آداب المريد عند محيي الدين
… من مدرسة المريد والشيخ تتكون الجامعة الصوفية الكبرى، تلك الجامعة التي لا تسامقها
جامعة أخرى في العالم.
ولهذا زخر التصوف بمناهج كاملة لتربية المريد وإعداده، وتنشئته على الْخُلق الصوفي
المثالي.
وهي مناهج تعتبر صورة صادقة للآداب الصاعدة، صورة لأسمى ما تَنشُده التربية الصالحة
في
أية جامعة عالية.
وفي هذه المناهج يتجلى الذوق الصوفي بأروع صوره، وأجمل ألوانه، كما يتجلى أيضًا تفوق
الصوفية في طب القلوب، وآداب النفوس على أساتذة التربية قديمها وحديثها.
ولمحيي الدين رسالة في آداب المريد، أو كما يقول هو: «في كنه ما لا بد للمريد منه.»
تعتبر
في موازين التصوف أجمل النماذج التي أبدعها هذا المنهج العالي.
يقول محيي الدين بعد أن شرح لمريده حقائق التوحيد الإلهي، وَصَوَّر له كيفية الإيمان
برسل
الله جميعًا:
ومما لا بد لك منه: حسن الظن بالناس كافة، وسلامة
الصدر، والدعاء للمسلمين بظهر الغيب، وخدمة الفقراء برؤية الْمِنَّة لهم، وحمل كلفهم،
وتحمل
أذاهم وجفاهم، والصبر بالله على أخلاقهم.
ومما لا بد لك منه: الصمت إلا عن ذكر الله وتلاوة
القرآن، أو إرشاد الضال، أو أمرٍ بمعروف أو نهي عن منكر، أو إصلاح بين المتهاجرين، أو
تحريض
على صدقة، بل على كل خير.
ومما لا بد لك منه: يا حبيبي طلب أخٍ موافق يعينك على
ما أنت بسبيله، وإياك وصحبة الضد.
ومما لا بد لك منه: طلب شيخ مرشد، والصدق شعار المريد؛
فإن المريد إذا صدق مع الله، قيَّض الله له مَنْ يأخذ بيده، وصيَّر كل شيطان في حقه مَلَكًا
يلهمه الخير، فإن الصدق ما وُضع على شيء إلا قَلَبَ عينه.
ومما لا بد لك منه: البحث عن هذه اللقمة وهي أساس؛
فعليها قام عماد هذا الأمر.
ومما لا بد لك منه: يا حبيبي أن ترفع كلفتك عن الخلق،
ولا تثقل على أحد، ولا تقبل رفقًا من امرئٍ، لا لنفسك ولا لغيرك، واحتَرِفْ وتورَّع في
كسبك
كله، ونطقك ونظرك في جميع حركاتك وسكناتك، ولا تتوسَّع في مسكن ولا ملبس ولا مأكل، فإن
الحلال قليل ولا يحتمل السرف.
واعلم: يا حبيبي أن النفوس إذا زَرَع فيها الإنسان
الشهوات، نبتتْ أصولها فيبعد أن تنقلع بعد ذلك؛ فليس للمريد سَعة ولا راحة، هذا كله لا
بد
منه للمريد.
ومما لا بد لك منه: يا حبيبي التقليل من الطعام؛ فإنه
يورث النشاط للطاعة ويُذهب الكسل، وعليك تقسيم الأوقات في ليلٍ ونهارٍ، فأما الساعات
التي
دعاك الشرع فيها إلى الوقوف بين يدي ربك فهي خمسة أوقات للصلوات المفروضة، وبقي ما سنها
من
الأوقات، فإن كنت ذا حرفة، فاجتهد أن تعمل في يوم ما يقوتك في أيام، إن كنت من أهل ذلك
الشغل، ولا تفارق مصلاك من بعد صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس، ولا بعد صلاة العصر إلى
أن
تغرب الشمس، تذكر الله بحضور وخشوع، ولا يفوتك الوقوف بين يدي الله مصليًّا من الظهر
إلى
العصر، ومن المغرب إلى العشاء الآخرة بعشرين ركعة، وحافظ على أربع ركعات: أول النهار،
وقبل
الظهر، وقبل العصر، واجعل وِتْرك ثلاث عشرة ركعة، ولا تنم إلا عن غلبة، ولا تأكل إلا
عن
حاجة، ولا تلبس إلا عن وقاية من برد أو حر، بنِيَّة سَتْر العورة، ودفع الأذى القاطع
عن
عبادة ربك، وإن كنت مِمَّنْ يعرف أن يكتب؛ فاجعل على نفسك وردًا من القرآن في المصحف،
تُمَكِّنه من حجرك، وتُلقي يدك اليسرى على المصحف، وتمشي بيدك اليمنى على حروفه، وأنت
تنظر
إليه وترفع صوتك؛ بحيث تُسمع نفسك، وترتل القرآن، وتسأل في الآية التي توجب السؤال، وتعتبر
في آيات الاعتبار، وتعامل في كل آية بحسب ما تدل عليه من الاستعاذة والاستغفار وغير ذلك،
وإذا قرأتَ صفة للمؤمنين، فانظر إلى ما عندك من تلك الصفات، وإلى ما فقدتَ منها؛ فاشكر
الله
على ما عندك، وحصِّل ما فاتك، وكذلك إذا قرأتَ صفة للمنافقين والكافرين، فانظر هل فيك
من
تلك الصفات شيء أم لا.
ومما لا بد لك منه: محاسبة نفسك، ومراعاة خواطرك مع
الأوقات، واستشعار الحياء من الله — تعالى — بقلبك؛ فإنك إذا استحييتَ من الله، منعتَ
قلبك
أن يخطر فيه خاطر ذمَّه الله، أو يتحرك بحركة لا يرتضيها الله — تعالى، ولقد كان لنا
شيخ
يُقَيِّد حركاته في كتابه بالنهار، فإذا أمسى جعل صحيفته بين يديه، وحاسب نفسه على ما
فيها،
وزدتُ أنا على شيخي بتقييد خواطري.
ومما لا بد لك منه: مراعاة الأوقات، بأن تنظر الوقت
الذي أنت فيه، وتنظر ما قال لك الشرع أن تعمله فيه فافعله، فإن كنتَ في وقت فرض فأدِّه،
أو
نَدْب فبادِرْ إليه، وإن كنتَ في وقت مباح فاشغل نفسك فيه بما ندبك الحق إليه من الخير
على
أنواعه، وإذا شرعت في عمل مشروع يعطي قربة؛ فلا تحدث نفسك بأنك تعيش بعده إلى عمل آخر،
واجعل ذلك آخر عملك من الدنيا، الذي به تلقى ربك عليه، فإنك إذا فعلتَ هذا أخلصتَ، ومع
الإخلاص يكون القبول.
ومما لا بد لك منه: الجلوس على طهارة دائمًا، ومتى
أحدثتَ توضأ، ومتى توضأتَ صَلِّ ركعتين إلا أن يكون الوقت قد نُهي عن إيقاع الصلاة فيه،
وهي
ثلاثة أوقات: عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وعند الاستواء إلا يوم الجمعة خاصة، فإن الصلاة
تجوز عند الاستواء.
ومما لا بد لك منه: يا حبيبي البحث عن مكارم الأخلاق،
ولتأتها مهما تَعَيَّن عليك منها خلق، وكذلك سوء الأخلاق اجتنبها كلها.
واعلم: أن كل مَنْ ترك خلقًا كريمًا؛ إنما تركه بسوء
خلق ذميم.
واعلم: أن الأخلاق أصناف، كما أن الْخَلق على أصناف؛
فينبغي أن تعرف أي خُلق تستعمله معه من الأخلاق الكريمة، والذي يعم أكثر الأصناف إيصال
الراحة لهم، ودفع الأذى عنهم، ولكن في مرضاة الله — تعالى، فاجتهد في ذلك يا حبيبي، واعلم
أنهم خلق الله، عبيد مسخرون، مجبورون في حركاتهم، ونواصيهم بِيَدِ محرِّكهم، والنبي —
عليه
السلام — قد أراحنا في هذا المقام فقال: «بُعثتُ لأُتمِّم لكم مكارم الأخلاق.» فكل موضع
قال
لك الشرع فيه: إن شئتَ انتصرتَ، وإن شئتَ تركتَ. أو قال لك فيه: إن شئتَ جازيتَ، فجعلتَ
نفسك محلًّا للسيئة؛ فإنه — تعالى — قال: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا، وإن شئتَ قابلتَ بالعفو والصفح، فَكُنْ مِمَّنْ عفا
وأصلح وأجرك على الله، وإياك أن تقتصَّ مِمَّنْ أساء إليك؛ فإن الله سَمَّاها سيئة بالجملة،
وإن كانت مِمَّا يسوء المقتص منه. والأولى سيئة شرعية مما يسوءه؛ فهما سيئتان، وكل موضع
قال
لك الشرع فيه: اغضبْ فاغضبْ، وإن لم تغضب فليس بخلق محمود؛ فإن الغضب لله من مكارم الأخلاق
مع الله، وَمَنْ أحسن معاملة مِن الله — تعالى؟ فطوبى لِمَنْ عامله وصاحبه، فمع الله
ينبغي
أن تصرف الأخلاق التي أثنى عليها الله وَبَيَّنها وأوضحها.
ومما لا بد لك منه: مجانبة الأضداد، وَمَنْ ليس من جنسك
من غير أن تعتقد فيهم سوءًا يخطر لك بخاطر، ولكن بنية صحبة الحق وأهله وإيثاره عليهم،
فكذلك
معاملتك مع الحيوانات من الشفقة عليهم والرحمة لهم، فإنهم مِمَّنْ سخرهم الحق لك؛ فلا
تُحَمِّلهم فوق طاقتهم، ولا تركب عليهم بطرًا ولا أشرًا، وكذلك مع مِلْك اليمين من الرقيق
فهم إخوانك، مَلَّكك الله نواصيهم؛ ليرى كيف تتصرف فيهم، وأنت عبد له — سبحانه — فما
تحب أن
يصرف عنك من السوء والقبيح فذلك بعينه افعله معهم، تُجزَ بذلك يوم حاجتك إليه، فإن كان
لك
أهل فأحسن العشرة معهم، فالكل عيال وأنت من جملة العيال.
وجماع الأمر كله: أن كل ما تحب أن يفعله الحق معك، افعله مع خلقه قدمًا بقدم، وإن
كان لك
ولد فعلِّمْه كتاب الله لله، لا لغرض من أغراض الدنيا، وألْزِمْه محافظة الآداب الشرعية
والأخلاق الدينية، واحمله على الرياضة من صغره حتى يعتادها، ولا تزرع الشهوات في قلبه،
وَبَغِّض إليه زينة الحياة الدنيا، وَعَرِّفه ما يئول إليه صاحبها من نقص الحظ في الآخرة،
وما يئول إليه تاركها من جزيل الحظ في الآخرة، ولا تعمل ذلك شحًّا على درهمك ومالك.
ومما لا بد لك منه: ألَّا تقرب من أبواب السلاطين، ولا
تصاحب المتنافسين في الدنيا؛ فإنهم يأخذون بقلبك عن الله، فإن اضطرك أمر إلى صحبتهم،
فعامِلْهم بالنصيحة ولا تخفهم؛ فإنك إنما تعامل الحق، ومهما فعلت ذلك سخروا بك، ولتكن
في
عموم أحوالك مصروف الهمة بالتوجه إلى الله — تعالى — في تخلصك مما أنت فيه بما هو أحسن
لك
في دينك.
ومما لا بد لك منه: الحضور مع الحق في جميع حركاتك
وسكناتك، وأوصيك بالإنفاق في السراء والضراء، والشدة والرخاء؛ فإن ذلك دليل على ثقة القلب
بما عند الله، فإن البخيل جبان يأتيه الشيطان، فيمد أمله ويطيل عليه عمره، ويقول له:
إن
أنققتَ هلكتَ وبقيتَ بلا شيء مثلة بين أصحابك وأمثالك، فأمسِكْ عليك مالك، واستعدَّ لصروف
الزمان، ولا تغترَّ بهذا الرخاء الذي أنت تراه، فإنك لا تدري ما يُحْدِث الله في العام
المقبل، وأما إن كان في وقت الضراء والشدة، فيقول له: أمسك عليك مالك ولا تُعطِ أحدًا
منه
شيئًا؛ فإنك لا تدري متى تنقضي هذه الشدة، ولا تحسب هذا الأمر إلا في زيادة، واحفظه على
نفسك، فإن أحدًا لا ينفعك إذا لم يبقَ لك شيء، وتنفر الناس منك وتثقل على الخلق، ويذهب
ماء
وجهك، فإذا استمرتْ هذه الوسوسة الشيطانية على قلب المسكين أدَّتْه إلى البخل والشح،
وحالتْ
بينه وبين قوله — تعالى: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ، وبين قوله — تعالى: وَمَن يَبْخَلْ
فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ.
وعندنا في الطريق: أن الرجل إذا لحق بأهل الله — تعالى — وبأوليائه ثم بخل، فإنه يُستبدل
وينزل من ذلك المقام، ثم يُجعل فيه كريمًا من كرماء الخلق، قال الله — تعالى — عقيب هذه
الآية: وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ،
وحالتْ بينه وبين قوله — تعالى: وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ
يُخْلِفُهُ، وحالتْ بينه وبين قوله — تعالى — في دعوة موسى — عليه السلام — على
فرعون، لما أراد إهلاكه دعا عليهم أن يرزقهم الله البخل، فقال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ؛ فضيعوا
فقراءهم حتى هلكوا جوعًا، فأخذهم الله، وحالتْ أيضًا بينه وبين قوله ﷺ: «أنفق بلالًا
ولا تخشَ من ذي العرش إقلالًا.» وحالتْ بينه وبين قوله — عليه الصلاة والسلام: «إن لله
ملكين في كل يوم يناديان عند كل صباح: اللهم أعطِ كل منفقٍ خلفًا، وكل ممسكٍ تلفًا.»
وحالتْ
بينه وبين حاله ﷺ حين أُعطِي الكنزين، فاختار تركهما على أخذهما، وبين فعل أبي بكر —
رضي الله تعالى عنه — حين جاء إلى النبي — عليه السلام — بجميع ماله كله، فقال: «ما تركت
لأهلك؟» فقال: الله ورسوله. وجاء عمر — رضي الله عنه — بنصف ماله، وترك النصف لأهله،
فقال
لهما النبي ﷺ: «بينكما ما بين كلمتيكما.» فالإنفاق سبب استخلاف الأرزاق من
الرَّزَّاق في الدنيا والآخرة، فكل مَنْ أمسك فهو لله متهِم وعلى ماله معتمِد، وكانت
ثقتُه
بدرهمه أعظمَ من ثقته بربه، وكان هذا طعنًا في إيمانه، نسأل الله العافية، فعليك بالإنفاق
في الشدة والرخاء، ولا تخف ولا تفزع من الفقر فبئس الرجل! كما قال النبي ﷺ: «إلَّا
مَنْ قال بماله هكذا وهكذا يمينًا وشمالًا.» والله موفٍّ لك ما وعدك شئتَ أم أبيتَ، وشاء
العالَم أو أبى، فما هلك سخيٌّ قط.