العلم النظري واللَّدني
إنها لموارد الحق — تبارك وتعالى — تتوالى على قلبه، وإنها لأرواح بررة تتنزل عليه من عالم غيبه، وإنه لقلب زكي مختار، قابل على الدوام للتلقي والترقي، وإنه لروح أُعِدَّ واصطفاه ربه، لأكمل ما يُصطفى العلماء من الأولياء، وإن هذا الفيض الرباني، لَيتوالى عليه، ولم يطرَّ شاربه ولا بقل وجهه، ولم يُلَقَّنْ من قبلُ علمًا دنيويًّا يزاحِم به ويفاخِر.
بل إنه ليرى — كما ترى جمهرة أهل التصوف — أن القلب إذا سلم من النظر الفكري شرعًا وعقلًا في البداية، كان قابلًا للفتح الإلهي على أكمل ما يكون الفيض والفتح؛ فليس في القلب عوائق من معارف سابقة، تتصدى للواردات أو تناقضها.
يقول الإمام الغزالي: «لما أردتُ أن أنخرط في سلكهم، وآخذ مأخذهم، وأغترف من البحر الذي اغترفوا منه، خلوتُ بنفسي واعتزلت عن نظري وفكري، وشغلتُ نفسي بالذكر، فانقدح لي من العلم ما لم يكن عندي؛ ففرحت بذلك، وقلت: إنه حصل لي ما حصل للقوم، فتأمَّلتُ فيه، فإذا فيه قوة فقهية مما كنت عليه قبل ذلك؛ فعلمتُ أنه بعدُ ما خَلَص لي. فعدت إلى خلوتي واستعملت ما استعمله القوم، فوجدت مثل الذي وجدت أوَّلًا وأوضح وأسنى فسررت، فتأملت فإذا فيه قوة فقهية مما كنت عليه أوَّلًا، وما خلص لي، فعاودت ذلك مرارًا والحال الحال؛ فتميزت عن سائر النظار أصحاب الأفكار بهذا المقدار، ولم ألحق بدرجة القوم في ذلك. وعلمت أن الكتابة على المحو، ليست كالكتابة على الصفاء الأول والطهارة الأولى …»
كان محيي الدين على الصفاء الأول، وعلى الطهارة الأولى، عندما دخل خلوته، فتولَّاه ربه من بدايته، وفتح له خزائن مننه وعلمه، وأفاض عليه من هباته، وَمَدَّ له سلمًا من الصفاء يعرج فيه قلبه إلى معارج الملأ الأعلى.
ولكن المتصوف المختار المصطفى، وإن لم يكن في حاجة إلى العلوم العقلية والنظرية، فهو في ضرورة لا تجادل إلى المرشد المربي، إلى الشيخ الذي يملكه ليسعده، ويصوغه ليُجلِّيه ويُحلِّيه صفاءً ونورًا.