حيوية الرياضيات
إن أي رياضي يريد أن يغزو آفاقًا جديدة يحتاج إلى الوقت وإلى التجريب، وإلى شيء من الدعم المادي. دَعْنا نَعُد لِلَحظة إلى أولئك الذين قابلناهم في الفصل الأول. ليست لدينا فكرة عن الكيفية التي كان ديوفانتس يتكسب بها رزقه، وربما كان يعمل بالتدريس، مثل كثيرين من ذوي المواهب الرياضية. كثيرون من أشهر الرياضيين المعروفين في القرن السابق على ظهور فيرما درَّسوا أيضًا الرياضيات، ولكن غالبًا كمهنة ثانوية؛ فكان جيرولامو كاردانو وَروبرت ريكورد طبيبَيْن، ومع ذلك فقد عمل ريكورد لوقت طويل من حياته في التعدين وسكِّ العملة، وعمل كلٌّ من رافائيل بومبلي وَسايمون ستيفن في مشروعات إنشاءات عملية، أما فرانسوا فيت فقد كان، مثل فيرما، محاميًا ومستشارًا قانونيًّا. لقد وُصِف فيرما غالبًا بأنه رياضي «هاوٍ»، ولكنه عاش في زمن كان فيه المحترفون قلةً قليلة؛ مما يجعل هذا الوصف عديمَ المعنى. وعلى الجانب الآخر، فإن وايلز لا يمكن أن يُوصَف إلا بالرياضي المحترف؛ إذ يملك مؤهلات أكاديمية ويتقاضى أجرًا ليعمل بدوام كامل في البحث وتدريس الرياضيات.
على مر القرون كانت هناك تغييرات مهمة في الطرق التي تمَّ بها توظيف الرياضيين. من المرجح أن يعمل الرياضي الحديث في التدريس، أو الماليات، أو الصناعة، وكلها مجالات منظمة مؤسسيًّا. وربما يكون البعض مستعدين لدفع المال لقاء الخدمات الرياضية، أو التعليم، أو مهارات المحاسبة، ولكنهم لا يوظفون إلا عددًا قليلًا من الناس. في الألفية الأولى بعد الميلاد كانت الصورة مختلفةً تمامًا؛ إذ كانت القوة الاقتصادية والسياسية في أغلب أوروبا وآسيا متركزةً في أيدي الملوك والأساقفة والخلفاء والقادة العسكريين. وبالنسبة إلى أولئك الذين أرادوا أن يعيشوا بمهاراتهم الذهنية، بما فيها الرياضيات، فقد كانوا عقلاء بوضع أنفسهم تحت راعٍ قوي بدرجة كافية، ليدفع لهم ويحميهم، ومثل هذه الرعاية كانت تأخذ أشكالًا مختلفة متعددة. في هذا الفصل سنرى كيف جرى هذا الأمر، أولًا في حياة ثلاثة علماء في القرنين العاشر والحادي عشر، وثانيًا في البلاد التي حكمها الإسلام.
أنماط الرعاية
وُلِد ثابت بن قرة عام ٨٢٦ بعد الميلاد في مدينة حران القريبة من الحدود الحديثة بين تركيا وسوريا، وقضى سنوات عمره الأولى ممتهنًا الصَّيْرَفة. لم يكن ثابت بن قرة مسلمًا، بل كان ينتمي إلى طائفة محلية، هي الصابئة. قبل مولده بسنوات قلائل، أسَّسَ الخليفة العباسي المأمون في بغداد المكتبةَ المعروفة باسم «بيت الحكمة»، بهدف ترجمة النصوص والمتون الإغريقية والسنسكريتية والفارسية إلى العربية، وقد جذبت معرفةُ ابن قرة بالإغريقية والعربية إلى جانب لغة قومه السريانية، انتباهَ رياضيِّ بغداد محمد بن موسى عندما كان يجتاز حران في طريق عودته من بيزنطة. للأسف، إننا لا نعلم تاريخ هذا اللقاء، ولكننا ربما نفترض أن ابن قرة كان لا يزال شابًّا نسبيًّا؛ لأنه انتقل إلى بغداد عندما دعاه ابن موسى؛ حيث تعلَّمَ منه ومن أخوَيْه (المعروفِين مجتمعين ببني موسى) الرياضيات والفلك.
مكث ابن قرة في بغداد إلى حين وفاته عام ٩٠١ ميلاديًّا، وقد ظلَّ على اتصالٍ ببني موسى سنوات عديدة، وعلَّمَ أبناء ابن موسى. وخلال العشر سنوات الأخيرة من حياته أصبح حاضرًا بانتظام في بلاط الخليفة المعتضد، وكانت علاقتُه بالخليفة حميمةً، وفقًا لكاتب إحدى السير الموضوعة في القرن الثاني عشر؛ القفطي، بحيث إنه «كان مسموحًا له أن يجلس في مجلس الخليفة في أي وقت شاء.» وفيما بعدُ أصبح ابنه سِنان واثنان من أحفاده علماءَ معروفين. ومما نعرفه عن حياة ابن قرة، ربما نتبيَّن مَلْمَحين حاسمين: أحدهما هو وجود شبكة للتعليم والتعلُّم راسخة بين الأصدقاء والعائلات، في هذه الحالة تربط أعضاءً في عائلة ابن موسى بأسرة ابن قرة؛ هذه العلاقات الشخصية الوثيقة وأمثالها لُوحِظت مرات متعددة في ثنايا هذا الكتاب. الملمح الثاني أكثر خصوصيةً بالزمان والمكان اللذين عاش فيهما ابن قرة، وهو الحماية والرعاية اللتان قدَّمَهما له أولًا بنو موسى، ثم الخليفة نفسه من بعدُ.
وُلِد عالِم آخَر، هو أبو الريحان البَيْرُوني، المعروف اختصارًا بالبيروني، بعد وفاة ابن قرة بسبعين عامًا، في الطرف المقابل من الدولة الإسلامية، وفي منطقةٍ أقل استقرارًا. تقع البلدة التي وُلِد فيها على نهر جيحون، داخل أوزبكستان الحديثة، وتُسمَّى الآن بيروني. تَعلَّمَ البيروني على يد الرياضي والفلكي أبي نصر منصور، واستمر معه في العمل في حياته بعد ذلك. في شبابه، كان يَستخدِم عمليات الملاحظة الشمسية لحساب دوائر عرض البلاد المحلية، ولكن نشاطه قُوطِع عندما اشتعلت حربٌ أهلية عام ٩٩٥ واضطرته للفرار. إننا نعلم شيئًا عن تحرُّكاته الواسعة المدى على مدار الأعوام الثلاثين التالية من ملحوظاته الدقيقة عن كسوف الشمس. في بعض الأوقات عمل في منطقة جنوب بحر قزوين، على مقربة من طهران الحديثة؛ حيث عُرِف أنه أهدى متنًا عن الكرونولوجيا إلى حاكم المنطقة من آل زيار؛ قابوس. وفي أوقات أخرى، سكن في موطنه؛ أولًا تحت رعاية وحماية الحاكم الساماني منصور الثاني، وبعد أربعة عشر عامًا تحت رعاية أبي العباس المأمون.
هذه الفترة المستقرة نسبيًّا انتهت في عام ١٠١٧ عندما اجتاحتها الدولة الغزنوية، الموجودة في المنطقة التي تُعَدُّ شرقي أفغانستان الحالية. ويبدو أن البيروني قد سُجِن، وفيما بعدُ عاش سنوات عديدة في كابول أو غزنة نفسها، على مسافة نحو ١٠٠ كيلومتر جنوبًا. لم تكن علاقته بالسلطان محمود واضحةً، ولقد اشتكى من المعامَلة الفظَّة، لكنه دُعِّمَ في أبحاثه فيما بعدُ. كان قادرًا أيضًا على السفر إلى شمال الهند، وهي المنطقة التي كانت قد وقعت أيضًا تحت حكم الدولة الغزنوية، وكتب بتوسُّع عن المنطقة وعقيدتها وعاداتها وجغرافيتها. وبعد وفاة محمود في عام ١٠٣٠، أصبح تحت حماية حاكمٍ غزنويٍّ ثانٍ، هو مسعود بن محمود، ثم ثالث، هو مودود بن مسعود، وذلك بعد أن قُتِل مسعود في عام ١٠٤٠. ثم مات البيروني نفسه في غزنة عام ١٠٥٠.
خلال حياةٍ اكتنفَتْها تغيُّرات في الأُسَر الحاكمة، كان البيروني عالِمًا مخلصًا، وكاتبًا وافِرَ الإنتاج. كان نحو نصف أعماله عن الفلك والتنجيم، مع متون أخرى في الرياضيات والجغرافيا والطب والتاريخ والأدب؛ لكنْ للأسف، نسبةٌ قليلة فقط مما كَتَبَ هي التي بقيت.
العالِم الرياضي الثالث الذي سندرسه هو عمر بن إبراهيم الخيامي النيسابوري، المعروف جيدًا في الغرب باسم عمر الخيام. وُلِد عمر الخيام قبل سنوات قلائل من وفاة البيروني، في نيسابور شمال شرق إيران، ويوحي اسمه بأنه جاء من عائلةٍ تصنع الخيام. في زمنه وقعت المنطقة الإيرانية تحت حكم السلاجقة، وهي سلالة حاكمة ذات أصل تركي. حين كان الخيام شابًّا، سافَرَ شرقًا إلى سمرقند؛ حيث كتب بحثًا مهمًّا عن المعادلات، أهداه إلى قاضي القضاة أبي طاهر، وفيما بعدُ، قضى سنوات عديدة في أصفهان؛ حيث أشرَفَ على المرصد وعلى تصنيف الجداول الفلكية، تحت رعاية السلطان مالك شاه ووزيره نظام المُلك، وخلال الفترة نفسها كتب — مثل ابن قرة — شروحًا وتعليقاتٍ على أعمال إقليدس. لكن للأسف أُغلِق المرصد عام ١٠٩٢ بعد مقتل نظام المُلك عام ١٠٩٢، ووفاة مالك شاه؛ وفي النهاية، بعد تغيُّراتٍ أبعد في الحكم، فارَقَ الخيامُ أصفهان، وبعد أن قضى زمنًا في مدينة مرو، التي تقع في منتصف المسافة تقريبًا بين أصفهان وسمرقند، عاد أخيرًا إلى نيسابور حيث تُوفِّيَ عام ١١٣١.
لا أستطيع أن أمنع نفسي من تضمين واحدة من رباعياته هنا، وهي ليست منقولة من الترجمة الفيكتورية لإدوارد فيتزجيرالد، بل ترجمها إلى الإنجليزية شهريار شهرياري عام ١٩٩٨ (والترجمة العربية لأحمد رامي):
لا تخبرنا دراسات الحالة المبسطة الثلاث هذه بالكثير عن الممارسة الرياضية تحت رعاية الأُسَر الحاكمة المسلمة في القرون الوسطى، بَيْدَ أنها تكشف بعض النقاط العامة على الأقل؛ إحدى هذه النقاط هي أنه منذ قرون قلائل فقط، كان الكتَّابُ الرياضيون الإغريق موجودين في كل مكان في شرقي البحر المتوسط، لكنهم كانوا نادرًا ما يوجدون في اليونان نفسها، وهكذا فإن أولئك الذين كتبوا الرياضيات باللغة العربية كانوا منتشرين عبر منطقة واسعة، من تركيا الحديثة إلى أفغانستان الحديثة، ولكن ليس في البلاد العربية نفسها؛ ولهذا السبب يفضِّل المؤرخون تسميةَ مثل أولئك الكتَّاب «إسلاميين» على تسميتهم «عربًا»، ولكن مثال ابن قرة يُظهِر أنهم لم يكونوا جميعًا مسلمين، ولا كانت كتاباتهم الرياضية لها علاقة بوجهات نظرهم الدينية؛ ومع ذلك، عاشوا جميعًا في مجتمعات كانت فيها ممارسات الإسلام وثقافته مسيطرة؛ ومن ثَمَّ تُعَدُّ هذه التسمية أفضلَ من سواها.
النقطة الثانية هي عدم استقرار تمويل الدراسة في ظل تغيُّر الحكَّام والأُسَر الحاكمة؛ فعملية الإقرار بالموهبة الرياضية لصبي أو شاب ورعايتها كانت مسألةَ حظٍّ وظروف، كما في حال ابن قرة والبيروني. وربما اعتمدَتْ قدرتُه على الدراسة أو السفر بعد ذلك بدرجة كبيرة على العطف والدعم المالي، من حاكِمٍ مستقبلُه هو نفسه ربما يكون بعيدًا عن الأمان. ويبدو أن البيروني كان متميِّزًا على نحوٍ خاص في التمتُّع بالعناية المستمرة من الحماة من أُسَرٍ حاكمةٍ متعارضة. وعلى الرغم من هذه الصعوبات، كان نتاج بعض هؤلاء العلماء مُثمِرًا ومتنوعًا، وهؤلاء الذين كتبوا عن الفلك والتنجيم ربما كتبوا أيضًا عن الهندسة الكروية وحساب المثلثات، أو عن كتاب «العناصر» لإقليدس، أو عن أعمال كتَّاب إغريق آخَرين، أو عن الحساب والجبر، أو عن الجغرافيا أو التاريخ أو الموسيقى أو الفلسفة أو العقيدة أو الأدب.
وفي النهاية، ربما يتساءل المرء عمَّا كان يعود على الراعي من مثل هذه الترتيبات. تبايَنَتِ الحالات الفردية تبايُنًا كبيرًا، وفي الحقيقة لم تكن هناك كلمة واحدة في المجتمعات الإسلامية تَصِف علاقةَ «الرعاية» الموضحة هنا. كما رأينا سابقًا في الصين وأوروبا، فإن الحكام كثيرًا ما قدَّروا الخبراء الرياضيين لقدرتهم على حساب التواريخ المباركة، وفي بعض الحالات ربما كان لديهم الأمل في استفادةٍ طويلةِ الأجل من دعمهم في أعمالهم الجيدة؛ علاوةً على ذلك، فإن امتلاكَ خدمات الموهوبين عقليًّا وفكريًّا وصحبتهم قد يكونَا مصدرًا للمسرَّة وعلامةً على علوِّ المقام.
منذ نحو نهاية القرن الثاني عشر، أصبح العلماء أكثرَ قدرةً في المعتاد على الحصول على وظائف مدفوعة الأجر في مؤسساتٍ لها وقف مالي، مثل «المدارس» الإسلامية؛ وبهذا أصبحوا أقل اعتمادًا على أهواء ونزوات أو تفضُّل الحكَّام. لكن كي ندرس عن كثبٍ التحوُّلَ من الرعاية إلى التوظيف الاحترافي، سنعود الآن إلى إنجلترا في تاريخٍ متأخِّرٍ قليلًا.
من الرعاية إلى الاحترافية
في إنجلترا، كانت السنوات الأربعون بين عامَيْ ١٥٨٠ و١٦٢٠ فترةً انتقالية، كانت الرعايةُ فيها لا تزال موجودةً، ولكنْ يمكننا أن نتبيَّن أيضًا العلامات الأولى للانتقال إلى الوظائف المدفوعة الأجر المعرَّضة للمساءلة العامة. وتوضِّح السِّيَرُ الذاتية لتوماس هاريوت وَويليام أوتريد وَهنري بريجز، بعضَ الإمكانات والفُرَص التي كانت متاحةً للموهوبين في الرياضيات في إنجلترا في ذلك الوقت.
وُلِد توماس هاريوت عام ١٥٦٠، ودَرَس في أكسفورد بين عامَيْ ١٥٧٧ و١٥٨٠ على الأرجح. لم يحصل على درجة جامعية في الرياضيات (إذ لم يكن هناك شيءٌ كهذا آنذاك)، لكنه ربما تعلَّمَ شيئًا من الموضوع من معلِّمين خصوصيين أو من قراءاته الذاتية؛ أحسنُ شاهدٍ على ذلك اهتمامُه بالاستكشاف والملاحة، الذي يبدو أنه اكتسَبَه في أكسفورد، ربما من محاضرات المغامِر ريتشارد هاكليوت. وخلال ثمانينيات القرن السادس عشر أصبح هاريوت تحت رعاية والتر رالي، الذي كان في ذلك الوقت شديدَ الاهتمام بالاحتلال المحتمل لأمريكا. وفي عام ١٥٨٥ أبحَرَ هاريوت إلى ساحلٍ ما يُسمَّى الآن نورث كارولينا، في رحلةٍ موَّلَها رالي استمرت عامًا، وباءت بالفشل، لكنها مكَّنَتْ هاريوت وصديقه جون وايت من إحضار قدر كبير من المعلومات النافعة وبعض الرسوم الجميلة للناس ونباتات الإقليم وحيواناته، وللأسف قَدْ جلب معه ولعًا بالتبغ قضى عليه في النهاية.
تعهَّدَ هاريوت لِرالي قبل الرحلة أن يعلِّم البحَّارةَ المِلاحةَ، لكنَّ النصَّ الذي كتبه مفقودٌ الآن للأسف. وبعد عودته، استمر في العيش تحت رعاية رالي؛ أولًا في ممتلكات رالي في أيرلندا (مغامرة استعمارية أخرى)، وفيما بعدُ في إنجلترا موطن رالي، في منزل دورهام هاوس على ضفاف نهر التيمز. من على سطح منزل دورهام أجرى هاريوت تجاربَه المبكرة عن الأجسام الساقطة، مقارِنًا بين معدلات سقوط الكرات المعدنية والشمعية. استمَرَّ هاريوت بالقرب من رالي إلى يوم أنْ أُعدِم رالي في عام ١٦١٨؛ فقد بقيت ملحوظاتٌ عن كلمات رالي الأخيرة عند المشنقة باقيةً في كتابات هاريوت اليدوية ومخطوطاته ضمن أوراقه الشخصية والرياضية. لكنْ في السنوات الأولى من تسعينيات القرن السادس عشر، كان لهاريوت راعٍ ثانٍ هو هنري بيرسي، الإيرل التاسع لنورث أمبرلاند. وقد قضى هاريوت السنوات الثلاثين الباقية من عمره في لندن، موطن بيرسي، في منزل سيون هاوس في ميدلسكس على ضفاف نهر التيمز، أو في منزله الريفي، بتوورث هاوس في ساسكس. لكنْ للأسف لم يستطع أيٌّ مِن راعِيَيْ هاريوت أن يتغلَّب بنجاحٍ على التوترات السياسية والدينية في تلك الأيام؛ إذ قضى بيرسي، مثل رالي، سنواتٍ عدةً مسجونًا في برج لندن؛ ومع ذلك، أمَدَّ هاريوت بدَخْلٍ، وأعطاه حريةَ متابعةِ أية دراسات يختارها. لم يفقد هاريوت اهتمامَه بمسائل الملاحة في البحر، وعاد أيضًا بعد ذلك إلى الفلك، واستخدم التليسكوب في نفس وقتِ استخدامِ جاليليو له لرصد البُقَع الشمسية وفوَّهات البراكين على القمر. ومن خلال أحد أصدقائه في أكسفورد؛ ناثانيال توربورلي، تَمكَّنَ من الحصول على الأعمال الرياضية لفيت (التي أثَّرَت بعمقٍ فيما بعدُ على فيرما)، وهكذا أصبح واحدًا من أوائل الناس في أي مكان، وبالتأكيد الإنجليزيَّ الأولَ، الذي قدَّر وتَوسَّع في بعض الأفكار الرياضية الجديدة المثيرة التي كانت آخِذة في التطوُّر في فرنسا.
لم ينشر هاريوت أيًّا من اكتشافاته، وفي ظلِّ تمتُّعه بدَخْل خاص آمِن، لم تكن به حاجة إلى أن يبرهن على قدراته، أو أن يكسب رزقه. لم يعمل بالتدريس، على الرغم من أنه ناقَشَ أفكارَه مع دائرة أصدقائه الخاصة. على أحد الأوجه، لم يكن لعمل هاريوت إلا تأثير مباشِر قليل، وبالتأكيد لم يسبِّب نوعَ الإثارة الفكرية التي سبَّبَها جاليليو فيما بعدُ. وعلى الوجه الآخَر، مكَّنَتْه حريتُه في العمل على ما شاء، من أن يستكشف نطاقًا واسعًا من الموضوعات، بعضها كان مبهمًا تمامًا، وأدَّتْ به إلى بعض النتائج المهمة. المصطلح الحديث لهذا هو «بحث السموات الزرقاء». كان من الممكن بسهولة أن يَضِيع عمل هاريوت، لكنْ لحُسْن الحظ جعلَتْ شهرتُه بين معاصريه أبحاثَه محفوظةً بعد وفاته في عام ١٦٢١، واستمرت بعضُ أفكاره تدور بين مَن أتى بعده لسنين عديدة. بهذا المعنى يمكن أن يقال إن هاريوت قد شَجَّع، وإن كان بطريقة غير مباشِرة، كلًّا من المناقشة الرياضية واحترام الدراسات العلمية والرياضية اللذين اتَّسَمَتْ بهما الجمعيةُ الملكية بعد زمنه بنصف قرن. وفي الحقيقة، كانت سمعة هاريوت حسنةً لدرجةِ أن الجمعية الملكية في سنواتها العشر الأولى قد طلبت غيرَ مرةٍ البحثَ والاستقصاءَ عن أوراقه الباقية.
لم يكن ويليام أوتريد في نفس مستوى هاريوت من حيث الإبداع، بَيْدَ أنه لعب دورًا مهمًّا بقدر مساوٍ في ازدهار الرياضيات في إنجلترا لاحقًا. وُلِد أوتريد عام ١٥٧٣، وكان أصغر من هاريوت بسنوات قلائل، ولكنه عمَّرَ بعده بنحو أربعين عامًا؛ وبدايةً من عام ١٦١٠، أو قبل ذلك، كان كاهنًا في آلبري في سَري، ويبدو أنه لم يبتعد عن هناك بعد ذلك قطُّ، عدا زيارات عَرَضية إلى لندن. أصبح مشهورًا كمدرِّس رياضيات للأطفال والبالغين، ومثل هاريوت اكتسب راعيًا أرستقراطيًّا، هو توماس هوارد، إيرل أرندل، الذي تقع مقاطعتُه في وست هورسلي، على بُعْد أميال قليلة من آلبري. علَّمَ أوتريد ابنَ هوارد، كما علَّمَ أبناءَ طبقات أرستقراطية محلية أخرى، ومن خلال هوارد قابَلَ أوتريد أيضًا قريبًا للعائلة؛ السير تشارلز كافنديش، الذي لعب دورًا مهمًّا في الرياضيات الإنجليزية في هذه الفترة. لم يكن كافنديش يجيد الرياضيات على نحوٍ خاص، لكنه لسببٍ ما كان مفتونًا بها، وجمَعَ في توقٍ شديد أحدثَ الكتب والأبحاث وحاوَلَ أن يفهمها. بعد وفاة هاريوت، على سبيل المثال، نَسَخَ كافنديش فصولًا كاملة من مخطوطات هاريوت، وإنْ كان قد أقرَّ قائلًا: «أجزم أنني لا أفهم بعض الأشياء.» كان كافنديش هو مَن أحضَرَ أعمالَ فيت من فرنسا لِأوتريد، تمامًا كما أحضَرَها توربورلي قبل ذلك لِهاريوت.
كان كافنديش أيضًا مَنْ شجَّعَ أوتريد على كتابة أول كُتُبه المدرسية، والمُهدَى إلى تلميذه ذي الأربعة عشر عامًا ويليام هوارد. نُشِر الكتاب مبكرًا في عام ١٦٣١، وأصبح معروفًا بعنوانه المختصر «مفتاح الرياضيات»، وانتشر وانتشر، خلال خمس طبعات لاتينية وترجمتين باللغة الإنجليزية. كان المحتوى بدائيًّا، مجرد مقدمة للحساب والجبر، ولكن في ذلك الوقت كان عُمْر كُتُب ريكورد المدرسية المبكرة نحو قرن، وكانت هناك حاجة ماسة إلى شيء جديد. وعندما كان يُجرَى تنصيب أساتذة جدد في جامعة أكسفورد بعد سنوات الحرب الأهلية، كان هؤلاء إما تلاميذ أوتريد وإما بعض قرَّائه، وأدخلوا على الفور كتاب «مفتاح الرياضيات» إلى أكسفورد، جاعلين إيَّاه الكتابَ الرياضي الأول الذي تطبعه الجامعة. وتقريبًا كل رياضي شهير من القرن السابع عشر، وكثيرون ممَّن لم يكونوا كذلك، كانت خطواتهم الأولى مع «مفتاح الرياضيات»، ومن بينهم كريستوفر رِن وَروبرت هوك وَإسحاق نيوتن. وهكذا، على الرغم من أن أوتريد نفسه لم يصنع قطُّ أيَّ تقدُّمٍ رياضي كبير، ودرَّسَ فقط عند مستوًى ابتدائي نسبيًّا، فإنه مِثل هاريوت شجَّعَ بطريقةٍ غير مباشِرة انتشارَ وتطويرَ الخبرة الرياضية في وقت مبكر في إنجلترا الحديثة.
لكن ما كان لِأوتريد ولا هاريوت أن يفعلَا ما فعلاه من دون دعْمِ ثلاثة أرستقراطيين شجَّعوا عملَهما: هنري بيرسي وَتوماس هوارد وَتشارلز كافنديش. وقد مَنَحَ عضوٌ لاحق من عائلة كافنديش اسمَه لمختبر كافنديش في كامبريدج، لكنَّ عائلتَيْ بيرسي وَهوارد لم تكونَا عادةً تتعاملان مع العلوم أو الرياضيات، ومع ذلك، فدون الثقة والدعم الفكري والمالي المقدَّم من هؤلاء الرجال الثلاثة، كانت نشأةُ مجتمعٍ رياضي ذي حجمٍ معتبرٍ في إنجلترا في النصف الأول من القرن السابع عشر ستتأخَّر كثيرًا جدًّا.
في الوقت نفسه — وعلى النقيض — ينبغي لنا ألَّا نُغفِل تطوراتٍ معاصرةً أخرى معنية؛ ففي عام ١٥٩٧ موَّلَ ميراثٌ تَرَكَه التاجر والرأسمالي توماس جريشام نظامَ المحاضرات العامة السبع (محاضرة واحدة لكل يوم من أيام الأسبوع) في الفلك والهندسة والطب والقانون واللاهوت والبلاغة والموسيقى. إن كلية جريشام (الباقية إلى يومنا هذا، والتي ما زالت تقدِّم محاضراتٍ عامةً) لعبتْ دورَها في تقوية المجتمع الرياضي في لندن، وعقدَتْ لقاءاتٍ بعد المحاضرات خلال خمسينيات القرن السابع عشر، وساعدَتْ على تأسيس الجمعية الملكية بعد سنواتٍ قلائل. وبعد عشرين عامًا من إنشاء نظام المحاضرات، أنشأ هزي سافيل كرسيَّيْن للهندسة والفلك في أكسفورد. ولعدة سنوات، كانت هناك حركة سَلِسة بين المناصب الجامعية في جريشام وأكسفورد، ومنها على وجه الخصوص أنَّ هنري بريجز أستاذ كرسي جريشام للهندسة، أصبح أيضًا أولَ أستاذٍ لكرسي سافيل للهندسة في أكسفورد.
كان بريجز من هاليفاكس في يوركشير، في عمر هاريوت نفسه تقريبًا، والتحَقَ بكلية سانت جون بكامبريدج عام ١٥٧٧؛ العام نفسه الذي التحَقَ فيه هاريوت بأكسفورد. لكن على خلاف هاريوت اتخذ بريجز طريقَ العمل الجامعي، فعَمِل محاضِرًا في كامبريدج — أولًا في الطب، وبعد ذلك في الرياضيات — قبل أن ينتقل إلى كلية جريشام في عام ١٥٩٧؛ حيث لبث أكثر من عشرين عامًا إلى أن نال لقبَ أستاذ كرسي سافيل في أكسفورد؛ حيث بقي إلى وفاته عام ١٦٣٠.
كوَّنَ بريجز وَهاريوت ثنائيًّا ساحرًا؛ وأحد الأسئلة المحيِّرة في تاريخ الرياضيات لهذه الفترة هو: هل تقابَلَا مرةً؟ كان حريًّا بهما أن يفعلَا. وخلال السنوات السابقة على عام ١٦٠٠ والتالية له، كان بريجز مثل هاريوت مهتمًّا بشدة بمسائل الملاحة. وفي عام ١٦١٠، بينما كان هاريوت يرصد البُقَع الشمسية، كان بريجز يعمل على كسوف الشمس وخسوف القمر. وعندما قدَّمَ جون نابير «اختراعَه الرائع» اللوغاريتمات في عام ١٦١٤، تَنبَّهَ له هاريوت وَبريجز فورًا، وسافَرَ بريجز في التوِّ إلى اسكتلندا ليزور نابير، وساعَدَه في تطوير العمل إلى حدٍّ أبعد، أما هاريوت فلم يَعُدْ يقوم برحلات طويلة، وكان على أية حال قد أصبح مريضًا مرضًا خطيرًا؛ ولكنه أعَدَّ مقالات قصيرة عن اللوغاريتمات، ومن شبه المؤكَّد أنه أدرَكَ أنها وثيقةُ الصلةِ بكثير من أعماله المبكرة.
لا يستطيع المرء أن يمنع نفسه من التفكير في أن بريجز ربما انخرَطَ في محادثات طويلة مُثمِرة مع هاريوت، مثلما فعل مع نابير. كان يمكن لذلك أن يحدث بسهولة؛ لأنه في العشرين عامًا الأخيرة من حياة هاريوت، لم يَعِشْ أحدهما بعيدًا عن الآخَر؛ إذ كان هاريوت يقطن منزل سيون، وَبريجز يعيش قريبًا من بيشوبز جيت، على بُعْد ميل واحد فقط من برج لندن؛ حيث كان هاريوت يزور رالي وَبيرسي بانتظام، لكنْ لا يوجد دليلٌ على أنهما تقابَلَا مطلقًا. كانت دائرتَا أصدقائهما ودائرتَا تأثيراتهما مختلفةً تمامًا؛ إذ وُظِّف بريجز في مؤسسة عامة، بينما عمل هاريوت عملًا خاصًّا في منزله. نُشِرت أطروحةٌ لِبريجز بعنوان «الطريق الشمالي الغربي إلى بحر الجنوب خلال بر فرجينيا»، عام ١٦٢٢، بعد عام من وفاته، ومن المؤكَّد أنها ستلفت انتباه هاريوت، ولم يَظهر مؤلَّف بريجز «اللوغاريتمات الحسابية» حتى عام ١٦٢٤. وخلال عشرينيات القرن السابع عشر لم يتصل بريجز اتصالًا مباشِرًا بناثانيال توربورلي، صديق هاريوت، وكان مُدرِكًا لمحاولات نَشْر بعض أبحاث هاريوت، ولكنه هو نفسه تُوفِّيَ عام ١٦٣٠، قبل نشر مؤلَّف هاريوت «التطبيق العملي». وهكذا فإنه في المطبوعات، كما في الحياة، أَبْحَرَ الاثنان أحدهما قريب من الآخَر، لكنهما لم يلتقيَا قطُّ.
تكشف حياتَيْ هاريوت وَبريجز تبايُنًا شديدًا بين حياة العيش في كنف الرعاة، والحياة الجديدة للرياضيين المحترفين، الذين يُدفَع لهم ما يكفي مقابل الاضطلاع بمسئولياتٍ واضحةٍ، خاصة في التدريس. وبالطبع كان التدريس هو الطريق إلى المستقبل.
المؤسسات والنشر والمؤتمرات
إن حياة جوزيف لوي لاجرانج — واحد من أبرع الرياضيين في القرن الثامن عشر — تَعْرض بصورة مصغَّرة بعضَ الإمكانات الجديدة المتاحة لرياضيٍّ موهوبٍ في أوروبا الغربية، بعد ١٥٠ عامًا من وفاة بريجز وهاريوت. وُلِد لاجرانج عام ١٧٣٦ لعائلة فرنسية إيطالية في تورينو (اسمه المعمودي: جيوسيبي لودوفيكو لاجرانيا)، وعندما كان عمره سبعة عشر عامًا، اكتشف ولعَه بالرياضيات، وبعد عامين عُيِّن مدرِّسًا في مدرسة سلاح المدفعية الملكي في تورينو. لَبِثَ لاجرانج مقيمًا مع عائلته في موطنه، لكنه فكريًّا بدأ يتحرَّك بعيدًا عن الوطن، وقبل أن يعمل في وظيفة التدريس بقليلٍ أرسَلَ بعض أعماله إلى ليونهارت أويلر، مدير الرياضيات في أكاديمية العلوم الملكية في برلين. أدَّتْ خطابات أخرى أرسَلَها إلى أويلر بعد ذلك إلى انتخاب لاجرانج لعضوية الأجانب في الأكاديمية. في الوقت نفسه أسَّسَ لاجرانج وآخَرون جمعيتَهم العلميةَ في تورينو، وهي واحدة من جمعيات كثيرة أُسِّست في مدن أوروبا الغربية خلال خمسينيات القرن الثامن عشر، والكيان السابق على أكاديمية العلوم الحالية في تورينو.
إن ازدياد الجمعيات العلمية والأكاديميات هو أحد المعالم المُحدِّدة للتاريخ الفكري في القرن الثامن عشر. لقد أُسِّست الجمعية العلمية الملكية في لندن عام ١٦٦٠، وأكاديمية العلوم في باريس عام ١٦٩٩، والأكاديمية البروسية للعلوم عام ١٧٩٩، وأُعِيد إنشاؤها تحت اسم الأكاديمية الملكية للعلوم في برلين عام ١٧٤٠، بينما أُسِّست أكاديمية سانت بطرسبرج للعلوم على الطراز الباريسي عام ١٧٢٤. وقد قدَّمَتْ هذه المؤسسات وظائفَ لعدد قليل من الرياضيين والعلماء، لكن ما هو أهم من ذلك أنَّ لقاءاتهم المنتظمة وفَّرَتْ منتدًى لتقديم ومناقشة الأبحاث الجديدة. كانت الأبحاثُ المقدَّمة في مثل هذه اللقاءات تُنشَر فيما بعدُ في وثائق الأكاديمية أو مجموعات منشوراتها، وكان يمكن أن تأخذ هذه العملية بعض الوقت، ولكنها في النهاية كانت تصل إلى القرَّاء في أنحاء أوروبا، ونُفِّذَت عمليات تبادُل مهمة متعددة للدوريات الأكاديمية. وقد نشر لاجرانج معظمَ أبحاثه المبكرة في دورية ميلانز دي تورين، التي تصدُر عن الجمعية التي أسَّسَها في تورينو.
أرسَتْ أكاديميةُ باريس تقليدَ إعطاء جوائز للأسئلة، وكانت فترةُ الإجابة عامين. دخل لاجرانج متسابِقًا لنيل الجائزة عام ١٧٦٤ (عن سبب إظهار القمر الوجه نفسه)، وفي عام ١٧٦٥ (الذي فاز فيه بالجائزة عن حركة الأقمار التابعة للمشتري)؛ وبحلول ذلك الوقت، أصبح معروفًا ومحلَّ احترامٍ من جانب الرياضيين الروَّاد في أوروبا؛ على سبيل المثال: إن جان لورن دالمبير — الذي كان سابقًا المحرِّرَ العلمي لموسوعة الفنون والعلوم والحِرَف — حاوَلَ جاهدًا أن يجد له وظيفةً في غير تورينو. وفي عام ١٧٦٦، ترك أويلر برلين قاصدًا أكاديمية سانت بطرسبرج، وعَرَضَ توفير وظيفة جامعية آمنة لِلاجرانج في روسيا، لكن لاجرانج بدلًا من ذلك استقَرَّ في وظيفة أويلر القديمة في أكاديمية برلين.
إن العلاقة الممتدة بين أويلر وَلاجرانج بدأت قبل أن يبلغ لاجرانج العشرين، وهكذا جمعَتْهما علاقةٌ وثيقة عن بُعْد. كان أويلر — أغزرُ الرياضيين إنتاجًا في القرن الثامن عشر — يطرح فكرةً حدسية رائعة تلو الأخرى، لكنه لم يكن يثابِر لوقت كافٍ في العمل على كل فكرة قبل أن يتحوَّل إلى الفكرة التالية لها التي تأسر خياله. كان الشخصُ الذي يتابِعه عن كثب، محوِّلًا أفكارَه نصف المكتملة إلى نظريات صحيحة وجميلة؛ هو لاجرانج، ومع ذلك لم يَلْتَقِ الاثنان في الواقع قطُّ. في الحقيقة، أبقى لاجرانج دائمًا نفسه على مسافةٍ من أويلر بدافع الاحترام؛ إذ كان يُعِدُّه المشرفَ الأكبر سنًّا، وقد رفض أن يتنافس مباشَرةً مع أويلر على جائزة باريس عام ١٧٦٨ (عن حركة القمر)؛ ومع ذلك، فإنهما في النهاية تقاسَمَا جائزةً عام ١٧٧٢ عن موضوع مشابِه. بقي لاجرانج في برلين عشرين عامًا، وخلالها نشر على نطاق واسع (في فرنسا) في مجلة الأكاديمية.
بعد وفاة فريدريك العظيم الذي قدَّمَ دعمًا كبيرًا لأكاديمية برلين، انتقَلَ لاجرانج مرةً أخرى، هذه المرة إلى أكاديمية باريس، التي وصل إليها عام ١٧٨٧. وبعد عامين، كانت كل بأخرى خلال هذه السنوات من الحفاظ على رأسه وسمعته. وفي عام ١٧٩٥ أُلغِيت الأكاديمية وحلَّ محلَّها المعهدُ القومي، وانتُخِب لاجرانج أستاذَ كرسيِّ قسم العلوم الفيزيائية والرياضية. في الوقت نفسه، كانت حاجة الثورة إلى مدرسين ومهندسين مُدرَّبين تدريبًا دقيقًا شديدة؛ مما أدَّى إلى تأسيس مؤسسات جديدة، وعلى وجه الخصوص المدرسة المتعددة التكنولوجية عام ١٧٩٤ والمدرسة العادية لتدريب المدرسين عام ١٧٩٥؛ وقد درَّسَ لاجرانج في كلتيهما، وأصبحت المدرسة المتعددة التكنولوجية أرفع مؤسسات التعليم مقامًا في بداية القرن التاسع عشر في باريس. إن أي شخص درس الرياضيات بعد مستوى المدرسة، من المؤكد أنه معتاد على اسم لاجرانج وَلابلاس وَليجاندر وَلاكروا وَفورييه وَأمبير وَبواسون وَكوشي، وكلٌّ منهم درَّسَ في المدرسة المتعددة التكنولوجية، أو امتحن طلابها في سنواتها المبكرة. علاوة على هذا، فقد نشرت المدرسة محاضراتها في «كرَّاسات» استُخدِمت من بعدُ كَكُتبٍ مدرسيةٍ في كل مكان في فرنسا، خاصة من جانب أولئك الطامحين إلى أن يُقبَلوا كتلاميذ.
مات لاجرانج عام ١٨١٣. في الثلثين الأولين من حياته العملية، في تورينو وبرلين، ساهَمَ واستفاد من الأكاديميات الوطنية ومجلاتها الخاصة، والمؤسسات التي فعلت الكثير لترعى الإبداع وتنشر الأبحاث الجديدة. وخلال سنواته الأخيرة في باريس، شهد لاجرانج بزوغَ أنواع جديدة من المؤسسات، صُمِّمت لتقدِّم مستوًى رفيعًا في الرياضيات وتدريبًا علميًّا لمعظم الطلاب ذوي الكفاءة. وعلى نقيض الجامعات، قَدَّمَت المدرسة المتعددة التكنولوجية تعليمًا مُركَّزًا بإحكام وعمليًّا، من شأنه أن يمكِّن خريجيها من تعزيز مكاسب الثورة، وفيما بعدُ الإمبراطورية النابليونية.
وفي حالة إذا كان تاريخ المؤسسات يبدو إلى حدٍّ ما غير شخصي، فدَعْنا لا نغفل عن العلاقات الشخصية الوثيقة التي عقدها لاجرانج خلال حياته، خاصةً مع أويلر وَدالمبير. وعندما تُوفِّي لاجرانج فإن تلميذه أوجستين لوي كوشي — وهو ابن صديق العائلة — كان في بداية تاريخه العملي الطويل، وفي سبيله لأنْ يكون شخصيةً بارزة في الرياضيات الفرنسية حتى مماته عام ١٨٥٧. من الممكن أن نقتفي أثر سلاسل غير متقطعة من الصداقات الشخصية والتعاون في رياضيات أوروبا الغربية، مِن لايبنتس في أواخر القرن السابع عشر وعائلتَيْ برنولي وَأويلر، إلى لاجرانج وَكوشي في منتصف القرن التاسع عشر.
وفي زمن وفاة لاجرانج كانت التغييرات جاريةً في موطنه القديم؛ برلين. لقد أُسِّست جامعة برلين عام ١٨١٠ على يد فيلهلم فون همبولت، كمؤسسة لا تهدف فقط إلى تمرير المعرفة المتراكمة، ولكنها تشجِّع أيضًا الأبحاث الجديدة وتيسِّر إجراءها. كان أساتذة الجامعة الألمان أحرارًا في تعيين مَن يرون، وهكذا فإنهم حدَّدوا اتجاهَ ومحورَ تركيزِ أقسامهم. تأسَّست مجموعات بحثية وحلقات دراسية وتدريب لتحصيل درجة الدكتوراه في الجامعات الألمانية قبل عام ١٩٠٠، وهذا التنظيم يُحاكَى الآن تقريبًا في كل جامعة حول العالَم. إن الرياضيين الأكاديميين جميعًا، ومن بينهم آندرو وايلز، هم بهذا المعنى نتاجُ ألمانيا القرن التاسع عشر.
تغيَّرَتْ أيضًا عمليةُ نشر الأبحاث الرياضية؛ ففي القرنين السابع عشر والثامن عشر كانت المنافذَ الرئيسية للأبحاث الرياضيةِ المجلاتُ الأكاديمية. وقد ظهر أول بحث رياضي مطبوع في مجلة «فيلوسوفيكال ترانسأكشنز أوف ذا رويال سوسايتي» عام ١٦٦٨، وكتبه رئيس الجمعية وقتها؛ ويليام بروكنر. كان البحث في أربع صفحات، وكان موضوعًا إلى جواره خطابات إلى المحرر عن «تفاصيل كيميائية وطبية وتشريحية» عن «تنويعات ذروة المد السنوي»، وبعض الملحوظات المتنوِّعة عن كتب جديدة. أصبحت المجلات فيما بعدُ أحسنَ تنظيمًا إلى حدٍّ ما؛ على سبيل المثال: مجلة «آكتا إروديتوروم» كانت بها أقسامٌ منفصلة للطب والرياضيات والفلسفة الطبيعية والقانون والتاريخ والجغرافيا واللاهوت، لكن المجلات العلمية طوال سنوات القرن الثامن عشر استمرت في نشر نطاق واسع من الموضوعات، كانت الرياضيات مجرد موضوع واحد منها.
المجلة الأولى المخصَّصة للرياضيات فقط كانت «آنالز دي ماتيماتيك بيور إي آبليكيه»، أَسَّسها وحرَّرها جوزيف جيرجون في فرنسا عام ١٨١٠، وأصبحت باسم مجلة جيرجون. لاحِظْ هنا أول ظهور للتميُّز الذي لم يوجد حتى ذلك الوقت بأي صورةٍ رسميةٍ بين الرياضيات «البحتة» والرياضيات «التطبيقية». استمرت مجلة جيرجون حتى عام ١٨٣٢ فقط، لكن في ذلك الوقت كانت مكافِئتُها الألمانيةُ، ذات العنوان الموازي، قد تأسَّسَتْ عام ١٨٢٦ على يد أوجست كريليه. لا تزال مجلة الرياضيات البحتة والتطبيقية «جورنال فير دي رينه أوند أنجيفانته ماتيماتيك» (مجلة كريليه) موجودة حتى يومنا هذا، كذلك لا تزال توجد المجلة التي حلت محل مجلة جيرجون، وكان أول محرِّر لها هو جوزيف ليوفيل عام ١٨٣٦، واسمها «جورنال دي ماتيماتيك بيور إيه آبليكيه» (مجلة ليوفيل). استمر نشر المجلات الرياضية في الازدهار والزيادة منذ ذلك الحين؛ واليومَ، لم تَعُدِ المجلات متخصِّصةً في الرياضيات ككلٍّ، ولكن في فروع عامة ودقيقة من هذا الفرع من المعرفة. ومن العناوين التي أحبها مجلة «إل بوزد آند إينفرس بروبلمز»، ولكن هناك مئات من المجلات الأخرى.
المؤسسات المتخصِّصة، وامتحانات القبول، والتدريب المطوَّل، والمجلات المتخصِّصة، والجمعيات المحترفة، والمقابلات المنتظمة، والمؤتمرات؛ هي السمات المميزة لكلِّ مهنة حديثة، متضمنة الرياضيات. إن المؤتمرات الدولية أو حتى المحلية لم توجد في زمن لاجرانج، ولكنها بالتأكيد تُعقَد الآن وتأخذ على الأقل بعضًا من وقتِ كلِّ الرياضيين الأكاديميين. وعلى وجه الخصوص، فإن الرياضيين مستعِدُّون دائمًا للاحتفال بأعياد الميلاد المهمة للآخرين، وهي علامة أخرى على التماسُك الاجتماعي القوي لهذا الفرع المعرفي.
عُقِد أول مؤتمر دولي للرياضيين في زيوريخ عام ١٨٩٧، وحضره ممثلون عن دول أوروبية مختلفة وعن الولايات المتحدة، وعُقِد المؤتمر الثاني في باريس عام ١٩٠٠ ليتزامن مع معرض الجامعة «إكسبوزيسيون أونيفيرسال»، وأهم ما جرى فيه خطابُ الرياضي الألماني ديفيد هيلبرت، الذي عَرَضَ فيه ثلاثًا وعشرين مسألة، آمِلًا أن يحلها الرياضيون في القرن الجديد (ومع ذلك لم يكن برهانُ نظرية فيرما الأخيرة من بينها). وبعد عام ١٩٠٠، عُقِد مؤتمرٌ كلَّ أربع سنوات، فيما عدا سنوات الحربَيْن العالميتين الأولى والثانية. ومع ذلك، فقد أدَّى استبعادُ كلٍّ من ألمانيا والنمسا والمجر وتركيا وبلغاريا خلال عشرينيات القرن العشرين، وغياب دول أخرى اعترضَتْ على هذا القرار؛ إلى نشوب جدال بشأنِ ما إذا كان بالإمكان وصف هذا المؤتمر بأنه «دولي».
من شأن قائمة المدن التي استضافت المؤتمر، أن تقصَّ علينا قصةَ الطبيعة العالمية المتزايدة للبحث الرياضي؛ فحتى ستينيات القرن العشرين، عُقِدت كلُّ اللقاءات في أوروبا الغربية أو كندا أو الولايات المتحدة، ولكنَّ مؤتمرَ عامِ ١٩٦٦ عُقِد في موسكو، وفي عام ١٩٨٢ عُقِد في وارسو. وأول دولة آسيوية استضافت المؤتمر كانت اليابان، في عام ١٩٩٠، تبعتها الصين في عام ٢٠٠٢، والهند في عام ٢٠١٠. وعندما أعلن وايلز برهانَ نظريةِ فيرما الأخيرة في مسقط رأسه كامبريدج، كان بمقدوره بالسهولة ذاتها أن يخاطِب المستمعين في بكين أو مدريد أو حيدر آباد؛ مسارحِ أحداثِ المؤتمرات الثلاثة الأخيرة. إن الرياضيات الآن ليست فرعًا معرفيًّا عاليَ التخصُّص فحسب، بل فرع معرفي دولي بالكامل.
الآن قد وصلنا إلى قمة الهرم الرياضي؛ مجتمع المحترفين المحكم الترابطِ الذي صار مصاحبًا لكلمة «رياضيات»، و«رياضيين». لكنْ مقارَنةً بعدد الأشخاص الذين يمارسون الرياضيات بانتظام، بدايةً من أطفال المدارس إلى أعلى، فهذا المجتمعُ المحترف بالغُ الصِّغَر، وعددُ النساء فيه أصغرُ. يحقُّ للمرء أن يتساءل: لماذا لا يزال تمثيل النساء صغيرًا؟ ليست هناك إجابة سهلة عن هذا السؤال، ولكن ينبغي لنا أن نتذكَّر أنه كما في معظم الميادين الاحترافية، قد وُضِعت القواعد على يد الرجال ومن أجلهم، وربما يجد بعض النساء أن الأجواء عند قمة الهرم لا تناسِبهن، وأن هذه الصحبة ليست دائمًا ملائمةً. إذا تركنا رياضيات الصفوة لمؤرخي الصفوة، فلن تكون لهذا الأمر أهميةٌ كبيرة؛ فمثلما مرَّتِ الرياضيات نفسها بتجسيدات متعددة، عاش الرياضيون حياتهم بطرق متعددة، وليس أيٌّ منها أكثر صوابًا مما سواها.