في داخل الرياضيات
إلى الآن، تجنَّبْتُ الانخراط في مناقشة التفاصيل الفنية الرياضية، ولن أنغمس فيها بدرجة كبيرة في هذا الفصل أيضًا، بَيْدَ أن أيَّ مؤرِّخ للرياضيات ليس مُلزَمًا فقط باستعراض السياق الاجتماعي للنصوص الرياضية المكتوبة في الماضي، ولكنه ملزمٌ أيضًا بالاقتراب بقدرِ الإمكان من محتواها، وهذا أمر يسهل قوله عن فعله؛ فعلى أحد المستويات يمكن لرياضيات الماضي أن تبدو سهلةً مقارَنةً بما هو مُتوقَّع من طالب الجامعة مثلًا اليوم. والصعوبة التي يواجهها المؤرخُ عادةً ليست في فهم الرياضيات ذاتها بالأساس، ولكن في دخول العالَم العقلي والرياضي الخاص بشخص من مجال معرفي مختلف.
إن الانتقال من الرؤية الهندسية إلى المعالجة الجبرية ليست شيئًا تافهًا؛ فهي تحتاج إلى شيء من مجهود لتعلُّم كيفية القيام بها. وتاريخيًّا، فإن الانتقال من ثقافة رياضية تكون فيها الهندسة متسيِّدة، إلى ثقافةٍ بدأت تكون الأسبقيةُ فيها لِلُغة الجبر؛ حَدَثَ في أوروبا الغربية في القرن السابع عشر. (كان فيرما واحدًا من أوائل الرياضيين الذين جرَّبوا هذه الإمكانية، ومع ذلك، فإنه أيضًا اشتكى بمرارةٍ من الانحراف عن الطرق التقليدية لعمل الأشياء.) وقد درس المؤرخون هذه الفترةَ بتركيزٍ مكثَّف؛ لأن التغيُّرات كانت حاسمةً في تطوُّر الرياضيات الحديثة. إن اعتبار النسخة الجبرية المعدَّلة من نظرية فيثاغورس مساويةً في جوهرها للنسخة الهندسية، فيه تجاهُلٌ للثغرة التاريخية الواسعة بينهما، تلك الثغرة الواسعة التي لم يتم رَأْبها إلا بمحاولات متراكمة قام بها مفكِّرون أفذاذ كثيرون.
إعادة التفسير
إن المثال الذي عرضتُه للتوِّ هو حالةُ إعادةِ تفسيرٍ رياضي، بأخذ نظرية هندسية وإعادة تفسيرها جبريًّا، وهذا شيء يفعله الرياضيون كثيرًا؛ إذ إن من الطرق الرئيسية التي يطوِّر بها الرياضيون موضوعاتهم، أن يأخذوا جزءًا من عملٍ قديم — عملِهم أو عملِ أيِّ شخص آخَر — ويستكشفوه ويتوسَّعوا فيه ويختبروه تحت شروط جديدة؛ ومع ذلك، فإن إعادة كتابة الرياضيات القديمة تختلف تمامًا في نظر الرياضيين عنها في نظر المؤرخين. عندما أُعِيد اكتشاف كتاب «الحساب» لِديوفانتس، في أوروبا خلال عصر النهضة، تَبيَّنَ أنه مصدر غني بالمسائل، لدرجة أنه أُعِيد تفسيره بطرق متعددة، سواء رياضيًّا أم تاريخيًّا. وسنتدبر الجانب الرياضي أولًا.
خلال هذه الفترة أعطى بِل اهتمامًا كبيرًا لِديوفانتس، ونعلم هذا لأنه في السنوات الأولى من أربعينيات القرن السابع عشر أصبح بِل على معرفة شخصية بالسير تشارلز كافنديش (الذي قابلناه في الفصل الخامس)، وتَرَاسَلا خلال سنواتِ عملِ بِل في هولندا. كانت تجمعهما علاقةُ رعايةٍ رياضية خاصة؛ فكان كافنديش يسأل بِل أن يساعده في فهم أي شيء فشل في فهمه في أحدث قراءاته في مجال الرياضيات، وكان بِل يجيب. من الواضح أن كافنديش كان يؤمن بقدرات بِل العالية، وتَوقَّعَ له أن ينشر عددًا من الكتب المهمة، من بينها نسخة جديدة من مؤلَّف ديوفانتس ذلك، وكتب يقول: «إنني شديد الشوق إلى أن أرى هذا المؤلَّف.» لكن للأسف، كان بِل مريضًا لدرجةٍ أعجزَتْه عن إتمام أي عمل أو نشره، ولكنْ هناك دليل على أنه على الأقل بدأ العمل في هذه النسخة.
ذلك الدليل يأتي من مذكرات بِل الضخمة (آلاف الصفحات الموثقة الآن في أكثر من ٣٠ مجلدًا كبيرًا في المكتبة البريطانية). سبب اهتمام بِل الشديد بِديوفانتس هو أنَّ بِل طوَّرَ طريقةً لحل المسائل، ظنَّ أنها تناسِب تمامًا المسائلَ الواردة في كتاب «الحساب». كانت الطريقة كالآتي؛ أولًا: لأي مسألة، ضَعِ الكميات غير المعلومة والشروط المعطاة في سطور مرقمة. ثانيًا: اعمل على نحوٍ منهجي من الشروط إلى الإجابة المطلوبة. وللتأكد من أن العمل يتواصل على نحوٍ مطَّرد بدقة، تُوضَع المسألةُ في ثلاثة أعمدة، مع وَضْع أرقام السطور في العمود المركزي الضيق، ويحتوي العمود الأيسر على تعليمات مختصرة لكل سطر، والعمود الأيمن على نتيجة تنفيذ التعليمات. النظام كله يشبه إلى حدٍّ بعيد الخوارزمياتِ الحديثةَ.
let | ||
الأسطر الأربعة النهائية تختبر أن المسألة قد حُلَّت حَلًّا سليمًا في الحقيقة:
هذا ينطبق أيضًا على عمليات إعادة التفسير ذات الطابع التاريخي وليس الرياضي؛ فهي تكشف عن المفسِّر أكثر مما تكشف عن الموضوع المفسَّر؛ على سبيل المثال: القصص التي دارت عبر قرون عن أصول الجبر، لم تسجِّل فقط حقيقةً تاريخية، لكنْ سجَّلَتْ فهمًا عصريًّا كذلك. لقد جاء الجبر أول ما جاء إلى المناطق غير الإسلامية في أوروبا الغربية في أواخر القرن الثاني عشر، من خلال ترجمات مؤلَّف الخوارزمي «الجبر والمقابلة»، ولكن في القرن السادس عشر نُسِي هذا التاريخ القديم، هذا لو كان قد أخَذَ حقَّه من المعرفة من الأساس. ومع ذلك، فقد تمَّ الإقرار بالأصول الإسلامية للموضوع، وإنْ كان ذلك قد حدث من خلال الكلمتين ذواتَي الوقع الغريب: «الجبر» و«المقابلة» المصاحبتين له. وهكذا فإن كُتَّاب القرن السادس عشر نسبوا اختراعَ الجبر ﻟ «شخص عربي على قدر كبير من الذكاء»، وأحيانًا إلى شخصٍ يُدعَى الجابر (وفي الواقع فإن جابر بن الفلاح، الفلكي المسلم الإسباني الذي عاش في القرن الثاني عشر لم تكن له علاقةٌ بالجبر)، أو إلى شخص ذي اسم مبهم يُسمَّى «موميتو دي موسى آرابو» (استخراج من اسم محمد بن موسى، وهو اسم عربي).
لكن في عام ١٤٦٢ فَحَصَ العالِم الألماني يوهانز مولر — الشهير باسم ريجيومونتانوس، من الاسم اللاتيني لمدينة موطنه؛ كونيجزبرج — مخطوطًا لكتاب «الحساب» لِديوفانتس في فينيسيا، وبعد ثلاث سنوات أثناء إلقاء محاضرة في بادوا، وصف المحتوى بأنه «زهرة كل الحساب … التي تُسمَّى اليومَ بالاسم العربي «الجبر».» لم تُطبَع محاضرته حتى عام ١٥٣٧، ولكن بعد وقت قليل جدًّا بدأ كتَّاب يتبنَّوْن الفكرةَ ذاتها؛ أن الجبر قد اخترعه ديوفانتس، وتبنَّاه «العرب» في وقتٍ متأخِّر فحسب. يستطيع المرء أن يرى سببَ قبول مثل هذه القصص في وقتٍ كان الأصلُ الإغريقي يُمنَح فيه احترامًا فوريًّا ومنزلةً رفيعة. إنَّ حقيقة أنَّ المسائل التي عالَجَها ديوفانتس كانت مختلفةً في كلٍّ من الأسلوب والمحتوى عن المسائل الموجودة في النصوص الإسلامية؛ يبدو أنها لم تمنع أيَّ شخص من التفكير في أن تلك الأخيرة لا بد أن تكون قد اشتُقَّتْ بطريقةٍ ما من الأولى.
مَن كان الأول …؟
السؤال الذي بحثناه توًّا — «مَن اخترع الجبر؟» — هو نموذج لتلك الأسئلة التي تُطرَح على مؤرخي الرياضيات، والذين من المتوقَّع غالبًا أن يكونوا قادرين على القول بمَن كان أول مَن اكتشف أو اخترع أفكارًا معينة. لكن فيما عدا أبسط الحالات، فإن مثل هذه الأسئلة تكون الإجابة عنها بالغة الصعوبة. خُذْ، على سبيل المثال، اكتشافَ حساب التفاضل، الذي هو فرع من الرياضيات يمكن أن يُستخدَم لوصف التغيُّرات والتنبؤ بها، وهو يُستخدَم اليومَ في علم الأحياء والطب والاقتصاد وعلم البيئة وعلم الأرصاد الجوية، وكل علم آخَر يُعنَى بدراسة نُظُم معقَّدة متفاعلة؛ لهذا من المنطقي أن نريد معرفة «مَن اخترع حساب التفاضل؟»
لكن في نظر معاصريهما، لم تكن المسألة واضحة إطلاقًا. إن الحقائق الأساسية هي أن نيوتن طوَّر نسخته من التفاضل خلال العامين ١٦٦٤ و١٦٦٥ (قبل عيد ميلاده الثالث والعشرين)، لكنه لم يفعل شيئًا به. بعد ذلك، في سبعينيات القرن السابع عشر، وبينما كان منخرطًا في مجادلة فكرية مع روبرت هوك بشأن اكتشافاته في علم البصريات، ربما كان متردِّدًا في الإقدام على مخاطرة أخرى في حساب التفاضل. وعلى أية حال، في ذلك الوقت كان اهتمامه قد تحوَّلَ إلى الخيمياء، التي تملَّكَتْه على مدار العقد التالي. في عام ١٦٧٣ كان لايبنتس يعيش في باريس، وبدأ العمل مستقِلًّا على بعض المسائل نفسها التي أثارت اهتمامَ نيوتن سابقًا، ونشر أول بحث له عن حساب التفاضل في عام ١٦٨٤، وتبعه ببحثين آخَرين في تسعينيات القرن السابع عشر. يبدو أن نيوتن لم يكترث للأمر، معتبِرًا عمل لايبنتس المبكر أقرب إلى التفاهة مقارَنةً بما كان هو نفسه قادرًا على إنجازه؛ بَيْدَ أن بعض أصدقاء نيوتن كان شعورهم مختلفًا، وفي سنوات نهاية القرن بدأ مؤيدوه يلمِّحون إلى أن نيوتن لم يكن الأول فحسب، بل ربما يكون لايبنتس قد سرق بذرة أفكاره من نيوتن. إن حقيقة اطِّلاع لايبنتس على بعض أبحاث نيوتن عندما كان في لندن عام ١٦٧٥، وأنه تلقَّى رسائل من نيوتن عام ١٦٧٦؛ لم تكن في صالحه، لكنْ لا يستطيع أحد سوى لايبنتس أن يحكم على مقدارِ ما تعلَّمَه منها ومقدارِ ما كان اكتشفه بنفسه مِن قَبل بالفعل.
أحجم الاثنان، نيوتن وَلايبنتس، عن المواجهة المباشرة، ولكن سمحَا للمعركة بأن تدور بين تابعِيهما، الذين كانوا محاربين شَرِسين. وأخيرًا في عام ١٧١١، تَقدَّم لايبنتس بالتماسٍ إلى الجمعية الملكية، التي كان عضوًا فيها، للفصل في النزاع. شكَّلَ نيوتن، بصفته رئيسًا للجمعية، لجنةً لم تكن بها حاجةٌ إلى أن تجتمع؛ لأن نيوتن كان مشغولًا بالفعل بكتابة تقريرها. ومن غير المثير للدهشة أن جاء الحكم في صالح نيوتن، أيضًا من غير المثير للدهشة أن هذه لم تكن نهاية الأمر؛ إذ استمرَّ الجدل حاضرًا حتى بعد موت لايبنتس في عام ١٧١٦. ويفسِّر هذا النزاعُ لماذا في عام ١٨٠٩ كان جورج بِيت يتعلَّم مادةً تُسمَّى «التغيُّر المستمر» في كمبريا وليس «حساب التفاضل».
إنها قصة ليس من ورائها عبرة، لم يخرج أيٌّ من طرفَيْها فائزًا. والغاية من إعادة روايتها هي تأكيد مدى صعوبة أن يحسم أيُّ شخصٍ الأمرَ؛ إذ لا يملك أي شخص الحقائقَ كلها، كما أنه من الصعب معرفة ما إذا كان الجدالُ حول حساب التفاضل ككلٍّ، أم كان حول وجهات نظر معينة (اتَّهم فيه لايبنتس الإنجليزَ بتغيير رأيهم حيال هذا الموضوع)، وكما هو حال النزاعات عامة، فقد دخلت في هذا النزاع اعتراضاتٌ كثيرة لم تكن قطُّ جزءًا من الحجج الأصلية. الغاية الأخرى من رواية القصة هي بيان أن الدليل الحاسم للحقيقة لا يأتي مما كتبه الأشخاص الموجودون وقتَها أو قالوه؛ لأنه كان مجتزَأً في الأغلب، وإنما من المخطوطات الرياضية نفسها.
في الرياضيات، ليس من المستبعد أن يتوصَّل شخصان إلى أفكار متشابهة في الوقت نفسه تقريبًا، كما حدث في حالة حساب التفاضل؛ فبمجرد أن يُوضَع الأساس يستطيع أحد الرياضيين أن يستعمله تمامًا بالسهولة نفسها مثل الآخَر، ويصبح توزيعُ التقدير أمرًا بالغَ الصعوبة، خاصةً إذا كان هناك نوعٌ من التواصُل بين الشخصين؛ ولهذا السبب تحديدًا حرص وايلز على أن يعزل نفسه تمامًا خلال سنوات عمله على نظرية فيرما الأخيرة. وفي حالة حساب التفاضل، هناك دليل موثَّق كافٍ للمؤرخين ليستنبطوا ماذا حدث حقيقةً، ولكن ليس الحال دائمًا هكذا؛ فقد طوَّرَ رياضيان في بدايات القرن التاسع عشر، هما برنارد بولزانو من براج وَأوجستين لوي كوشي من باريس، بعضَ الرياضيات المتشابهة للغاية أيضًا، وذلك على يد بولزانو في عام ١٨١٧ وكوشي في عام ١٨٢١. هل «اقتبس» كوشي من بولزانو أم لا؟ نُشِر عمل بولزانو في مجلة بوهيمية معروفة في نطاق محدود، وكانت على الرغم من ذلك متاحةً بالنسبة إلى كوشي في باريس. على الجانب الآخَر، كلاهما استطاع أن يضيف على نحوٍ مستقلٍّ إلى العمل المبكر الذي قام به لاجرانج. ربما يمكننا أيضًا أن نخمِّن دليلًا ظرفيًّا عن طريقة عمل كوشي، الذي كان معتادًا على الْتقاط الأفكار الجيدة من شخص آخَر، ثم تطويرها إلى أقصى مدًى. لكن في النهاية، في ظلِّ انعدام الدليل الراسخ، فإننا ببساطة لا نستطيع الجزم بأي شيء.
ثمة مشكلة أخرى تكتنف عملية تحديد مَن له السبق في أي اكتشاف، وتتمثَّل في تحديدِ ما يتكوَّن منه الاكتشافُ في الحقيقة؛ على سبيل المثال: في أية نقطة محددة في التاريخ يمكننا القبول بأنه صار لدينا «حساب تفاضل»، في مقابل كتلة الأفكار المتشابكة المتضاربة التي بدأت بالتدريج تعطي معنًى أولًا لنيوتن، ثم بعد ذلك لِلايبنتس؟ من الصعب للغاية، كما رأينا سابقًا، أن نحدِّد أين بدأ الجبر، أو أين أصبحت نظريةُ فيثاغورس نظريةً رسمية في مقابل كونها حقيقة مفيدة معروفة للبنَّائين. إن كل الرياضيات الجديدة تقريبًا مبنيةٌ على أعمال سابقة، وأحيانًا على عددٍ من الأفكار البنَّاءة. يُعَدُّ تَتَبُّع السوابق الخاصة بأسلوب معين أو نظرية معينة من مهام المؤرخين، ولكن ليس من أجل القول بمَن كان له السبق، وإنما كي نفهم على نحوٍ أشد وضوحًا كيف تغيَّرَتِ الرياضيات على مدار الزمن.
تصويب الأخطاء
وبعد مائة عام، طوَّرَ كلٌّ من نيكولاي إيفانوفيتش لوباتشيفسكي، الأستاذ بجامعة كازان في روسيا، وَيانوس بولياي من مدينة تُسمَّى الآن كلوج في شمالي رومانيا؛ هذه الأفكار لمدًى أبعد كثيرًا (في مثال آخَر على الاكتشاف المستقل، ولكن المتزامِن تقريبًا)، وأدرَكَ كلاهما أنه من الممكن إنشاء نوعٍ من الهندسة مقبولٍ رياضيًّا، ولكنه على وجه القطع ليس إقليديًّا. كانت الفكرة مروعةً في نظر مفكري القرن التاسع عشر؛ فإحدى النتائج المترتبة عليها أنه لا أحد يستطيع أن يعلم ما إذا كان الفراغ اللانهائي نفسه إقليديًّا أم غير إقليدي، تمامًا مثلما نعجز من خلال السَّيْر في الشارع عن تحديدِ ما إذا كانت الأرض كرويةً أم مسطَّحةً. كان من المفترض أن تقدِّم الرياضيات حقائقَ غيرَ قابلةٍ للجدل عن العالَم، لكنْ فجأةً صارت هذه الحقائق تبدو أقلَّ إحكامًا.
إحدى نتائج كل هذا أن الرياضيين بدءوا ينظرون بعنايةٍ أكثر إلى افتراضاتهم المفهومة ضمنًا، والمعروفة رسميًّا بالبدهيات. وفي الحقيقة، إنه في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وفي عودةٍ إلى الأسلوب الإقليدي الحقيقي، بُنِيت فروع كاملة من الرياضيات على أُسُس بَدَهية، وهو ما فرض عليها دقة منطقية صارمة لم تعرفها الرياضيات منذ عصر الإغريق. بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن التاسع عشر بعد الميلاد تطوَّرَتِ الرياضيات في أغلبها بطريقة عشوائية. والحقيقة أن الرياضيين لا يصنعون اكتشافاتهم عن طريق إرساء بديهيات ثم التفكير منطقيًّا فيها، وإنما بالاستجابة على نحوٍ تخيُّليٍّ لمسائل تثير اهتمامهم، أو بطرح أسئلة في اتجاهات جديدة، أو برؤيةِ كيف أن أجزاءً في الرياضيات مختلفةً ظاهريًّا ربما تتوافق معًا بطريقة أنيقة. بالطبع ينبغي لهم أن يطبِّقوا مهاراتهم وخبراتهم بطريقة صحيحة، وفي النهاية يجب عليهم أن يقدِّموا حجة محكمة معروفة ﺑ «البرهان»، كما فعل وايلز في محاضراته بكامبريدج، ولكن هذا على الأرجح سيأتي في مرحلة لاحقة على الأفكار الابتدائية والعمل الجاد الذي يتبعها على نحو محتوم.
إن اكتشاف حساب التفاضل، الذي نُوقِش في القسم السابق، مثالٌ قوي يبيِّن أن الرياضيات في بدايتها لم تكن منطقيةً على الإطلاق؛ كانت الفكرة كلها مبنية على ما سمَّاه رياضيو القرن السابع عشر «كمياتٍ لا متناهية الصِّغَر»، ولكن السؤال الذي يكون المرء مضطرًّا أن يسأله عن كمية لا متناهية الصِّغَر هو: هل لها أي حجم على الإطلاق؟ إذا كان الأمر كذلك، فإنها لا تكون «لا متناهية الصِّغَر»، لكن إذا لم يكن لها حجم، فإنها لا تكون حتى موجودة، ولا يستطيع المرء أن يستخدمها بأية طريقة ذات معنًى في حساباته. ربما يبدو الأمر تدقيقًا لا لزوم له، أقربَ إلى مناقشة عدد الملائكة الذين يستطيعون الرقصَ على رأس دبوس، منه إلى مناقشة الرياضيات، ولكنه مهمٌّ؛ لأن مناقشات الكميات اللامتناهية الصِّغَر يمكن أن تؤدِّي بسرعة إلى تناقُضات، ولأنه يفترض أن الرياضيات صَرْح منطقي موحد، فمن شأن تناقُض واحد أن يُسقِط كلَّ شيء. (لهذا السبب فإن الرياضيين غالبًا ما يقيمون عن عمدٍ أحد التناقضات — كما حاوَلَ ساتشيري أن يفعل — إذا أرادوا إثبات أن شيئًا ما مستحيل، ويُسمَّى هذا الأسلوب «البرهان عن طريق إثبات فساد النقيض».)
كان كلٌّ من نيوتن وَلايبنتس متنبِّهًا بدرجة جيدة لمفارقة الكميات اللامتناهية الصِّغَر، وبذَلَا أقصى ما يستطيعان لمعالجتها؛ إذ تناوَلَها نيوتن تناوُلًا مباشِرًا، بينما حاوَلَ لايبنتس تناوُلها على نحوٍ غير مباشِر. وكان أولئك الذين أتوا بعدهما متنبِّهِين أيضًا لها، ولا أقصد هنا الرياضيين فحسب، وإنما أقصد أيضًا أفرادًا متعلِّمين تعليمًا جيدًا من الجمهور؛ على سبيل المثال: تساءَلَ الكاهن جورج بيركلي في كتابٍ يُسمَّى «المحلل: خطاب موجَّه لرياضي ملحد» عمَّا إذا كان الرياضيون، الذين هم في غاية الدقة بشأن الأمور الدينية، على الدقة ذاتها في علومهم الذاتية. كما تساءَلَ عمَّا إذا كانوا لا يخضعون لأي سلطة، بحيث يتبنَّوْن الأشياء بناءً على الثقة، ويصدِّقون أشياءَ لا تُتَخَيَّل. هل مثل هذه الأمور تمنع الرياضيين من المضي قدمًا في طُرُقهم؟ لا؛ لأنه في زمن مبكر جدًّا في تطوُّر حساب التفاضل، أدرَكَ الرياضيون إلى أية درجة يمكن أن يكون قويًّا، وانشغلوا بتطبيقه مع قدر كبير من النجاح على أشعة الضوء والسلاسل المعلقة والأجسام الساقطة والأوتار المتذبذبة وظواهر أخرى كثيرة في العالَم الفيزيائي. كان من المستحيل عليهم أن يتخلَّوْا عن كل هذا لأجْلِ ما اعتبروه أمرًا غيبيًّا أكثر منه صعوبةً رياضية. استغرق حلُّ هذه المشكلة نحو ١٥٠ عامًا، بطرائق تقنية يصعب ذكرها هنا، لكن خلال هذه السنوات المائة والخمسين، تَقدَّمَت الرياضيات تقدُّمًا فاقَ كلَّ التوقُّعات، على الرغم من أساسها المتزعزع.
يمكن رواية قصة شبيهة عن القرن التاسع عشر؛ ففي عام ١٨٢٢ نشر جوزيف فورييه، وهو محاضر في المدرسة المتعددة التكنولوجية بباريس، بحثًا عن الانتشار الحراري، درس فورييه فيه فكرةَ استخدامِ جمعٍ لا نهائيٍّ من الجيوب وجيوب التمام لوصف التوزيعات الدورية، وهذه الجموع اللانهائية تُعرَف الآن بمتسلسلات فورييه، ولها تطبيقات واسعة المدى في الهندسة والفيزياء؛ ومع ذلك، فإن اشتقاق فورييه الأصلي كان مليئًا بالأخطاء ومواضع عدم الاتساق. كان جزءٌ من هذه الأخطاء يُلغِي بعضُه بعضًا، ولكنَّ كثيرًا منها تجاهَلَه فورييه، إذا كان قد لاحَظَ هذه الأخطاء من الأساس. بعبارة أخرى، إن النظرية الابتدائية لمتسلسلات فورييه لم يكن أساسها أشدَّ ثباتًا من أساس حساب التفاضل؛ ومع ذلك، فقد برهنَتْ — مثل حساب التفاضل — على أنها غنية بدرجة هائلة، وأنها أداة مفيدة. ولكن تمامًا مثلما كان الحال مع حساب التفاضل، تعيَّنَ على رياضيين كُثُر بعد فورييه أن يقضوا وقتًا طويلًا في محاولة إصلاح هذه العيوب.
هذه الأمثلة ليست استثنائية، وكما رأينا، فقد تَعيَّن على وايلز، وهو الرياضي الأكثر كفاءةً بمراحل من فورييه، أن يخوض عملية مشابهة جدًّا لتصحيح أحد الأخطاء، ولو أن الأمر في حالته احتاج إلى عامين فقط، وليس إلى قرن. وتقريبًا كلُّ اكتشاف جديد في الرياضيات يبدأ في صورة غير مصقولة وفي حالة استعداد للإصلاح، ويجب أن يُحسَّن ويُصقَل قبل تقديمه للنظراء، فضلًا عن تعليمه للمبتدئين.
إن معظم الكتب المدرسية تتبع النموذج نفسه الذي سار عليه كتاب «العناصر» لإقليدس؛ بحيث تبدأ من بدايات بسيطة وتشيِّد الرياضيات في تدفُّق منطقي دون انقطاع. بعبارة أخرى، إننا نمكِّن طلَّابًا من أن يتَّبِعوا مسارًا خاليًا من أي انقطاع — أو نتوقَّع منهم ذلك — وهو ما لم يستطع أن يراه المستكشفون الأوائل. وإذا أُعطِي الطلاب الفرصة للرجوع إلى المكتشفات الأصلية، فمن المحتمل أن يجدوا شيئًا مختلفًا تمامًا؛ عمليةَ محاولةٍ وخطأً وبداياتٍ خاطئةً وطرقًا مسدودةً، وأفكارًا نصف مُشَكَّلة نصف معالَجَة متروكة ليطوِّرها شخصٌ آخَر، وأفكارًا ذات صياغة أفضل صُقلت على مدار شهور أو سنوات، وكلها في النهاية هيَّأها مدرِّسون ربما لم يكونوا مبتكرين، ولكن من المؤكد أنهم تمتعوا بالموهبة التي لا تقل أهميةً، والمتمثِّلة في شرح كيفية سير الأمور للمبتدئين. بكلمات أخرى، إن الشرح المُحسَّن لكتاب مدرسي يحكي لنا قليلًا جدًّا عن الحدس والعمل الشاق والتخيُّل والكفاح، التي انضوت عليها الرياضيات في المقام الأول؛ وهذا هو عمل المؤرخين.