أسرار الروح
فإذا طاف بنا محيي الدين على أقسام المتصوفة داخل مملكتها العظمى، أخذ يعرض ألوانًا من عجائبها وأسرارها الروحية.
وللروح في عالم التصوف المكان الأعلى والسر الأعظم، ولست أغالي إذا قلت: إن المذاهب الروحية العالمية رغم ما وصلتْ إليه من كشوف عميقة في هذا الميدان، لا تزال تحبو، ولا تزال فتوحاتها أقزامًا بجوار الجبابرة والأئمة من رجال التصوف، الذين راضوا أرواحهم على نور مَنْ هداهم، فتحكَّموا لا في ذواتهم عند اليقظة والسجود، بل في منامهم وعند الهجود، حتى ليوجهون — كما يقول محيي الدين — خواطرهم في المنام ما أرادوا وأحبوا، ولمسوا أسرارها، وتنقلوا في آفاقها، سُخِّرتْ لهم قوى الأرواح وما أدراك ما قواها؟ وما أدراك ما تجلى لهم؟
تقول دائرة المعارف لوجدي بك: «إن كل مَنْ اطَّلع على كتب محيي الدين، وكان واقفًا على مرامي الفلسفة الروحانية العصرية، تحقق أنه سبق كل متكلم في هذه المعارف العالية؛ فلا مقال الآن مهما علا وغلا إلا ما هو مقتَبَس من كلامه، أو صدر مِمَّنْ هو منتهٍ إلى ما انتهى إليه.»
الإذاعات الروحية
ولنمسك مرة أخرى بمصباح محيي الدين، ولنتقدم على نوره خطوات لنشاهد تلك المحطات الروحية التي تُذيع الأنباء الصوفية على رجال المملكة.
ولرجال التصوف إذاعاتهم الخاصة التي تربط أجزاء مملكتهم بعضها ببعض، والتي تنقل أخبارهم إلى مشارق الأرض ومغاربها.
ولا تعجب ولا يضرب الإنكار على بصيرتك غشاوة فتسخر! فلقد كشف الله — سبحانه — الغطاء عن عينَيْ عمر بن الخطاب — رضوان الله عليه — وهو على منبر المدينة يخطب أصحابه، فرأى سارية وجيش سارية وهو بنهاوند بأرض العراق، يقاتل خصوم الرحمن، وقد أُحيط به ولا نجاة له إلا بأن يعتصم بجبل بجواره، فهتف عمر: «يا ساريةُ، الجبلَ.» فسمع سارية الصوت في لمحة، على بُعد المسافة التي يقطعها الراحل المُجِدُّ في عشرات الأيام، وعَرَف أنه صوت عمر؛ فالتجأ إلى الجبل فنجا وانتصر! كيف أبصر عمر؟ وكيف سمع سارية؟ ذلك سر الروح، وذلك سر الإيمان، وذلك فضل الله، وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا.
يقول محيي الدين: «ومن علوم الكشف أن أيَّ واحد أو جماعة قلَّتْ أو كثرت، لا بد أن يكون معهم من رجال الغيب واحد عندما يتحدثون؛ فذلك الواحد ينقل أخبارهم إلى العالم.
ولقد عملتُ أبياتًا من الشعر بمقصورة ابن مثنًّى بشرقي جامع تونس عند صلاة العصر في يوم معلوم معين، فجئتُ إشبيلية، وبينهما مسيرة ثلاثة أشهر للقافلة، فاجتمع بي إنسان لا يعرفني، فأنشدني بحكم الاتفاق تلك الأبيات عينها. فقلتُ له: لِمَنْ تلك الأبيات؟ فقال: لمحمد بن العربي. فقلت له: ومتى حفظتَها؟ فذكر لي التاريخ الذي عملتُها فيه، فقلت له: وَمَنْ أنشدك إياها؟ فقال: كنتُ جالسًا ليلة بسوق إشبيلية في مجلس، وَمَرَّ بنا رجل غريب فأنشدنا هذه الأبيات، فقلنا له: لِمَنْ هي؟ فقال: لفلان.»
تلك هي محطات إذاعاتهم القلبية والروحية، لا اللاسلكية والأثيرية، ولهم أيضًا في مملكتهم ما يشبه ما نسميه «بالتلفزيون»، وهو تسجيل المرئيات وقيدها، ثم حملها إلى أطراف الأرض، على أجنحة الأثير في لحظات إلى شتى الأماكن والاتجاهات.
ولا تعجب أيضًا، ولا يضرب الإنكار على عينَيْ بصيرتك غشاوة فتسخر، فلقد عُرض المسجد الأقصى بأبوابه ومقاصيره وساحاته على الرسول — صلوات الله عليه — يوم حَدَّث قومه بحديث الإسراء، وأنه صلى بالرسل إمامًا في المسجد الأقصى، فأنكروا وتعجبوا، ثم طلبوا منه — صلوات الله عليه — أن يصف لهم المسجد الأقصى بأبوابه وعلاماته، فأطلعه الله — سبحانه وتعالى — عليه مشاهدة؛ وما كان معجزة لنبي، جاز أن يكون كرامة لولي.
يقول محيي الدين: «ولقد كنتُ بجامع العديس بإشبيلية يومًا بعد صلاة العصر، وشخص يذكر لي عن رجل كبير من أهل الطريق من أكابرهم، اجتمع به في خراسان، فذكر لي فضله وعمله، حتى اشتقتُ إليه، فإذا الشخص إِلَيَّ عن قُرب، والجماعة لا تراه، فقال لي: أنا هو هذا الشخص الذي يصفه لك هذا الرجل. فقلت للرجل المخبر: هذا الرجل الذي رأيتَه بخراسان، أتعرف صفتَه؟ فقال: نعم. فقلت له: اسمع، فأخذتُ أَصِفه له. فقال: هو والله ما تذكر. فقلت له: هو ذا جالسٌ يُصدِّقك عندي فيما تخبر به.»
ولرجال تلك المملكة الرؤيا الصادقة كفلق الصبح المبين، ولهم أيضًا رؤية الرسول — صلوات الله عليه — في المنام، وسؤاله وتلقي الجواب منه للتعليم والإرشاد.
يقول محيي الدين: «كنتُ متحيِّرًا في مسألة العدد وأقل الجمع فيه، فرأيتُ رسول الله ﷺ في منامي وأنا بين يديه، وقد سألني سائل وهو ﷺ يسمع: ما أقل العدد؟ فقلتُ: عند الفقهاء اثنان، وعند النحويين ثلاثة. فقال الرسول: أخطأ هؤلاء وهؤلاء. فقلت: كيف إذن أقول؟ قال: إن العدد شفعٌ ووِترٌ، يقول الله — تعالى: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ والكل عدد، فميِّز؟ ثم أخرج — صلوات الله عليه — خمسة دراهم بيده المباركة، فرمى درهمين بمعزل، ورمى ثلاثة بمعزل، وقال لي: ينبغي لِمَنْ سُئل عن هذه المسألة أن يقول للسائل: عن أيِّ عدد تسأل؛ عن العدد الْمُسَمَّى شفعًا، أم عن العدد الْمُسَمَّى وترًا؟ ثم وضع يده على الثلاثة وقال: هذا أقل الجمع في عدد الوتر، وهذا أقل الجمع في عدد الشفع. فما رأيتُ أحسنَ منه معلمًا!»
الأرواح بعد الموت
وإذا كان العلم الحديث، يقص علينا أنباء استحضار الأرواح ومناجاتها بعد الموت، وإذا كان الروحانيون من العلماء يقولون: إن لهم صلات تنتج معرفة بتلك الأرواح، فإن المتصوفة داخل مملكتهم لا يَحجِب بعضَهم عن بعض — كما يقولون — شِبرٌ من تراب. كناية عن القبر.
روى البخاري أن النبي — صلوات الله عليه — مَرَّ بحائط من حيطان مكة أو المدينة، فسمع صوت إنسانين يُعذَّبان في قبورهما، فقال النبي: «إنهما لَيُعذَّبان، وما يعذبان في كبير!» ثم قال: «بلى، كان أحدهما لا يستتر من بَوْلِه، وكان الآخر يمشي بالنميمة.» وزاد الإمام أحمد — رضي الله عنه: «ولولا تمرُّغ قلوبكم وتزيُّدكم في الحديث لسمعتُم ما أسمع.»
لولا تمرغ القلوب البشرية في أهواء الحياة وشهواتها لكُشفتْ عنها الحجب؛ فرأت من آيات ربها الكبرى ما فيه شفاء للموقنين، وهدًى ورحمةٌ لكل مَنْ كان له قلب يعي، أو ألقى السمع وهو شهيد.
يقول محيي الدين في حديثه عن منازل يوم السبت: «إني كنت يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة بمكة، قد دخلت الطواف، فرأيت رجلًا حسن الهيئة له هيبة، وهو يطوف أمامي، فجعلت بالي منه أن أعرفه فما عرفته، ولم أَرَ عليه علامة قادم من سفر؛ لما كان عليه من الغضاضة والنضرة، ثم رأيتُه يمر بين الرجلين المتلاصقين في الطواف فيعبر بينهما ولا يفصلهما، فجعلتُ أتتبع بأقدامي أقدامه؛ ما يرفع قدمًا إلا وضعت قدمي في موضع قدمه، وذهني فيه وعيني معه؛ لئلا يفوتني، فكنت أمر بالرجلين المتلاصقين اللذين يمر بينهما في أثره فأجوزهما ولا أفصل بينهما، فتعجبتُ من ذلك، فلما أكمل طوافه وأراد الخروج، مسكتُه وسلمتُ عليه، فتبسَّم لي وَرَدَّ السلام عَلَيَّ، وأنا لا أصرف نظري عنه؛ مخافة أن يفوتني، فإني ما شككت أنه روح متجسد، وعلمتُ أن البصر يُقَيِّده، فقلتُ له: إني لَأعلم أنك روح متجسِّد. فقال: صدقتَ. فقلتُ له: فَمَنْ أنت يرحمك الله؟ قال: «أنا السَّبْتِي» ابن هارون الرشيد. قلت له: أريد أن أسألك عن حالٍ كنتَ عليه في أيام حياتك في الدنيا. قال: قُلْ. قلتُ له: بلغني أنك ما سُمِّيت السَّبْتِي إلا لكونك كنت تحترف كل سبت بقدر ما تأكله في بقية الأسبوع. فقال: الذي بلغك صحيح. فقلت له: فَلِمَ خَصصتَ يوم السبت وحده دون سائر أيام الأسبوع؟ فقال: بلغني أن الله ابتدأ خلق العالم يوم الأحد، وأكمله يوم الجمعة، فلمَّا كان يوم السبت، قال: أنا الْمَلِك لي الْمُلْك. هذا بلغني في الأخبار، وأنا في الحياة الدنيا، فقلت: والله لأعملن على هذا؛ فتفرغتُ لعبادة الله من يوم الأحد إلى آخر الستة الأيام، لا أشتغل بشيء إلا بعبادته — تعالى، وأقول: إن الله — تعالى — كما اعتَنَى بنا في هذه الأيام الستة، فأنا أتفرغ لعبادته، ولا أمزجها بشغل نفسي، فإذا كان يوم السبت أتفرغ لنفسي، وأنظر ما يفوتها في سائر الأسبوع.
هذه قطرة من عالم الروح لديهم، ولسنا بمستطيعين أن نجمع بحار الأسرار في قطرة؛ فنَظِرَة إلى مَيْسَرة، عسى الله أن يوفقنا؛ فَنُخَصِّص لها كتابًا.
وتلك صورة مُصَغَّرة لمملكة المتصوفة، الذين يعيشون في ظلال الهدى والرضا، ويقتاتون بالأشواق والمحبة، المتصوفة الذين أحالوا الوجود إلى منابر ومنائر تهتف بالذكر والإيمان، وإلى محاريب للركوع والسجود، المتصوفة الذين يعيشون بيننا في مملكة من صفاءٍ ونورٍ، ابتدعوها لأنفسهم واعتصموا داخلها من تلك الغابة الْمُسَلَّحة؛ غابة الأحزان والهموم، والبغضاء والدماء والشهوات.
وبعد؛ فإن لهم لعادتَهم وتقاليدَهم ورموزَهم التي يعرفونها، وإن لهم لنورًا يتميزون به، وعطرًا يُعرفون بشذاه، ولا يَعرِف الشذى ولا يُبصِر النور إلا رجال الشذى والنور.