ما الرياضيات؟ ومَن الرياضي؟
في الفصل السابق، افترضتُ أن القرَّاء قد ينظرون إلى «الرياضيات» بوصفها تلك الموضوعات التي يدرسونها في المدرسة تحت هذا العنوان، وإلى «الرياضيين» بوصفهم أولئك الناس الذين يستمرون في دراسة الرياضيات حتى حياتهم كبالغين؛ لكنَّ التاريخ يتطلَّب منَّا أن نفكر في كلا المصطلحين بعناية أكثر. الخبرة أيضًا تتطلب هذا؛ فعندما أجد نفسي كمُعلِّمة في مدرسة، أقدِّم في يوم واحد درسًا عن النِّسَب المئوية، ونظريات الدائرة، وحساب التفاضل، أجد نفسي مضطرةً إلى أن أسأل نفسي: كيف يجتمع هذا النطاق العريض من الموضوعات غير المتشابهة تحت عنوان وحيد هو «الرياضيات»؟ من المحتمل أن يتفق معظم الناس مع العبارة العامة التي تقضي بأن الرياضيات مبنية على خصائص المكان والأعداد، ولكنْ كيف ينظرون عندئذٍ إلى ألغاز السودوكو الشعبية؟ هل هي من المساعي الرياضية أم لا؟ لقد سمعتُ رياضيين خبراء يؤكِّدون أنها كذلك، وآخَرين يؤكِّدون — بقدرٍ متساوٍ من القوة — أنها ليست كذلك.
تتبُّع بعض معاني كلمة «سوان»
الإجابتان صحيحتان، لكن وصفي «الطريقة» ليس واضحًا جدًّا، ومن المحتمل أن المقصود منهما كان التوضيح الشفهي بالأساس. إن التعليمات المعطاة خاصةٌ بالأعداد المذكورة في السؤال المطروح فقط، لكن أي قارئ متمرِّن سيكون قادرًا على تكييفها لأية مسألة مشابهة؛ بمعنى أن المسألتين تزوِّدانه بتقنية عامة. ومع ذلك، مِن غير المتوقَّع في النصِّ أن يكون القارئ قادرًا على فهم المنطق الكامن خلف الطريقة، فقط يُفترَض به أن يكون قادرًا على تطبيقها.
تظهر مسائل مشابهة أخرى في نَصٍّ متأخِّر بعنوان «جيو زانج سوان شو»، بمعنى كتابات عن «سوان شو»، في تسعة فصول، والمعروف عمومًا في الإنجليزية باسم «الفصول التسعة». تُظهِر التواريخ الرسمية أن النَّصَّ استُخدِم في بداية القرن الثاني بعد الميلاد، لكن شأن كتاب «العناصر» لإقليدس الذي وُضِع قبل ذلك بثلاثة أو أربعة قرون، فإننا لا نملك أية معلومات عن المؤلف، أو عن عملية إنشاء «الفصول التسعة»، أو عن النص الأصلي. إن النسخة الوحيدة التي وصلتنا هي تلك التي مَنَحَنا إيَّاها ليو هوي عام ٢٦٣ بعد الميلاد. وحتى نَسْخ ونَشْر محتويات «سوان شو شو» في عام ٢٠٠٠، فإن «الفصول التسعة» كانت أقدم نَصٍّ شامل مكرَّس لشرح اﻟ «سوان»؛ ولهذا فإن اكتشاف «سوان شو شو» لم يمكِّنْنا من إجراء مقارنات نصية مهمة فحسب، بل قدَّمَ للمؤرخين معلوماتٍ أعمقَ كثيرًا عن استعمالات وفوائد اﻟ «سوان» في السنوات المبكرة للصين الإمبراطورية.
واضح حتى من هذا السرد الموجز أن كلمة «سوان» لم تكن مرتبطةً بأي موضوع أساسي يمكن أن تضمَّه الكلمةُ المفردة «رياضيات». بدلًا من ذلك، فإنها كانت تشير إلى تقنيات ومهارات يمكن أن تُستخدَم في نطاقٍ من السياقات؛ من تطبيقات اﻟ «لي»، إلى الحسابات الفلكية المطلوبة في البلاط، إلى حسابات اﻟ «سوان شو» الأكثر عمليةً. والآن إذا تحوَّلْنا إلى الغرب اللاتيني، فهل يمكننا أن نجد مدًى مشابِهًا للممارسات المرتبطة بكلمة «رياضيات»؟
تتبُّع بعض معاني كلمة «رياضيات»
نحو عام ١٠٠ بعد الميلاد سرد الكاتب الروماني نيقوماخس أربعة أنظمة تتعلَّق بالتعددية والمقدار؛ وهي: الحساب، والموسيقى، والهندسة، والفلك. في نظر نيقوماخس كان الحساب — حساب التعددية (أو الأعداد) — والهندسة (دراسة المقادير)؛ هما الأكثر جوهريةً، بينما كانت الموسيقى تمثِّل علمَ علاقة التعدديات بعضها ببعض، وكان الفلكُ يعالج المقاديرَ أثناء الحركة. وبعد أربعة قرون وصف الفيلسوف بوثيوس هذه الأنظمة مجتمعةً باسم «الرباعية»، وإلى جانب «ثلاثية» المنطق والنحو والبلاغة، تكوَّنَتِ الفنونُ العقلية السبعة لمنهج الدراسة الأكاديمية في القرون الوسطى. وقد كتب بوثيوس نفسه رسائل عن الحساب والموسيقى دُرست في الجامعات الأوروبية في القرون الوسطى، وتُنسَب بعض الكتابات في الهندسة إليه أيضًا، ولكن مؤلِّفها الحقيقي غير مؤكد؛ إذ إن بوثيوس، مثل فيثاغورس، أصبح إلى حدٍّ ما رمزًا أسطوريًّا، يمكن أن تُنسَب إليه أعمال لاحقة.
يظل الحساب والهندسة في القلب من الرياضيات (فهما نشاطان، كما نتذكَّر، تمارسهما كلٌّ من إيرين وتاتيانا)، ولكن اتخذ الفلك والموسيقى الآن طريقَيْهما المنفصلين. جاء الانفصال في القرن السابع عشر عندما تزايدت صعوبةُ التوفيق بين النظرية الرياضية والممارسة الموسيقية، وعندما ناضَلَ علم الفلك ليحرِّر نفسه من ارتباطه الطويل بالتنجيم، ليصبح موضوعًا جديرًا بالاحترام في حد ذاته.
كيف لنا إذن أن نعرف على وجه الدقة ممَّ تَكوَّن النشاط الرياضي في أوروبا الغربية خلال القرون ما بين عام ٥٠٠ و١٥٠٠ ميلاديًّا؟ هل يمكننا أن ننفِّذ نوعَ دراسة «الرياضيات» نفسه كما فعلنا في حالة اﻟ «سوان»، مكتشفين معاني الكلمة عن طريق اختبار سياقات النصوص التي استُخدِمت فيها؟ هناك نصوص كثيرة جدًّا باقية من أوروبا الغربية، في هذه الفترة، أكثر من تلك التي جاءتنا من الصين الإمبراطورية الممعنة في القِدَم؛ لذا يستحيل عمل مسْحٍ كامل لها، ولكن كمعالجة أولى سنفحص تاريخًا رياضيًّا ألَّفَه العالِم الهولندي يوهان جيرارد فوسيوس، صاحب كتاب «دي ساينتيس ماتيماتيكيس» (الرياضيات العلمية)، الذي نُشِر في أمستردام عام ١٦٤٩، وذلك على النحو الذي يرتبط به بالكتَّاب الإنجليز.
قد يبدو غريبًا أن نرجع إلى عالِمٍ هولندي كي نأخذ معلوماتٍ عن التاريخ الفكري البريطاني، لكن معظم ما أَوْرَده فوسيوس عن المؤلفين البريطانيين كان مبنيًّا على العمل المبكر الذي أجراه دارس الأثريات القديمة البريطاني جون ليلاند. في عام ١٥٣٣، قبل حلِّ الأديرة بقليل، كلَّفَ هنري الثامن ليلاند ببحث المكتبات والكليات في المملكة ووَضْع قائمة بمحتوياتها. وعلى مدار السنتين أو السنوات الثلاث التالية وضَعَ ليلاند قائمةً بمحتويات نحو ١٤٠ مؤسسة دينية، وقد أحزنه كثيرًا التبديدُ اللاحق بها وفقدان الكتب؛ وفي عام ١٥٣٦ اشتكى إلى توماس كرومويل أن «الجرمان يدركون تراخينا وإهمالنا، ويرسلون يوميًّا باحثين شبَّانًا إلى هنا يُتْلِفون المكتبات ويمنعون شبابنا عنها.» لقد قدَّمَ ليلاند آخِر وأكبر تقرير شامل عمَّا احتوته المكتبات، وقد انتوى أن يصنِّف معجمًا عن الكتَّاب البريطانيين، يحتوي على نحو ٦٠٠ مدخل، لكنْ من المحزن أنه أُصِيب بالجنون قبل أن يُكمِله تمامًا. ومع ذلك فإن عمله النفيس قد قدَّرَه مؤرِّخون آخَرون، واعتمد عليه عددٌ كبير من الكتَّاب المتأخِّرين، منهم فوسيوس، بطريقة مباشِرة أو غير مباشِرة.
كان أول كاتب إنجليزي ذكره فوسيوس هو بيد، الذي كتب نحو عام ٧٥٠ بعد الميلاد، وأُدرِج تحت كلٍّ من «الفلك» و«الحساب». إن بيد، الذي أنفق معظم حياته في دير في جارو يقع في شمال غرب إنجلترا، معروفٌ جيدًا كمعلِّق على الإنجيل، وكمؤرِّخ كَنَسي، لكنَّ قليلين الآن قد يَعدُّونه من الفلكيين؛ إلا أن ثمة كتاباتٍ منسوبةً إليه عن القمر ودوراته، وتاريخ عيد الفصح، والكواكب، ودائرة البروج، واستعمال الأسطرلاب، وحساب الاعتدالين الربيعي والخريفي. ربما يكون بعض هذه الكتابات قد نسبه خطأً معلِّقون متأخِّرون إلى بيد، ولكنه كان على وجه القَطْع مهتمًّا تمامًا بتاريخ عيد الفصح، الذي كان يماثِل في أهميته للمسيحيين تعيينَ وقتِ الانقلاب الشتوي للأباطرة الصينيين القدماء. لم يكن هذا الحساب سهلًا؛ إذ يجب أن يأتي عيد الفصح في أول يوم أحد بعد القمر المكتمل (البدر) التالي للاعتدال الربيعي، وهكذا تطلَّبَ الحسابُ الصحيح لهذا التاريخ فَهْمَ كلتا الدورتين القمرية والشمسية، اللتين ليستا مرتبطتين بالطبع. إن وجود تقليدين مسيحيين في شمالي إنجلترا — الأيرلندي والروماني — أدَّى إلى تاريخين متعارضين، وحُلَّ هذا الموقف في النهاية في مجمع ويتبي الكَنَسي في عام ٦٦٤. ربما لم ينفِّذْ بيد الحساباتِ الضروريةَ بنفسه، لكنه عرف كلَّ العناصر ذات الصلة.
أصبح الحساب المتعلِّق بالأزمنة الكَنَسية في النهاية معروفًا باسم «حساب موعد عيد الفصح»، وظلَّ أساسيًّا خلال حقبة القرون الوسطى.
لم يظهر بعد بيد وتابِعه ألكوين أيُّ اسم إنجليزي آخَر في بيان فوسيوس لأكثر من أربعة قرون، إلى أن يُقابِلنا أديلارد من باث نحو عام ١١٣٠، الذي يبدو أنه سافَرَ إلى أرجاء فرنسا وصقلية وسوريا، وكان واحدًا من أوائل مترجمي أجزاء من كتاب «العناصر» لإقليدس من العربية إلى اللاتينية، وقيل أيضًا إنه كتب عن الأسطرلاب.
في القرنين الثالث عشر والرابع عشر بدأت أسماء (وتواريخها المفترضة) في الظهور في تواتُرٍ متزايدٍ، كلها تحت فئتَي «الفلك» و«التنجيم»؛ مثل: جون ساكروبوسكو (١٢٣٠) الذي ظلَّتْ كتاباتُه عن الأرض وموقعها عن الكون جزءًا أساسيًّا من منهج الدراسة الجامعية لأربعة قرون؛ وروجر بيكون (١٢٥٥) الذي وُصِف بأنه منجِّم؛ ووالتر أودمنيجتون (١٢٨٠) الذي قيل إنه كتب عن حركة الكواكب؛ وروبرت هولكوت (١٣٤٠) من نورث هامبتون، الذي قيل إنه كتب عن حركة النجوم؛ وجون إيستوود (١٣٤٧) المنجِّم؛ ونيكولاس لين (١٣٥٥) المنجِّم؛ وجون كيلنجوورث (١٣٦٠) الفلكي؛ وسايمون بريدون (١٣٨٦) الذي قيل إنه كتب في الطب والتنجيم والفلك؛ وجون سومر (١٣٩٠) المنجم، وغيرهم. بعد ذلك بدأت الأسماء في القرن الخامس عشر في الاضمحلال مرةً أخرى. من الواضح أن دراسات الفلك والتنجيم كانت في أَوْجِها في القرن الرابع عشر، وربما كانَتِ الصدمةُ المرعبةُ التي سبَّبَها الموت الأسود في عام ١٣٤٨، أحدَ العوامل المساعدة في ذلك. كثير من هؤلاء المذكورين ينتمون إلى جماعات دينية من الفرانسيسكان والدومينيكان والكارميليت، كثيرون أيضًا كانوا مرتبطين بأكسفورد، وخاصة بكلية مرتون، وبعضُ كتاباتهم محفوظةٌ إلى اليوم في مكتبات أكسفورد، وكلُّهم عَبَروا الحدودَ الغائمة بين الفلك والتنجيم مرارًا وتكرارًا.
على النقيض من هذه الكوكبة من الفلكيين، لم يظهر أيُّ كُتَّاب إنجليز في فصول فوسيوس عن الموسيقى، أو الضوء، أو الجوديسيات، أو الكوزمولوجيا، أو الكرونولوجيا، أو الميكانيكا، ولم يُذكَر سوى اسمَيْ جرفيز من تيلبوري وَروجر بيكون تحت الجغرافيا كراسمَيْ خرائط. وهكذا بالنظر إلى الوراء من منظور القرن السادس عشر، نجد أن الكتابات الرياضية في إنجلترا القرون الوسطى كان يتسيَّدها «حسابُ موعد عيد الفصح» والتنجيم.
كوَّنَ أربعة رجال شركةً، دفع الأول ثلثَ التكلفة كلها، ودفع الثاني ربعها، ودفع الثالث خمسها، ودفع الرابع سدسها، وكان الربح ٦٠ وحدة، ما نصيب كلٍّ منهم من الربح؟ هذه المسألة في حقيقتها هي المسألة نفسها حين نقول إن أربعة رجال اشتروا خنزيرًا مقابل ٦٠ وحدة، ويريد الأول ثلثَ الخنزير، ويريد الثاني رُبْعَه، والثالث يريد خُمْسَه، والرابع سُدْسَه …
وقد أشار ليوناردو نفسه إلى وجهين لهذه المسألة، وهي مكافئة من الناحية الرياضية لمسألة الثعلب والكلب والقط البري التي وردت في «سوان شو شو». المسألة التالية تعكس شئون إيطاليا المعاصرة وقتَها، وهناك مئات من الأسئلة النموذجية عن تحويل العملات أو المواد. في الوقت نفسه، إنها تُظهِر أنه بعد ديوفانتس بنحو عشرة قرون، كان هناك نوع آخَر من الحساب ما زال مزدهرًا في الإسكندرية.
على الرغم ممَّا تلقَّوْه من تعليم، لم يَرَ فوسيوس ومصادره في شمالي أوروبا كتابَ «ليبر آباكي»، بل سمع عنه فوسيوس فقط من خلال الشائعات، وحدَّدَ تاريخه خطأً بفارق قرنين. إن النشاط الرياضي يمكن أن يكون محليًّا تمامًا.
أيضًا كانت الرياضيات مرتبطة بزمنها؛ ففي حقبة العصور الوسطى كان معظم العناوين التي اخترعها لاحقًا دي وفوسيوس غير ذات فائدة بدرجة كبيرة، على الأقل في إنجلترا. وفي نهاية القرن السادس عشر، عندما دخلت بريطانيا أيضًا العالَمَ الأكثر اتساعًا، لم تَعُدْ هذه هي الحالة. إن توماس هاريوت، الذي باشَرَ أبحاثه نحو عام ١٦٠٠، ترك كتابات عن الضوء والمقذوفات والخيمياء والجبر والهندسة والملاحة والفلك. وفي خلال ذلك الوقت، نشر معاصِرُه سايمون ستيفن في هولندا سلسلةَ موضوعات شبيهة، ولكنْ بدلًا من الملاحة كتب في مسائل أخرى أوثق صلةً (به) مثل الأقفال والصمامات. إن حساب موعد عيد الفصح والتنجيم أفْسَحَا الطريقَ لصالح الأنشطة الرياضية الخاصة بنظامٍ عالميٍّ جديد.
ما الرياضيات؟
ما هي إذن الرياضيات من المنظور التاريخي، هذا إذا كان هناك وجود بالفعل لمثل هذا الكيان؟ يجب أن يكون واضحًا الآن أن النشاط الرياضي اتَّخَذَ أشكالًا متعددة، تجمعها على نحوٍ فضفاض حقيقةُ أن هذه الأنشطة تتطلَّب نوعًا ما من القياس أو الحساب. والإجابة الأكثر دقةً يجب أن تعتمد بشدةٍ على الزمان والمكان. هناك اعتبارات عامة قليلة؛ فكلُّ المجتمعات المنظَّمة تحتاج إلى تنظيمِ التجارة والحفاظِ على الوقت، وهما الأمران اللذان كانا هدفين لكلٍّ من «سوان شو» و«سوان لي» على الترتيب في الصين الإمبراطورية البالغة القِدَم، أو أهداف المِعداد أو عملية حساب موعد عيد الفصح الإمبراطورية في أوروبا القرن الثالث عشر. إن ممارسي هذه التقنيات المتعددة من المحتمل أنهم كانوا من مراتب اجتماعية مختلفة للغاية. كانت تعاليم «سوان شو» والمِعْداد موجَّهةً للتجار أو الموظفين، بينما كان «سوان لي» وحساب موعد عيد الفصح فرعَيْ معرفةٍ للمتخصصين ذوي المرتبة العالية في الصين، وللرهبان والباحثين في أوروبا القرون الوسطى. وفي سياقات مختلفة على مدار قرون عديدة تكرَّرَ الانفصال في المكانة والاحترام بين أولئك الذين يملكون قدرًا كافيًا من التعليم كي ينهمكوا في الرياضيات «الأعلى»، التي تتطلَّب عادةً مستوًى معينًا من القدرة على التفكير المجرد؛ وبين التجار والحرفيين الذين يعملون مع الرياضيات «العامة» أو «الشائعة».
مع تزايد المجتمعات من حيث التعقيد، صارت متطلباتها الرياضية أكثر تعقيدًا هي الأخرى. إن القائمة الطويلة من الموضوعات التي اقترحها دي — حتى إذا كان بعضُها لا داعيَ له — تشير إلى مدًى واسعٍ من الأنشطة التي تُستخدَم فيها الخبرة الرياضية. هذه الموضوعات تُعرَف مجتمِعةً باسم «الرياضيات المختلطة»، وهو ما ينمُّ عن أن «الرياضيات» كانت جزءًا متكاملًا من كلٍّ منها (ليس هذا مساويًا في معناه لما هو مقصود بمصطلح «الرياضيات التطبيقية» الذي سيأتي لاحقًا، الذي فيه تُستخدَم الرياضيات لتحليل موضوعات خارجة عن نطاقها).
ليس هناك سبب لافتراض أن الدروس التي عُلِّمت في الصين الإمبراطورية أو في أوروبا القرون الوسطى، لم تمتد إلى مجتمعات أخرى أيضًا؛ فلا يوجد كيان معرفي واحد من المعلومات نستطيع أن نُطلِق عليه اسم «رياضيات»، ولكن نستطيع أن نتعرَّف على مناهج وأنشطة رياضية كثيرة. كما تَبايَنَ مقدارُ ما يتمتَّع به كلُّ نشاطٍ من أهمية أو مكانة، على حسب الوقت أو المكان.
مَن الرياضي؟
أَمَا وقد بدأنا في تحديد نطاق الأنشطة التي شكَّلَت الرياضيات، فهل يمكننا أن نقول مَن ينطبق عليه وصْفُ الرياضي ومَن لا ينطبق عليه هذا الوصف؟ يُوصَف الأربعة جميعهم؛ فيثاغورس وديوفانتس وفيرما ووايلز، بأنهم رياضيون، والثلاثة الأوائل منهم متوفَّوْن، ذُكِرت أسماؤهم في عمل مرجعي قياسي هو «قاموس سِيَر الرياضيين». ومع ذلك لم يكن لأيٍّ منهم أن يدرك كُنْهَ اللقب الذي مُنِحه؛ فليست لدينا فكرةٌ على وجه الإطلاق عن الكيفية التي كان لفيثاغورس أن يصف بها نفسه. ربما رأى ديوفانتس نفسه كممارس للحساب، ليس الحساب اليومي بحسب تعاليم «سوان شو» أو المِعداد، ولكن «الحساب الأعلى» الذي يسبر غَوْرَ بعض الخصائص المبهمة أو الصعبة للأعداد الطبيعية. أما فيرما، على الجانب الآخَر، فقد يقول عن نفسه إنه «هندسي»؛ إذ كانت الهندسة عندئذٍ هي الفرع الأكثر رسميةً واحترامًا في الفروع الأربعة، وقد ظلَّ هذا الوصف هو الوصف القياسي للرياضي الأكاديمي في فرنسا حتى القرن التاسع عشر. أما عن الرابع، وايلز، فأعتقد أنه بلا أي تحفُّظ سيسمِّي نفسه رياضيًّا.
تحظى الرياضيات بقدر كبير من الاحترام، بل التوقير أيضًا، ولكن من واقع ما قيل بالفعل في هذا الفصل، يمكن بسهولة رؤية لماذا لم تكن هذه هي الحال دومًا. زعم جون من ساليسبوري في القرن الثاني عشر أن ممارسة «الرياضيات»، بمعنى التكهُّن بالمستقبل من أوضاع النجوم والكواكب، نشأت من تعاون مشئوم بين البشر والشياطين، وأنها مثل قراءة الكف والعِرافة (تأويل أنماط طيران الطيور)، كانت مصدرًا للشر. وفي عام ١٥٧٠ سُجِن جيرولامو كاردانو — طبيب ومؤلِّف لكتاب رائد في الجبر في عصر النهضة — لأنه تنبَّأ بخريطة البروج للمسيح، واعتُقِل توماس هاريوت في عام ١٦٠٥ بتهمة الاشتراك في «مؤامرة البارود»، ولم يُستجوب في الأساس بشأن المؤامرة نفسها، وإنما عن حقيقة امتلاكه خريطةَ بروج للملك جيمس الأول مثبتة على حائطه، وفي أواخر القرن السابع عشر كتب جون أوبري عن رجل الدين الريفي ومدرس الرياضيات ويليام أوتريد، قائلًا إن «أهل الريف اعتقدوا أنه يستطيع أن يستحضر الأرواح». ففي بداية أوروبا الحديثة كانت ممارسةُ «الرياضيات» نشاطًا لا يخلو من المخاطر، سواء للممارس أم لموضوعاته المفترضة.
في الحقيقة إن كلمة «رياضي» بدأ استخدامُها بانتظام في الكتابات الرياضية الإنجليزية فقط اعتبارًا من عام ١٥٧٠. في البداية، استُخدِمت الكلمة أساسًا للمؤلفين الأجانب، ولكن فيما بعدُ استُخدِمت في سياقَيْن مستقلَّيْن تمامًا: لوصف المدفعيين والمنجمين. بعد إعادة الملكية عام ١٦٦٠ بدأ استخدام الكلمة على نحوٍ أكثر عموميةً لوصف كتَّاب الحساب أو الهندسة، ولكنها ظلت تصف المنجمين كذلك. في الوقت نفسه أصبحت توقُّعاتُ «المنجمين الرياضيين» موضوعًا منتظمًا للهجاء والسخرية. إن الارتباط الطويل بين الرياضيات والتنجيم يساعد على توضيح لماذا فضَّلَ الأكاديميون تحاشِيَ هذا المصطلح. وعندما أسس هنري سافيل كرسيَّيْن للرياضيات في جامعة أكسفورد في عام ١٦١٩ — وكانَا للهندسة والفلك — كانت هناك تعليمات صارمة بأن الثاني يجب ألَّا يتضمَّن أيَّ نشاطٍ تنجيمي. إلى يومنا هذا تضم جامعة كامبريدج منصبَ «أستاذ كرسي لوكاس للرياضيات»، في حين أن المعادل لهذا المنصب في أكسفورد هو منصب «أستاذ كرسي سافيل للهندسة». وكي لا نظن أن ارتباط الرياضيات بالتنجيم كان مجرد ظاهرة أوروبية، دعونا نضع في اعتبارنا أن المصطلح الصيني الحديث للرياضيات كان يعني تقليديًّا دراسةَ الأعداد في سياق العِرافة.
باختصارٍ، إن «الرياضيين» على النحو الذي نفهم به المصطلح الآن، هم اختراع أوروبي حديث؛ فعلى مدار التاريخ الطويل للنشاط الرياضي، لم يوجد رياضيون بالمعنى الحديث إلا لوهلة بسيطة، وإذا أردنا تقديرَ التاريخ الرياضي بدقة، فمن الضروري ألَّا نُسقِط الصورةَ الحديثة للرياضيين على الماضي؛ ولهذا السبب يفضِّل المؤرخون استخدامَ أوصافٍ أكثر دقةً مثل «كاتب» أو «راسم للكون»، أو «متخصِّص بالجبر»، أو مصطلحات أكثر عموميةً مثل «ممارِس رياضي». هناك شيء واحد مؤكَّد؛ أن تاريخ الرياضيات ليس هو ذاته تاريخ الرياضيين.