كيف تنتشر الأفكار الرياضية؟
قدَّمَ الفصل السابق استعراضًا واسعًا للنشاط الرياضي في أزمنة وأماكن مختلفة. إحدى طرائق دراسة تاريخ الرياضيات؛ تحديدُ ما فعله الناس حقًّا. لكنَّ المؤرخين يريدون دائمًا توجيهَ المزيد من الأسئلة، ليس فقط بشأن ما عرفه الناس، وإنما بشأن كيفية توصيلهم الأفكارَ بعضهم لبعض، وتوصيلها لمَن عاشوا بعدهم؛ كيف نُقِلَت الأفكار الرياضية من شخص إلى آخَر، ومن ثقافة إلى أخرى، ومن جيل إلى آخَر؟ (تَذكَّرْ ما أثرتُه في الفصل الأول: كيف تعرَّفَ فيرما على ديوفانتس، وكيف تعرَّفَ وايلز على فيرما؟)
وامتدادًا لهذه الأسئلة نسأل: كيف استطاع مؤرِّخو الرياضيات أنفسهم أن يعرفوا رياضيات الماضي؟ ما المصادر التي نملكها؟ وكيف انتهت إلينا؟ وما مدى الثقة بها؟ وكيف نستطيع أن نتعلَّم قراءتها؟ سيتناول هذا الفصل الطريقةَ التي انتقلت بها الأفكار الرياضية أحيانًا لمسافاتٍ طويلة في الزمان والمكان، كذلك يبيِّن كيف أنها في أحيان كثيرة لم تنتقل بعيدًا.
الهشاشة والندرة والغموض
إن أولئك الذين تصوَّروا، مستريحين، أن الرياضيات بدأت بفيثاغورس، ربما يصابون ببعض الارتباك حين يكتشفون أن الرياضيات المعقَّدة بدأت ممارستها قبل ما يزيد على الألف عام من وقت فيثاغورس في مصر، وفي المنطقة التي يوجد بها العراق الحديث. عاشت الحضارتان المصرية والبابلية في الألفيتين الأولى والثانية قبل الميلاد، إحداهما على مقربة من الأخرى، ولكننا نعرف عن الرياضيات في بابل أكثر كثيرًا ممَّا نعرفه عنها في مصر؛ وذلك لسبب بسيط جدًّا؛ أَلَا وهو أن الألواح الطينية التي استُخدِمت كمادة للكتابة على امتداد نهرَيْ دجلة والفرات كانت متينةً ومعمرةً، بينما لم يكن ورقُ البردي المستخدَم في منطقة النيل كذلك. استُخرِجت آلاف الألواح بالحفر من العراق، وكثيرٌ منها كان به محتوًى رياضيٌّ، ويظل الآلاف منها مدفونًا على الأرجح إذا لم تكن قد حُطِّمت عندما وطِئَتْها الدبابات، أو سُلِبت في خضمِّ الفوضى التي ضربت المنطقة مؤخرًا. أما على الجانب الآخر، في مصر، فإن عدد النصوص الباقية والأجزاء يمكن أن يُعَدَّ على أصابع ثلاث أيدٍ، وهي مبعثرة على امتداد ألف عام من التاريخ. إن المكافئ بالنسبة إلى بريطانيا سيكون عددًا قليلًا من النصوص من زمن الفتح النورماندي، وعددًا قليلًا من القرن التاسع عشر. من الواضح أن النصوص المصرية الباقية لا تقدِّم لنا سوى منظور ضيق، وفي الوقت نفسه ستترك مجالًا كبيرًا للتخمين والتخيُّل بشأن النشاط الرياضي في مصر القديمة.
في الهند وجنوب شرق آسيا وأمريكا الجنوبية، كان الموقف مشابِهًا بدرجة كبيرة له في مصر؛ فقد دمَّرَ المناخُ الموادَّ الطبيعية مثل الخشب أو الجلد أو العظام، حتى إن المؤرخين كان عليهم أن يبذلوا أحسنَ ما يستطيعون بعددٍ قليلٍ جدًّا من النصوص التي حُفِظت على نحوٍ رديء. من الواضح أن ندرة المادة تشوِّه صورتنا عن الماضي. يجب أن نتساءل عمَّا إذا كان ما ظلَّ باقيًا مماثِلًا لما قد فُقِد أم لا، علمًا بأن من شأن اكتشاف جديد وحيد (مثل «سوان شو شو» في الصين) أن يغيِّر جذريًّا إدراكَنا ثقافةً رياضية كاملة. في الوقت نفسه، ربما كان نقْصُ النصوص له بعض فوائد؛ ذلك أنه أجبَرَ المؤرخين على أن يوسعوا بحثَهم عن المصادر. إن التقارير الحكومية، على سبيل المثال، يمكن أن تُظهِر عمليات العدِّ والقياس التي كانت تُجرَى في الحياة اليومية. وقد حسَّنَتِ البراهين والأدلة الأثرية معلوماتنا عن كيفية تصميم وتخطيط وإنشاء الأبنية، وعن الحسابات التي لا بد أنها قد دخلت فيها (لأنه ليس لدينا أيُّ دليل مباشِر عن الحسابات التي دخلت في عملية بناء أثر ستونهنج أو الأهرامات). وعندما تتنوَّع المصادر؛ كالصور والقصص والقصائد، فربما تتضمَّن إشاراتٍ عن المعرفة الرياضية المعاصرة.
إن ارتفاعَ جبلٍ مضروبًا في أي مضاعف هو المسافة إلى مدينة؛ إنها لا تُمحَى. وعندما يقسم بالمضاعف ويزاد بمقدار الضعف، فإنه يكون وثبة أحد شخصين يقومان بالرحلة.
لفهم هذه المسألة يحتاج القارئ أن يعرف أن مسافرًا ينزل جبلًا، ويمشي على طول سهل ممتد إلى مدينة، بينما الآخَر يثب على نحوٍ سحري من قمة جبل إلى ارتفاع رأسي أكبر، ويطير على امتداد وتر المثلث القائم الزاوية، ولكنه في عمل هذا يجتاز بالضبط المسافةَ نفسها. بالنسبة إلى طالبٍ في ذلك الوقت، هذه المسألة ربما تكون من النوع القياسي (صورة أخرى من مسألة القرود التي تثب من على الأشجار)، ومن المحتمل أنها كانت تُوضَّح من خلال تفسيرٍ شفهيٍّ، ولكنْ بالنسبة إلى قارئ في القرن الحادي والعشرين، ليست لديه معلوماتٌ عن السنسكريتية أو المصطلحات الرياضية من القرن السابع، فإنها للوهلة الأولى تبدو مُربِكةً.
وهكذا فإن أي ترجمة حَرْفية لنصٍّ غيرِ مصقولٍ، ليس من المرجح أن تنقل الكثيرَ إلى غير المتخصِّص. ومن الطرق القديمة للالتفاف حول هذه المشكلة، أن يضيف المترجمون (أو الناسخون) حواشيَ أو رسومًا توضيحية؛ فكلُّ النصوص الرياضية المهمة بها طبقاتٌ متراكمة من التعليقات بهذه الطريقة. من الطرق الأخرى أن يُترجَم النصُّ إلى رموزٍ رياضية معاصرة؛ ربما يجد القارئ الذي يرغب في أن يجرِّب هذا الأمرَ مع مسألةِ مسافري الجبل، أن هذا يجعل المسألة أوضح كثيرًا. إن استخدام الرموز والملحوظات الجبرية الحديثة يمكن أن يُعِين بوصفه طريقةً تمهيدية لفهم رياضيات الماضي، لكنْ يجب ألَّا يتمَّ الخلطُ بينه وبين ما كان الكاتب الأصلي يحاول «حقًّا» أن يفعله، أو ما كان له أن يفعله لو كان يتمتَّع بمزية التعليم الحديث. على أحسن الفروض، مثل هذا التحديث يُضفِي غموضًا على الطريقة الأصلية؛ وعلى أَسْوَئها، فإنه قد يؤدِّي إلى سوء فهم خطير.
إن قصة ترجمة النصوص البابلية مشابهةٌ؛ هنا لدينا اللغة السومرية، التي لا علاقةَ لها بأية لغة باقية؛ والأكادية، وهي لغة سابقة للعربية والعبرية؛ والكتابة المسمارية، المحفورة في الطين الرطب بقصبة حادة. لقد ترجَمَ ونشَرَ أوتو نويجيباور وفرانسوا ثورو دانجين عددًا من النصوص الرياضية، خلال ثلاثينيات القرن العشرين، وبعد ذلك بسنوات عديدة اعتُقِد أن المهمة اكتملت تقريبًا. لكن هذه الترجمات المبكرة حوَّلَتْ غالبًا تقنياتِ الحساب القديمة في بلادِ ما بين النهرين إلى مكافِئاتها الجبرية الحديثة؛ مما جعل الطبيعة الحقيقية لِمَا كان المؤلف الأصلي يفكِّر فيه ويفعله في الواقع أمرًا مبهمًا، وفي الوقت نفسه جعلت الحسابات تبدو أكثر بدائيةً. فقط في تسعينيات القرن العشرين، تُرِجمت مجموعات كثيرة من الألواح من جديدٍ بعنايةٍ أكثر من اللغة الأصلية؛ على سبيل المثال: إن كلمات تعني حرفيًّا «يُقطع إلى نصفين» أو «يُلحِق» تحمل أفعالًا مادية تضيع تمامًا في الترجمات المجردة مثل «اقسم على اثنين» أو «أَضِفْ»، وتعطينا نظرة أحسن كثيرًا للكيفية التي تُفهَم بها المسائل أو يتمُّ تعليمها.
إن القيام بقراءة وترجمة النصوص هو جزء واحد فقط من عمل مؤرِّخي الرياضيات القديمة، وإنْ كان جزءًا مهمًّا للغاية. الجزءُ الثاني هو تفسيرها داخل سياق نصوصها. أحيانًا يكون هذا ببساطةٍ مستحيلًا؛ فكثير من نصوص الشرق الأوسط اكتُشِف بالحفر أو أُعِيد اكتشافه في القرن التاسع عشر، بما في ذلك تقريبًا كل النصوص الهيراطيقية المصرية ومئات من الألواح المسمارية البابلية القديمة، وانتقلت ملكيتها في سوق الأشياء الأثرية دون أن تحمل أي أصل معروف. وللأسف لا يزال كثيرٌ من الأشياء المنهوبة أو المسروقة يُشترى ويُباع بهذه الطريقة حتى يومنا هذا.
إن هشاشة النصوص الرياضية وندرتها لا تتحسَّنان إلا قليلًا، عندما نتحرك إلى الأمام من العالَم القديم إلى العصور الوسطى. وحتى الوثائق التي حُفِظت في المكتبات بعنايةٍ ليست دائمًا آمِنةً. هناك روايات متعددة، يستحيل التحقُّق منها الآن، عن تخريب مكتبة الإسكندرية في أوقات الصراعات، وبالتأكيد كانت قابلةً للاشتعال كأيِّ مكتبةٍ فيما قبل العصر الحديث تضمُّ الكتب والمخطوطات. إن القرَّاء في مكتبة بودلي بجامعة أكسفورد ما زالوا مُطالَبين بأن يُقْسِموا على «ألَّا يُحْضِروا إلى المكتبة، أو يشعلوا بها، أية نيران أو لهب، وألَّا يدخِّنوا في المكتبة»، وهذه تذكرة بأيامٍ كانت فيها هذه الأنشطة تسبِّب دمارَ الكتب وهلاكَ البشر على السواء.
لقد رأينا مجهودات جون ليلاند في تسجيل محتويات مكتبات الأديرة، ولكنه لم يستطع أن يصون إلا نسبة بسيطة من المجموعات نفسها عندما دُمِّرت هذه المكتبات في النهاية، وتفرَّقَتْ محتوياتها. كانت هناك أخطارٌ أخرى كذلك؛ فقد ألقَتْ كلية ميرتون في أكسفورد عددًا هائلًا من كتب المخطوطات خلال القرن السادس عشر، عندما حُدِّثت إلى النصوص المطبوعة، وعلى الرغم من أن بعضها قد أُنقِذ على يد هواة يَقِظون، فإن عددًا كبيرًا بالتأكيد لم يُنقَذ. في عام ١٦٨٥ اشتكى جون واليس بمرارة، كما فعل ليلاند قبل ذلك بأكثر من قرن، من سرقة مادة قيِّمة: مقدمتين من القرن الثاني عشر من مخطوطة في كلية كوربس كريستي «اقتُطِعَتَا مؤخرًا (بيدٍ غير معروفة)، وحُمِلتا بعيدًا.» كان يأمل أن يكون «مَن أخذهما من اللطف (بطريقة أو بأخرى) بحيث يحفظهما»، لكنَّ أمله ضاع هباءً؛ إذ لا تزال المقدمتان مفقودتين.
أخشى أن أوراق السيد وارنر العلمية، بالإضافة إلى إسهامي فيها بقدرٍ ليس باليسير، ستقع في أيدي مَن يستولي عليها، وسُتوزَّع على نحوٍ يجافي القسمة الرياضية العادلة على الحاجزين والدائنين، الذين لا شكَّ أنهم سيقرِّرون أن يُنَصِّبوا من أنفسهم — وقد واتَتْهم الفرصةُ للمرة الأولى في حياتهم — أمناءَ على عالَم الأرقام، فيصوِّتوا جميعهم لقرار التخلُّص من الأوراق حرقًا.
الكتب المطبوعة تمامًا مثل المخطوطات سريعةُ التأثُّر بالنار والطعام والحشرات والإهمال البشري، ولكنْ لأنَّ نُسَخًا كثيرة تُنتَج، يكون من المرجَّح بدرجةٍ أكبر أن تبقى. إلا أن تلك التي تصل إلينا، من غير المرجح أن تكون نُسَخًا طبق الأصل مما وُجِد في الماضي. إن مجلدًا مكلفًا موجودًا في مكتبةِ سيدٍ راقٍ، يكون الأكثر ترجيحًا أن يبقى لمدةٍ أطول مقارَنةً بجدول حسابٍ يمتلكه حِرَفِيٌّ ويُكْثِر من تقليب صفحاته، بَيْدَ أنه لن يخبرنا الكثير عمَّا كان يُقرَأ ويُستخدَم بالفعل.
إن تكوين فهم حقيقي للماضي يشبه دائمًا محاوَلةَ تركيبِ أحجيةِ صورٍ مقطعة، تكون فيها أغلب القطع مفقودة، ولا توجد صورة في الصندوق. على الرغم من ذلك، فإنه من الجدير بالملاحظة أن لدينا نصوصًا رياضية باقية منذ قرون، بل منذ ألوف السنين. في أغلبها، ليس لمحتوياتها سوى أهمية تاريخية بحتة؛ فلا أحد الآن يحسب بطريقة الكسور المصرية، إلا كتمرينٍ مدرسيٍّ، والبقية الوحيدة من النظام البابلي الستيني هي تقسيمنا الدقيق والغريب للساعة إلى ستين دقيقة، والدائرة إلى ثلاثمائة وستين درجة. لكنَّ نصوصًا أخرى بقيت حاضرةً بدرجة قوية، من خلال الاستخدام المستمر والترجمة، ومن الممكن أحيانًا تتبُّع الخط المتصل الخاص بها من الماضي إلى الحاضر. المثال الرائع لذلك هو كتاب «العناصر» لإقليدس، الذي ذُكِر أكثر من مرة، ومن دونه لا يمكن أن يكون تاريخُ الرياضيات كاملًا. إن دراسةَ ما يُسمَّى أحيانًا «تاريخ نقل» كتاب «العناصر»، يخبرنا الكثيرَ عن الكيفية التي حُفِظت بها الأفكار الرياضية من الماضي، وعُدِّلت ونُقِلت إلينا.
الحفظ عبر الزمن
إن الملحوظات التي ذكرتُها أعلاه عن هشاشة المصادر المصرية تنطبق تمامًا على نصوص العالَم القديم المتكلِّم بالإغريقية، التي كُتِبت أيضًا على أوراق البردي. نحن نتصوَّر، من المَراجع المعاصرة لبعض أعمال إقليدس، أنها كُتِبت نحو عام ٢٥٠ قبل الميلاد، إلا أن أقدم نصٍّ باقٍ من كتاب «العناصر» يعود إلى عام ٨٨٨ بعد الميلاد؛ هذا يمثِّل أكثر من ألف عام من النَّسْخ وإعادة النَّسْخ، بكل ما يحتويه ذلك من أخطاء وتغييرات وتحسينات؛ فكيف يمكننا أن نعلم أن النص الذي لدينا الآن مطابِقٌ للأصل؟ الإجابة أننا لا نستطيع. في حالة كتاب «العناصر»، لدينا تعليقات شاملة من كتَّاب إغريق لاحقين مثل بابوس (٣٧٠ بعد الميلاد)، وَثيون (٣٨٠ بعد الميلاد)، وَبروكلوس (٤٥٠ بعد الميلاد)؛ تخبرنا كيف أن النص ظهر في القرنين الرابع أو الخامس قبل الميلاد. لقد عاش هؤلاء الرجال أقرب جدًّا منَّا إلى زمن إقليدس، ومع ذلك فقد فَصَلَتْهم قرونٌ متعددة عن النسخة الأولى لكتاب «العناصر». إن الطريقة الوحيدة التي يمكن للمؤرخين بها أن يصلوا إلى النص الأصلي، هي أن يُنشِئوا «شجرة عائلة» للمخطوطات الباقية، وذلك عن طريق ملاحظة مواضِع الأخطاء أو التغييرات بين نصٍّ وآخَر؛ وبهذه الطريقة يمكنهم أن يأملوا أن يرجعوا إلى «النسخة الأم»، لكنه عمل مجهد لا يضمن أنه سيعود بالمرء إلى المصدر الحقيقي والوحيد.
إن أقدم مخطوط باقٍ لكتاب «العناصر»، من عام ٨٨٨ بعد الميلاد، مكتوبٌ بالإغريقية، وكان محفوظًا في بيزنطة. ولكن عندما انتشر الإسلام في المناطق القديمة المتكلِّمة بالإغريقية من البحر المتوسط، تُرجِم النصُّ أيضًا إلى العربية. يستطيع المرء أن يتخيَّل الصعوبات التي ربما واجَهَها المترجمون المسلمون الأوائل بمقارَنة عملهم بعمل روبرت ريكورد بعد ذلك بقرون عديدة؛ من غير المرجح أن العربية — لغة القبائل البدوية — احتوَتْ كلمات جاهزة لمفاهيم الهندسة الإغريقية. وعلى الرغم من ذلك، فإن المترجمين العرب حفظوا نصوصًا عديدة من الاندثار.
وهكذا فإن معظم الترجمات الباقية لكتاب «العناصر» إلى اللاتينية لم تُنقَل عن الإغريقية؛ اللغةِ التي كانت قد اندثرت تقريبًا عندئذٍ في أوروبا الغربية، ولكن من المصادر العربية في إسبانيا أو صقلية. إن أديلارد من باث، الذي قابلناه فيما سبق، كان واحدًا من أولئك المترجمين، وكان هناك آخَرون متعدِّدون في القرن الثاني عشر؛ باحثون من شمالي أوروبا، سافروا إلى الجنوب بحثًا عن المعرفة التي يمكن أن يجدوها هناك. وفي النهاية، وبينما كانت المعرفة بالإغريقية تزدهر ببطء، كانت الترجمات تجري مباشَرةً أيضًا من المصادر الإغريقية.
خلال القرن السادس عشر تتابعت النُّسَخ المطبوعة بسرعة، أولًا باللاتينية والإغريقية، وبعد ذلك بلغات إقليمية متعددة. وقد أدرج روبرت ريكورد معظمَ المادة الموجودة في الكتب الأربعة الأولى من كتاب «العناصر» في كتابه «الطريق إلى المعرفة» عام ١٥٥١، ثم أدرج المزيدَ من المواد الأصعب من الكتب المتأخِّرة في مطبوعته الأخيرة «شاحذ العقل» في عام ١٥٥٧. نُشِرت أول ترجمة كاملة باللغة الإنجليزية لكتاب «العناصر» على يد هنري بيلنجسلي في طبعة فاخرة عام ١٥٧٠؛ وقد احتوت على «الخريطة العظمى» لِدِي، وهي أيضًا أول نَصٍّ إنجليزي معروف يضع كلمةَ «رياضي» على صفحة العنوان.
على مدار القرون الأربعة التالية كان هناك المزيد من الترجمات والطبعات، مع تكيُّف المحرِّرين مع الحاجات المتغيِّرة للعصر. في منتصف القرن العشرين خرج كتاب «العناصر» نهائيًّا من المناهج المدرسية (وعلى الرغم من أن محتوياته ليست كذلك، فإن مدارس الأطفال ما زالت تُعلِّم كيفيةَ إنشاء المثلثات وتنصيف الزوايا)؛ بَيْدَ أنه لم يختفِ من المجال العام. وتوجد حاليًّا طبعةٌ تفاعلية حديثة على الإنترنت تمثِّل أحدث الابتكارات في سلسلة طويلة من عمليات الترجمة والتعديل لكتاب «العناصر» بحيث يناسب كل جيل جديد.
إن كتاب «العناصر» كان فريدًا في انتشاره وطول بقائه، لكن قصة حفظه هي القصة النموذجية لنصوص إغريقية أخرى كثيرة، منها كتاب «الحساب» لِديوفانتس، الذي منه ظهرت نظرية فيرما الأخيرة. وبالنسبة إلى معظم النصوص الكلاسيكية، يمكن رواية قصة مشابهة حول التعليقات المبكرة والترجمة إلى العربية، ثم الترجمة المتأخِّرة إلى اللاتينية، ثم النشر المطبوع النهائي من المصادر الإغريقية. كان هناك استثناء واحد فقط؛ إعادة الاكتشاف الإعجازي في بدايات القرن العشرين لنصٍّ مفقودٍ لأرشميدس، تمَّ تمييزه بالكاد أسفل كتابات وتصاوير قديمة على صفحات كتاب صلوات بيزنطية. مثل هذه الاكتشافات شديدة الندرة، وتذكِّرنا مرةً أخرى بالمقدار الذي ضاع من رياضيات كل ثقافة.
الحفظ عبر المسافات
لقد جمعت المساحة وطول ضلع المربع، فكان ذلك ٠٫٤٥.
مربع و٢١ وحدة يساوي ١٠ جذور.
هل هي مصادفة أن نوع المسألة نفسه، مع نوع الحل نفسه، ظهر مرةً أخرى بعد عدة قرون في الجزء نفسه من العالَم؟ لا يوجد دليل على الإطلاق على الاتصال عبر السنوات، كما هو الحال بالنسبة إلى كِتاب «العناصر» لإقليدس، وبالتأكيد لم يحدث هذا داخل العراق وقتَ الحكم الإسلامي. لكنْ لدينا دليلٌ على انتقال بعض الأفكار من الثقافة البابلية المتأخِّرة إلى الهند، وعلى انتقال الرياضيات مؤخرًا في الاتجاه المعاكس، من الهند إلى بغداد. من الممكن تمامًا أن مسائل مثل تلك التي نُوقِشت هنا كانت جزءًا من تدفُّقٍ؛ لا يمكننا الجزْمُ بالأمر ولكنْ يمكننا فقط التخمين. وعلى أية حال من المفيد تكرارُ ما نعرفه بمزيدٍ من اليقين.
بين نحو عامَيْ ٥٠٠ قبل الميلاد و٣٣٠ قبل الميلاد، كان العراق القديم وشمال غرب الهند جزأين بعيدين من الإمبراطورية الفارسية، وبعد زمن قصير أصبحت المنطقة نفسها تحت حكم الإسكندر الأكبر. إن الدليلَ على امتصاص الرياضيات البابلية في الهند ظرفيٌّ، ولكنه واضحٌ تمامًا، خاصةً في الحسابات الفلكية؛ إذ يمكن رؤية ذلك في الاستخدام الهندي للأساس ٦٠ في قياس الزمن والزاوية، وفي طرائق شبيهة لحساب ضوء النهار على مدار العام (في الهند، كما هو الحال في المجتمعات القديمة الأخرى، تكون المحافظةُ على الوقت الصحيح من أجل الشعائر والأغراض الأخرى شيئًا أساسيًّا). فيما بعدُ كانت هناك ترجمات لنصوص فلكية أو تنجيمية إغريقية إلى اللغة السنسكريتية؛ بحيث إن «وتر الدائرة» عند الإغريق، المستخدَم في قياس الارتفاع الفلكي، أصبح أساسَ «الجيب» الهندي. إن ندرة النصوص الهندية البالغة القِدَم تمنعنا من معرفة المعلومات الأخرى التي من المؤكَّد أنها مرت في اتجاه الشرق، وبلا مرية في الاتجاه المعاكس أيضًا؛ إذ تشي بقايا كتابات فلكية قليلة من إيران ما قبل الإسلام، على سبيل المثال، بوجود تأثير للنصوص السنسكريتية هناك.
كانت الأعداد الهندية، كما صارت تُعرَف لاحقًا، معروفةً بالفعل في أجزاء من كمبوديا وإندونيسيا وسوريا في بدايات القرن السابع؛ وقد امتدحها المطران السوري ساويرا سابوخت مدحًا شديدًا، على سبيل المثال. في عام ٧٥٠ بعد الميلاد انتشر الإسلام على مساحة الإمبراطورية الفارسية القديمة (وما وراءها)، وبحلول عام ٧٧٣ وصلت الأعداد الهندية إلى بغداد في كتابات فلكية أُحضِرت من الهند للخليفة المنصور. وفي نحو عام ٨٢٥، كتب الخوارزمي، الذي قابلناه ككاتبٍ في مادة الجبر، نصًّا عن استخدام الأعداد الهندية؛ فُقِدَ النصُّ الأصلي، بَيْدَ أن محتوياته يمكن أن تُسترجَع من ترجمات لاتينية متأخِّرة. أوضح النصُّ أولًا كيف تُكتَب الأرقام العشرة، في صورتها العربية وليس السنسكريتية، مع توضيحٍ حريصٍ لقيمة الموضع، والاستخدام الصحيح للصفر، وأُتبِع هذا بتعليمات للجمع والطرح، والضرب في اثنين، والضرب في نصف، والقسمة، وشيء من تدريس الكسور، متضمنًا نوع الكسور الستينية، وتوجيهات لاستخراج الجذور التربيعية. لقد أرسى نصُّ الخوارزمي نمطَ النصوص الحسابية لقرون؛ ويمكن تبيُّن تنظيمه الأساسي بسهولة في نصوص أوروبية متعددة في القرن السابع عشر، على الرغم من أن المادة كانت عندئذٍ قد توسَّعَتْ كثيرًا. لكنْ لِنَبْقَ مع الأعداد الهندية نفسها، أو الأعداد الهندية-العربية كما صارت تُعرَف مع انتشارها غربًا.
بنهاية القرن العاشر، انتقلت الأعداد إلى إسبانيا، عند الطرف الآخَر للعالم الإسلامي المقابل للهند، واكتسبت الشكلَ العربي الغربي الذي سبق الأعدادَ الغربية الحديثة، وليس الشكل العربي الشرقي الذي لا يزال مُستخدَمًا في البلاد المتكلمة بالعربية. ومن إسبانيا انتشرت الأعداد ببطء شمالًا إلى فرنسا وإنجلترا. من الأساطير التي تدور حول الأعداد أنها قُدِّمت إلى أوروبا المسيحية بواسطة راهب يُدعَى جربير، صار لاحقًا البابا سلفستر الثاني، الذي زار إسبانيا قبل عام ٩٧٠. من الصحيح أن جربير استعمل الأعداد على المِعْداد، ولكن في ضوء هذا الدليل الواهي لا يستطيع المرء أن يمنحه فضْلَ تقديمها إلى بقية أوروبا؛ إننا لا نعرف ما إذا كان هو قد تَعلَّم الطرائق المناسبة للحساب، أم استخدم الأعداد كرموز للزينة فحسب، ولا نعرف إلى أي مدًى كان مِعْداده معروفًا أو مستخدَمًا، وإلى جانب هذا لا بد أنه كان هناك مسافِرون آخَرون إلى إسبانيا، قد أحضروا بالمثل معلوماتٍ قليلةً عن الأعداد ليعرضوها على أصدقائهم. من المحتمل أن المعرفة بالأعداد قد انتشرت ببطء، وبأسلوب تدريجي، إلى أن تمَّ إدراك فائدتها على نحوٍ أفضل.
نحن نعرف الجداول الفلكية من إسبانيا، وقد تمَّ تعديل جداول طليطلة لتناسب مارسيليا في عام ١١٤٠، ولندن في عام ١١٥٠. إن تعليمات استخدام الجداول تُرجِمت من العربية إلى اللاتينية، لكن الجداول نفسها لم تُترجَم؛ فمَن عساه يريد تحويل أعمدةٍ من أعدادٍ مكوَّنة من رقمين تقيس الدرجات والدقائق والثواني، إلى أعداد رومانية غير ملائمة؟ وتمامًا مثلما نَقَلَت الجداولُ الفلكية الأعدادَ الهندية إلى بغداد، فإنها نقلَتْها بعد ذلك إلى شمالي أوروبا؛ وبالنسبة إلى الفلكيين، فإن الأعداد لم تكن قصيرةً فحسب، بل كانت حاسمةً في فهم معنى الملاحظات التي يسجِّلها الآخرون.
وعلى مستوًى أكثر اتصالًا بالواقع، من المؤكد أن المعرفة بالأعداد وطرق الحساب المصاحبة لها، انتشرت غربًا وشمالًا من خلال التجارة؛ على سبيل المثال، من المؤكد أن الصليبيين صادفوها في أواخر القرن الحادي عشر وبعد ذلك. لكن على خلاف الجداول الفلكية، فإن سجلات الشراء والبيع كانت سريعة الزوال، واختفت منذ عهد بعيد.
هناك قصص أخرى يمكن أن تُحكَى عن الطريقة التي انتشرت بها الرياضيات عبر مسافات بعيدة؛ على سبيل المثال: الرياضيات الصينية التقليدية فَهِمَها وتَبَنَّاها كلُّ جيران الصين المباشِرين، ولا شكَّ أنْ كانت هناك تبادلات مع الهند، ولكنْ لم تُجْرَ أيُّ تبادلات مع الغرب إلى أنْ وصل اليسوعيون في القرن السابع عشر، حاملين معهم كتاب «العناصر» لإقليدس. استمرت مثل هذه الانتقالات في عصور أكثر حداثةً؛ ففي القرن التاسع عشر نُقِلت الرياضيات الأوروبية من قلب أوروبا في فرنسا وألمانيا إلى البلاد الواقعة في أطراف أوروبا — البلقان من جهة، وبريطانيا من الجهة المقابلة — ثم إلى الولايات المتحدة، وفي النهاية إلى كل بلاد العالَم. مثل هذا الانتشار معتاد في التاريخ الحديث، ولكن في الرياضيات كانت الأفكار تنتقل في زمن طويل جدًّا.
الرياضيات والناس
وصفتُ في هذا الفصل كيف أن بعض رياضيات الماضي ظلَّ باقيًا، حتى إن كان في صورة متشظية، عبر فترات طويلة من الزمن، وأحيانًا انتقل مسافات طويلة أيضًا. إلا أنني حاولتُ توخِّي الحذر مع اللغة؛ فمن الكلمات التي يشيع استخدامها لوصف تمرير الأفكار الرياضية كلمةُ «النقل»، لكنني أكره هذه الكلمة؛ فبمعزل عن ارتباط هذه الكلمة بأبراج النقل الإذاعي، فإنها توحي بأن الأصحاب الأصليين للأفكار كانوا يهدفون متعمِّدين إلى نقل أفكارهم واكتشافاتهم إلى أجيال المستقبل. لكنْ نادرًا ما كان هذا هو الحال، وبالنسبة إلى الجزء الأغلب، كانت الرياضيات تُكتَب للاستعمال الذاتي للفرد، أو لمعاصريه المباشِرين، وإن بقاءها طويلًا بعد ذلك يعتمد على الظروف بدرجة كبيرة. حاولتُ أيضًا أن أتحاشى الكلامَ عن انتشار الأفكار ببساطة، وكأنها أعشاب ضارة لها قوةٌ في حدِّ ذاتها.
على النقيض من ذلك، كلُّ تبادُل رياضي — كبيرًا كان أم صغيرًا — قد أُحدِث بواسطة عامل بشري، وخَلْف القصص العديدة الموجزة أعلاه، تقع تفاعُلاتٌ وتعاملات دقيقة لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، ولقد ألقينا نظرة خاطفة على بعضها، منها: مبعوثون هنود يقدِّمون أنفسهم إلى الخليفة في بغداد، مؤلِّف بيزنطي ينسخ مخطوطًا ربما فهمه بشقِّ الأنفس، تجار فلورنسيون يساومون في أسواق الإسكندرية، أمين مكتبة في مدينة الإسكندرية نفسها قبل ألف عام يسجِّل في عنايةٍ قائمةً بلفائف أوراق البردي التي في حوزته، وربما يتملكه الجَزَع — مثل جون ليلاند فيما بعدُ — من فكرة تدميرها، فيرما يبعث بخطاباته بأمل زائف إلى واليس في أكسفورد، وايلز يصرِّح للمرة الأولى عن برهانه في محاضرة، وأنباء عن التصحيح النهائي للبرهان بواسطة البريد الإلكتروني. إن الأفكار الرياضية تنتشر فقط لأن الناس يفكِّرون بشأنها، ويناقشونها مع آخَرين، ويكتبونها، ويحفظون الوثائق المناسبة؛ ومن دون الناس لا تنتشر الأفكار الرياضية على الإطلاق.