الإنسان الكامل
فإذا انتهى من تبيان دستوره الْخُلقي، أخذ في بيان أوصاف الإنسان التام الجامع لمحاسن الأخلاق: «… الإنسان التام هو الذي لم تفُتْه فضيلة، ولم تَشِنْه رذيلة، وهذا الحدُّ قلَّما ينتهي إليه إنسان، وإذا انتهى الإنسان إلى هذا الحد كان بالملائكة أشبه منه بالناس؛ فإن الإنسان مضروب بأنواع النقص، مستولٍ عليه وعلى طبعه ضروب الشر، فقلما يخلص من جميعها حتى تسلم نفسه من كل عيب ومنقصة، ويحيط بكل فضيلة ومَنْقَبة، إلا أن التمام وإن كان عزيزًا بعيد التناول؛ فإنه ممكن، وهو غاية ما ينتهي إليه الإنسان، ونهاية ما هو منتهًى له، وإذا صدقتْ عزيمة الإنسان وأعطى الاجتهاد حقه، كان قمينًا بأن ينتهي إلى غايته التي هي منتهًى له، ويصل إلى بغيته التي تسمو نفسه إليها.
فأما تفصيل أوصاف الإنسان التام، فهو أن يكون متفقِّدًا لجميع أخلاقه، متيقظًا لجميع معايبه، متحرزًا من دخول كل نقص عليه، مستعملًا لكل فضيلة، مجتهدًا في بلوغ الغاية، عاشقًا لصورة الكمال، ملتذًّا بمحاسن الأخلاق، متيقظًا لمذموم العادات، معتنيًا بتهذيب نفسه، غير مستكثر ما يقتنيه من الفضائل، مستعظمًا لليسير من الرذائل، مستصغرًا للمرتبة العليا، مستحقرًا للغاية القصوى، يرى التمام دون محله، والكمال أقل أوصافه، فأما الطريقة التي توصله إلى التمام وتحفظ عليه الكمال؛ فهي أن يصرف عنايته إلى النظر في العلوم الحقيقية، ويجعل غرضه الإحاطة بماهيات الأمور الموجودة، وكشف عللها وأسبابها وتفقُّد غاياتها، ولا يقف عند غايةٍ من علمه إلا ورَنَا بطرفه إلى ما فوق تلك الغاية، ويجعل شعاره ليله ونهاره قراءة كتب الأخلاق، وتصفُّح كتب السِّيَر والسياسات. وأخْذ نفسه باستعمال ما أمر أهل الفضل باستعماله، وأشار المتقدمون من الحكماء باعتياده، ويَنشُد أيضًا طرفًا من أدب البيان والبلاغة، ويتحلى بشيء من الفصاحة والخطابة، ويغشى أبدًا مجالس أهل العلم والحكمة، ويعاشر دائمًا أهل الوقار والعفة.»
ثم يفيض محيي الدين في الحديث عن صفات الإنسان التام، وهِمَّته وعزيمته وتصعيده لكل أعماله إلى فاطر السموات والأرضين.
ويحتِّم أكبر ما يحتِّم، أن يلزم جانب الاعتدال في شهواته ورغباته، ومأكله وملبسه، وصِلاته بالناس.
ويأخذ بعد ذلك في الحديث عن موقف الإنسان التام من المال، وهو الفتنة الكبرى فيقول: «إن المال إنما يُطلب لغيره، وليس هو مطلوبًا لذاته، فإنه في نفسه غير نافع؛ وإنما الانتفاع بالأغراض التي تُنال به؛ فالمال آلة تُنال بها الأغراض، فلا يجب أن يعتقد أن اقتناءه وادخاره مفيد، فإذا ادخره وحرص عليه لم ينل صاحبه شيئًا من الأغراض، التي هو بالحقيقة محتاج إليها، فالمال هو مطلوب لغيره؛ فينبغي للسديد الرأي العالي الهمة، أن يزنه بوزنه، فيكسبه من وجهه ويفرقه في وجهه، ويكون مع ذلك غير متوانٍ في اكتسابه، ولا مُقدِم في طلبه؛ لأن عدم المال يضطره إلى التواضع لِمَنْ هو دونه إذا وجد عنده حاجته، ووجود المال يغنيه عمَّنْ هو فوقه وإن دنتْ منزلته …»
ثم يحذر صاحب هذا المقام من الغضب، فيقول: «وينبغي لمحب الكمال أن يُشعِر نفسه أن الغضبان بمنزلة البهائم والسباع، يفعل ما يفعله من غير علم ولا روية، فإذا جرى بينه وبين غيره محاورة أدَّتْ إلى أن يغضب خصمه ويتسفَّه عليه، اعتقد فيه أنه في تلك الحالة بمنزلة البهائم والسباع؛ فيمسك عن مقابلته ويحجم عن الاقتصاص منه، ألا يعلم أن الكلب لو نبح عليه لم يكن يستحسن مقابلته على نبحه؟ وكذلك البهيمة لو رمحتْه لم يستحسن عقوبتها؛ لأنها غير عالمة بما تصنعه، إلا أن يكون جاهلًا فإن من السفهاء مَنْ يغضب على البهيمة إذا رمحتْه، ويوجعها ضربًا إذا آذتْه، وربما عثر السفيه فشتم موضع عثرته، ورفصه برجله!»
ويختم هذه الرسالة العالية، بالدعوة إلى المحبة الشاملة للإنسانية كافة: «… وينبغي لمحب الكمال أيضًا: أن يُعوِّد نفسه محبة الناس أجمع والتودُّد إليهم، والتحنُّن عليهم، والرأفة والرحمة بهم؛ فإن الناس قبيلٌ واحد متناسبون، تجمعهم الإنسانية، وحلية القوة الإلهية، هي في جميعهم وفي كل واحد منهم، وهي النفس العاقلة، وبهذه النفس صار الإنسان إنسانًا …»
… وأخيرًا كما يقول محيي الدين: «مَنْ صدقتْ سريرته، انفتحتْ بصيرته، وَمَنْ صَدَق مقالُه استقام حالُه، وليس الدين كثرة صوم وصلاة؛ إنما الدين خوفك من الله، وَمَنْ صَدَق توجهُه لله أعطاه كل ما تمناه، وَمَنْ خاف اللهَ مولاه، خاف منه كلُّ ما سواه، بل سُخرت له الحياة.»