبَط أوليائي عندي لَمؤمنٌ خفيف الحاذ، ذو حظ من صلاة، أحسنَ عبادةَ ربه، وأطاعه في السر والعلانية، وكان غامضًا في الناس.»
ومسألة الظهور في الحياة، وخوض عبابها، والسيادة في الدنيا، وما إلى السيادة من أغراض وأهداف، لمحيي الدين في كل هذه الأشياء رأي أوضحه ونادى به؛ فهو يرى أن الجهر بالدعوة والسيادة في الدنيا كمال للأنبياء، ونقص في الأولياء.
لأن الرسل — صلوات الله عليهم — مضطرون إلى الظهور والدعوة، لأجل التشريع والتبليغ، والأولياء ليس لهم ذلك، ألا ترى أنه — سبحانه — لما أكمل الدين وأتمَّ نعمته على الناس بالقرآن العظيم، كيف أمر رسوله الأمين، في السورة التي نعاه فيها إلى نفسه، بالاستغفار والانقطاع إليه — تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا.
أي: أشغل نفسك بتنزيه ربك، والثناء عليه بما هو أهله، فاقتطَعَه بهذا الأمر الرباني من العالَم نفسه، لما أكمل ما أريد منه تبليغ الرسالة، وطالَبَه بالاستغفار ليستره عن خلقه، في حجاب صونه؛ لينفرد به دون خلقه دائمًا.
والأولياء الكُمَّل السادة الأصفياء، إذا تُركوا وأنفسهم، لم يختَرْ أحد منهم الظهور أصلًا؛ لأنهم يعلمون أن الله — تعالى — ما خلقهم لأنفسهم ولا لأحد من خلقه، وإنما خلقهم له — سبحانه؛ فشغلوا أنفسهم بما خُلقوا له.
فإن أظهرهم الحق من غير اختيار منهم، بأن يجعل في قلوب الخلق تعظيمهم والالتفاف حولهم للتلقِّي من علومهم؛ فذلك إليه — سبحانه، وما لهم فيه تعمُّل ولا قصد، فلا اختيار لهم مع اختيار الحق — سبحانه، فإن خيَّرهم ولا بد اختاروا الستر عن الخلق والانقطاع إلى الله، كما قيل لأبي اليزيد البسطامي؛ حين خُلع عليه بخلعة النيابة، وقيل له: اخرج إلى خلقي، فلم يَسَعْه إلا امتثال أمر ربه فخطا خطوة فغُشي عليه، فإذا النداء: ردوا عَلَيَّ حبيبي، فلا صبر له عني.
لقد كان أبو اليزيد فانيًا عن كل شيء، مستغرق القلب والحس والروح في النجوى والتفرغ الكامل لعبادة ربه، فلما أُخرج إلى الناس، خشي أن يُشغل لحظة من زمن عن عبادة ربه، ونجوى خالقه؛ فغشي على نفسه من هذا الخوف ما يشبه الصاعقة، فَرُدَّ رحمةً به إلى مقام الفناء، وهو مقامه، وخُلعتْ عليه خلع الذلَّة والافتقار والانكسار، وهي أسمى الخلع، في عالم الأنفاس والهبات؛ فطاب عيشه، وسجد قلبه، ثم دنا واقترب، فظفر بالمشاهدة، فزاد أُنسه، واستراح روحه من أعباء الأمانة.
يقول محيي الدين: «ثم إن هذه الطائفة إنما نالوا هذه المرتبة عند الله؛ لأنهم صانوا قلوبهم أن يدخلها غير الله، أو تتعلق بسوى الله؛ فليس لهم جلوس إلا مع الله، ولا حديث إلا مع الله، فهم بالله قائمون، وفي الله ناظرون، وإلى الله راحلون ومنقلبون، وعن الله ناطقون، ومن الله آخذون، وعلى الله متوكلون، وعند الله قاطنون؛ فما لهم معروف سواه ولا مشهود إلا إياه، صانوا نفوسهم عن نفوسهم فلا تعرفهم نفوسهم، فهم ضنائن الحق — سبحانه.»
ومن صفات هذا المقام أيضًا عنده: أن صاحبه لا يرى لأحد من الناس ولا لقوة من قوى الخلق عليه سلطان، وإبليس لديهم ذليل ضعيف: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ. يقول محيي الدين: «فكل عبد إلهي توجَّه لأحدٍ من الخلق، أو يوجد عليه لأحد من الناس حق، فقد نقص من عبوديته لله بقدر ذلك الحق، فإن ذلك المخلوق يطلبه بحقه، وله عليه سلطان به؛ فلا يكون عبدًا مخلصًا خالصًا لله — تعالى، وهذا هو الذي رَجَّحَ عند المنقطعين إلى الله — تعالى — انقطاعَهم عن الخلق ولزومَهم السياحات والبراري، والسواحل والمجاهل، والفرار من الناس والانقطاع إليه — تعالى؛ حتى يفوزوا بمقام العبودية الكاملة، وإنه لهو الفوز العظيم.»
رجال الليل
الليل وقت الخلوة والجلوة، وقت الأُنس والسمر، وقت الذكر والصفاء، وقت التجلي والتحلي، وقت الشوق والأنين والحنين، والومضات والوثبات واللمحات.
ورجال الأنفاس هم رجال الليل، يضيئون ظلمته بنور الإيمان، ويملئون صمتَه بدعوات الرحمن، حتى إذا جاء وقت السَّحَر، وما أدراك ما وقت السحر؟! تجلَّت الأرواح واستيقظت القلوب؛ فتلقَّتْ من ربها ما تلقت، وتجمَّلت وتحلَّت، وأذنتْ لربها وحُقَّتْ؛ فلكلٍّ نصيبه الْمُقَدَّر، على قدر الهمة والطاقة، وعلى قدر الذكر والعبادة.
ولليل عند رجال الله مقام أيُّ مقام! لأنهم نظروا إلى آيات الرضا، فوجدوا ثناء من الخالق — سبحانه — على الأصفياء الأخيار، الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، والذين كانوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، فأقبلوا على الليل يقطعونه راكضين إلى ربهم، مهلِّلين ومكبرين.
يقول محيي الدين: «كان عندنا بإشبيلية رجل عابد حسن الصوت، كثير الاجتهاد، سريع الدمعة، دائم العبرة، كثير التفكر والتهجد، بِتُّ معه ليالي عدة؛ فلم يكن يفتر، فربما أَسمَعُه بعض الأحايين يُنشِد بصوتٍ طيب غَرِد، ودموعه تنحدر على خديه:
لم تنم أعين ونامت عيون، وهجع قوم وآخرون لا يهجعون، لا يعرفون النوم ولا يستعذبونه، حتى لكأن النوم شيء لا يعرفونه، فقد أسهدهم حبٌّ ووجْد، وحزن وشوق، وتطلُّع إلى النور الأسنى والمقام الأعلى، وتلهُّف على الرضا، وتطلُّع إلى المشاهدة في الخلوة والجلوة، وأمل في القرب والمغفرة.»
وصلوات الله على الأمين الحبيب، لقد قام الليل حبًّا وشكرًا حتى أُدمِيَتْ قدماه، وحتى أشفقتْ عليه عائشة — رضوان الله عليها — فرجتْه الرفقَ بنفسه، والرحمة بشوقه قائلة: «لقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخَّر فترَفَّق.»
فقال الحبيب الأمين — صلوات الله عليه: «يا عائشة، ألا أكون عبدًا شكورًا!» ذلك هو مقام الشكر، ولليل المقامات بأسرها؛ فإن للإنسان في الليل سبحًا طويلًا، لِمَنْ أراد أن يذَّكَّر أو أراد شكورًا. ويقول محيي الدين: «اعلم — أَيَّدك الله بروح القدس منه — أن الله جعل الليل لأهله، مثل الغيب لنفسه، فكما لا يشهد أحد فعل الله في خلقه لحجاب الغيب الذي أرسله دونهم؛ كذلك لا يشهد أحد فعل أهل الليل مع الله في عبادتهم لحجاب ظلمة الليل التي أرسلها الله دونهم؛ فهم خير عصبة في حق الله، وهم شرُّ فِتْيَة في حق أنفسهم، ليسوا بأنبياء تشريع لما ورد من إغلاق باب النبوة، ولا يقال في واحد منهم عندهم: إنه ولي؛ لما فيه من المشاركة مع اسم الله، فيُقَالُ فيهم: أولياء، ولا يقولون ذلك عن أنفسهم، وإن بُشِّروا، فجعل الليل لباسًا لأهله يلبسونه، فيسترهم هذا اللباس عن أعين الأغيار، يتمتعون في خلواتهم الليلية بحبيبهم فيناجونه من غير رقيب؛ لأنه جعل النوم في أعين الرقباء سباتًا، أيُّ راحة لأهل الليل إلهية، كما هو راحة للناس طبيعية؟ فإذا نام الناس استراح هؤلاء مع ربهم، وخلَوْا به حسًّا ومعنى فيما يسألونه من قبول توبة، وإجابة دعوة، ومغفرة، وغير ذلك؛ فنوم الناس راحة لهم، وإن الله — تعالى — ينزل إليهم بالليل إلى السماء الدنيا، فلا يبقى بينه وبينهم حجاب فلكي، ونزوله إليهم رحمة بهم، ويتجلى لهم في سماء الدنيا، كما ورد في الخبر: «يقول الله: كذب مَنْ ادَّعى محبتي، فإذا جنَّه الليل نام عني، كل محب يطلب الخلوة بحبيبه، فها أنا ذا قد تجلَّيْتُ لعبادي، هل من داعٍ فاستجيبَ له، هل من تائبٍ فأتوبَ عليه، هل من مستغفرٍ فأغفرَ له، حتى ينصدع الفجر.» فأهل الليل هم الفائزون بهذه الحظوة في هذه الخلوة وهذه المسامرة في محاربهم، فهم قائمون يتلون كلامه، ويفتحون أسماعهم لما يقول لهم في كلامه — سبحانه.
إذا قال: يا أيها الناس. يقولون: نحن الناس، فما تريد منا يا ربنا في ندائك هذا؟ فيقول لهم — عز وجل — على لسانهم بتلاوتهم كلامه الذي أنزله: اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. ويقول: يا أيها الناس. فيقولون: لبيك ربنا، فيقول لهم: اتقوا ربكم الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ؛ فيقولون: ربنا خاطبتنا فسمعنا وفهمتنا ففهمنا، فيا ربنا وفِّقْنا، واستعملنا فيما طلبتَه منا من عبادتك وتقواك؛ إذ لا حول لنا ولا قوة إلا بك، وَمَنْ نحن حتى تنزل إلينا من علو جلالك وتنادينا وتطلب منا. فيقول: يا أيها الناس. فيقولون: لبيك. فيقول: إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا. فيقولون: يا ربنا، أسمعتنا فسمعنا، وأعلمتنا فعلمنا، فاعصمنا وتعطف علينا؛ فالمنصور مَنْ نصرتَه، وَالْمُؤَيَّد مَنْ أَيَّدته، والمخذول مَنْ خذلته. فيقول: يا أيها الإنسان. فيقول الإنسان منهم: لبيك يا رب. فيقول: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. فيقول: كرمك. فيقول: صدقتَ. ويقول: يا أيها الذين آمنوا. فيقولون: لبيك. فيقول: «اتقوا الله حق تقاته وقولوا قولًا سديدًا.» فيقولون: وأيُّ قول لنا إلا ما تُقوِّلنا، وهل لمخلوق حول ولا قوة إلا بك؟ فاجعل نطقنا ذكرًا وقولنا تلاوة كتابك. فيقول: يا أيها الذين آمنوا. فيقولون: لبيك ربنا، فيقول: عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ. فيقولون: ربنا أغريتنا بأنفسنا لما جعلتها محلًّا لإيمانك، فقلت: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، وقلت: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، والآيات ليست مطلوبة إلا لما تدل عليه، وأنت مدلولها؛ فكأنك تقول في قولك: عليكم أنفسكم: أي: الزمونا وثابروا علينا.»
ذلك هم رجال الليل الذين يقطعونه استغفارًا وذكرًا؛ ذكرًا بقرآنه الحكيم، وفي الحديث: أن المصلي الحاضر القلب، هو مَنْ يقف في صلاته عند التلاوة، وهو يحس أن الله يسمعه، أو يتلو وكأن الله — سبحانه — هو الذي يتلو على لسانه؛ لأن القرآن كلام الله — تعالى.
وهكذا أهل الليل، يقرأون وكأنهم يستمعون إلى ربهم، يكلمهم بقرآنه؛ فكل آية عندهم سؤال وجواب، وذلك لون من التذوق، هِبَة من هبات الرحمن لأهل الليل، ومقدار تلك الهبة إنما يعرفها مَنْ ذاق.
ثم يقول: وأهل الليل تختلف طبقاتهم في ذلك؛ فالزاهد حاله مع الله في ليله من مقام زهده، والمتوكل حاله مع الله من مقام توكله، وكذلك صاحب كل مقام، ولكل مقام لسان هو الترجمان الإلهي فيهم؛ وهم لهذا متباينون في المراتب بحسب الأحوال والمقامات، وأقطاب أهل الليل هم أصحاب المعاني المجردة عن المواد المحسوسة والخيالية، فهم واقفون مع الحق بالحق، فيُعطى كُلٌّ من المعاني والمعارف والأسرار بحسب منازلهم، فهؤلاء هم حكماء القلوب، وسادة الرجال، أهل الوفاء والصفاء والذكر والسمر، فإذا ادَّعتْ لك نفسك أنك من أهل الليل، فانظر، هل لك قَدَمٌ مع مَنْ ذُكِر؟