عقيدة محيي الدين الإلهية
وكأنما نظر محيي الدين بلحاظ الغيب؛ فعلم أن الخصومات العمياء ستلاحقه بعد موته بالإفك والبهتان، فسجَّل في مقدمة الفتوحات عقيدته الإلهية في الذات العلية؛ لتكون الحجة الكبرى على مَنْ يتقوَّل عليه ظلمًا وجهلًا … قال: «فيا إخوتي ويا أحبائي، رضي الله عنكم، أَشْهَدَكم عبدٌ ضعيفٌ مسكين، فقير إلى الله — تعالى — في كل لحظةٍ وطرفةٍ، وهو مؤلف هذا الكتاب ومنشئه، أَشْهَدَكم على نفسه بعد أن أشهد الله — تعالى — وملائكته وَمَنْ حضره من المؤمنين وسمعه، أنه يَشهَد قولًا وعقدًا أن الله — تعالى — إلهٌ واحد لا ثاني له في ألوهيته، مُنَزَّه عن الصاحبة والولد، مالك لا شريك له، مَلِك لا وزير له، صانع لا مدبر معه، موجود بذاته من غير افتقار إلى مُوجِد يُوجِده، بل كل موجود سواه مفتقر إليه — تعالى — في وجوده؛ فالعالم كله موجود به وهو وحده متصف بالوجود لنفسه، لا افتتاح لوجوده، ولا نهاية لبقائه، بل وجود مطلق غير مقيد قائم بنفسه، ليس بجوهر متحيِّز فيقدَّر له المكان، ولا بعرض فيستحيل عليه البقاء، ولا بجسم فتكون له الجهة والتلقاء، مُقَدَّس عن الجهات والأقطار، مرئي بالقلوب والأبصار، إذا شاء استوى على عرشه كما قاله، وعلى المعنى الذي أراده، كما أن العرش وما سواه به استوى، وله الآخرة والأولى، ليس له مثل معقول، ولا دلت عليه العقول، لا يحده زمان، ولا يُقِلُّه مكان، بل كان ولا مكان، وهو على ما عليه كان، خلق المتمكن والمكان، وأنشأ الزمان، وقال: أنا الواحد الحي، لا يئوده حفظ المخلوقات، ولا ترجع إليه صفة لم يكن عليها من صنعة المصنوعات.
تعالى أن تحلَّه الحوادث، أو يحلها، أو تكون بعده، أو يكون قبلها، بل يقال: كان ولا شيء معه، فإن القَبْل والبَعْد من صيغ الزمان الذي أبدعه؛ فهو القيوم الذي لا ينام، والقهار الذي لا يُرام، ليس كمثله شيء، خلق العرش وجعله حدَّ الاستواء، وأنشأ الكرسي وأوسعه الأرض والسموات العلى، اخترع اللوح والقلم الأعلى، وأجراه كاتبًا بعلمه في خلقه إلى يوم الفصل والقضاء، أبدع العالم كله على غير مثال سبق، وخلق الخلق وأخلق الذي خلق، أنزل الأرواح في الأشباح أمناء، وجعل هذه الأشباح المنزلة إليها الأرواح في الأرض خلفاء، وسخَّر لنا ما في السموات ما في الأرض جميعًا منه؛ فلا تتحرك ذرة إلا إليه وعنه، خلق الكل من غير حاجة إليه، ولا موجب أوجب ذلك عليه؛ لكن علمه سبق بأن يخلق ما خلق؛ فهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو على كل شيء قدير، أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، يعلم السر وأخفى، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، كيف لا يعلم شيئًا هو خلقه؟! أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟ علم الأشياء منها قبل وجودها، ثم أوجدها على حدِّ ما علمها، فلم يزل عالمًا بالأشياء لم يتجدد له علم عند تجدد الإنشاء، بعلمه أتقن الأشياء وأحكمها، وبه حكم عليها مَنْ شاء وحكمها، علم للكليات على الإطلاق، كما علم الجزئيات بإجماع من أهل النظر الصحيح واتفاق، فهو عالم الغيب والشهادة؛ فتعالى الله عَمَّا يشركون.
فَعَّال لما يريد، فهو المريد الكائنات في عالم الأرض والسموات، لم تتعلق قدرته بشيء حتى أراده، كما أنه لم يرده حتى علمه؛ إذ يستحيل في العقل أن يريد ما لا يعلم، أو يفعل المختار المتمكن من ترك ذلك الفعل ما لا يريد، كما يستحيل أن توجد نسب هذه الحقائق في غير حي، كما يستحيل أن تقوم الصفات بغير ذات موصوفة بها، فما في الوجود طاعة ولا عصيان، ولا ربح ولا خسران، ولا عبد ولا حُر، ولا برد ولا حَر، ولا حياة ولا موت، ولا حصول ولا فوت، ولا نهار ولا ليل، ولا اعتدال ولا ميل، ولا بَر ولا بحر، ولا شفع ولا وتر، ولا جوهر ولا عرض، ولا صحة ولا مرض، ولا فرح ولا ترح، ولا رُوح ولا شبح، ولا ظلام ولا ضياء، ولا أرض ولا سماء، ولا تركيب ولا تحليل، ولا كثير ولا قليل، ولا غداة ولا أصيل، ولا بياض ولا سواد، ولا رقاد ولا سهاد، ولا ظاهر ولا باطن، ولا متحرك ولا ساكن، ولا يابس ولا رطب، ولا قشر ولا لبٌّ، ولا شيء من هذه النسب المتضادات منها والمختلفات والمتماثلات، إلا وهو مراد للحق — تعالى، وكيف لا يكون مرادًا له وهو أوجده؟ فكيف يُوجِد المختار ما لا يريد؟ لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، يؤتي الملك مَنْ يشاء، وينزع الملك مِمَّنْ يشاء، ويعز مَنْ يشاء، ويذل مَنْ يشاء، ويضل مَنْ يشاء، ويهدي مَنْ يشاء، ما شاء كان، وما لم يشأ أن يكون لم يكن، لو اجتمع الخلائق كلهم على أن يريدوا شيئًا لم يرد الله — تعالى — أن يريدوه ما أرادوه، أو يفعلوا شيئًا لم يرد الله — تعالى — إيجاده وأرادوه عندما أراد منهم أن يريدوه ما فعلوه، ولا استطاعوا على ذلك ولا أقدرهم عليه؛ فالكفر والإيمان، والطاعة والعصيان، من مشيئته وحكمه وإرادته.
ولم يزل — سبحانه — موصوفًا بهذه الإرادة أزلًا، والعالَم معدوم غير موجود، وإن كان ثابتًا في العلم في عينه، ثم أوجد العالَم من غير تفكر ولا تدبر عن جهل أو عدم علم، فعطية التفكر والتدبر علم ما جهل، جل وعلا عن ذلك، بل أوجده عن العلم السابق، وتعيين الإرادة الْمُنَزَّهة القاضية على العالم بما أوجدتْه عليه من زمان ومكان، وأكوان وألوان، فلا مريد في الوجود على الحقيقة سواه؛ إذ هو القائل — سبحانه: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ، وأنه — سبحانه — كما علم فأحكم، وأراد فخصَّص، وقدَّر فأوجد كذلك، ورأى ما تحرك أو سكن، أو نطق في الورى من العالم الأسفل والأعلى، لا يحجب سمعَه البُعد فهو القريب، ولا يحجب بصرَه القُرب فهو البعيد، يسمع كلام النفس في النفس، وصوت المماسة الخفية عند اللمس، ويرى السواد في الظلماء، والماء في الماء، لا يحجبه الامتزاج ولا الظلمات ولا النور وهو السميع البصير.
تكلم — سبحانه — لا عن صمت متقدم، ولا سكوت متوهَّم بكلام قديم أزلي كسائر صفاته من علمه وإرادته وقدرته، كلَّم به موسى — عليه السلام، سمَّاه التنزيل والزبور والتوراة والإنجيل، من غير حروف ولا أصوات ولا نغم ولا لغات، بل هو خالق الأصوات والحروف واللغات؛ فكلامه — سبحانه — من غير لهاة ولا لسان، كما أن سمعه من غير أصمخة ولا آذان، كما أن بصره من غير حدقة ولا أجفان، كما أن إرادته في غير قلب ولا جَنان، كما أن علمه من غير اضطرار ولا نظر في برهان، كما أن حياته من غير غتر بخار أو تجويف قلب حدث عن امتزاج الأركان، كما أن ذاته لا تقبل الزيادة والنقصان؛ فسبحانه سبحانه من بعيد دانٍ، عظيم السلطان، عميم الإحسان، جسيم الامتنان.
كل ما سواه فهو عن جوده فائض، وعدله الباسط له والقابض، أكمل صنع العالم وأبدعه؛ حين أوجده واخترعه، لا شريك له في ملكه، ولا مدبر معه في ملكه، إن أنعم فنعَّم فذلك فضلُه.
وإن أبلى فعذَّب فذلك عدلُه، لم يتصرف في ملك غيره فينسب إلى الجور والحيف، ولا يتوجه عليه لسواه حكم، فيتصف بالجزع لذلك والخوف، كل ما سواه تحت سلطان قهره، ومتصرف عن إرادته وأمره؛ فهو الملهِم نفوسَ المكلفين التقوى والفجور، وهو المتجاوز عن سيئات مَنْ شاء، والآخذ بها مَنْ شاء، هنا وفي يوم النشور، لا يحكم عدله في فضله، ولا فضله في عدله، أخرج العالَم قبضتين وأوجد لهم منزلتين، فقال: هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي. ولم يعترض عليه معترض هناك؛ إذ لا موجود كان ثَمَّ سواه، فالكل تحت تصريف أسمائه، فقبضة تحت أسماء بلائه، وقبضة تحت أسماء آلائه، ولو أراد — سبحانه — أن يكون العالم كله سعيدًا لكان، أو شقيًّا لما كان من ذلك في شأن؛ لكنه — سبحانه — لم يرد فكان كما أراد؛ فمنهم الشقي والسعيد، هنا وفي يوم الميعاد لا سبيل إلى تبديل ما حكم عليه القديم، وقد قال — تعالى — في الصلاة: هي خمس وهي خمسون، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد، لتصرفي في ملكي وإنفاذ مشيئتي في ملكي؛ وذلك لحقيقة عَمِيَتْ عنها الأبصار والبصائر، ولم تعثر عليها الأفكار ولا الضمائر إلا بوهب إلهي وجود رحماني لِمَنْ اعتنى الله به من عباده، وسبق له ذلك بحضرة إشهاده، فعلم حين أعلم أن الألوهة أعطت هذا التقسيم، وأنه من رقائق القديم، فسبحان مَنْ لا فاعل سواه، ولا موجود لنفسه إلا إياه! والله خلقكم وما تعملون، ولا يُسأل عَمَّا يفعل وهم يُسألون، فلله الحجة البالغة، فلو شاء لهداكم أجمعين».