المدرسة الأكبرية
التصوف الإسلامي كأفق عام، وحدة متسقة متحدة الأهداف والغايات، ولكن الطريق إلى الله — كما يقول المتصوفة — على عدد أنفاس الرجال؛ ومن هنا تعددت المدارس الصوفية، واتسمت كل مدرسة بطابع إمامها، وتلونت بمناهجه ومعارفه.
فللمدرسة الغزالية طابعها القلبي المشرق، ودعوتها الحارة إلى مكارم الأخلاق، وفضائل الأعمال.
وللمدرسة الجنيدية، سمتها في التربية والتصفية، ورسالتها في الفقه والتوحيد.
وللمدرسة الشامية، الدقائق والرقائق، ومحاسبة النفس وتزكيتها، وعصمة الجوارح وتطهيرها.
وللمدرسة الحلَّاجية، مواجيدها وألحانها، وسبحاتها في المحبة والفناء؛ وهكذا المدارس الصوفية قديمها وحديثها، لكل منها ذوقه ومشاهده ومناهجه.
ولكن مدرسة من تلك المدارس، لم تُحدث في عالم الفكر دويًّا كما أحدثت المدرسة الأكبرية التي تنتسب إلى الشيخ الأكبر.
وليس مرجع هذا أنها أكثر هذه المدارس أتباعًا، وأضخمها جمهورًا؛ وإنما مرجعه أنها مدرسة العقل الجبار الْمُحَلِّق، مدرسة الثقافة السامقة الشامخة، مدرسة الروحانية في صولتها العنيفة الفاتحة.
ومن هنا تتلمذ على هذه المدرسة أضخم العقول التي عرفها الفكر الإسلامي، ومشى تحت مواكبها الصفوة المختارة المنتقاة من رجال الروح والإيمان.
وامتد أفق هذه المدرسة إلى خارج الحدود الإسلامية؛ فاجتذبت إليها كل عقل قوي، وكل روح كبير، وأشاعت داخل الأفق الإسلامي نورًا سار على هديه رجال على بصيرة من أمرهم، وعلى يقين من رسالتهم فحملوا الشعلة المقدسة، وراحوا يحفظون للقلب الإسلامي تشرفه إلى أعلى قمم الإيمان، ويضيفون إلى الروحانية الإسلامية خاصة والروحانية العالمية عامة الزاد الحي القوي بكل ثمراته ووثباته وفتوحاته.
ويجب أن نتذكر خطر المؤلفات التي صُنِّفت في الرد عليه أو الدفاع عنه؛ فتلك حركة فكرية لا يمكن إغفالها عند تقويم أثر ذلك الباحث الجليل، ولا يتسع المجال لبيان أثر ابن عربي فِيمَنْ جاء بعده من المفكرين؛ فذلك شيء ضخم عظيم.»
ثم يقول: «ولكن هل وقف تأثير ابن عربي عند البيئات الإسلامية؟ لا، فقد سرى روحه إلى البيئات المسيحية ولوَّن أفكارها، إن ابن عربي شغل الناس في عصره وبعد عصره، وكان النصارى في الأقطار الإيطالية والفرنسية والإسبانية، يتشوقون إلى المعارف الإسلامية الصوفية التي أذاعها.
ويكفي أن يتذكر القارئ، أن ابن عربي سيشغل الناس ما دام في الدنيا إنسان يهمه درس التصوف الإسلامي، وسيشغل الناس ما دام في الدنيا إنسان يهمه الوقوف على ما صنع الذكاء في درس أسرار الوجود.»
ويحدثنا الدكتور عبد الحليم محمود في كتابه القيم «الفيلسوف المسلم»، ويعني به «العلامة رينيه جينو» أو عبد الواحد يحيى، عن مجلة عربية إيطالية كانت تصدر في القاهرة عام ١٩٠٧م، وَتُسَمَّى النادي، فيقول: «كانت الروح التي تسود هذه المجلة هي روح الشيخ الأكبر محيي الدين، وكانت هذه المجلة تعتبر طليعة لمجلات أخرى صدرت فيما بعد في فرنسا، وساهم فيها «جينو» بحظٍّ وافر، وكان من ألمع محرري مجلة النادي؛ سواء ذلك قسمها العربي، أو قسمها الإيطالي عبد الهادي — وعبد الهادي هذا من أصل لتواني فلندي — ونشأ مسيحيًّا، وكان اسمه: إيفان جوستاف، ثم اعتنق الإسلام، وتعلم العربية، وأخذ يكتب في المجلة المقالات، ويطبع فيها الرسائل الصوفية الإسلامية من مؤلفات الشيخ الأكبر ويترجم بعض النصوص.»
- (١)
دراسة ونشر تعاليم الشيخ محيي الدين؛ سواء ما يتصل منها بالشريعة وما يتصل بالحقيقة، والعمل على طبع مؤلفات تلاميذه وشرحها، وإلقاء محاضرات خاصة به، وأحاديث تشرح آراءه.
- (٢)
جمع أكبر عدد ممكن من محبي الشيخ ابن عربي، وعقد صلة قوية بينهم تقوم على الأخوة، وَتُؤَسَّس على الترابط الفكري بين النخبة الممتازة من الشرقيين والغربيين.
- (٣)
تقديم المساعدة المادية والتشجيع الأدبي لِمَنْ هم في حاجة إلى ذلك، مِمَّنْ يتبعون الطريق الذي اختطَّه محيي الدين بن عربي، وعلى الخصوص هؤلاء الذين ينشرون دعوته بالقول أو بالعمل.
- (٤)
ولا يقتصر عمل الجمعية على ذلك، بل يتعداه أيضًا إلى دراسة مشايخ الصوفية الشرقيين كجلال الدين الرومي مثلًا؛ بَيْدَ أن مركز الدائرة يجب أن يستمر ابن عربي.
- (٥)
ولا صلة للجماعة قط بالمسائل السياسية مهما كان مظهرها؛ إذ إنها لا تخرج عن دائرة البحث في الدين والحكمة.
وحمل جينو راية الجهاد في هذه الجمعية، فاستمر يبني على ما أسستْه الأكبرية، تلك الجماعة التي تنهج نهج الشيخ الأكبر، وهو أسمى مظهر للتصوف الإسلامي والعقيدة الإسلامية.
وأقام جينو في القاهرة يؤلِّف الكتب، ويكتب المقالات، ويرسل الخطابات إلى جميع أنحاء العالم، كان حركة دائبة، حركة فكرية وروحانية، ترسل بسنائها إلى كل مَنْ يطلب الهداية والرشاد.
وفي المغرب العربي، وفي دمشق، كان الأمير المجاهد عبد القادر الجزائري من العاملين في حقل الروحانية الأكبرية، وكذلك كان ولا يزال الأمير المقاتل عبد الكريم الخطابي، وشقيقه البطل الأمير محمد الخطابي، ولقد حدثنا الأمير أنه كان يقرأ الفتوحات المكية وهو في ساحات القتال.
وهنا وهناك، وفي كل مكان يرتفع فيه صوت التكبير بالتوحيد، أو دوي الطبول للجهاد، ترى العلماء من رجال الفكر، والمقاتلين من أولي البأس، تلاميذ أوفياء للمدرسة الأكبرية ولشيخها الأكبر.