المستشرقون ووحدة الوجود
يقول العلَّامة «ليوبولد قايس» النمسوي الذي أسلم، وَتَسَمَّى باسم: «محمد أسد» في كتابه الإسلام على مفترق الطرق: «قد لا تقبل أوروبا تعاليم الفلسفة البوذية أو الهندوكية، ولكنها تحتفظ دائمًا فيما يتعلق بهذين المذهبين بموقف عقلي متزن، إلا أنها حالما تتجه إلى الإسلام يختل التوازن، ويأخذ الميل العاطفي بالتسرب حتى إن أبرز المستشرقين الأوروبيين، جعلوا من أنفسهم فريسة للتحزب غير العلمي في كتابتهم عن الإسلام.»
ثم يقول: «إن بعض المستشرقين يمثلون مع الإسلام دور المُدَّعِي العام، الذي يحاول دائمًا إثباتَ الجريمة.»
إلى أن يقول: «وعلى الجملة فإن طريقة الاستقراء والاستنتاج التي يتبعها أكثر المستشرقين، تذكرنا بوقائع دواوين التفتيش، تلك الدواوين التي أنشأتْها الكنيسة الكاثوليكية لخصومها في العصور الوسطى، أي: إن تلك الطريقة لم يتفق لها أبدًا أن نظرتْ في القرائن التاريخية بتجرد، ولكنها كانت في كل دعوى تبدأ باستنتاج متَّفَق عليه من قبل، قد أملاه عليها تعصُّبُها لرأيها، ويختار المستشرقون شهودَهم حسب الاستنتاج الذي يقصدون أن يصلوا إليه مبدئيًّا، وإذا تَعَذَّرَ عليهم الاختيار العرفي للشهود، عمدوا إلى اقتطاع أقسام من الحقيقة التي شهد بها الشهود الحاضرون، ثم فصلوها من المتن، أو تأولوا الشهادات بروح غير علمي من سوء القصد.
وليست نتيجة تلك المحاكمة سوى صورة مشوهة للإسلام، وللأمور الإسلامية، تواجهنا في جميع ما كتبه مستشرقو أوروبا.»
تلك شهادة من أهلها، شهادة عالِم عالَمي، بدأ حياته مستشرقًا يفكر بتفكير رجال الاستشراق، وينظر بنظرتهم إلى الإسلام والمعارف الإسلامية، حتى أنقذه الله فهداه إلى الإسلام وكلمة الحق.
كلمة يشهد لها الواقع، تشهد لها تلك الكتب المتلاحقة المتتابعة التي يقذف بها رجال الاستشراق في وجه العالم الإسلامي ومحورها الإسلام والمعارف الإسلامية، ظاهرها البحث العلمي الحديث الذي يقوم على الاستقراء والاستنتاج، وباطنها تجريح الإسلام والنيل منه.
فرجال الاستشراق كما يقول «ليوبولد» تحدوهم دائمًا روح صليبية يمثلون مع الإسلام — والإسلام وحده — دور المدَّعِي العمومي الذي يحاول دائمًا إثبات الجريمة!
دور محاكم التفتيش، التي تبدأ المحاكمة باستنتاجات متفق عليها من قبل، وبشهود مدرَّبين مأجورين، وحتى إذا أخطأ الشاهد، فنطق بكلمة حق؛ فلا بد من تأويل تلك الكلمة لتجنح إلى الهدف المرسوم المحدد.
ورجال الاستشراق، خصوم للإسلام بصفة عامة، وللتصوف الإسلامي بصفة خاصة.
لأنهم علموا عن معرفة: أن التصوف هو قلب الإسلام الحي، وفلسفته المؤمنة المبصرة، هو المصباح الذي يضيء للقلوب المحمدية الطريق إلى خالقها؛ فقالوا كما قال المشركون من قبل: لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ.
عبث رجال الاستشراق بمحاريب التصوف عبثًا علميًّا خبيثًا متعمَّدًا، فتنادَوْا أول ما تنادَوْا — باسم الاستنتاج العلمي الحر — بأن التصوف ليس من الإسلام؛ لأن الإسلام لا يعرف الروحانية، كما لا يعرف المثالية والترفع عن ماديات الحياة؛ وإنما هو وليد يمُتُّ بنسبٍ صريحٍ إلى البوذية الهندية، وبنسبٍ صريحٍ أيضًا إلى الفلسفة الإشراقية اليونانية، وبنسبٍ صريحٍ للمرة الثالثة إلى الروحانية المسيحية، وإلى شخصية المسيح بالذات.
واستدلوا على دعواهم بأدلة أقرب إلى العبث والفكاهة، منها إلى مناهج العلماء، ورجال الفكر؛ وما قيمة الدليل إذا كان المدعِي العمومي، قد أضمر الحكم سلفًا؟
ثم يقول: أو ليس هذا هو بوذا؟
هذا منطقهم، وتلك أدلتهم …!
فإذا انتهى رجال الاستشراق من نشأة التصوف، ونسبتها العجيبة إلى كل دين في الأرض سوى الإسلام، عمدوا إلى تشويه أئمة رجال التصوف؛ تشويهًا عجبًا، إنهم ليرمونهم بالكفر، وبماذا يكفرون؟ إنهم يكفرون بالإسلام، الإسلام الذي يُدافِع عنه رجال الاستشراق المؤمنون الْبَرَرَة، من يهود ومسيحيين!
ثم تتضخم التهمة وتكبر مع الزمن، حتى يجعلوا من رجال التصوف الإسلامي زنادقة فَجَرَة، يُلحِدون في ذات الله — تعالى — بجعلهم الحق والخلق شيئًا واحدًا! تعالى الله عَمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.
نيكولسون ووحدة الوجود
والمستشرق نيكولسون عميد المستشرقين الأكبر، هو قارع طبل تلك الفرية الكبرى، ومن عجب أنه أوقف طبوله الضخمة المرعدة على محيي الدين، ومحيي الدين وحده من دون رجال التصوف الإسلامي.
يقول الدكتور عفيفي في مقدمته لكتاب «في التصوف الإسلامي» الذي ترجمه عن نيكولسون:
«وقد نفى نيكولسون القول بوحدة الوجود، حتى عن الحلَّاج الذي أُثِرَ عنه قوله: «أنا الحق.» وعن عمر بن الفارض الذي أُثر عنه قوله: «أنا هي.» أي: الحقيقة الإلهية، بل عن أبي يزيد البسطامي الذي أُثر عنه قوله: «سبحاني ما أعظم شأني.»
لأن هذه الكلمات جميعها، قد قيلت في حالة جذْب روحي، لا عن فكرة فلسفية أصيلة؛ لأن مذهب وحدة الوجود لم يظهر في التصوف الإسلامي إلا منذ زمن ابن عربي؛ لأنه وحده بطل تلك الفكرة.»
وكأنما عَزَّ على نيكولسون أن يجرح التصوف الإسلامي وحده، بتجريح شيخه الأكبر؛ فرمى بتهمة وحدة الوجود على رجال الكلام الإسلاميين بأعجب دليل في عالم الفكر.
وبهذه الطريقة كاد الصوفية والمتكلمون يجعلون من الإسلام مذهبًا في وحدة الوجود.»
وإذن فقد وضح غرض نيكولسون، فهو يريد عن عمد أن يتهم الإسلام جملة بأنه دين يجنح إلى وحدة الوجود.
فهو يقول في صراحة: إن المسلم إذا عبد الله بحالة الوجد والفناء الصوفي؛ فهي عبادة أساسها وحدة الوجود، وإذا عبده على أساس التنزيه، حسبما عَرَّفه المتكلمون من رجال الإسلام، بأن الإرادة الإلهية المطلقة هي وحدها العلة في وجود كل شيء في العالم؛ فهي عبادة أيضًا أساسها وحدة الوجود.
وهو نفسه يشهد بأن القولين المتناقضين، كل منهما ينتهي إلى وحدة الوجود من طريقٍ يخالف الآخر.
وبذلك يضيف نيكولسون أهل السُّنَّة أيضًا إلى أصحاب وحدة الوجود، أي: إلى محيي الدين، ورجال الكلام من علماء المسلمين.
وأخيرًا يرفع نيكولسون القناع عن وجهه سافرًا، فيقول في كتابه: «وإننا لَنُرَجِّح أن النبي العربي كان شموليًّا يعتقد بوحدة الكون فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ.»
تلك هي الغاية التي يهدف إليها نيكولسون منذ وجَّه سهامه المسمومة إلى محيي الدين، إنه يريد أن يرمي الإسلام، أن يُطفئ نور الله، أن يُلصق تلك الأكذوبة الضخمة بالإسلام وبنبِيِّ الإسلام، ويتخذ لذلك سبيلًا ملتويًّا ناعمًا، فهو يقدِّم بين يدَيْ هدفِه براءة ابن الفارض والبسطامي والحلَّاج من وحدة الوجود، بدعوى أن كلامهم أساسه الجذب الروحي والفناء المعنوي، فناء الحب والوجد.
فإذا انشرح صدر المسلم، صدر الصوفي المؤمن لهذا القول الكريم النبيل؛ فآمن بالنزاهة العلمية لنيكولسون، قاده الداهية إلى أزقَّة الظلمات والريب، ليُلقِي في عقله، ويُلقِي في قلبه الشك تِلْوَ الشك، والريبة بعد الريبة في محيي الدين أوَّلًا لأنه الشيخ الأكبر، ثم في رجال الكلام من علماء الإسلام، ثم في أهل السُّنَّة جميعًا، وأخيرًا النبي الأعظم الذي كان — كما يقول هذا المستشرق الغيور على الإسلام — شموليًّا ينادي بوحدة الكون، والشمول عنده صورة مصغرة من صور وحدة الوجود.
الدكتور أبو العلا عفيفي
ويأتي في أعقاب نيكولسون، تلميذه الأستاذ الدكتور أبو العلا عفيفي؛ فنشاهد فيه صورة مكررة لأستاذه، يردد أقواله حرفيًّا.
ثم يقول: «ولم يكن لمذهب وحدة الوجود، وجود في الإسلام في صورته الكاملة قبل ابن عربي؛ فهو الواضع الحقيقي لدعائمه، وَالْمُؤَسِّس لمدرسته، وَالْمُفَصِّل لمعانيه ومراميه، وَالْمُصَوِّر له بتلك الصورة النهائية التي أخذ بها كل مَنْ تكلم بهذه المذاهب من المسلمين من بعده.»
أقول: فرقٌ بين هذين الرجلين وبين ابن عربي، الذي يقول في صراحة لا مواربة فيها ولا لبس، معبرًا لا عن وحدته بالذات الإلهية، ولا عن فنائه في محبوبه، بل عن وحدة الحق والخلق.»
يقول محيي الدين على لسان العرش: «أُقسم بعليِّ عِزَّته وقويِّ قدْرته، لقد خلقني، وفي بحار أحديته غَرَّقني، وفي بيداء أبديته حَيَّرني؛ تارةً يطلع من مطالع أبديته فينعشني، وتارةً يناجيني بمناجاة لطفه فيطربني، وتارةً يواصلني بكاسات حبه فيسكرني، وكلما استعذبتُ من عربدة سُكْري، قال لسان أحديته: «لن تراني.» فذبتُ من هيبته فرقًا، وتمزقت من محبته فلقًا، وصُعقتُ عند تجلي عظمته، كما خرَّ موسى صعقًا، فلما أفقتُ من سَكْرة وجْدي به، قيل لي: أيها العاشق، هذا جمال قد صنَّاه، وحسن قد حجبناه، فلا ينظر إلا حبيب قد اصطفيناه.»
يأتي الدكتور بهذا المشهد الإيماني العظيم؛ ليستدل به على عقيدة محيي الدين في وحدة الوجود؛ وإنه لدليل من نوع أدلة أساتذته رجال الاستشراق، دليل أُعِدَّ الاتهام فيه، حتى قبل قراءة البيان والبرهان.
يقول الإمام البوصيري — رضي الله عنه:
وإلى هنا والدكتور يردد أقوال أستاذه نيكولسون تمامًا، ولا يتمرد على تلك الأستاذية المحببة؛ ولكن التلميذ يجزع ويتمرد، فقد أوشك أستاذه في جذبة روحية على تبرئة محيي الدين من وحدة الوجود، والتلميذ أحرص من أستاذه على تجريح شيخ المتصوفة الأكبر.
يقول نيكولسون في كتابه «في التصوف الإسلامي»: «والصوفي لا يدين بوحدة الوجود، ما دام يقول بتنزيه الله — تعالى — مهما صدر عنه من الأقوال الْمُشعرة بالتشبيه، فإذا راعى جانب التنزيه شاهد الله في كل شيء، واعتبره في الوقت نفسه فوق كل شيء؛ وهذه وحدة شهود لا وحدة وجود.»
وبهذا الشرط الذي اشترطه نيكولسون خرج محيي الدين من التهمة دون أن يدرك المستشرق الكبير، ولكن الدكتور التلميذ أدرك خطورة الأمر؛ فأسرع يُعَقِّب على أستاذه قائلًا: «ولكننا يجب أن نتذكر أن محيي الدين — وهو من أساطين مذهب وحدة الوجود، بل واضع أساس هذا المذهب في الإسلام — قد قال بالتنزيه والتشبيه معًا، ولم يغفل لحظة واحدة عن قرن أحدهما بالآخر، فهل كان هذا الصوفي من أصحاب وحدة الشهود لا وحدة الوجود على حد تعبير الأستاذ؟»
ولم يجب الأستاذ ولا التلميذ على هذا السؤال الحائر؛ لأنه بُني على حقيقة علمية وحقيقة صوفية، بُني على الحقائق التي أدتْ إلى براءة محيي الدين من هذا الإفك المتهالك.
والحقائق دائمًا تهدي إلى الصواب، وترشد إلى الصراط المستقيم دائمًا، الصراط المستقيم الذي هو شعار الصوفية، وإليه يتحاكمون، وإليه يجب أن يحاكمهم العلماء وأحرار الفكر الذين ينشدون الحقائق.