المقامات والأحوال
لم يُعاقَب محيي الدين؛ لأن العناية الرَّبَّانية تعدُّه في رحمتها لرسالة ستتكشَّف عنها الأيام وتأتي بها الأنباء.
ورجال القلوب والأنفاس والعلماء الرَّبَّانيون كمحيي الدين، الحديث عنهم حديث قلب وروح وإيمان، والعوامل التي تُكوِّنهم هي: الأنوار، والإشراقات، والتجليات الربانية، والتقلب في أسرار الأحوال، ومنح المقامات، وما تفيض به على أربابها من كشف وعلوم.
ولقد خاض محيي الدين في الطريق إلى الله، بحار تلك الأحوال، وارتقى قِمَم تلك المقامات، ونَعِم بعطاياها، وذاق ثمارها وريَّاها، وتحدث عنها، وكشف منها ما أُمِرَ بكشفه، وأكَنَّ ما أُمر بحفظه، وما كشف منها محيي الدين عطية لم تُمنح لسواه، هي تراث من العلوم يسع علماء الدنيا قرونًا وأجيالًا يتدارسونها، وينتفعون وينفعون بها.
والمقامات الإلهية بكنوز علومها أحصاها محيي الدين؛ فبلغت ستين ألفًا من المقامات والأحوال الربانية، ويتحدث عن نفسه فيقول: «قد دخلنا في كل ما ذكرناه في هذه الإمدادات الإلهية ذوقًا مع عامة أهل الله، وزدنا عليهم باسم إلهي — وهو الآخر — أخذنا منه الرياسة وروح الله الذي يناله المقربون من قوله — تعالى: فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ، ونلتُ هذا المقام في دخول هذه الطريقة سنة ثمانين وخمسمائة.»
وتلك السنة التي ذكرها محيي الدين تدل على أنه بلغ تلك المكانة، ولم يتجاوز العشرين من عمره، وفي تلك السن المبكرة، أخذ يجتاز تلك المقامات سراعًا نحو العلا. ولنَجُلْ معه جولة في تلك المقامات التي تنقل في كواكبها، ولنستمع إليه وهو يحدثنا عن مقام النور:
مقام النور
هذا مقام نلتُه سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، بمدينة فاس في صلاة العصر، وأنا أصلي بجماعة المسجد بجانب عين الجبل؛ فرأيتُه نورًا صافيًا غلابًا، يكاد يكون من خلفي أكشف مِن الذي بين يدي؛ غير أني لما رأيتُه زال عني حكمُ الخلف، وما رأيت لي ظهرًا، ولم أُفرِّق في تلك الرؤيا بين جهاتي، بل كنت مثل الكرة لا أعقل لنفسي جهة إلا بالفرض.
مقام الوَجْد والوَلَه
وهو من أخطر مقامات التصوف، وهو ذهول وذهاب عن كل ما سوى الله بحكم المحبة والإشراق، وكم من إمام غلب عليه هذا المقام؛ فذهب معه ولم يعد أبدًا، ولكن العناية شملتْه فَحفظ كعهده، يقول محيي الدين: «ولقد ذقتُ هذا المقام، وَمَرَّ عَلَيَّ وقت أؤدي فيه الصلوات الخمس إمامًا بالجماعة على ما قيل لي، بإتمام الركوع والسجود، وجميع أحوال الصلاة من أفعال وأقوال، وأنا في مثل هذا كله لا علم لي بالجماعة، ولا بالمَحِلِّ ولا بالحالِّ، ولا بشيء من عالم الحس؛ لشهودٍ غلب عَلَيَّ غبتُ فيه عني وعن غيري، فأُخْبِرْتُ أني كنت إذا دخل وقت الصلاة، أقيم الصلاة وأصلي بالناس؛ فكان حالي كالحركات الواقعة من النائم ولا علم له بذلك، فعلمتُ أن الله حفظ عليَّ وقتي، ولم يُجْرِ على لساني ذنبًا كما فعل بالشبلي في وَلَهِه. فقد كان الشبلي يرد في أوقات الصلاة على ما ورد عنه، فلا أدري هل كان بعقل رده أو كان مثل ما كنت فيه؛ فإن الراوي ما فَصَّلَ، فلما قيل للجنيد عنه، قال: الحمد لله الذي لم يُجْرِ على لسانه ذنبًا، إلا أني كنت في أوقات في حال غيبتي أشاهد ذاتي في النور الأعلى، والتجلِّي الأعظم، بالعرش العظيم يصلي بها وأنا عَرِيٌّ عن الحركة، بمعزل عن نفسي، وأشاهدها بين يديه راكعة وساجدة، وأنا أعلم أني ذلك الراكع والساجد، كرؤية النائم واليد في ناصيتي، وكنت أتعجب من ذلك، وأعلم أن ذلك ليس غيري ولا هو أنا، ومن هناك عرفت المُكلَّف والتكليف.»
مقام الفتح في العبارة
محيي الدين أعظم من حمل قلمًا في دنيا التصوف، إبانة وفصاحة وفيضًا وكشفًا، وهو يرُدُّ كل تلك الصفات وهذه الخصائص المتفردة إلى هذا المقام، الذي يحدثنا عنه فيقول: «الفتح في العبارة لا يكون إلا للمحمدي الكامل، وأقوى مقام صاحب هذا الفتح الصدق في جميع أقواله وحركاته وسكونه، إلى أن يبلغ به الصدق أن يعرف صاحبُه وجليسُه ما في ظاهره وباطنه من حركة ظاهرة أو باطنة؛ بحيث لا يمكن لصاحب هذا الفتح أن يصوِّر كلامًا في نفسه، ويرتِّبه في فكره ثم ينطق به بعد ذلك، بل زمان تصوُّره لذلك اللفظ الذي يعبر به عَمَّا في نفسه زمان قيام ذلك المعنى في نفسه وصورته، فيفتح الله له في العبارة؛ فيعرب بقلمه أو بلفظه عَمَّا تنفسه بنفسه، ومن علامات هذا الفتح: استصحاب الخشوع، وتوالي الاقشعرار عليه في جسده؛ بحيث أن يحس أن أجزائه قد تفرقت، وهذا فتح ما لقيتُ في عمري فيمَنْ لقيتُه من رجال الله على كثرتهم أثرًا منه في أحد، وقد يكون في الزمان رجال لهم هذا الفتح ولم ألقهم، غير أني منهم بلا شكٍّ عندي ولا ريب؛ فلله الحمد على ذلك …»
وهنا آية من آيات محيي الدين، فهو يرد فصاحة اللفظ وجمال التعبير وروعة الفكرة عنده، إلى الصدق في التعبير عن الأحاسيس؛ بحيث لا يُزَوِّقُ كلامًا ولا يُنَمِّقُ لفظًا، بل لفظه هو تنفسه، وتصوره هو قوله.
مقام القيومية
ولظفره بهذا المقام قصة توضح الهدف والغاية، وهي من مواقف العقول، ومن آيات الفيض والوهب. قال: «لقيتُ أبا عبد الله بن جنيد من شيوخ الطائفة، وكان معتزلي المذهب، يقول بخلق أفعال العبد، فشرحتُ له الأمر حتى رجع إلى قولنا، وكان قد أتى إلى زيارتنا، فلما رجع إلى بلده مشيت إلى زيارته في بلده، ورددتُه عن مذهبه، وكذلك جميع أصحابه فشكرًا لله.»
ثم يقول: «إنه كان متحيرًا في هذه المسألة المعقدة، لا يدري اليقين فيها، وما فُتح له فيها برأي قاطع على الوجه الذي لا شك فيه.
حتى كان ذات ليلة، وهي ليلة السبت السادس من رجب سنة ثلاثٍ وثلاثين وستمائة، فإنه لم يتخلص لي إضافة خلق الأعمال لأحد الجانبين، ويعسر عندي الفصل بين الكسب الذي يقول به قوم، وبين الخلق الذي يقول به قوم؛ فأوقفني الحق بكشف بصري على خلقه المخلوق الأول، الذي لم يتقدمه مخلوق؛ إذ لم يكن إلا الله. وقال لي: هل هنا أمر يوجب التلبيس والحيرة؟ قلتُ: لا. قال: هكذا جميع ما تراه من المحدثات، ما لأحد فيه أثر ولا شيء من الخلق؛ فأنا أخلق الأشياء عند الأسباب لا بالأسباب، فتكون عن أمري، خلقتُ النفخ في عيسى، وخلقتُ التكوين في الطائر.
وسألته — سبحانه — سؤالًا، فقال: إذا طالعتُك بأمرٍ فالزمِ الأدب، واسمع وأنصت. قلت: ذلك لك، اخلق السمع حتى أسمع، واخلق الإنصات حتى أنصت، وما يُخاطبك الآن سوى ما خلقتَ. فقال لي: ما أخلق إلا ما علمتُ وما علمتُ إلا ما هو المعلوم عليه، فلله الحجة البالغة، وقد أعلمتُك بهذا فيما سلف، فالزم مشاهدة فليس سواه، يرجع خاطرك ولا تأمن حتى ينقطع التكليف، ولا ينقطع حتى تجوز على الصراط.»
وهذا هو مقام القيومية، فكل شيء يقوم بالله، ومن الله، وله — سبحانه — خلق العبد وأفعاله، يخلق الأشياء عند الأسباب لا بالأسباب، تعالى الله الواحد الوهاب.
مقام حلاوة الفتح
وحلاوة الفتح مقام حظِيَ به محيي الدين ونَعِم، وهو لذة ربانية وحلاوة إلهية، يهبها الله لِمَنْ يصطفي ويختار من عباده، يقول محيي الدين: «ومن أصحاب هذا الفتح مَنْ تلازمه هذه الحلاوة ساعة أو يومًا أو أكثر، كُلٌّ حسب ما يُوهب؛ فليس لبقائها زمن، فإنه اختلف علينا بقاؤها فوقنا نزلت علينا في قضية من قضايا الذوق، فدامت ساعة ثم ارتفعت، ونزلت في واقعة أخرى فدامت أيامًا.
وهذه الحلاوة واللذة لا يمكن أن تشبهها لذة من اللذات المحسوسة؛ لأنها معنوية ربانية، وأثرها في الحس أعظم أثر تنعم به النفس.
وأعظم مذاق لها تنعَّمتُ فيه في هذا المقام لَمَّا تُلي عَلَيَّ: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ؛ فلم أجد لذة من اللذائذ التي نَعِمتُ بها أعظم منها، فلما تُلي: وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ذهبتُ إلى حال من النعيم أعجز عن وصفه؛ فهي أعظم بشارة وردت عَلَيَّ، فالمؤمن فرح بما يوهب لرسوله، والمؤمن الكامل له أمل في قطرات من تلك الهبات.
فإذا عطف الحق على عبده بهذه الحلاوة فجذبه إليه بها، منحه علمًا لم يكن عنده، فإذا لم يكن علمًا فليس بجذب، ولا تلك حلاوة فتح.»
والحلاوة التي يقصدها محيي الدين، هي اللذة التي يعبر عنها إبراهيم بن أدهم بقوله: «نحن في لذة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف.» وإبراهيم ذاق اللذتين: لذة الْمُلْك، وحلاوة الفيض. وهي لذة يقول عنها بعض الرَّبَّانيين: إنها خلاصة نعيم الجنة الْمُصَفَّى يُقَطَّر في قلب المؤمن المختار.
وتلك اللذة الرَّبَّانية في الدنيا يصحبها الكشف والعلم، فإذا لم يصاحبها علم ولا كشف؛ فهي ليست بحلاوة الفتح؛ وإنما هي لذة خَدَّاعة من لذائذ الحس.
مقام الفناء
وهو مقام المقامات، وهبة الهبات، ودرجة المحبين الوالهين الذاهلين عن وجودهم بذهاب حسهم إلى باريهم، وحال الفناء: هو أن تفنى بالله عن خلقه؛ فلا ترى شيئًا مع الله، بل الوجود هو رب الوجود، وواهب الوجود وخالقه، أو كما يقول أبو بكر — رضوان الله عليه: «ما رأيت شيئًا إلا رأيتُ الله سبحانه قبله.»
وهو حال دقَّتْ أسراره حتى التبستْ ظواهره على الفقهاء، فرمَوْا فيه المتصوفة بالعظائم، والتبستْ خواطره وفتوحاته على المتكلمين والمتفلسفين؛ فرمَوْا رجال الله فيه بالحلول ووحدة الوجود؛ حيث تَنَادَى المتصوفة بأنهم لا يرون في الوجود إلا الله، وتجلِّياته في مخلوقاته، وهو بحث ليس موضعه هنا، فله مكان آخر في هذا الكتاب.
وكان هذا المقام لمحيي الدين، وهو في فاس في المرة الأولى، يحدثنا قائلًا: «أخبرني الأستاذ النحوي عبد العزيز بن زيدان بمدينة فاس، وكان ينكر حال الفناء، وكان يختلف إلينا، وكانت فيه إنابة، فلما كان ذات يوم، دخل عَلَيَّ وهو فرح مسرور قائلًا: الفناء الذي تذكره ويذكره المتصوفة، صحيح عندي ذوقًا، فقد شاهدته اليوم. قلت: كيف؟ قال: ألست تعلم أن أمير المؤمنين قد دخل اليوم من الأندلس إلى هذه المدينة؟ قلت: بلى. قال: اعلم أني خرجت أتفرج عليه مع أهل المدينة، فأقبلتِ العساكر شيئًا فشيئًا في منظر جميل أَخَّاذ، فلما وصل أمير المؤمنين في تلك الأبهة والعظمة، ونظرتُ إليه بين رهبته وجلاله، ذهلتُ حتى فَنِيتُ عن نفسي وعن العساكر وعن سائر المشهد، حتى لم أرَ البنود ولم أسمع الكاسات.
ودام هذا الحال معي حتى انتهى موكب أمير المؤمنين؛ فأحسست بنفسي، وشعرت بما فنيت عنه من ضغط الناس وألم الزحام وغبار الجماهير.
فتحققت أن الفناء حق، فإذا كان هذا يحدث من مشهد عَبْد، فكيف بمشهد الرب، ذلك هو الحق لِمَنْ ألقى السمع.»
وأقل مراتب الفناء — كما يقول محيي الدين — تمثله لنا حالة الإنسان إذا استغرق في مسألة من مسائل العلم، أو أمر ما من أمور الدنيا، فتحدِّثه ولا يسمعك، وتكون بين يديه ولا يراك، وسبب ذلك: أن القلب البشري الذي يسع كل شيء، لا يتسع لخاطرين في وقتٍ واحد.
القلب لا يتسع لخاطرين في وقتٍ واحد، ولا لمشهدين: فإما مشهد الحق، وإما مشهد الخلق، أو كما يقول الجنيد: مَنْ شهد الحق غاب عنه الخلق.
وتلك آية ما بين أصحاب هذا المقام من المتصوفة، وبين المنكرين عليهم الصائحين بهم لكل مشهد وخاطر.
مقام العبودية أو الصديقية
العبودية الصادقة أن ترى الله فاعلًا لكل شيء، وأن تتصف بصفات العبودية الكاملة، وأن لا تغفل عن مشاهدة عبوديتك، وأن تكون أعمالك ما ظهر منها وما بطن، وخواطرك ما عُرِفَ وما مات في أغوار النفس مُقَيَّدة بهذا القيد، مُحَدَّدة بتلك الحدود.
وصاحب هذا المقام يكسوه الحق حلل الجمال والكمال والهيبة؛ فينسب إليه مَنْ يشاهده تلك الصفات لظهور آثارها عليه، ولكن صاحب هذا المقام لا تنخدع نفسه؛ لأنه يعلم أن ذلك لله ومن الله إنه لعبد، تلك حقيقة نفسه وحقيقة حسه، مهما عرف الناس أو لمسوا من حقائقه ومظاهره.
يقول محيي الدين: «وإذا عرف التلميذ من الشيخ أنه بهذه المثابة؛ فقد فتح الله على ذلك التلميذ بما فيه سعادته، فإنه يتجرد إلى جانب الحق بتجرد الشيخ، فإنه عرف منه، واتكل على الله لا عليه، وبقي ناظرًا في الشيخ ما يُجري الله عليه من الحال في حق ذلك التلميذ من نطقٍ بأمرٍ يأمره به، أو ينهاه، أو بعلمٍ يفيده؛ فيأخذ التلميذ من الله على لسان هذا الشيخ، ويعلم التلميذ في نفسه من الشيخ ما يعلمه الشيخ من نفسه أنه محل جريان أحكام الربوبية، حتى لو فُقد الشيخ لم يقُمْ غير ذلك التلميذ ذلك المقام؛ لعلمه بحال شيخه، كأبي بكر الصديق مع رسول الله — صلوات الله عليه — حين مات، فما بقي أحد من الصحابة إلا اضطرب، وقال ما لا يمكن أن يُسمع، وشهد على نفسه في ذلك اليوم بقصوره، وعدم معرفة رسوله الذي اتبعه، إلا أبو بكر؛ فإنه ما تغير عليه الحال لعلمه بما تم، فصعد إلى المنبر قارئًا: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وعرف الناس يومئذٍ فضل الصديق؛ فاستحق الإمامة.»
ذلك هو المثال الذي ساقه محيي الدين لتوضيح مقام العبودية؛ فإن الصديق لكمال عبوديته كان يسمع من الرسول، ويتوكل على الله، فتجرد إلى جانب الحق بتجرد إمامه الأعظم — صلوات الله عليه — فكان يأخذ من الله على لسان نبيه، فلما انتقل خير عباد الله إلى جوار ربه بقي أبو بكر ناظرًا إلى الله، فلم يشغله الهول الأعظم عن كمال عبوديته.
ثم يقول محيي الدين: «ونرجو إن شاء الله أن يكون مقامنا هذا، ولا يجعلها دعوى غير صادقة؛ فإني ذقت هذا المقام ذوقًا لا مزاج فيه، أعرفه من نفسي، وما سمعته عن أحدٍ مِمَّنْ تقدمني غير أبي بكر.»
مقام القربة
والمشهور عن محيي الدين في معراج المقامات أن أقصى مراتبه في التحليق إلى الهدى والإيمان هو مقام الصديقية، ولكنه بعد أن ظفر به، يحدثنا عن مقام آخر هو مقام القربة، وهو مقام الْخَضِر وهو فوق الصديقية ودون النبوة.
وهذا المقام، هو أسمى ما يتطلع إليه أحباب الله، يحدثنا محيي الدين عنه فيقول: «هذا المقام دخلتُه في شهر محرم سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وأنا مسافر بمنزل إنجيل ببلاد المغرب، فتِهْتُ في ذلك المنزل فرحًا، ولم أجد فيه أحدًا؛ فاستوحشتُ من الوحدة، وتذكرت دخول أبي يزيد بالذلة والافتقار، ولما دخلت هذا المقام وانفردت به علمت أن حالي فيه لو اطلع عليه أحد لأنكرني؛ فسِحْتُ فيه وتنقلتُ في منازله ومخادعه، وأنا لا أدري ما اسمه مع تحققي به، وما اختص الله به مَنْ أتاه إياه، ورأيت أوامر الحق — سبحانه — تترى عَلَيَّ، وسفراه تتنزل إِلَيَّ، تبغي مؤانستي وتطلب مجالستي؛ فرحلت وأنا على تلك الحال من الاستيحاش بالانفراد، والأنس إنما يقع بالجنس، فلقيتُ رجلًا من الرجال بمنزل يُسَمَّى أنحال، فصليت العصر في جامعه، فجاء الأمير أبو يحيى بن واجين، وكان صديقي وفرح بي، وسألني أن أنزل عنده، فأبَيْتُ ونزلتُ عند كاتبه، وكان بيني وبينه مؤانسة، فشكرت الله على ما أنا فيه من انفرادي بمقام أنا مسرور به، فبينما هو يؤانسني؛ إذ لاح ظل شخص، فنهضت من فراشي إليه عسى أجد عنده فرجًا، فعانقني فتأملتُه فإذا هو عبد الرحمن السُّلَمي قد تجسَّدت لي روحه، بعثه الله لي رحمة، فقلت له: أراك في هذا المقام، فقال: فيه قُبضت وعليه مت، فأنا فيه لا أبرح. فذكرت له وحشتي فيه وعدم الأنس، فقال: الغريب مستوحش، فصاحب هذا المقام ليست الدنيا مقامه، وبعد أن سبقتْ لك العناية الإلهية بالحصول في هذا المقام فاحمد الله، ومن يا أخي يحصل له هذا لا يرضى؟ ألا ترضى أن يكون الْخَضِر صاحبك في هذا المقام، وقد أنكر موسى عليه حاله، وما قدر على صحبته؟
فقلت: يا أبا عبد الرحمن، لا أعرف لهذا المقام اسمًا؛ فقال لي: هذا يُسَمَّى مقام «القربة» فتحقق به فتحققت به؛ فإذا به مقام عظيم، لعلماء الرسوم من أهل الاجتهاد فيه قدم راسخة، لكنهم لا يعرفون أنهم فيه، ورأيت الإمداد الإلهي يسري إليهم من هذا المقام؛ ولهذا ينكر بعضهم بعضًا لأنهم ما حصل لهم ذوقًا، ولا يعلمون مِمَّنْ يستمدون مشاهدة ومكاشفة؛ فكل واحد منهم على حق، كما أن لكل نبي تقدم هذا الزمان المحمدي شرعة ومنهاج، والإيمان واحد.
فالمجتهدون من علماء الشريعة ورثة الرسل في التشريع، وأدلتهم تقوم مقام الوحي للأنبياء، واختلاف الأحكام كاختلاف الأحكام، إلا أنهم ليسوا مثل الرسل لعدم الكشف؛ لأن الرسل يشد بعضهم بعضًا، وكذلك أهل الكشف من علماء الاجتهاد، وأما غير أهل الكشف منهم فيُخَطِّئ بعضهم بعضًا.
ومن أسرار هذا المقام معرفة التقديم والتأخير، وأسرار الترتيب في كلام الله، ولو قال الخضر لموسى من أول ما صحبه: ما أفعل شيئًا مما تراني أفعله عن أمري؛ ما أنكره عليه ولا عارضه، وقد أنطقه الله بقوله: سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرً، والصبر لا يكون إلا على ما يشق، فلو قدَّم الصبر على المشيئة كما يفعل المحمدي، لصبر ولم يعترض؛ فإن الله قدمه في الأعلام تعليمًا لمحمد ﷺ، فَمَنْ أراد أن يحصل على علم الله في خلقه، فليقف عند ترتيب حكمته في الأشياء؛ فيُقدِّم ما قدَّم الله، ويؤخِّر ما أخَّر الله، فإن من أسمائه المقدم والمؤخر، فإذا أخرتَ ماقدم الله، أو قدمت ما أخَّره الله، فهو نزاع خفي، يورث حرمانًا. قال — تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا * إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ. فَأَخَّرَ الاستثناء وَقَدَّمه موسى، فلم يصبر. فلو أخَّره لصبر.
وقد رُوِيَتْ في هذا المعنى حكاية عجيبة عن يهودي، أخبرني بها محمد بن موسى، قال: كان رجل بالقيروان أراد الحج، فتردد خاطره في سفره بين البر والبحر، فقال: إذا كان صبيحة غدٍ أول رجل ألقاه أشاوره؛ فحيث يرجح لي أحكم به، فأول مَنْ لقي يهودي فتألَّم، ثم عزم وقال: والله، لأسألنَّه، فقال: يا يهودي، أشاورك في سفري هذا، هل أمشي في البر أو في البحر؟ فقال له اليهودي: يا سبحان الله! وفي مثل هذا يَسأل مثلك، ألم ترَ أن الله — سبحانه — يقول لكم في كتابه: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَقَدَّم البر على البحر، فلولا أن لله فيه سرًّا ما قدمه، وهو أولى بكم، إلا إذا لم يجد المسافر سبيلًا إلى البر. قال: فعجبتُ من كلامه وسافرت في البر فلقيتُ خيرًا كثيرًا.»
وقد أنكر الإمام الغزالي هذا المقام بصفة عامة، وقال: «ليس بين الصديقية والنبوة مقام، وَمَنْ تخطَّى رقاب الصديقين وقع في النبوة، والنبوة باب مغلق.»
ومحيي الدين لم يقل أبدًا، بأن الولي يرقى مرقى النبوة؛ فلا نبوة ولا رسالة بعد أن خُتما بأشرف خلق الله، بل يقول في رده على الغزالي: هذا فضل الله يهبه لِمَنْ يشاء، وليس على أفضال الله قيد، ولا لبشر أن يتحكم في عطاياه، وَمَنْ ذاق عرف، وليس لِمَنْ لم يذُقْ حكم على مَنْ ذاق.
ومحيي الدين يقول أيضًا: إن هذا المقام قد يعطي علمًا لا ذوقًا لعلماء الرسوم، أي: علماء الفكر والاجتهاد والتبحر في المعارف، وهم يختلفون في علومهم؛ لعدم تذوقهم ولاعتمادهم على الأدلة التي تصيب وتخطئ، بخلاف الذوق عند أهل الكشف والفيض.
وهو هنا كعادته — خلافًا للمتصوفة — يُعلي من شأن علوم الفكر والعقل والاجتهاد، حتى ليقول بصوابهم جميعًا على اختلافهم وتلاحيهم؛ وهذا ما لم يقولوه هم أنفسهم، ما دام الاختلاف والتلاحي في الفروع لا في الأصول.
وتلك سماحة في فهم الدين، وهذا إجلال للعقول، يدل على رحابة أفق وسعة صدر إمام المتصوفة، المتصوفة الذين هوجموا أمرَّ الهجوم وأعنَفَه من رجال الفقه والاجتهاد.
وبهذا المقام أُكمِل لمحيي الدين ما قُدِّرَ له من عطايا ربه، وهو مقام — لو تعلمون — عظيم.
شعرة محمدية
فإذا ظفر محيي الدين بكل تلك الهبات والعطايا، وإذا نَعِم بالمقامات العليا، كالصديقية والقربة، فماذا بقي؟ يقول محيي الدين: إن الفتح على قَدْر الهمة. ومحيي يحمل بعزماته الجبال، وعطايا الله — سبحانه — لا حدود لها.
يقول محيي الدين: إنه ظفر بعد ذلك بهدية دونها كل الهدايا، هدية لم تكن عن سؤال، وإنما كانت عن عناية ورعاية.
وتلك الهدية عبارة عن شعرة من الرسول — صلوات الله عليه، ويقول لنا: إنه أوجس في قلبه خيفة، وخشي على نفسه؛ فقد كاد أبو يزيد البسطامي أن يهلك قلبه؛ حينما خُيل إليه أنه أُهِّلَ لشيء أكبر من طاقته، ولنترك محيي الدين يحدثنا: «وقد حصل لنا منه ﷺ شعرة، وهذا كثير لِمَنْ عرف، ولما أطلعني الله — سبحانه — على ذلك، لم يكن ما نلتُ عن سؤال؛ وإنما كان عن عناية الله، ثم إنه أَيَّدني فيه بالأدب رزقًا من لدنه وعناية بي، فلم يصدر مني ما صدر من أبي اليزيد.
فلما جاء الأمر وأخذت أرقى وتنكشف لي أمور بفضل تلك المنحة، علمت أن ذلك خطاب ابتلاء لا خطاب تشريف، على أنه قد يكون بعض الابتلاء تشريفًا؛ فتوقفتُ وسألت الحجاب.
ولكني مُنحتُ الشعرة اختصاصًا إلهيًّا؛ فشكرت الله على الاختصاص بتلك الشعرة، غير طالب بالشكر الزيادة، وكيف أطلب الزيادة من ذلك، وأنا أسأل الحجاب الذي هو من كمال العبودية؟!»
وبتلك المنحة تمَّ لمحيي الدين أكمل ما ينال عباد الرحمن الذين اصطفاهم لعلمه، واجتباهم لمحبته ورضاه.
محيي الدين والكرامات
ومحيي الدين لا يذكر معراجه في المقامات، وتقلبه في الأحوال، وأحاديثه المنامية مع الرسول — صلوات الله عليه، وحضوره في مشاهد الحق — سبحانه — ليفتخر بكرامة، أو يُدِلَّ بهبة، أو يَتِيه على الناس بحظوظ وعطايا، فمحيي الدين قد تحقق من مقام العبودية وذاقها، وهي أسنى المراتب وأعلاها، وليس من شذاها جنوح إلى فخر أو ميل إلى تيه وتكبر.
بل إنه لَخَصْمٌ للكرامات وطُلَّابها، وما رأيته يعنف في نقاش، وما رأيته يقسو في جدال، إلا حين يغمس قلبه القوي العبقري في تلك الأحاديث، ويتناول بأنامل أستاذيته المرشدة آذان أصحابها.
فهو يراها حُلًى براقة للعاطلين من سواها، يشتغل بها مَنْ تقعد به أجنحته عن التحليق في آفاق أعز وأكرم.
والكرامة المعنوية عند محيي الدين هي أعلى ألوان الكرامات، التي لا يعرفها إلا الخواص من عباد الله — سبحانه، وهي هدفه ومبتغاه.
وليس للعامة في تلك الكرامة نصيب، وليس لطلاب الأولى سهم هنا.
والكرامة المعنوية: هي أن يحفظ الله — سبحانه — للعبد المختار آداب الشريعة، وأن يوفقه لإتيان مكارم الأخلاق، واجتناب سفاسفها، والمداومة على الواجبات في أوقاتها، والمسارعة إلى الخيرات، وإزالة الغل للناس من صدره، والحسد والحقد وسوء الظن، وطهارة القلب من كل صفة مذمومة، وتحليته بالمراقبة مع الأنفاس.
أما الكرامة المادية التي يعرفها العامة، فكلها يمكن أن يدخلها المكر السيِّئ، أو الاستدراج الخفي الذي لا تُؤمن عقباه، بل هي على أحسن حالاتها وفروضها، جزاء وفاقًا على أعمال طيبة وعبادات متتابعة، وَمَنْ تنعَّم في الدنيا على أعماله، فقد أخذ جانبًا من الجزاء؛ فيخفَّف له العطاء يوم العطاء.
سُئل أبو اليزيد البسطامي عن طَيِّ الأرض، فقال: ليس بشيء؛ فإن إبليس يقطع من المشرق إلى المغرب في لحظة، وما هو بمكان عند الله.
وسُئل عن اختراق الهواء، فقال: إن الطير ليخترق الهواء، والمؤمن عند الله عقلًا وشرعًا أفضل من الطير، فكيف يحسب كرامة مَنْ شاركه فيها طائر؟!
ثم قال: إلهي، إن قومًا طلبوك لما ذكروه، فشغلتَهم به، وأهَّلتَهم له، مهما أهَّلتَني لشيء، فأهِّلني لشيء من أشيائك، أي: من أسرارك.
فما طلب أبو اليزيد إلا العلم؛ والعلم أفضل ما في فضل الله. قال — تعالى: آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا.
فالعلم أفضل الكرامات المعنوية، وهي الكرامة التي ظفر بها محيي الدين؛ فَخُلِّد في دنياه وفاز برضوان الله.
بين الشطح والفتوة
وكما كان محيي الدين من خصوم الكرامات المادية، فهو أيضًا من خصوم الشطح والشاطحين؛ لأن الشطح لون من ألوان الفخر، أو لون من ألوان المباهاة والتطاول، وأصله دعوى يفصح بها الشاطح عن مرتبته التي أعطاها الله له من غير أمر إلهي على طريقة الفخر.
والشطح ذلة المحققين، أو كما يقول محيي الدين: «لقد وقع من بعض الأكابر ولا أسميهم؛ لأنه صفة نقص، وأما مَنْ سواهم فلا كلام لنا معهم؛ لأنهم رعاع بالنظر إلى هؤلاء السادة، وإذا وقع مثل هذا من السادة، فعليهم يقع العتب منا.
وليس الشطح من الفتوة كما يدعون؛ فالفتيُّ لا يراعي الخلق، ولا يتعالى عليهم؛ لأن التعالي إنما هو لله — سبحانه وتعالى، وأصل الفتوة أن تخرج عن حفظ نفسك إيثارًا لحظ غيرك، وحقيقتها أن يؤثر الإنسان العلم الوارد من الله على ألسنة الرسل على هوى نفسه، وعلى أدلة عقله، وما حكم به فكره ونظره.
هذا هو الفتيُّ، فإذا ورد على نفسه خاطر أوْهَمَه بأنه أمرٌ إلهي يُعارِض الشرع المقرَّر؛ فقد خُيل له أو التبس عليه، فيَرْمِي به ولا يَلْتَفِت إليه، ويَرجِع إلى حكم الشرع الثابت؛ فإنه قد ثبت عند أهل الكشف جميعًا: أنه لا تحليل ولا تحريم، ولا شيء من أحكام الشرع، بعد انقطاع الرسالة والنبوة، لأحد من خلق الله.
وقد وقفنا بقومٍ من أهل الله مِمَّنْ التبس عليهم هذا المقام، والتبست عليهم الواردات؛ فشطحوا وتفاخروا، فابتعدوا عن ربهم، فإنه لا يكون الشاطح عند شطحه وليًّا لله أبدًا.»
ذلك هو الرأي الفيصل لمحيي الدين في الكرامات المادية، والمتفاخرين من الشاطحين، الذين لَغَوْا في محاريب العبادة بما لا ينبغي.
وما كان محيي الدين، ولا ينبغي أن يُظن به — إذا حدثنا عن فتوحاته ومقاماته — ظن السوء، مِن دعوى الغرور والتباهي؛ فهو إنما يتحدث للعلم والإرشاد، وليضع يبن أيدينا تلك الكنوز التي تَفِيض بها كتبه، ويزخر بها تراثه.
وإذا أُكمل لمحيي الدين بعروجه في تلك المقامات ما قَدَّر الله له من منح وهبات؛ فقد آنَ له أن يتنقَّل في آفاق العالم الإسلامي هاديًا إلى الله بالطيب من القول والعمل، ومبشِّرًا بآياته، بالرائع من الحجة والبرهان، وسراجًا وهَّاجًا يرشد إلى النجاة، كما يرشد إلى الإيمان.