محيي الدين والحب الإلهي
الحب هو روح التصوف، وهو شِعاره ودِثاره، والحال المشترك بين المتصوفة جميعًا، هو بداية البداية، كما أنه نهاية النهاية، وكأس المحبة لديهم تكمن فيها كل الأسرار والأنوار.
والحب عند المتصوفة، لا يمكن تحديده ولا تعريفه، ولا شرح حقائقه؛ وإنما يُحَدُّ باللفظ فقط، ويُعرف بالعُرْف والاصطلاح، أو كما يقول محيي الدين: «مَنْ حَدَّ الحبَّ ما عَرَفَه! وَمَنْ لم يذُقْه شربًا ما عرفه! وَمَنْ قال: رَوِيْتُ منه ما عرفه! فالحب شُرْب بلا رِيٍّ. قال بعض المحجوبين: شرِبتُ شربةً فلم أظمأ بعدها أبدًا. فقال أبو اليزيد: الرجل مَنْ يحسو البحار، ولسانه خارج على صدره من العطش.»
وهكذا هو الحب، حنين متجدد، وشوق مستمر، وظمأ دائم لا حَدَّ له ولا غاية؛ لأنه متجدد مع الأنفاس، فالشوق لا نهاية له؛ لأن أمر الحق لا نهاية له، فما من حالٍ يبلغها المحب إلا ويعلم أن وراء ذلك ما هو أتم وأوفى؛ ويقول الإمام الغزالي: «إن تبلغ الحالة تعرف ما هي.»
ولكل محب مِن هواه على قدْر هِمَّته، أو على قدْر موهبته. قال الشبلي: شربتُ أنا والحلَّاج من كأسٍ واحدةٍ؛ فصحوتُ وَسَكِرَ، فسلك كل منا طريقًا.
ولقد استمدَّ المتصوفة أصول هذا الحب من نور القرآن الكريم؛ فالقرآن لِمَنْ يتدبره هتاف حارٌّ بالمحبة الإلهية، ودعوة صريحة إلى بذل كل طيبات الحياة، في سبيل الفوز بمحبة الله.
ولقد كان الرسول — صلوات الله عليه — في مناجاته لربه يسأله الحب، ويسأله أن تكون قرَّة عينه في الصلاة؛ وهي أسمى مراتب الوصول والمحبة: «اللهم اجعل حبَّك أحبَّ الأشياء إِلَيَّ، وخشيتَك أخوفَ الأشياء عندي، واقطعْ عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك، وإذا أقررتَ أعينَ أهل الدنيا من دنياهم، فأقرِرْ عيني في عبادتك.»
وأيُّ مرتبة تسمو إلى مرتبة الحب الإلهي؟! يخلو المحب إلى ربه في محاريبه، يسمر بطاعته ويضيء ليله بنور وجهه، ويقطع نهاره بجميل ذكره، ثم تأتي النشوة الكبرى، بالأنس والرضا.
قال الجنيد: «أشرف المجالس وأعلاها: الجلوس في الجلوة، والتنسم بنسيم المعرفة، والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد.» ثم قال: «يا لها من مجالسٍ ما أجلها! ومن شرابٍ ما ألذه! طوبى لِمَنْ رُزِقه.»
يقول محيي الدين: «جرتْ مسألة المحبة بمكة أيام الموسم، فتكلَّم فيها الشيوخ، وكان الجنيد أصغرهم سِنًّا، فقالوا له: هاتِ ما عندك يا عراقي، فأطرق برأسه ودمعتْ عيناه، ثم قال: عبدٌ ذاهبٌ عن نفسه، متصلٌ بذكر ربه، قائمٌ بأداء حقوقه، ناظرٌ إليه بقلبه، أحرق قلبَه أنوارُ هَيْبته، وصفا شربه من كأس وُدِّه، وانكشف له الجبار من أستار غيبه؛ فإن تكلم فبالله، وإن نطق فمن الله، وإن تحرَّك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله!»
ومحيي الدين يرى أن الحب سبب إيجاد العالم، ففي الحديث القدسي: «كنتُ كنزًا لم أُعرف، فأحببتُ أن أُعرف، فخلقتُ الخلق، وتعرَّفتُ إليهم فبِي عرفوني.» فأخبر أن الحب كان سبب خلق العالم، فالعالم بالحب خُلق وبالحب يعيش، وقد خُلقنا لنعبد الله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ؛ وهذا هو سر الحياة.
وما في الموجودات عند محيي الدين إلا محب ومحبوب؛ حتى السالب والموجب وهما قوام الوجود، حتى ذرات الطبيعة، إنما يمسكها الحب أن تزول أو تحول، ولولا تعشُّق النفس للجسم ما تَمَّ وجودهما، ولولا حب المعاني للكلمات ما امتزجا ولا عُرفا.
فالعالم بأسره إنما يتنفس بالحب ويعيش له وبه، والكون كله يتحرك بحب موجده ومبدعه؛ ولكن صور الحب خدَّاعة، اتخذت ألوانَها البرَّاقة حجبًا ومظهرًا لحقيقة مضمرة، فما تنفَّس الحب في قلب إنسان على الحقيقة لغير خالقه؛ ولكنه احتجب بحجب الصور الدنيوية بحسب المشاكلة. احتجب في الجنس بصور زينب وهند وليلى، وفي الشهوات بحب الدرهم والدينار والجاه، وكل مرغوب محبوب من شهوات الحياة، زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وللحب سببان: الجمال وهو في علاه لله، والإحسان وما ثَمَّ إحسانٌ إلا منه، فإن أحببتَ للإحسان، فما أحببتَ في الحقيقة إلا الله فإنه المحسن، وإن أحببتَ للجمال، فما أحببتَ إلا الله؛ فإنه الجميل نور السموات والأرض.
ومحيي الدين يرى أن الحب ليس دعوى يلفظها اللسان ويتصورها الخيال، بل للحب آيات وشهود وشروط؛ فيطلب إلى المحب أن يمسك سمعه فلا يستمع إلا لكلام محبوبه، ويغض بصره عن كل منظور سوى وجه محبوبه، ويخرس لسانه عن كل كلام إلا عن ذكر محبوبه، ويرمي على خزانة خياله، فلا يتخيل سوى صورة محبوبه، فبه يسمع ويبصر ويتكلم. وفي الحديث القدسي: «ما تقرَّب إِلَيَّ عبدي بمثل أداء ما افترضتُ، ولا يزال يتقرَّب إِلَيَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يُبصِر به.» وإذا أحب الله العبد، أوحى إلى الْمَلَك أن ينادي في السموات: إن اللهَ يحب فلانًا، فأحبوه؛ فيحبه أهل السماء، ثم يُوضع له القبول في الأرض، فتقبله البواطن وإن أنكرتْه الظواهر.
ثم يقول: «واعلم أنه كلما ازدادتِ المشاهدة ازداد الحب؛ لأن الاشتياق يهيج باللقاء، ومن علامات المحب أنه يستقل الكثير من نفسه، ويستكثر القليل من محبوبه؛ لأن المحبوب غني، فقليله كثير، والمحب فقير فكثيره قليل، ومِن نعْته أيضًا: أنه يعانق طاعة محبوبه ويجانب مخالفته، ومن علاماته الكبرى: أنه خارج عن نفسه بالكلية، وموافق لمحاب محبوبه، هائم القلب بهواه.
ثم يقول: «ولقد بلغ بي قوة الخيال أنْ كان حبي يُجسِّد لي محبوبي من خارج لعيني، كما كان يتجسد لرسول الله — صلوات الله عليه — فلا أقدر أنظر إليه، ويخاطبني وأصغي إليه، وأفهم عنه ولقد تركني أيامًا لا أستطيع طعامًا، كلما قُدمت لي المائدة يقول لي بلسانٍ أسمعه بقلبي: أتأكل وأنت تشاهدني؟ فأمتنع عن الطعام ولا أجد جوعًا، وأمتلئ حتى سمنتُ، فقام لي حبي مقام الغذاء، وكان أصحابي وأهل بيتي يتعجبون من سِمَني مع عدم الغذاء؛ فقد كنت أُمضي الأيام الكثيرة لا أذوق طعامًا، ولا أجد جوعًا ولا عطشًا، واعلم أنه لا يستغرق الحب المحب إلا إذا كان محبوبه الحق — تعالى، ومشاهدة المحبوب كالغذاء، وكلما ازداد مشاهدة ازداد حبًّا.
ولمقام المحبة، أربعة ألقاب: منها الحب، وعلامته: ألا يكون للمحب غرض ولا إرادة مع محبوبه. ثم الوُدُّ، وهو من اسمه — تعالى: الودود، ومن علامته أن يتودد المحب للمحبوب دائمًا بما يرضيه ويحبه. والثالث: العشق وهو إفراط المحبة، ومنه قوله — تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله، وقوله — تعالى: قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا، أي: صار حبها ليوسف على قلبها كالشغاف، وهي الجلدة الرقيقة التي تحتوي على القلب؛ فهي ظرف له محيط به. والرابع: الهوى: وهو استفراغ الإرادة في المحبوب والتعلُّق به.»
ثم يقول محيي الدين: «وألطف ما في الحب ما وجدته، وهو أن تجد عشقًا مفرطًا وهوًى وشوقًا مقلقًا، وغرامًا وتحولًا، وامتناعَ نوم، وعدمَ لذة بطعام، ثم ذهولًا وذهابًا وفناءً، ثم تجليًا وفيضًا ولذة لا تُوصف.»
صفات المحبين
يقول ذو النون المصري: «إن لله عبادًا ملأ قلوبَهم من صفاء محبته، وأنارَ أرواحهم بالشوق إلى رؤيته، فسبحان مَنْ شوَّقهم إليه، وأدنى منه هِمَمَهم! سبحان موفقهم ومؤنس وحشتهم وطبيب أسقامهم! إلهي لك تواضعتْ أبدانهم، وإلى الزيادة منك انبسطتْ أيديهم؛ فأذقتَهم من حلاوة الفهم عنك، ما طيَّبتَ به عيشهم، وأدمتَ به نعيمهم؛ ففتحت لهم أبواب سمواتك، وأبحتَ لقلوبهم الجولان في ملكوتك، بك ما نُسيت محبة المحبين، وعليك معوَّل شَوق المشتاقين، وإليك حنَّتْ قلوب العارفين، وبك أَنِستْ قلوب الصادقين، وعليك عكفت رهبة الخائفين، وبك استجارت أفئدة المقصرين، قد يئستِ الراحة من فتورهم، وَقَلَّ طمع الغفلة فيهم، لا يسكنون إلى محادثة الفكرة فيما لا يعنيهم، ولا يفترون عن التعب والسهر، ويناجون ربهم بألسنتهم، ويتضرعون إليه بمسكنتهم، يسألونه العفو عن زلَّاتهم، والصفح عَمَّا وقع من الخطأ في أعمالهم؛ فهم الذين ذابتْ قلوبهم بفكر الأحزان وخدموه خدمة الأبرار.»
ويعقب محيي الدين على ذي النون فيقول: «ومن صفاتهم — رضي الله عنهم — النحول، وهو نعت يتعلَّق بأجسامهم تعلُّقه بأرواحهم.
فأما تعلُّقه بلطائفهم، فإن أرواح المحبين وإن لطفت عن إدراك الحواس، ولطفت عن تصوير الخيال، فإن الحب يلطفها لطافة السراب لمعنى أذكره؛ وذلك أن السراب يحسبه الظمآن ماء؛ وذلك لظمئه، لولا ذلك ما حسبه ماء؛ لأن الماء موضع حاجته، فيلجأ إليه لكونه مطلوبه ومحبوبه؛ لما فيه من سِرِّ الحياة، فإذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده عوضًا عن الماء؛ فالمحب يجد عند كل شيء يقصده الله — سبحانه، فكما أنه — تعالى — يمكر بالعبد من حيث لا يشعر، كذلك يعتني بالعبد في الالتجاء والرجوع إليه والاعتماد عليه، بقطع الأسباب عنه عندما يبديها إليه من حيث لا يشعر، فيجد الله دائمًا عند فقد الماء المتخيل له في السراب، وهو رجوعه إلى الله لمَّا تقطَّعت به الأسباب، وانغلقت دون مطلوبه الأبواب، ورجع إلى مَنْ بيده ملكوت كل شيء، وهو كان المطلوب به من الله، هذا فعله مع أحبائه يردهم إليه اضطرارًا واختيارًا بقطعهم من مطامع الدنيا، وبتقطع الأسباب دونهم؛ فكل شيء يطلبونه من الدنيا سراب.
وأما نحول أجسامهم فهو ما يتعلق به الحس من تغيُّر ألوانهم، وذهاب لحوم أبدانهم؛ لاستيلاء الفكر عليهم في أداء ما كَلَّفهم المحبوب مِمَّا افترضه عليهم، فبذلوا المجهود ليتصفوا بالوفاء بالعهود؛ إذ كانوا عاهدوا الله على ذلك، وعقدوا عليه في إيمانهم به وبرسوله، وسمعوه يقول آمرًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، وقال: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا فهذا سبب نحول أجسامهم.
ومن نعوتهم أيضًا الذبول، وهو نعت صحيح لأرواحهم وأجسادهم: أما في أجسامهم فسببه ترك ملاذ الأطعمة الشهية الدسمة، وهي مستلذة للنفوس؛ لأنهم رأوا أن الحبيب كَلَّفهم القيام بين يديه ومناجاته ليلًا عند تجلِّيه ونوم النائمين، ورأوا أن الطعام يُخدِّر الحواس، ويدفع إلى النوم، فهجروه ليكمل قيامهم بين يدي محبوبهم، فحقَّق اللهُ لهم غايتهم بإعانتهم على ذلك.
وأما ذبول أرواحهم، فإن لهم نعيمًا بالمعارف والعلوم؛ لأن لهم نسبة بحبهم إلى أرواح الملأ الأعلى، وأرواح الملأ الأعلى ذابلة؛ ذِلَّةً وحبًّا. وفي الخبر أن إسرافيل — عليه السلام — وهو مِن أرفع الأرواح العلوية، يتضاءل في نفسه كل يوم لاستيلاء عظمة الله — تعالى — على قلبه سبعين مرة، حتى يصير كالنقطة المتوهمة.
ومن صفات المحبين: الغرام وهو الاستهلاك والفناء في المحبوب، بملازمة الذلة والكمد. قال — تعالى: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا أي: مهلكًا؛ لملازمة شهود المحبوب، فإن الغريم هو الذي لزمه الدين وبه سُمِّي غرامًا، ومقلوبه الرغام، وهو اللصوق بالتراب، ويقال: رَغِم أنفُه؛ لأن الأنف يُوصف بالعزِّة فألصقوه بالتراب، وهو أذل الأذلاء.
ولما لازم الحب قلوب المحبين، والشوق قلوب المشتاقين، والأرق نفوس الأرقين، وكل صفة للحب موصوفها منه، سُمِّي صاحب هذه الملازمات كلها: مُغْرَمًا، وَسُمِّيت صفته غرامًا؛ فهو اسم يعم جميع ما يلزم المحب من صفة الحب، فليس للمحب صفة أعظم إحاطة من الغرام.»
ويذكر محيي الدين للمحبين أكثر من عشرين صفة، ثم يقول: «لقد أعطانا الله منها الحظ الأوفر، إلا أنه — سبحانه — قوَّانا على أشواق الحب وكمده، والله، إني لَأجِد من الحب ما لو وُضع في ظني على السماء لانفطرتْ، وعلى النجوم لانكدرتْ، وعلى الجبال لَسُيِّرت، هذا ذوقي لها؛ لكن قوَّاني الحق فيها قوة من فضله وَمَنْحِه.
ولقد رأيت في نفسي من عجائب المحبة ما لا يبلغه وصف واصف، والحب على قدْر التجلي، والتجلي على قدر المعرفة، وكل مَنْ ذاب فيها وظهرت عليه أحكامها عرف قصدي هنا.»
حب العارفين
يقول محيي الدين: «إن الله — سبحانه — هو الذي بدأنا بالمحبة تفضلًا منه فخلقنا، وهو — تعالى — لا يخلق إلا ما أحب، ومِن حُبِّه لنا: بعثَ الرسل إلينا؛ لتعلِّمنا الأعمال التي تؤدي إلى سعادتنا، ثم أخبرنا أن رحمته سبقتْ غضبه، وأن أشقى الأشقياء مشمول بالرحمة والعناية وإلا هلك.»
قال ذو النون المصري: «كنتُ في الطواف فسمعتُ صوتًا حزينًا، وإذا بجارية متعلِّقة بأستار الكعبة، وهي تقول:
قال ذو النون: فشجاني ما سمعتُ حتى انتحبتُ وبكيتُ، ثم سمعتُها تقول: إلهي وسيدي ومولاي بحبك لي، إلَّا غفرت لي. قال: فتعاظمني ذلك، وقلت: يا جارية، أما يكفيكِ أن تقولي بحبي لك حتى تقولي بحبك لي؟ فقالت: إليك يا ذا النون، أما علمتَ أن لله قومًا يُحبهم قبل أن يحبوه، أما سمعتَ الله يقول: فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ، فسبقتْ محبتُه لهم قبل محبتهم له، فقلت: ومن أين علمتِ أني ذو النون؟ فقالتْ: يا بَطَّال، جالتِ القلوب في ميدان الأسرار فعرفتُك، ثم قالت: انظر مَنْ خلفك، فأدرتُ وجهي، فلم أدرِ السماء اقتلعتْها أم الأرض ابتلعتْها.»
ويروي محيي الدين في الفتوحات صفات المحبة عند العارفين، فيقول: «إن المحبين لله شُقَّ لهم عن قلوبهم، فأبصروا بنور القلوب عن جلال الله؛ فصارت أبدانهم دنيوية، وأرواحهم حجبية، وعقولهم سماوية، تسرح بين صنوف الملائكة، وتشاهد تلك الأمور باليقين؛ فيعبدون بمبلغ استطاعتهم حبًّا له، لا طمعًا في جنة ولا خوفًا من نار.»
ويقول ذو النون في محبة العارفين وصفاتهم: «هم الذين أنار الحب لهم آفاق السماء فلما ذاقوا، أمطرت عليهم سحب الأشجان، فتسربلوا بالخوف والأحزان، وشربوا بكأس اليقين وراضوا أنفسهم رياضة الموقنين، فكانت قُرَّة أعينهم في مشاهدة محبوبهم؛ ولهذا كَحَّلوا أبصارهم بالسهر، وغضُّوها عن النظر، وألزموها الصبر، وأشعروها الفكر، فقاموا ليلهم أرقًا، واستهلت دموعهم تترى، صحبوا محبوبهم بأبدان ناحلة وشفاه ذابة، ودموع زائلة وزفرات قاتلة، فكأن زفير النار تحت أقدامهم، وكأن وعيده نصب أعينهم.»
يقول محيي الدين: «والحب الإلهي هو أسمى ما في عالم المعاني؛ ولهذا يستغرق الطاقة كلها، فيَذهَل المحبَّ عن نفسه، ويفنَى في محبوبه فناءً معنويًّا لا يمكن تصوره، وكيف نتصور ما ليس بصورة وليست للمعنويات صور؟ وهذا هو حب العارفين، الذين يمتازون به عن العوام أصحاب الاتحاد الذين تخيَّلوا الفناء اتحادًا ذاتيًّا لا معنويًّا، وتخيُّلهم هذا دَلَّ على نقص فِطْرتهم.
فالمحب العارف: إنما يفنَى في محبوبه فناء افتقار وذلة، ورجاء وعبودية، وحنينًا وشوقًا مع كمال الأدب والمعرفة.»
ثم يُحذِّر محيي الدين، ويُحذِّر هؤلاء الذين تُذهِلهم بروق المحبة، أو تخدعهم بشاشات القرب والأنس في بساط الحضرة، فيقول: «لا يجوز لِمَنْ نهل فوصل: ترك الحرمة عند الخدمة لِمَنْ جلس على بساط الأنس والمحبة؛ فللحضرة آدابها وأذواقها، وإلا حُرم فطُرد.
وكلما ازداد الحب ازداد الإيمان، وعلى مقدار الحب وبه نفهم غاية الحياة وسرها والمراد منها.
ما خُلقنا إلا للعبادة والمحبة، فحب الله روح العبادة، وهو رجوع بالنفس إلى الفطرة، وهو وفاء بعهد سابق؛ حينما أُخذ العهد والميثاق على الأرواح.
وحب الله — تعالى — يُحَوِّل الأرواح إلى لطائف راضية مطمئنة، لا يصدر عنها شر ولا عدوان، بل رضًا وإيمان، وإخاء وصفاء؛ لأنه يسمو بالإنسان إلى محبة كل شيء في الوجود، فحينما يتصور الإنسان أن كل شيء في هذا الكون من صنع المحبوب، يرى الوجود خيرًا وجمالًا وكمالًا، وحينما يتصور أن أقدار الحياة من إرادة المحبوب؛ يرى كل قَدَر رحمة وخيرًا، وبركةً وفضلًا؛ لأن هوى المحب مع إرادة المحبوب أبدًا.»
الحب ولقاء الله
يقول محيي الدين: «إن المحب في أشواق دائمة إلى ربه، فهو مُتبرِّم بالبقاء في هذا الهيكل الذي يحجبه عن النقلة الكبرى إلى الدار الأخرى؛ حيث اللقاء والبقاء؛ لهذا تنغَّصت عليه حياته الدنيا شوقًا إلى ذلك اللقاء، فهو صافي العيش كَدِرُه، طيب الحياة متبرِّم بها في نفس الأمر لا في نفسه، قد ذهب عنه كل مخلوق، وهابه كل ناظر، ذو أُنس بالله دائمًا، وقور خجول، في قلبه ذكر وتعظيم، مرآة للحق حليم، صابر محتمل، فارغ من الدنيا والآخرة، لا يأسف على شيء؛ إذ لا يرى غير الله، تبكي عينه ويضحك قلبه، لا يشتغل عن الحق طرفة عين، عرف ربه بربه، مهديٌّ في أحواله، مستوحش من الخلق بحبه، جامع للتجليات، مضنون به، مستور بوَلَهِه، محبوس في المواقف رضي عن الله، ورضي الله عنه، وذلك هو الفوز العظيم.»