محيي الدين ووحدة الوجود
قمة الحب الإلهي عند العارفين من أئمة المتصوفة هي حال الفناء، فناء المحب في محبوبه فناءً معنويًّا لا يمكن تصوره، وكيف نتصور ما ليس بصورة، وليس للمعنويات صور محسوسة ملموسة، وهذا هو حب العارفين — كما يقول محيي الدين — الذين يمتازون عن العوام أصحاب الاتحاد.
ولقد ملأ الشعراء والأدباء، أصحاب الحب الأرضي الدنيا بألحان حبهم وصور غرامهم؛ فجعلوا الحياة هي الحب، وجعلوا الحب مَلَكًا من ملائكة السماء بل إلهًا وربًّا، وجعلوا الغرام اتحادًا واستغراقًا وفناءً، وصوَّروه بشتيت الصور المعنوية والحسية، وأطلقوا في آفاقه استعارات المبالغة، وتشبيهات مهولة؛ فصفقوا لهم إكبارًا، وأقاموا لهم التماثيل إعجابًا، وسجدوا وتبتلوا، في محاريبهم الشهوانية.
وقال الشعراء والأدباء من أصحاب الهوى الجنسي: إن المحب يرى محبوبه في كل شيء، ويتلون به كل شيء، يراه في الماء والسماء والهواء، يراه في كأس شرابه، ويشاهده في ألوان طعامه، وفي بسمة الفجر وإشراقة الشمس، وشعاع البدر. بل يراه في كل جهة يولي وجهه إليها.
يقول المترنمون بالجنس هذا؛ فتُصفق لهم الدنيا إعجابًا وإجلالًا، وتخفق لهم القلوب رحمةً وحنانًا، وتدمع العيون رثاءً وإشفاقًا.
أما العابد المتطهر، المؤمن الصوفي، الزاهد الساجد، الغارق في حبه العظيم، والمحبة على قدر المحبوب، إذا استغرق الصوفي في حبه فنسي الوجود، وغاب عن الشهود، ونسي نفسه، ولم يَرَ إلا الحبيب العظيم، ولم يشاهد في الألوان والصور الكونية إلا الخالق المحبوب؛ فهو زنديق وهو متفلسف! وهو هاتف بالحلول! وداعٍ إلى وحدة الوجود! والأمر أيسر وأهون من هذا، ما هناك إلا المحب والمحبوب.
إنهم لقوم عَمَرهم النور الإلهي الأسنى؛ فتعلَّقت أبصارهم به ورفرفت أرواحهم حوله، وذهلت عقولهم من التجلي والمشاهدة، فما رأوا في الوجود سواه. تعالى الله.
إنهم بعين حبهم وشوقهم لَيرون الله في كل شيء، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن.
ووحدة الوجود، وفكرة الحلول فكرة إلحادية قديمة، عريقة في العبادات الهندية والبوذية، وخلاصتها: أن أصحابها انقسموا إلى فريقين: فريقٌ يرى الله — سبحانه — روحًا، ويرى العالم جسمًا لذلك الروح، وأن الإنسان إذا صفا وتطهر، سما وارتفع فالتصق بالروح التي هي الله، ففني فيها فذاق السعادة الكبرى.
وفريقٌ يرى أن جميع الموجودات لا حقيقة لوجودها، غير وجود الله؛ فكل شيء هو الله، والله هو كل شيء، أي: إن الله — سبحانه — يتجلى تجليًّا حقيقيًّا في كل شيء في الكون بذاته، فلا موجود إلا الوجود الواحد، ومع ذلك يتعدد بتعدد الصور تعددًا حقيقيًّا واقعيًّا في نفس الأمر، ولكن ذلك التعدد لا يوجب تعددًا في ذات الوجود، كما أن تعدد أفراد الإنسان لا يوجب تعددًا في حقيقة الإنسان.
وهي سفسطة، لا يقبلها منطق ولا عقل ولا شرع، سفسطة تذهب بالشرائع والأديان، وتنال من الجلال والكمال الواجب لله — سبحانه، وتُبطل الجزاء والعقاب والجنة والنار، والحياة الأخروية، كما تُبطل الحدود بين الخالق والمخلوق، فتجعل الخلق والخالق شيئًا واحدًا.
تلك هي خلاصة فكرة وحدة الوجود، التي قذف بها القدامى من خصوم المتصوفة رجالَ الحب الإلهي، متخذين من حب المتصوفة لربهم تكأة ومقعدًا لهذا الاتهام.
ثم جاء بعض رجال الاستشراق، الذين أغرموا أكبر الغرام بتجريح الثقافة الإسلامية والفكرة المحمدية، بتجريح رجالها والطعن في علمائها؛ فغمسوا أقلامهم في محراب المتصوفة، ولبسوا ثوب العلم بالإسلام والدفاع عنه؛ فرموا المتصوفة بهذا الإفك، والذي تولَّى كِبْره منهم هو: «جولد تسهير»، هذا اليهودي المفكر، الذي فكَّر وفكَّر، ثم فكَّر وَقَدَّر، فَأُلهم أن إخوان الصفا بشامخ عِلْمهم، استمدوا فلسفتهم وفكرتهم من قصة الحمامة المطوقة، في كتاب كليلة ودمنة، ولا أجد لهذا الاكتشاف العظيم شبيهًا إلا أن تقول مثلًا: إن علماء القنبلة الذرية، قد استمدوا فكرتهم من قصة الزير سالم، أو الزناتي خليفة.
جولد تسهير هذا، وأمثاله من عباقرة رجال الاستشراق، هم الذين أثاروا غبار وحدة الوجود على رجال التصوف الإسلامي والحب الإلهي.
وجرى في أعقابهم بعض المتعالمين من كُتَّابنا، الذين تعيش أفكارهم على فُتات الموائد الأوروبية؛ فرموا بالكلم المسموم، والاتهام الشائن.
ويتفلسف المستشرقون، ويتفلسف المتعالمون، فيقولون: إن للتصوف الإسلامي علاقة وثيقة ببوذا والهند، وإن وحدة الوجود عند متصوفة الإسلام من الصوفية البوذية، ولمحات من صوفية المدرسة الإشراقية.
ونسوا أن التصوف الإسلامي قام على كتاب الله وهدي نبيه، وأن الصوفي المسلم يقرأ في كتاب ربه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فيقرأ خلاصة العلم الذي يتعلمه طلاب اللاهوت في سائر الملل والنحل، ويطوي تحت هذا البلاغ المبين والنور الغلَّاب كلَّ فلسفة تتشدق ببحث الصفات والذات.
يقول الشعراني في اليواقيت: «ولَعَمْري، إن عُبَّاد الأوثان لم يتجرءوا أن يجعلوا آلهتهم عين الله، بل قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زُلفى، فكيف يُظن بأولياء الله أن يدعوا الاتحاد بالحق — سبحانه؟! هذا محال في حقهم — رضوان الله عليهم.»
ومحيي الدين: وهو شيخ المتصوفة الأكبر، وفيلسوفهم الأشهر، الذي رُمِيَ فِيمَنْ رُمِيَ من المتصوفة بهذا الإفك تشهد كتبه، وتشهد آثاره، ويشهد إيمانه، وتشهد تقواه، وينطق حبه لله، بأنه أكبر المدافعين عن التوحيد، وأشد الناس قسوة على مَنْ مرق من نطاقه، فنادى أو هتف بوحدة الوجود، وما إلى وحدة الوجود من حلول وإلحاد، بل محيي الدين لا يُبيح للشاطحين والمحبين أن يقولوا حتى الألفاظ التي تحتمل التأويل أو الشك، مع براءة الشاطح والمحب من الاتجاه والقصد.
يقول محيي الدين في عقيدته الوسطى: «اعلم أن الله — تعالى — واحد بإجماع، وقيام الواحد يتعالى أن يحل فيه شيء، أو يحل هو في شيء، أو يتحد بشيء.»
ويقول في الباب الثالث من الفتوحات: «اعلم أنه ليس في أحدٍ من الله شيء، ولا يجوز ذلك عليه بوجهٍ من الوجوه.»
وقال في باب الأسرار: «لا يجوز لعارف أن يقول: أنا الله، ولو بلغ أقصى درجات القرب، وحاشا العارف مِن هذا حاشاه.»
وقال في الباب التاسع والتسعين ومائة: «القديم لا يكون قط محلًّا للحوادث، ولا يكون حالًّا في المحدَث؛ وإنما الوجود الحادث والقديم مربوط بعضه ببعض، ربط إضافة وحكم، لا ربط وجود عين بعين؛ فإن الرب لا يجتمع مع عبده في مرتبة واحدة أبدًا.»
وقال في لواقح الأنوار: «من كمال العرفان شهود عبدٍ وربٍّ، وكل عارف نفى شهود العبد في وقتٍ ما، فليس بعارفٍ؛ وإنما هو في ذلك لوقتٍ صاحب حال، وصاحب الحال سكران لا تحقيق عنده.»
ويقول في الباب السابع والستين وثلاثمائة من الفتوحات: «اجتمعت روحي بهارون — عليه السلام — في بعض المشاهدات، فقلت له: يا نبي الله، كيف قلتَ: فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ، وَمَنْ الأعداء حتى تشهدهم، والواحد منا يصل إلى مقام لا يشهد فيه إلا الله؟ فقال لي هارون — عليه السلام: صحيح ما قلتَ في مشهدكم؛ ولكن إذا لم يشهد أحدكم إلا الله؛ فهل زال العالم في نفس الأمر، كما هو في مشهدكم، أم العالم باقٍ لم يزل، وحُجبتم أنتم عن شهوده؛ لعظيم ما تجلَّى لقلوبكم؟ فقلت له: العالم باقٍ في نفس الأمر لم يزل؛ وإنما حُجبنا نحن عن شهوده، فقال: قد نقص علمكم بالله في ذلك المشهد، بقدر ما نقص من شهود العالم، فإنه كله آيات الله. فأفادني — عليه السلام — علمًا لم يكن عندي.»
هذا موقف من المواقف التي يجب أن نقف لديها ونرصد الفكر عليها؛ لأنه موقف يشرع لنا أدقَّ مسألة في التصوف، هي مسألة المشاهدة والتجلي، والفناء والذهاب بالحق عن الخلق، أو كما يقول الجنيد: مَنْ شهد الحق لم يَرَ الخلق.
فالمتصوف المحب الغارق في حبه، عند المشاهدة — وما أدراك ما المشاهدة؟! — يذهب عنه شهود الخلق والعالم؛ لعظيم ما تجلى لقلبه من أنوار ربه، وهو موقف عظيم رهيب.
ولكن ليس معنى هذا، أن العالم قد زال أو تلاشى، أو عدمت عينه وذاته؛ وإنما هو ذهول بما هو أعلى عَمَّا هو أدنى، كَمَنْ يشاهد الْمَلِك مثلًا؛ فيذهل عند رؤيته عن رؤية ما سواه، فلا يرى غيره؛ لأن جلاله قد حجب مَنْ حوله، ولا قياس ولا تشبيه بين المثلين.
وليس في هذا ما يعاب، فهو موقف عظيم من مواقف الرجال؛ ولكن الكمال يكون أتم وأعلى إذا اقترنت مشاهد الأنوار الربانية مع الموجودات الكونية؛ لأن كل موجود آية من آيات الله، فالحجاب عنها حتى عند المشاهدة العظمى: نقصٌ في المعرفة.
ويشرح لنا محيي الدين الحديث القدسي المشهور: «ما تَقَرَّب إِلَيَّ عبدي بمثل أداء ما افترضتُ، ولا يزال عبدي يَتَقَرَّب إِلَيَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها … إلخ.»
يشرح محيي الدين هذا الحديث، الذي توهم فيه بعض الأغرار ما يفيد الوحدة، فيقول: «أي: إن مَنْ تقرب إلى ربه فأحبه، أفاض عليه أنوار المعرفة، فانكشفت له الحقائق، فرأى كل شيء بنور هذه المعرفة.» ثم يقول: «لا حلول ولا اتحاد، فإن القول بالحلول مرض لا يزول، وَمَنْ فصل بينك وبينه فقد أثبت عينك وعينه، أَلَا ترى إلى قوله: كنت سمعه الذي يسمع به، فأثبَتَك بإعادة الضمير إليك؛ ليدلك عليك، وما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد، كما أن القائل بالحلول من أهل الجهل والفضول.»
ما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد، وما قال بالحلول إلا أهل الجهل والفضول. أَيُرمى صاحب هذا القول بالاتحاد والحلول؟! سبحانك ربي! وإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور!
ويقول في باب الأسرار: «أنت أنت، وهو هو، فإياك أن تقول، كما قال العاشق:
فهل قَدَرَ هذا أن يرد العين واحدة؟ لا والله ما استطاع، فإنه جهل، والجهل لا يتعقل حقًّا.»
وقال أيضًا: «إياك أن تقول: أنا هو، وتغالط؛ فإنك لو كنتَ هو لأحطتَ به، كما أحاط — تعالى — بنفسه.»
ثم يقول هو من الآيات في توضيح فكرته: «اعلم أن العاشق إذا قال:
كان ذلك كلامًا بلسان العشق والمحبة، لا بلسان العلم والتحقيق؛ ولذلك يرجع أحدهم عن هذا القول إذا صحا من سُكْرِه.»
إذا قال القائل:
فهذا لسان الحب، ولسان الخيال لا الحقيقة، لسان المعنويات التي لا صور لها، وللمحبة لسان معذور؛ لأنه مقهور بحاله.
يروي محيي الدين في الفتوحات: «إن سليمان — صلوات الله عليه — كان في قبَّته يومًا، وفي أعلاها عصفور يناجي عصفورة، فقال لها: أنا أحبك حبًّا لا أعصي لك معه أمرًا، حتى لو قلتِ لي: حطِّم هذه القبة على رأس سليمان لحطمتُها عليه، فأمره سليمان أن يهبط، فلما هبط قال له: ماذا تقول؟ قال: يا نبي الله، لقد تكلمتُ بلسان المحبة، وألسنة المحبين لا حساب عليها؛ فتبسَّم سليمان وعفا عنه …»
ويقول محيي الدين في الباب الثاني والتسعين ومائتين: «من أعظم الأدلة على نفي الحلول والاتحاد، الذي يتوهمه بعضهم: أن تعلم عقلًا أن القمر ليس فيه من نور الشمس شيء، وأن الشمس ما انتقلت إليه بذاتها؛ وإنما كان القمر محلًّا لها ومشرقًا بها؛ فكذلك العبد ليس فيه من خالقه شيء ولا حَلَّ فيه.»
ثم يقول: «وهذا يدلك على أن العالَم ما هو عين الحق، ولا حَلَّ فيه الحق؛ إذ لو كان عين الحق، أو حَلَّ فيه، لما كان — تعالى — قديمًا ولا بديعًا.»
ثم يرد محيي الدين على هؤلاء الذين تنادَوْا بالترقي والفناء في الذات العلية، فيقول: «لو صحَّ أن يرقى الإنسان عن إنسانيته، وَالْمَلَك عن مَلَكيته، ويتحد بخالقه — تعالى — لصح انقلاب الحقائق، وخرج الإله عن كونه إلهًا، وصار الحق خلقًا، والخلق حقًّا! وما وثق أحد بعلم، وصار المُحال واجبًا؛ فلا سبيل إلى قلب الحقائق أبدًا.»
ويقول في الباب الثامن والأربعين من الفتوحات: «لا يصح أن يكون الخلق في مرتبة الحق — تعالى — أبدًا، كما لا يصح أن يكون المعلول في رتبة العلة.» ثم يقول: «وأين إذن تذهب التكاليف؟ وَمَنْ ترك التكاليف كان معاندًا أو جاحدًا؛ فمِن كمال التخلق بأسماء الحق الاشتغال بالله وبالخلق.»
ويقول في لواقح الأنوار: «لا يقدر أحد ولو ارتفعت درجات مشاهدته أن يقول: إن العالم عين الحق أو اتحد به أبدًا، وَمَنْ فهم ما أومأنا إليه، فهم معنى قوله — تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، فلم يحدث بابتداعه العالم في ذاته حادث. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا!»
ثم يأتي محيي الدين بكلمة الفصل فيقول: «وبالجملة فالقلوب به — تعالى — هائمة، والعقول فيه حائرة، يريد العارفون أن يفصلوه — تعالى — بالكلية عن العالم من شدة التنزيه فلا يقدرون، ويريدون أن يجعلوه عين العالم من شدة القرب، فلا يتحقق لهم؛ فهم على الدوام متحيرون: فتارةً يقولون: هو، وتارة يقولون: ما هو، وتارةً يقولون: هو ما هو! وبذلك ظهرت عظمته — تعالى.»
وهذا كلام العارف الحكيم، المؤمن الكامل، وهو هدى ونور لِمَنْ يريد الهدى والنور.
يريد العارفون أن يفصلوه — سبحانه وتعالى — عن العالم من شدة التنزيه فلا يقدرون، ويريدون أن يجعلوه عين العالم من شدة القرب، فلا يتحقق لهم ما يقولون.
فالقلوب حائرة، والعقول هائمة، وبذلك ظهرت عظمة الله — تعالى — الذي ليس كمثله شيء، والذي لا تدركه العقول ولا الأبصار، وهو يدرك العقول والأبصار، وهو على كل شيء قدير، وسُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ.
محيي الدين الْمُفْتَرَى عليه
لم يشهد تاريخ الفكر الإسلامي جدلًا وحوارًا، أشد ولا أعنف من الجدل والحوار الذي أثير حول محيي الدين، ولست أغالي إذا قلت: إن محيي الدين هو الراية التي دارت حولها المعارك بين المتصوفة وخصومهم من شتيت الفرق والطوائف والمذاهب، منذ القرن السابع الهجري إلى يومنا.
فمحيي الدين، قد فُتن به قوم وهاموا بآثاره حبًّا وغرامًا، وطافوا حول تراثه إجلالًا وإكبارًا، وتنادوا بأن الفتوحات هي أعظم آثار الفكر الإسلامي، وأعلى ذرى العطايا اللدنية، والمنح الإلهية في نهج التصوف والمتصوفة، وأنه القطب والغوث والإمام والشيخ الأكبر.
وغضب قوم على محيي الدين، وثاروا به وتفننوا في تجريحه والنيل منه، وألحدوا بكل ما قال وظنوا السوء، بل وأكثر من السوء في كتبه وآرائه.
وخصوم محيي الدين على لونين؛ ففريق لم يفهم محيي الدين، وقصرت أجنحته عن التحليق في آفاقه، وعجزت أقدامه وسواعده عن الجري مع عبابه وأمواجه؛ فأنكر وجحد، ورماه بالغموض والإبهام والتقنع لمآرب وأغراض.
وفريق آخر أنكر التصوف جملة، وجحد المتصوفة كافة، ورأوا في محيي الدين الحصن الأكبر والصرح الممرَّد الشاهق للتصوف والمتصوفة؛ فوجَّهوا ريحهم إليه، وأجرَوْا سفنهم بالكيد له، والتطاول عليه؛ حتى ينتقض الصرح من أساسه، وينفض السامر، وتخلو ساحاته من البطل والزعيم.
بل لقد تعرض محيي الدين لمحنة أشد، بل لمؤامرة من تلك المؤامرات التي تُدبر تحت أجنحة الظلمات، والتي طالما أودت بالعلماء ورجال الإيمان، وطالما جرَّحت أئمة الفكر والهدى، مؤامرة بدأت في حياته، ثم جرت في أعقابه ولاحقتْه إلى يومنا.
يقول الشعراني في مقدمة اليواقيت: «إن أَفَّاقًا من أهل اليمن غير واضح العقيدة، اسمه ابن الخياط، كتب مسائل في درج وأرسلها إلى العلماء بسائر أنحاء العالم الإسلامي، وقال: هذه عقائد الشيخ محيي الدين. وذكر فيها عقائد زائفة، ومسائل خارقة لإجماع المسلمين، وخدع العلماء ووقع كثير منهم في الشَّرَك، فكتبوا بحسب السؤال وشنَّعوا على مَنْ يعتقد ذلك من غير تثبُّت، والشيخ عن ذلك بمعزل.»
ويُعَقِّب الفيروز آبادي على حادثة ابن الخياط قائلًا: «فلا أدري أَوَجَدَ ابن الخياط تلك المسائل في كتاب مدسوس على الشيخ، أو فهمها هو من كلام الشيخ على خلاف مراده، أو ابتكرها من عند نفسه؟»
وإنه للون من أعجب ألوان التشهير، يتفق تمامًا مع أحدث أساليب الدعاية الحديثة، وما أَلِفْنَاه من الأقلام المأجورة المعاصرة، التي تطلقها الأمم لتنال من خصومها، ومن أفكارهم ومذاهبهم، بالتلفيق والاختراع والتمويه.
ولا عجب إذا رأينا الكثير من العلماء الذين وُجِّه إليهم السؤال من ابن الخياط، وقد وقعوا في الشرك الذي نُصب لهم بمهارة ودهاء؛ فقد رأوا بين أيديهم مسائل خطيرة تمس الدين، وما انعقد عليه الرأي بالإجماع؛ فملئوا الدنيا صياحًا وتشهيرًا، ولا يزال صياحهم وتشهيرهم تحمله أجنحة التاريخ، وتقذف به إلى الأذهان.
ويحدثنا الشعراني أيضًا، فيقول: «إنه عندما أخذ في تأليف مختصر للفتوحات، رأى فيها أشياء كثيرة، لا تتفق مع ما عليه أهل السُّنَّة والجماعة؛ فحذفها وتوقَّف فيها.» ثم يقول: «لم أزل كذلك أظن أن المواضيع التي حذفتُها غير ثابتة عن الشيخ محيي الدين، حتى قدم علينا الأخ العالم الشريف الشيخ شمس الدين محمد بن السيد أبي الطيب المدني، الْمُتَوَفَّى سنة ٩٥٥ﻫ، فذاكرته في ذلك، فأخرج لي نسخة من الفتوحات التي قابلها على النسخة التي عليها خط الشيخ محيي الدين نفسه «بقونيه»؛ فلم أَرَ فيها شيئًا مما توقفتُ فيه وحذفتُه؛ فعلمتُ أن النسخ التي في مصر الآن كلها كُتبتْ عن النسخة التي دسُّوا على الشيخ فيها ما يخالف عقائد أهل السُّنَّة والجماعة، كما وقع له ذلك في كتاب الفصوص وغيره.»
والشعراني وهو من أخلص تلامذة محيي الدين، وهو من أكبر مَنْ كتبوا عنه وترجموا له، يقرَّر هنا في صراحة لا تقبل الجدل: أن كل ما في الفتوحات مخالفًا لعقائد أهل السُّنَّة والجماعة، قد دُسَّ على محيي الدين، وأن محيي الدين ضحية لمؤامرة دنيئة، سلاح الخصوم فيها: التلفيق والتزييف.
ويتابع الشعراني بحثه فيقول: «إنه لَمقتنع كل الاقتناع بأن خصوم محيي الدين أضافوا إلى مؤلفاته زيادات كبيرة وأنطقوه بما لم يقله؛ ليصرفوا الجمهور عن حسن الظن به.»
ونحن ولا شك أمام حادث خطير من أحداث التاريخ، يجب أن تجتمع له عصبة من أولي القدرة والإيمان لدراسته وبحثه، وصون هذا التراث الإسلامي العظيم من التشويه الزائف الخطير المتعمد.
ويرى كثير من رجال التاريخ وأهل الرأي: أن الزائف في الفتوحات والفصوص وغيرهما من كتب محيي الدين، لم يتولَّه خصومُه من رجال الفقه ولا من أهل السُّنَّة؛ وإنما تولَّى أثمَه بعض رجال الباطنية، الذين عجزوا عن الجهر بآرائهم، فأضافوها إلى محيي الدين؛ لإيمانهم بأن شخصيته الجبارة بمكانتها وجلالها كفيلة بحماية تلك الآراء، أو تدعيمها وتقويتها.
والتاريخ حافل الصفحات بألوان من الخصومات والافتراءات على الرجال والأئمة، بل وعلى الرسل والأنبياء.
يقول جلال الدين السيوطي: «ما كان كبير في عصر قطُّ إلا كان له عدو من السفلة؛ إذ الأشراف لم تزل تُبتلى بالأطراف.» ثم يضرب الأمثال من الأنبياء والرسل — صلوات الله عليهم — الذين ابتُلوا بالخصومات والافتراءات، ثم بكبار الصحابة، كسعد بن أبي وقاص الذي نسب إليه أهل الكوفة أنه لا يُحسن الوضوء ولا الصلاة، وهو مَنْ هو في كماله وإيمانه! وأحمد بن حنبل الذي ضُرب حتى مُزِّق جسده، وهكذا، ثم يقول: «ولقد اختُص المتصوفة بالنصيب الأكبر من هذا الابتلاء.»
والسيوطي هنا يقرَّر حقيقة من حقائق التاريخ التي لا يرقى إليها الشك، فما من صوفي إلا وأحاطتْ به عصبة السوء والإفك، تجريحًا وتشهيرًا، ودسًّا وافتراءً، لقد نفَوا البسطامي سبع مرات من بلده بتهمة الكفر والزندقة، وأحلوا دم ذي النون المصري، وشهدوا على الجنيد بالكفر والإلحاد، ودسُّوا على الغزالي في الإحياء عدة مسائل، تنبَّه لها القاضي عياض؛ فأرشد إليها وأمر بإحراقها.
ولم يكتفِ خصوم محيي الدين بالدسِّ عليه في كتبه والتشهير بألسنتهم به، بل أضافوا إلى جريمتهم جريمة أخرى أشد وأنكى، فقد أخذوا يؤلِّفون على ألسنة شيوخ الإسلام الكلمات القاسية الجارحة الْمُوجَّهة إلى محيي الدين؛ ليزيدوا في تدعيم مؤامرتهم، وليزيدوا النار اشتعالًا.
ووقع كثير من رجال التاريخ فريسة سهلة لهذا اللون الجديد؛ فأخذوا يرددون أمثال هذه الافتراءات، وينسبونها إلى هؤلاء الأعلام، ولا عجب في هذا، فكتب التفسير مثلًا تموج موجًا بالإسرائيليات التي تُنسب ظلمًا إلى ابن عباس — رضي الله عنه — وهو منها البريء الْمُطَهَّر، ولقد نسبوا فيما نسبوا إلى شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام أنه قال عن محيي الدين: إنه زنديق! ورواها عنه أكثر من مؤرخ، ثم نرى كتب التاريخ الصحاح تقص علينا حادثة أبعد ما تكون عن الرواية الأولى، على لسان مريد من تلامذة شيخ الإسلام يقول: كنا في مجلس الدرس بين يدي الشيخ عبد السلام، فجاء في باب الردة لفظة زنديق. فقال بعضهم: هل هي عربية أم أعجمية؟ فقال بعض الفضلاء: إنما هي فارسية مُعَرَّبة أصلها «زن. دين» أي: على دين المرأة، وهو الذي يُضمر الكفر ويُظهر الإيمان. فقال بعضهم: مثل مَنْ؟ فقال آخر إلى جانب الشيخ: مثل ابن عربي بدمشق؛ فلم ينطق الشيخ ولم يرد عليه، ووجم لها مَنْ في المجلس.
قال المريد: وكنت صائمًا ذلك اليوم، فاتفق أن الشيخ دعاني للإفطار معه، فحضرت ووجدت منه إقبالًا ولطفًا. فقلت له: يا سيدي، هل تعرف القطب الغوث الفرد في زماننا؟ فقال: ما لك ولهذا؟ فعرفت أنه يعرفه؛ فرجوته وألححت في الرجاء، فقال لي: هو ابن عربي؛ فعجبت وقلت: يا سيدي، لقد حدث اليوم أن رماه بعضهم في مجلسك بالزندقة ولم ترد عليه! فتبسَّم الشيخ وقال: اللجاجة مع المتعنِّت لا تنتج إلا ضررًا، وقائل تلك الكلمة: لجوج حقود، يريد بابًا للجدل؛ حتى يفرغ ما في جوفه.
النبي والولي
وخصوم ابن عربي على لونين: لون صناعته الدسُّ وسوء القصد، وقد توصلوا إلى أغراضهم بتزييف الآراء على ألسنة الأئمة والعلماء، وتزييف القول وبثِّه في كتب محيي الدين، كما حدث في الفتوحات والفصوص والمشاهد، وقد تنبَّه رجال التصوف كالشعراني، والمؤرخين الثقات كالفيروز آبادي، وصاحب نفح الطيب إلى ذلك.
والفريق الآخر: خصومته أساسها سوء الظن، أو سوء الفهم لكلمات محيي الدين. يقول الشعراني: سمعت سيدي عليًّا الخوَّاص يقول: «لو أن كمال الدعاة إلى الله — تعالى — كان موقوفًا على إطباق الخلق على تصديقهم؛ لكان رسل الله — صلوات الله عليهم — أولى بذلك، وقد خاصمهم الناس فريقًا يقتلون، وفريقًا يأسرون ويكذبون.»
ولقد صدق الخواص، فحتى الرسل لم تسلم دعوتهم الربانية من المؤولين والمكذبين.
ومن الأمور التي نُسبتْ إلى محيي الدين عن طريق التأويل أو سوء الفهم مسئلة المفاضلة بين النبي والولي، فلقد هتف المرجفون بأن محيي الدين قد فَضَّل الولي على النبي، وأنه قال: إن النبي للعامة، والأولياء للخاصة.
وهو افتراء، أو سوء فهم من أعجب الأعاجيب، فمحيي الدين لم يَقُلْ هذا، ولا ينبغي له أن يقوله، ولا يمكن أن يصدر منه.
محيي الدين الذي اتُهم بأنه سما بمقام النبوة المحمدية سموًّا اعتبروه عيبًا من عيوبه، حتى رمَوْه بالغلو، كما غالَى رجال المسيحية في عيسى، حتى أوشكوا أن يخرجوه من بشريته، بل لقد فعلوها.
محيي الدين الذي عِيب عليه هذا، يُرمَى بأنه يُفَضِّل الولي على النبي! ومن عجبٍ أن يُتهم رجل بمتناقضين في وقتٍ واحدٍ.
وحقيقة الأمر: أن محيي الدين يرى أن الولي كلمة اصطلاحية تضم كل الرسل والأنبياء؛ فالرسول عنده ولي عُهد إليه في تبليغ رسالة عن الله — سبحانه، والنبي ولي متميز عن غيره من الأولياء، مُفَضَّل بسبب خصوصيته بالنبوة؛ فالولاية هي أساس كل المقامات الروحية وعنصرها الأول، ولا يسمو الولي سمو النبي والرسول أبدًا، فكل نبي أو رسول هو في الأصل ولي لله، وليس كل ولي نبيًّا أو رسولًا.
وإنما المفاضلة بين الولاية في النبي والنبوة، أيُّ الفضيلتين أفضل وأدوم؟ يقول ابن عربي: «إن النبوة طارئة وإن الولاية دائمة، فولاية النبي — لا ولاية غيره — أفضل من نبوته؛ لأنها أدوم وأسبق.» فالكلام إذن منصبٌّ على رسالة النبي وولايته، لا على المفاضلة بينه وبين غيره في النبوة والولاية.