المتشابهات في كلام محيي الدين
للصوفية اصطلاحات ورموز، ولغة اختُصوا بها، فإذا اختُلف في معانيها، يجب أن ترد إلى أصحابها وأولي العلم بأسرارها. يقول محيي الدين: «اعلم أن أهل الله لم يضعوا الإشارات التي اصطلحوا عليها فيما بينهم لأنفسهم؛ فإنهم يعلمون الحق الصريح في ذلك؛ وإنما وضعوها منعًا للدخيل؛ حتى لا يعرف ما هم فيه؛ شفقةً عليه أن يسمع شيئًا لم يصل إليه، فينكره على أهل الله فيُعاقب.»
ويقول: «إن من أعجب الأشياء في الطريق أن ما من طائفة تحمل علمًا من المنطقيين والنحاة، وأهل الهندسة والحساب والمتكلمين، إلا ولهم اصطلاح لا يعلمه الدخيل فيهم إلا بتوقيف منهم إلا أهل هذا الطريق، فإن المريد الصادق إذا دخل طريقهم وما عنده خبر بما اصطلحوا عليه، وجلس معهم وسمع ما يتكلمون به من الإشارات، فَهِمَ جميع ما تكلموا به، حتى كأنه الواضع لهذه المصطلحات.»
ويقول مجد الدين الفيروز آبادي: «كما أعطى الله الكرامات للأولياء، أعطاهم من العبارات ما يعجز عن فهمه فحول العلماء.»
ويقول محيي الدين: «كثيرًا ما يهبُّ على قلوب العارفين نفحات إلهية، فإن نطقوا بها جهَّلهم مَنْ لا يعلم، وردَّها عليهم أصحاب الأدلة من أهل الظاهر، وغاب عنهم أن الله — تعالى — كما أعطى أولياءه الكرامات، أعطاهم العبارات المعجزة.»
لكل علم من العلوم اصطلاحاته الفنية، ولغته الخاصة؛ فيجب الإحاطة أوَّلًا بلغة التصوف ورموزه، قبل الجحود والإنكار.
يقول محيي الدين: «مَنْ لم يقم بقلبه التصديق لما يسمعه من كلام هذه الطائفة فلا يجالسهم، فإن مجالسهم سُمٌّ قاتل.»
يُحَذِّر محيي الدين من سوء الفهم، أو سوء التأويل لكلمات العارفين، الذين أوتوا الكرامات، كما أوتوا الكلمات المعجزة، والرقائق الغالية، والدقائق المشرقة.
وسوء الفهم، وسوء التأويل، هو الذي دفع بالكثير من رجال الفكر إلى مخاصمة محيي الدين والصياح به، والإنكار عليه، ولو ردُّوا ما أنكروه إلى أهله ورجاله، لعرفوا اليقين، ولمسوا النور المبين.
ومن تلك المتشابهات في كلام محيي الدين: أنهم نسبوا إليه وحدة الوجود، ونسبوا إليه أنه جعل الحق والخلق شيئًا واحدًا؛ حين قال:
يقول الشعراني: «هذا منطق عربي مبين، على نهج الأسلوب القرآني، وعلى صحة نسبة هذا القول إليه، فمعنى يحمدني: أنه يشكرني إذا أطعتُه، كما في قوله — تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ. وأما قوله: «ويعبدني وأعبده» أي: يطيعني بإجابته دعائي، كما في قوله — تعالى: لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ أي: لا تطيعوه، وإلا فليس أحد يعبد الشيطان كما يعبد الله — سبحانه.»
ومن المتشابهات أيضًا عنده، والتي فَسَّرها هو بنفسه، وعلى ضوء هذا التفسير يمكننا أن نمسك بمفتاح محيي الدين، الذي يرشد إلى إدراك حقيقة معانيه وحقيقة ألفاظه، أو حقيقة نهجه الذي تَمَيَّزَ به، كما تَمَيَّزَ كل كاتب بأسلوبه وتراكيبه. قال محيي الدين:
فسأله بعض صحبه لما سمع هذا البيت: كيف تقول: إنه لا يراك وأنت تعلم أنه يراك؟ فقال محيي الدين على البديهة فورًا:
قال المَقَّري، صاحب نفح الطيب؛ تعقيبًا على هذا القول: «من هذا وشبهه تعلم أن كلام الشيخ — رحمه الله — مؤوَّل وأنه لا يقصد ظاهره؛ وإنما له مَحَامِل تليق به؛ فأحسِن الظن به، بل اعتقد، وللناس في هذا المعنى كلام كثير، والتسليم أولى، والله بكلام أوليائه أعلم.»
ذلك قول المؤرخ العظيم المَقَّري، صاحب نفح الطيب، في وجوب الفهم والتذوق أوَّلًا، ثم حسن الظن وجمال التسليم؛ لأن لكلام العارفين الكُمَّل محامل تليق به وتليق بهم، ورضوان الله على العارف القائل:
ولقد ذهب خصوم محيي الدين الذين ملئوا الدنيا حوله صياحًا في حياته، ولاحَقوه في تاريخه، ذهبوا وبقي محيي الدين؛ لأن الحق يبقى، وما كان خصومه بالنسبة إليه — كما قيل — بأكبر من ناموسة نفختْ على جبل تريد إزالته، وتذهب الرياح بأمم من الناموس، وتبقى الجبال شوامخ راسيات، يُثَبِّت اللهُ بها الأرض، وينفع بها الناس، وتتدفق منها الكنوز والخيرات.