الْخَضِر وشيُوخه في الطريق
وكان أول شيوخه في الطريق الإمام أبو العباس العريني، أحد فحول أصحاب الأحوال والأنفاس، وطبَّق عليه شيخه شرعة الطريق، غير عابئ ولا ملتفت إلى علوم محيي الدين ومعارفه؛ ولهذا كان يجمح محيي الدين أحيانًا، بل ويتمرَّد على ما اصطُلِح عليه من تسليم المريد المطلق لشيخه وهاديه لوثوقه من علمه وتمكُّنه من معارفه.
ولكن عناية الله — وهي سر هؤلاء الرجال، وهي الدعامة الأولى التي ترتكز عليها حياتهم، وتتلوَّن بها شخصياتهم — قيَّضتْ له إمام شيوخ الطريق كافة الولي الخفي، الذي شهد له القرآن بأنه أُوتي من لدُن ربه علمًا لم يُطِقْه موسى النبي، قيَّضتْ له الْخَضِر؛ فأرشده وكَفْكَفَ من غَرْب نفسه وردَّه إلى شيخه. يقول محيي الدين: «وذلك أن شيخنا أبا العباس العُرَيْني جرتْ بيني وبينه مسألة في حق شخص، كان قد بَشَّرَ بظهوره رسول الله — صلوات الله عليه — فقال لي: هو فلان ابن فلان. وَسَمَّى لي شخصًا أعرفه باسمه وما رأيته، فتوقفتُ فيه ولم آخذ بالقبول؛ لكوني على بصيرة في أمره؛ فتأذَّى الشيخ في باطنه، ولم أشعر بذلك فإني كنتُ في بداية أمري، فانصرفت عنه إلى منزلي، ولما كنت في الطريق بسوق الحنة بإشبيلية لقيني شخصٌ لا أعرفه، فَسَلَّم عَلَيَّ ابتداء سلام محب مشفق، وقال لي: يا محمد، سَلِّم إلى الشيخ مقالَه فيما ذكر لك عن فلان، وَسَمَّى لي الشخص الذي ذكره أبو العباس؛ فقلتُ له: نعم. وعلمتُ ما أراد، ورجعتُ من حيني إلى شيخي؛ لأُعرِّفه بما جرى، فعندما دخلت عليه كلمني قبل أن أكلمه. قال لي: يا أبا عبد الله، أحتاج معك إذا ذكرتُ لك مسألة يقف خاطرك عن قبولها إلى أن الْخَضِر يتعرَّض إليك، ويقول: سَلِّم لفلان فيما ذكره لك، ومن أين يتفق لك هذا في كل مسألة تسمعها مني فتتوقف؟ قلتُ: أهو الْخَضِر؟ قال: نعم. قلتُ: إن باب التوبة مفتوح. فقال: وقبول التوبة واقع. فلما كان بعد مدة رأيتُ شيخي قد رجع إلى قولي في تلك المسألة، وقال لي: إني كنتُ على غلط في تلك المسألة؛ فقلت له: يا سيدي، علمت الساعة أن الْخَضِر ما أوصاني إلا بالتسليم، وما عَرَّفني بأنك مصيب في تلك الحالة؛ ولكن التسليم واجب.»
والتقى محيي الدين بالْخَضِر مرة أخرى؛ حينما كان مع شيخه الثاني الإمام جرَّاح بن خميس، ويحدثنا محيي الدين عن هذا اللقاء فيقول: «ثم اتفق لي مرة أخرى أني كنت في مركب في البحر، فأخذني وجعٌ في بطني، وأهل المركب قد ناموا، فقمتُ إلى جانب السفينة، وتطلعت إلى البحر، فرأيت شخصًا على بُعْد في ضوء القمر، وكانت ليلة البدر، وهو يأتي على وجه الماء حتى وصل إِلَيَّ ووقف معي، ثم تكلم معي بكلام كان عنده، ولقَّنَنِي أشياء وأشياء، ثم سَلَّمَ وانصرف يطلب المغارة مائلًا نحو تلٍّ على شاطئ، بيننا وبينه مسافة تزيد على ميلين، فقطع تلك المسافة في خطوتين أو ثلاث، فسمعتُ صوتَه وهو على ظهر المغارة يسبح الله، وربما مشى إلى شيخنا جراح بن خميس الكتاني، وكان من سادات القوم، وكنت جئتُ من عنده بالأمس من ليلتي تلك، فلما جئت المدينة لقيتُ رجلًا صالحًا، فقال لي: كيف كانت ليلتك البارحة في المركب مع الْخَضِر؟ ما قال لك وما قلت له؟ فعلمتُ أنه الْخَضِر.»
وكان شيخه الثالث، أبو محمد بن عبد الله، ذروة مرموقة في علوم الكشف، ويحدثنا عنه فيقول: «دخلت على شيخنا أبي محمد بن عبد الله بغرناطة سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وهو من أكبر مَنْ لَقِيتُه في هذا الطريق، ولم أرَ في طريقته مثله في الاجتهاد، وكان مِمَّنْ أوتوا فهمًا في القرآن إرثًا محمديًّا، فقال لي: الرجال أربعة:
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وهم رجال الظاهر.
ورجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وهم رجال الباطن، جلساء الحق — تعالى — ولهم المشورة.
ورجال الأعراف، وهم رجال الحد، قال الله — تعالى: وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ، وهم أهل الشم والتميز والسراح عن الأوصاف، فلا صفة لهم، كان منهم أبو اليزيد البسطامي.
ورجال إذا دعاهم الحق يأتونه رجالًا لسرعة الإجابة لا يركبون. قال — تعالى: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا، وهم رجال المطلع.
فرجال الظاهر لهم التصرف في عالم الْمُلْك والشهادة، وأما رجال الباطن؛ فهم الذين لهم التصرف في عالم الغيب والملكوت؛ فيستنزلون الأرواح العلوية بهممهم فيما يريدونه. أعني أرواح الكواكب لا أرواح الملائكة، فيفتح لهؤلاء الرجال في باطن الكتب المنزلة والصحف المطهرة وكلام العالم كله، ونظم الحروف والأسماء من جهة معانيها، ما لا يمكن لغيرهم؛ اختصاصًا إلهيًّا.
وأما رجال الحد: فهم الذين لهم التصرف في عالم الأرواح النارية، وهو عالم البرزخ والجبروت، وهم رجال الأعراف، والأعراف سُور حاجز بين الجنة والنار، برزخ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قِبله العذاب؛ فهو حدٌّ بين دار السعداء ودار الأشقياء، وهؤلاء الرجال أسعد الناس بمعرفة هذا السور، ولهم في كل حضرة دخول واستشراف.
وأما رجال المطلع؛ فهم الذين لهم التصرف في الأسماء الإلهية؛ فيستنزلون بها منها ما شاء الله، وهذا ليس لغيرهم، ويستنزلون بها كل ما هو تحت تصرف الرجال الثلاثة، وهم أعظم الرجال، وهم «الملامتية». وكان محيي الدين منهم.»
وكان شيخه الرابع الفقيه العابد يوسف الكومي، يحدثنا عنه محيي الدين فيقول: «سألني شيخي يوسف الكومي سنة سِتٍّ وثمانين وخمسمائة عن مسألة من مشكلات التصوف فقال:
إذا اجتمع عارفان في حضرة شهودية عند الله — تعالى — ما حكمها؟
قلت: يا سيدي، هذه مسألة تُفْرَضُ ولا تقع؛ لأن الحضرة لا تسع اثنين، ولا تشهدها عين زائدة، فإن افترضناها مثالًا، فإذا اجتمعا فلا يخلو كل واحد منهما أن يجمعهما مقام واحد أو لا يجمعهما، ثم حكم التجلي من حيث الظهور واحد، ومن حيث المتجلَّى له مختلف؛ فالتذوق متبايِنٌ لاختلافهما في أعيانهما، ولا يجتمع شهود وخطاب وتجلٍّ ورؤية غير.»
وتأذَّن ربُّك لمحيي الدين بالانتقال إلى مرتبة الشيخ والإمام، وآنَ له أن يُشرق في أفق جديد رحب، وأن يغادر ركب المريدين إلى طلائع المرشدين.
يقول محيي الدين: «ولقد أنعم الله عَلَيَّ ببشارة عظمى بَشَّرني بها، وكنتُ لا أعرفها من حالي وكانت حالي، فأوقفني عليها الإمام خليفة القطب، فقد نهاني عند التقائي به عن الانتماء إلى مَنْ لقيت مَن الشيوخ. وقال لي: لا تَنْتَمِ إلا إلى الله؛ فليس لأحدٍ مِمَّنْ لقيتَه عليك يدٌ مما أنت فيه، بل الله تولاك برعايته وعنايته، فاذكر فضل مَنْ لاقيتَ إن شئت، ولا تنتسب إلا إلى الله.»
وبذلك دخل في نطاق الذين أَدَّبهم ربهم واجتباهم، وهم قِلَّة في الطريق لا يتجاوزون الآحاد، بل وضع قدمه على أول الطريق إلى القمة العلمية الربانية، وهي شِرْعة هو صاحبها وربانها وإمامها الأوحد.
وكما اصطفاه الله في مطلع حياته مع شيوخه؛ فأرسل الْخَضِر إليه مرشدًا ومربيًّا، كذلك حَفَّه برحمته في مطلع إفاضات الأسرار اللدنية عليه، فقد باح أول أمره بسرٍّ من أسرار المحب، وهي إباحة قلَّما نجا من عواقبها مُرادٌ أو مريد، يحدثنا عنها فيقول: «ولقد منحني الله سِرًّا من أسراره بمدينة فاس سنة أربع وتسعين وخمسمائة، فأذعتُه فإني ما علمت أنه من الأسرار التي لا تُذاع؛ فَعُوتبتُ فيه من المحبوب، فلم يكن لي جواب إلا السكوت. إلا أني قلت: تولَّ أنت أمر ذلك فِيمَنْ أودعتَه إياه، إن كانت لك غَيْرة عليه؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وكنتُ قد أودعتُه نحوًا من ثمانية عشر رجلًا، فقال لي: أنا أتولَّى ذلك، ثم أخبرني أنه سلَّه من صدورهم وسلبهم إياه، فالحمد لله؛ حيث لم يعاقبني بالوحشة والحرمان، كما عُوْقِبَ غيري.»