محيي الدين ورسالة الأخلاق
فإذا انتهى محيي الدين من «كنه ما لا بد منه للمريد» اتجه إلى أبناء الأمة الإسلامية كافة، بل إلى بني الإنسان في كل زمان ومكان، يرسم لهم الأفق الأعلى للأخلاق، مبينًا أن الإنسان إذا تجرد من التحلي بها؛ فَقَدْ فَقَدَ نفسه، وأضاع حياته، وانحرف عن أول واجباته الإنسانية.
إلا أن المبتدي بطلب هذه المرتبة، والراغب في بلوغ هذه المنزلة، ربما خَفِيَتْ عليه الخِلال المستحسنة التي يعنيه تحرِّيها، ولم تتميز له من المستقبحة التي غرضه توقِّيها، فمن أجل ذلك وجب أن نقول في الأخلاق قولًا نُبيِّن فيه ما الْخُلق؟ وما علته؟ وكم أنواعه وأقسامه؟ وما المرضي منها المغبوط صاحبه والمتخلق به؟ وما المشنوُّ منها الممقوت فاعله والمتوسم به؟ ليسترشد بذلك مَنْ كانت همتُه تسمو إلى مباراة أهل الفضل، ونفسه أبية تنبو عن مساواة أهل الدناءة والنقص، وتدل أيضًا على طريق الارتياض بالمحمود من أنواعه والتدرب به، وتنكُّب المذموم منها وتجنُّبه حتى يصير المرتاض به ديدنًا وعادة وسجية وطبعًا، ليهتدي به مَنْ نشأ على الأخلاق السيئة وأَلِفَها، وجرى على العادات الردية وأَنِس بها، ونَصِف أيضًا الإنسان التام المهذب الأخلاق، والمحيط بجميع المناقب الجميلة، وطريقته التي يصل بها إلى التمام، وتحفظ عليه الكمال، ليشتاق إلى صورته مَنْ تشوَّق إلى المرتبة العليا، ويحنَّ إلى احتذاء سيرته مَنْ استشرف إلى الغاية القصوى، وقد ينتبه بما نذكره مَنْ كانت له عيوب قد اشتبهتْ عليه وهو مع ذلك يظهر أنه في غاية الكمال.»
ثم يقول: «والخُلُق هو حال النفس بها يعقل الإنسان أفعاله بلا روية ولا اختيار، والخُلُق قد يكون في بعض الناس غريزة وطبعًا، وفي بعضهم لا يكون إلا بالرياضة والاجتهاد، كالسخاء يوجد في كثير من الناس من غير رياضة ولا تعمُّل، وكالشجاعة والحلم والعفة والعدل، وغير ذلك من الأخلاق المحمودة، وكثير من الناس يوجد فيهم ذلك بالرياضة.»
ويأخذ بعد ذلك في بيان أنواع الأخلاق الفاضلة موضحًا وشارحًا لكل فضيلة، وقد جمعها فبلغتْ لديه أكثر من سبعين فضيلة ومحمدة، هي جماع مكارم الأخلاق.
ولقد استطاع محيي الدين أن يُضفي على كل صفة خُلُقية من روحه ومن وجدانه ما جعل كلماته الأخلاقية تنبض بالحياة والأشواق، واستطاع أن يبثَّ في شرحه دستورَه الخلقي الرحب الآفاق، الشامل لكل الدقائق والرقائق.
يقول شارحًا لفضيلة — التصوُّن: «… ومنها التصون، وهو التحفُّظ من التبذل، فمن التصوُّن التحفظ من الهزل القبيح، ومخالطة أهله، وحضور مجالسه، وضبط اللسان من الفحش وذكر الخنا والقبيح والمزاح السخيف، وخاصة في المحافل ومجالس المحتشمين، ولا أُبَّهة لِمَنْ يسرف في المزاح ويفحش فيه، ومن التصون أيضًا الانقباض عن أدنياء النفس وأصاغرهم ومصادقتهم ومجالستهم، والتحرز من المعايش الرديئة، واكتساب الأموال من الوجوه الخسيسة، والترفع عن مسئلة الحاجات من لئام الناس وسفلتهم، والتواضع لِمَنْ لا قدْر له، والإقلال من مبروز من غير حاجة، والتبذل بالجلوس في الأسواق وقوارع الطريق من غير اضطرار، فإن الإكثار من ذلك مُخِلٌّ.»
ويقول موضحًا لفضيلة عُلُوِّ الهِمَّة: «… ومنها عظمة الهمة، وهو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وطلب المراتب السامية، واستحقار ما يجود به الإنسان عند العطية، والاستخفاف بأوساط الأمور، وطلب الغايات والتهاون بما يملكه، وبذل ما يمكنه لِمَنْ يسأله من غير امتنان ولا اعتداد به.
ومن عظم الهمة: الأَنَفة، والحَمِيَّة، والغَيْرة، وارتفاع النفس عن الأمور الدنية، وانتفاضها وثورتها إذا مسَّها هوان أو مذلة.»