إلى الأرض المقدسة
فارق محيي الدين مكانه في المغرب، بعد تسعة أشهر إلا أيام، في العيش الأرغد الأهنى؛ لانحراف الحال بينه وبين سلطانه، معتزمًا الحج والعمرة، وزيارة سيد ولد آدم، ثم الإسراع إلى ثالث الحرمين وأولى القبلتين، ثم التطواف بالعالم الإسلامي.
ويؤرِّخ لنا محيي الدين، تلك الحقبة من حياته، فيقول بعد أن يتحدث عن خواطر نفسه، وعن ليلة ليلاء، طَوَّفَ فيها فكره، ثم استسلم أخيرًا إلى الكرى: «كُشِفَ لي في منامي عن نور العرش؛ فرأيت طيورًا حسنة تطير في زواياه، فرأيت فيها طائرًا من أحسن الطيور، فسلم عَلَيَّ، فأُلقي لي فيه أن آخذه صحبتي إلى بلاد المشرق، وكنت بمدينة مراكش؛ حين كُشف لي عن هذا كله، فقلت: وَمَنْ؟ فقيل لي: محمد الحصار، بمدينة فاس، سأل الله الرحلة إلى بلاد الشرق، فخذه معك، فقلت: السمعَ والطاعةَ، فقلت له — وهو عين ذلك الطائر: تكون صحبتي إن شاء الله.
فلما جئتُ إلى مدينة فاس سألت عنه فجاءني، فقلت له: هل سألتَ الله في حاجة؟ فقال: نعم، سألته أن يحملني إلى بلاد الشرق، فقيل لي: إن فلانًا يحملك، وأنا أنتظرك من ذلك الزمان؛ فأخذتُه صحبتي سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وأوصلتُه إلى الديار المصرية، ومات بها.»
رأى محيي الدين أرواح الصالحين، تطوف وتطير في نور العرش، ورأى رجلًا صالحًا تمثَّلتْ روحه في هيكل طائر جميل، وهذا الطائر أو هذا الرجل ينتظره ليذهب معه إلى المشرق؛ فعلم أنه قد أُذن له في الرحيل، والتقى بصاحبه على قَدَرٍ قد قُدِرَ، فوجَّها ركبهما معًا إلى أرض النيل، وهو في السابعة والثلاثين من عمره.
وفد محيي الدين إلى مصر، تتقدمه عواصف ضخمة حول: علومه، ومعارفه، وكشوفاته القلبية والروحية، وتلقَّاه العلماء ورجال الفقه بالجفاء؛ فعقدوا له حلقات المناظرة والجدل، ونفخوا عليه بالحقد والموجدة، فلم ينالوا من مكانته شيئًا، بل كانوا كما يقول اليافعي: حكمهم حكم ناموسة، نَفَخَتْ على جبل تريد إزالته.
فلما طُويتْ صحف علمهم، وبرزت آيته واضحة مبصرة، سعى به السفهاء من العلماء الذين يقتاتون بالحقد، ويتهجدون في محاريب الغل والحسد، إلى حاكم مصر، ناسبين إليه الإفك والبهتان والأغراض السياسية الخبيثة والأهواء الدينية المارقة، مطالبين بإعدامه وهَدْر مقامه؛ ولكن الله الذي رعاه بعنايته حَفِظه؛ فأتاح له رجلًا من رجال العلم والجاه، هو الشيخ أبو الحسن البجائي، القاضي الفقيه العابد، فشفع له لدى سيد مصر، ثم جمع بينهما؛ ففُتِن به حاكم مصر وأجلَّه، والتمس منه البقاء في مصر، وله من مناصبها ما شاء، فأبى محيي الدين شاكرًا ومقدِّرًا، ثم استأذنه في الذهاب إلى الحج؛ لأنه على عهد، فأذن له.
في بيت الله الحرام
وَلَّى محيي الدين وجهه قِبل المسجد الحرام، مشبوب العاطفة، ثائر القلب، إنه لمشوق إلى البيت المعمور، مشوق إلى المنبر والروضة والحبيب، مشوق إلى الأرض المباركة التي طَوَّفَ بها الأنبياء، وهبطتْ إلى ساحتها الملائكة، وفي ليلة من ليالي البدر، هادئة الريح معطرة الأنفاس، هبط محيي الدين إلى مكة.
يقول الفيروز آبادي: «لما وصل الشيخ إلى مكة — شَرَّفها الله — كان البلد إذ ذاك مجمع العلماء وَالْمُحَدِّثين، وأهل الفتيا والبيان؛ ولكن الشيخ نزل بينهم كالقمر بين النجوم؛ فكان هو المشار إليه بينهم في كل علم تكلموا فيه، وكانوا كلهم يسارعون إلى مجلسه، ويتبركون بالحضور بين يديه، ويقرءون عليه تصانيفه.»
ولزم محيي الدين بيت الله لا يفارقه، واتخذ من الركن اليماني محَجَّة ومدرسة، يُلقي فيها درسه، ويقرأ كتب الرجال، كالقُوت والإحياء، وفي بيت الله ألَّف أخلد كتبه وأبقاها على الحياة، بل أخلد كتاب، تفجَّر من ينابيع القلوب، وكشوف النور، وخزائن القرآن «الفتوحات المكية»، الكتاب الذي أعجز الأفكار والعقول في عصره، ولا يزال يعجزها، وسيعجزها ليكون حجة على الناس، وآية للعلم الرباني الموهوب للصفوة المختارة من عباده، وليضاف به صاحبه إلى الرعيل المجتبى، الذي يقول فيه — تبارك وتعالى: وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا.
يقول محيي الدين عن الفتوحات: «والأغلب فيما أودعتُه هذه الرسالة ما فتح الله به عَلَيَّ عند طوافي بيته الْمُكَرَّم، أو قعودي مراقبًا له بحرمه الْمُشَرَّف الْمُعَظَّم.»
وهو يُعلِّل الفتوح العظمى التي هبطتْ عليه بمكة، بقوله: وكما تتفاضل المنازل الروحانية كذلك تتفاضل المنازل الجسمانية، وقد تجد قلبك في مسجد أكثر مما تجده في غيره من المساجد، ويقول: إن الملائكة تعمر جميع الأرض، وأعلاهم رتبة، وأعظمهم علمًا ومعرفة: عَمَرَةُ المسجد الحرام. وعلى قدر جُلَسائك يكون وجودك؛ فإن لِهِمَم الجلساء في قلب الجليس تأثيرًا، وهِمَمُهم على قدر مراتبهم، وقد طاف بالبيت مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفًا سوى الأولياء، وما من نبي ولا ولي، إلا وقد ترك همَّتَه متعلقة به؛ لأنه البيت الذي اصطفاه الله على سائر البيوت.
هذا هو البيت، وذلك هو المقام، الذي فُتح له فيه معراج هبطتْ عليه فيه كشوفات الفتوحات المكية، ومن نور هذا المكان وجلاله، كان نور الفتوحات وجلالها.
لقد وجد قلبه هنا، ووجد آثار الهمم والعزمات، المتبقية من طواف الأنبياء والأولياء بالبيت المعمور، وعلى قدر الجلساء يكون الجليس، وعلى قدر المرتبة تكون الهمة، وعلى قدر الهمة يكون الأثر، وَمَنْ يُرِدْ أن يعرف همة محيي الدين، فليتمس بابًا لها بين منازل الفتوحات.